كلب للعمل
حان الوقت ليشارك أبيض الناب في العمل. فقد كانت الحياة في الشمال قاسية، وعلى الجميع — بمن فيهم الكلاب — أن يمدوا يد المساعدة. لهذا بدأ جراي بيفر ومتساه في تدريب الجراء الجديدة — بمن فيها أبيض الناب — لجر المزلجة.
كان هناك سبعة جراء في الفريق، وكانت جميعًا تسبقه في المولد، فكانت أعمارها جميعًا بين التسعة والعشرة أشهر، بينما بلغ هو من العمر ثمانية شهور فقط، وقد كان فردًا في فريق متساه الذي يقوده ليب-ليب.
بدأت هذه الجراء في العمل في رحلات قصيرة، واستغرق الأمر بعض الوقت لكي تعتاد على جر المزلجة. في البداية كانت الكلاب تتعثر وينقلب بعضها فوق بعض؛ إذ كانت الأزمَّة تلتف حول أرجلها، والأطواق تنزلق من فوق صدورها. اضطر متساه إلى أن يوقف الفريق مرات عدة لكي يخلص أحد الكلاب من عقدة انعقدت حوله، فقد كان الصبي يخشى أن تختنق الكلاب. وفي بعض الأحيان، كان ليب-ليب يرجع إلى الوراء نحو الصبي، بدلًا من التقدم إلى الأمام، فيكاد يمر فوق الكلاب الأخرى.
في النهاية تعلمت الكلاب أن يجري بعضها بجوار بعض دون أن تتخطى الألجمة. ولم يحاول أي منها أن يتخطى الكلب الموجود أمامه. وهكذا ظلت هذه الكلاب مرتبة في خطين مستقيمين تجر المزلجة كأنها كلب واحد.
كان هذا الأمر أقرب إلى الصداقة كما عرفها أبيض الناب مع الكلاب الأخرى، فعندما ربط متساه الكلاب إلى المزلجة، اضطرت إلى العمل كفريق، ومع ذلك ظلت بينها مشاحنات. لكن في الجزء الأكبر من الوقت لم يقترب أبيض الناب والكلاب الأخرى أحدها من الآخر، وكان الأمر أشبه بهدنة من نوع ما.
استمتع أبيض الناب بعمله، فقد أحب العدو فوق الجليد وشد الأحزمة الجلدية حول صدره. ولا شك أن العمل كان شاقًّا وصعبًا للغاية، لكنه كان أهلًا له، هذا بالإضافة إلى أنه أدرك أن الأداء الجيد يسعد سيده. فكان يشعر بالفخر عندما يعرف أن جراي بيفر سعيد به.
أخذ أبيض الناب المهام جميعًا مأخذ الجد، وكان شديد التفاني عندما يتعلق الأمر بحراسة ممتلكات سيده. فلم يكن أحد ليخاطر بنفسه ويقترب من خيمة جراي بيفر أو يمس أي شيء يملكه، إذ بدا أن أبيض الناب كان موجودًا دائمًا لحماية هذه الأشياء فكان يلقى أي شخص يتجول بالقرب من خيمة سيده بهرير خفيض.
في إحدى الأمسيات عاد أبيض الناب إلى الخيمة ليجد رجلًا غريبًا بالقرب من مدخل الخيمة، فأسرع السير إلى الجانب الآخر منها، وفاجأ الرجل من الخلف. سار أبيض الناب نحو الرجل الغريب مكشرًا عن أنيابه، وقد انتصب فرو ظهره وارتفعت مؤخرة عنقه.
قال الرجل: «أنا … أنا.» تراجع الرجل ملوحًا بيديه للذئب، وقال: «قد أرسلني السيد جراي بيفر.»
لم يفهم أبيض الناب الكلمات التي نطق بها ذلك الرجل، لكنه شعر بما يعتريه من خوف، بل أدرك أن ذلك الرجل كان مذعورًا، وواصل الذئب التقدم نحو الرجل.
قال الرجل في صوت متلعثم: «انتظ … انتظر يا أبيض الناب، فقد أتيت لآخذ بعض الأدوات.» وكانت هناك صخرة خلف هذا الرجل لم يرها، فانزلق وسقط على ظهره. على الفور قفز أبيض الناب تجاهه، وأمسك بإحدى رجلي بنطاله، فبدأ الرجل في الصراخ.
جاء جراي بيفر في هذه اللحظة، وقال: «أبيض الناب! توقف!» كان قد عاد إلى خيمته في الوقت المناسب تمامًا، وعلى الفور اقترب جراي من الرجل، وساعده على القيام.
عاد الذئب للوقوف بجوار الخيمة. لا شك أن سيده غضب منه لأنه هجم على أحد أصدقائه. لكن جراي بيفر شرع في الضحك.
بعد دقيقة قال جراي مخاطبًا صديقه: «إذن لم تستطع التغلب على ذئبي يا سالمون تونج.»
نفض الرجل التراب عن ملابسه، وبدا عليه الحرج والانزعاج، ثم قال: «أرسلتني إلى هنا وأنت تعرف أن أبيض الناب قد يعضني، أليس كذلك؟»
هز جراي بيفر كتفيه، وقال: «من قال ذلك؟ أبيض الناب كلب حراسة جيد، ويصعب على المرء أن يعرف ما سيفعله.»
كان رجال آخرون قد انضموا إليهما، وأنصتوا في اهتمام إلى النقاش المحتدم بين جراي بيفر وسالمون تونج.
– «بل كنت تعرف ما سيفعله.»
قال جراي بيفر: «ربما في المرة القادمة ينبغي لك أن تعيد التفكير قبل أن تنخرط في التفاخر والتعالي؛ فقد تكون مزلجتك أكبر، وربما تمتلك كلابًا أكثر مني، لكنك لا تملك أبيض الناب.» ابتسم جراي، وعقد ساعديه أمام صدره.
غضب سالمون تونج من ذلك غضبًا شديدًا، وأدرك أن صديقه كان حاقدًا عليه. فقد تركه جراي بيفر يخطو نحو الخطر، لأنه أراد أن يبدو أكثر قوة منه. لكن ماذا لو كان أبيض الناب قد عضه في قدمه أو ذراعه أو عنقه؟ لقد كان سالمون تونج سعيد الحظ لأن الذئب أراده أن يشعره بالخوف فقط.
قال سالمون لصديقه: «إنك رجل شرير.» ثم دفعه خطوة إلى الوراء، وقال: «كيف تجرؤ على أن تعاملني — أو تعامل أي شخص آخر — على هذا النحو!»
كان سالمون تونج على وشك أن يدفع جراي بيفر ثانيةً عندما طرحه أبيض الناب على الأرض، لكنه في هذه المرة قصد أن يلحق به أذى، واخترقت أسنانه الحادة جسد الرجل، بينما كان جراي بيفر يبعده عن سالمون.
دفع جراي بيفر الذئب إلى مكان آمن، وراقب أبيض الناب بقية الحوار وهو ينظر من بين أقدام جراي بيفر. لم يبد على سيده الغضب، بل بدا سعيدًا في حقيقة الأمر.
قال جراي بيفر مخاطبًا جميع الرجال من حوله: «إن هذا لشيء يجب أن يفكر فيه الجميع؛ لا يقدر أحد على أن يتعدى عليَّ أنا أو ذئبي.»
بدأ بقية الرجال في الرحيل عن المكان، وساعد أحدهم سالمون تونج على أن يلف عصابة حوله ذراعه المصاب، وبعد أن هم بالرحيل التفت وراءه ونظر إلى جراي بيفر والذئب وهو يهز رأسه مستنكرًا ما حدث ليترك ذلك ابتسامة على وجه جراي بيفر.
غير أن أبيض الناب لم يكن سعيدًا، فقد كان العالم كما رآه متوحشًا ضاريًا؛ بل عالمًا خاليًا من الدفء والحب والمودة. أحب جراي بيفر ابتعاد الذئب عن الآخرين، وأحب أيضًا وضاعته وتوحشه. ولا معنى لذلك إلا أن جراي بيفر كان أكثر قوة من الباقين، وأنهم كانوا خائفين منه.
لم يكن أبيض الناب يحمل أي محبة لسيده، لكنه كان يدرك المهام الموكلة إليه جيدًا، وينفذها، وقد عاش حياته كلها يأمل أن يتجنب الضرب القاسي، وكان ذلك هو كل ما في الأمر.
بعد رحيل أم أبيض الناب، لم يحدث قط أن منحه أحد لمسة حانية ودودة؛ لم يهمزه أحد بأنفه؛ بل لم يشعره أحد بالأمان. بعد وقت قليل، لم يستطع أن يستحضر ملامحها، لكنه أدرك أن شيئًا ما مفقود في حياته؛ شيئًا ما وثيق الصلة بالدفء والحب، غير أنه لم يمتلك القدرة على أن يسمي هذا الشيء. ولمّا كانت حياته حالة من الضغط المستمر، فقد تسبب ذلك فيما تحول إليه من القسوة والخسة، وفقد كل ثقة في الإنسان والكلاب على حد سواء.
استمر ليب-ليب في محاولاته لإرهابه، لكن أبيض الناب شرع الآن في المقاومة، وغالبًا ما كان الانتصار حليفه. جرت عادته أن يتقاتل مع أي كلب يقترب منه، وكان يسرق الطعام وقتما شاء، وربما عض أي فرد يمر أمامه — سواء أكان رجلًا أم طفلًا أم امرأة — أو هرَّ في وجهه. لم يكن له أي أصدقاء، ولم يدرك ما الذي يفقده، فمن الصعب أن يفقد المرء شيئًا لم يسبق له قط أن حازه.