العودة إلى المنزل
كان الليل يرخي سدوله، وكان أبيض الناب قد قضى قليلًا من الوقت في اللعب بين الأشجار تغمره سعادة كبيرة بهذه الحرية، وأخذ يجري سريعًا، ويقفز فوق الصخور، ويبحث عن السناجب. استمر أبيض الناب في اللعب حتى ذهب آخر خيط في ضوء النهار، وكانت سماء هذه الليلة صافية قد سطعت فيها نجوم كثيرة وبان في الأفق قمر أبيض منير. استمع أبيض الناب إلى أصوات الغابة من حوله، فوجدها هادئة تمامًا؛ أكثر هدوءًا من الحياة في المخيم.
حينئذٍ أدرك فجأة معنى الوحدة. جلس وأنصت لصوت الصمت الذي بث الرعب في قلبه، ثم عقب ذلك أن خالطه شك في وجود خطر ما، لكن لم يكن لديه فكرة عن ماهيته، فقد مضى وقت طويل للغاية على آخر مرة كان فيها وحيدًا أو داخل البرية.
ركض أبيض الناب حتى عاد إلى أرض المخيم المهجورة، وكان يشعر بالجوع والبرد والذعر. وهنا أدرك أنه قد ارتكب خطأ كبيرًا بتخلفه عن ركب المخيم، فقد اعتاد كثيرًا على حياة الرفاهية التي يحياها مع الإنسان وعلى حماية سيده له. وسرعان ما افتقد دفء النار ورائحة غليون جراي بيفر. أخذ يفكر أنه في مثل ذلك التوقيت كانت السيدة كلو-كوتش ستقذف إليه سمكة العشاء، وكان متساه سيحكي ما حدث له في يومه.
ذهب إلى المكان الذي نُصبت فيه خيمة جراي بيفر فيما مضى. لا يزال المكان يعبق برائحة سيده وأسرته، واستطاع أن يرى الحفرة التي أُوقدت فيها نارهم. وكانت الخيمة قد تركت علامة دائرية على الأرض. جلس على الأرض، ورفع رأسه إلى السماء، وبدأ في العواء، وكان عواؤه طويلًا قويًّا ومحزنًا يشبه عواء الذئاب. كانت هذه أول مرة يعوي فيها في حياته.
هدَّأ انكسار خيوط الفجر التالي من روعه، لكنه كان لا يزال يتوق إلى العودة إلى الإنسان، حينئذ عدا على طول ضفة النهر. لم يكن يعرف أين ذهبت أسرته، أو هل يعدو في الاتجاه الصحيح أم لا. اعتمد الذئب في ذلك الوقت على الغريزة، وأمضى بقية النهار يجري داخل الغابة ويعود إلى النهر يقطع الأرض جيئة وذهابًا. بعد ذلك توقف لينصت أملًا أن يسمع أصواتًا بعيدة أو كلابًا أخرى. غير أنه لم يكن هناك سوى صوت الرياح. أخذ يتشمم الهواء والأرض محاولًا تقفي أثر القبيلة، غير أنه كان من الصعب تعقب الرائحة على هذه الأرض المتجمدة.
وعندما بزغ القمر في كبد السماء ثانيةً شم رائحة شيء مألوف، وكان ذلك الشيء لحمًا يُطهى على النار، فركض بأقصى سرعته.
كان جراي بيفر وكلو-كوتش ومتساه قد توقفوا عن السير ليلًا، وكانوا ينوون الانضمام إلى بقية القبيلة على الجانب الآخر من النهر في الصباح. في هدوء تام، تسلل أبيض الناب إلى مخيمهم.
زحف تجاه النار، وكانت كلو-كوتش تقلِّب اللحم فوقها بينما يُصلح متساه بعض الجلود من أجل كلاب المزلجة. على الأسرة أن تكون على أهبة الاستعداد للرحيل عندما يسقط الثلج. تحرك أبيض الناب إلى جانب جراي بيفر متوقعًا أن ينال حظه من الضرب كالعادة، وفي شيء من الإذعان للأقدار، جلس في خنوع إلى جانب سيده.
وبدلًا من أن يتلقى ركلة قوية من جراي بيفر، إذ به يضحك ضحكة خافتة، ثم يقول: «عجبًا! انظروا مَن ظهر!»
أشار جراي بيفر بيده إلى كلو-كوتش مخبرًا إياها أن تعطيه بعض اللحم قائلًا لها: «أعطه أكبر قطعة لديك؛ فقد عاد ذئبنا إلى المنزل.»
استلقى أبيض الناب عند قدم سيده، وأخذ يحدق في النار التي بثت في جسده الدفء بعينين طارفتين تغالبان النعاس، وقد أدرك أنه في الصباح لن يعاني البرد القارس أو الغابة الموحشة؛ بل سيكون في أمان مع الإنسان. وبعودته إلى المخيم، تخلى تمامًا عن حياته في البرية، وأدار ظهره لما ورثه من طبائع الذئاب، واختار سيده بدلًا منها. فقد بات الآن معتمدًا اعتمادًا كليًّا على الإنسان وعلى طعامه وناره.