بيوتي سميث
في الخريف ترك جراي بيفر وأبيض الناب مخيم الهنود الحمر، وسافرا على طول ضفة نهر ماكينزي ومنه إلى جبال روكي. استمرت رحلتهما بضعة شهور؛ إذ كانا يتوقفان في طريقهما من أجل التخييم والصيد. شعر أبيض الناب بالهدوء في تلك الفترة، إذ لم تكن هناك كلاب أخرى؛ وحده كان جراي بيفر معه. تمنى أبيض الناب — إن كان للذئب أن يتمنى — أن تكون هذه بداية حياة جديدة، لكن هذه الآمال لم تلبث أن تلاشت.
وصل جراي بيفر وأبيض الناب إلى مدينة «فورت يوكون» الكندية في فصل الربيع، وكانت هذه المدينة هي معقل التجارة الخاصة بشركة «هادسون باي»، وكانت ملتقى جميع الأشخاص الذين يصلون إلى هذه المنطقة من الشمال. وكان بهذه المدينة كثير من الناس والطعام والبهجة، غير أن بضعة أشخاص فقط هم من تمكنوا من أن يحيوا هناك حياة مستقرة. كانت أعداد السكان ترتفع وتنخفض مع وصول السفن ورحيلها، وكانت المدينة تكتظ بأناس يجيئون ويذهبون.
كان ذلك في عام ١٨٩٨، وكان آلاف من الباحثين عن الذهب يتجهون شمال «يوكون» إلى مدينتي «دوسون» و«كلوندايك». أرادوا جميعًا أن يجمعوا ثروة طائلة، لكن قليلًا منهم فقط هو من فعل ذلك، فالجزء الأكبر من هؤلاء الأشخاص عاد إلى منزله فقيرًا كما كان عندما تركه فيما مضى. كان الشمال يضعف عزم الرجال. قليلون هم من كانوا على درجة من القوة جعلتهم يتحملون الطقس والوحدة والخطر. أما الرجال والنساء الذين عاشوا في «فورت يوكون» فقد اعتبروا أنفسهم جنسًا خاصًّا، وكانوا يسخرون من الوافدين الجدد، فيعقدون فيما بينهم المراهنات على مَن مِن الوافدين ستكلل مساعيه بالنجاح ومن منهم سيواجه الإخفاق. وعندما يحالف الحظ أحد هؤلاء الوافدين ويجد ذهبًا، كانت الأموال تتدفق في أرجاء المدينة.
كان جراي بيفر قد سمع عن حمى الذهب، وكان قد جاء ومعه بالات عديدة من الفرو وبالة أخرى من الأحذية الجلدية والقفازات. وعلى نحو تدريجي وحذِر استقرت أحواله في التجارة. فقد أراد هو الآخر أن يجني ثروة، حتى إن قضى في ذلك فصل الصيف كله والشتاء القادم أيضًا.
في الوقت الذي انشغل فيه جراي بتجارته، اعتاد أبيض الناب النزول إلى الشوارع، واندهش الناس لرؤية ذئب. لكن بفضل الأعوام التي قضاها أبيض الناب في المخيم، كان مقاتلًا متمرسًا بالفعل، وسرعان ما صار أبيض الناب «مَلِك» مدينة «فورت يوكون».
قاتل أبيض الناب أي كلب يمر في طريقه، وكان الفوز حليفه على الدوام؛ إذ لم يكن من بين كلاب هؤلاء الرجال البيض من هو ند قوي لأحد الذئاب. ولمّا كان جراي بيفر لا يحتاج أبيض الناب في العمل أو يأبه بتجواله بعيدًا، كان القتال هو ما يشغل الجزء الأكبر من أيامه، لذلك سرعان ما اشتُهِر.
فكان إذا توقف أمام متجر أو مكتب، أسرع شخص من داخل هذا المتجر أو المكتب لكي يطرده بعيدًا؛ إذ لم يرغب هؤلاء في خسارة عملائهم بسبب الذئب، وقد أدركوا أنه لن يجرؤ أحد على أن يمر من أمامه. وقد وصل الحال إلى أن ألقى قس في الكنيسة خطبة عنه، ادعى فيها أن الذئب علامة للشيطان وأنه لا بد أن يوقَف، لذا كان الناس يعبرون الشارع بعيدًا عنه ليجتنبوه.
غير أن شخصًا بعينه هو من لاحظ أبيض الناب عن قرب، كان ذلك الشخص يدعى بيوتي (التي تعني الجمال) سميث، مع أنه لم يكن له نصيب كبير من الجمال. كاد صيت هذا الرجل يكون سيئًا مثل صيت الذئب، فلم يكن له أي أصدقاء وكان أعداؤه كثيرين. عمل ذلك الرجل في وظائف متعددة، لكن جرت العادة أن يفصل منها جميعًا، وقد مارس السرقة والكذب والمقامرة بالأموال القليلة التي كان يمتلكها. وكان بيوتي، مثله في ذلك مثل كثيرين غيره، قد جاء إلى «فورت يوكون» باحثًا عن الذهب، غير أنه قرر، على عكس ما فعل غيره، أن يبقى في المدينة. لكن لم يكن السبب في ذلك حبه للمقاطعة أو الصعوبات التي يعج بها الشمال، بل لأنه في حقيقة الأمر لم يكن لديه مكان آخر يذهب إليه، فقد كانت «نورثلاند» وغيرها من المدن عنده سواء.
جرت عادة الأفراد في «فورت يوكون» على أن يضايقوا بيوتي ويسبونه، وهكذا كان حال الجزء الأكبر من حياته. من أجل ذلك كان رجلًا فظًّا غيورًا، وما إن رأى عظم قوة أبيض الناب حتى أراد هذا الذئب لنفسه، فقد ظن أنه والذئب يشتركان في كثير من الصفات.