استئناس الذئب
قال ويدون: «إذن يا مات، هل تظن أنه لا أمل فيه؟»
جلس ويدون على عتبة كوخه وحدق في مات، ورد صديقه على ذلك بأن هز كتفيه.
نظر الاثنان إلى أبيض الناب في طرف سلسلته المشدودة. كان الذئب يهِرُّ، ويجذب السلسلة محاولًا الوصول إلى كلاب المزلجة.
سأل ويدون: «هل ثمة احتمال لاستئناسه؟»
قال مات: «لست واثقًا من ذلك؛ فربما لا يزال محتفظًا بداخله بالكثير من صفات الكلاب.» اقترب مات من الذئب أقصى ما استطاع، وحدق النظر فيه طويلًا دون أن يمسه.
عندها سأله ويدون: «حسنًا، ما الأمر؟ هيا، أخبرني بالحقيقة، لماذا تطيل النظر إليه على هذا النحو؟»
قال مات: «ذئبًا كان أم غير ذئب، فذلك كلب مدرب.» وأشار إلى العلامات الموجودة على فرو أبيض الناب حيث وضِع الطوق الجلدي الذي كان يشد إلى المزلجة من قبل.
كان ويدون مندهشًا للغاية وقال: «إنك على حق، لقد كان كلب مزلجة قبل أن يمتلكه بيوتي. لذلك ليس هناك سبب يمنع تدريبه ثانيةً.»
حذره مات: «لا تبالغ في الفرح، فقد مكث معنا أسبوعين، ويبدو أنه ازداد سوءًا.»
تأمل ويدون الأمر دقيقة، وقال: «لا بد لنا أن نثبت له أننا لا نعاقبه، وأننا لن نؤذيه.»
قال مات: «أظن أننا قد نجرب فك وثاقه.»
أدار ويدون فكرة صديقه في رأسه، ورآها تنطوي على مخاطرة، لكنه كان يعلم أن مات رجل يقظ، فرد عليه قائلًا: «حسنًا، لا بأس بذلك؛ فلتحرره من السلسلة ولنجرب حظنا!»
لم يصدق أبيض الناب أنه صار حرًّا، فقد ظل مع بيوتي سميث عدة أشهر لم يشم فيها ريح الحرية قط، غير أنه لم يعرف ماذا يفعل بها الآن. لا بد أن هناك خدعة ما. ظل يرقب الرجل البدين وهو يدور من حوله بينما دخل الآخر الكوخ. مكث أبيض الناب في مكانه يهر ورأسه منكَّسة.
قال ويدون أثناء خروجه من الكوخ: «إن كل ما يحتاجه هو قليل من عطف البشر.»
وعندئذ ألقى ويدون قطعة كبيرة من اللحم تجاه الذئب الجائع، وقبل أن يحظى مات بفرصة يثني فيها الكلاب الأخرى عن الاقتراب، انقض أحد كلاب فريق المزلجة على اللحم الطازج، وفي لمح البصر، انقض عليه أبيض الناب. على الفور جذب مات وويدن الذئب للخلف في الوقت الذي عدا فيه الكلب بعيدًا يئن من الألم.
وسرعان ما بدأ مات يدافع عن أبيض الناب، فقال: «اسمع يا ويدون، لقد مر هذا الكلب بتجربة قاسية، فليس لك أن تتوقع منه أن يكون لطيفًا ووديعًا كالملاك. لا بد أن تعطيه الوقت.»
رد ويدون: «لا تقلق، فهذا خطأي أنا، لقد نسيت أن كلاب المزلجة قد تقفز على اللحم.» بعد ذلك تحول بنظره إلى أبيض الناب. كان الذئب مضطربًا ومذعورًا، ينتظر أن تأتيه ضربة أو أي نوع من الإيذاء.
قال ويدون: «لا بأس إذن، سنجرب شيئًا آخر.»
سار ويدون نحو أبيض الناب، نصحه مات أن يمسك عصا في يده، لكنه هز رأسه رافضًا ذلك، وراح يتحدث إلى الذئب في صوت رقيق. كان أبيض الناب يتوقع الضرب، فقد هجم على ممتلكات هذا الرجل وألحق الأذى بأحد كلابه، غير أن ذلك الرجل بدا له غريبًا في تصرفاته. فقد كان صوته مختلفًا؛ فكان رقيقًا ومنخفضًا. كان هناك شيء جديد، وكان أحد الأشياء التي ألفها أبيض الناب أن أي «جديد» نادرًا ما يكون أفضل مما سبقه.
انتفض شعر أبيض الناب، وكشر عن أنيابه، وكان جسده يرتعد. لم يكن ذلك الرجل الجديد يمسك عصا في يده، ولم يكن يصرخ فيه أو يركله بقدمه أو يجذبه من سلسلته. جلس الرجل على مقربة شديدة منه. لكن عندما قرّب يده في بطء من أبيض الناب، أسرع بِعضِّه.
صرخ ويدون صرخة قوية ممزوجة بالدهشة، ثم سحب يده المصابة، وقبض عليها في قوة.
قال مات: «قد طفح الكيل»، وذهب إلى الكوخ لإحضار بندقيته، ثم قال: «لا يمكن أن نخاطر أكثر من ذلك، لا بد أن نقتله الآن.» ووجه بندقيته إلى أبيض الناب.
رد الذئب على ذلك بأن قفز إلى الوراء وانزوى إلى ركنه وهو يهِرُّ في وجه مات وبندقيته.
عندها قفز ويدون، وقال: «لا! لا، لم يكن ذلك خطأه.»
– «لقد عضَّك يا ويدون. ربما يفعل ما هو أسوأ من ذلك المرة التالية.»
أجاب ويدون: «انظر إلى ذكائه، إنه يعرف الأسلحة النارية كما تعرفها أنت تمامًا. انظر! والآن ضع بندقيتك.»
خفض مات بندقيته ليهدأ أبيض الناب بعدها مباشرة، ثم جلس بجوار السياج، وظل يراقبهما.
– «ارفع بندقيتك.»
رفع مات بندقيته كما أخبره ويدون، ورد أبيض الناب على ذلك بأن خفض رأسه وأخذ يئن، وانتصب فراؤه.
– «والآن، اخفضها ثانيةً.»
عاد أبيض الناب إلى هدوئه ثانيةً.
كان مات مندهشًا للغاية، وقال: «أتفق معك تمامًا، فالكلب شديد الذكاء مما يجعل قتله خسارة كبيرة.»
وهكذا بدأت إعادة التدريب مرة أخرى، إذ كان ويدون يجلس إلى جانب الذئب كل يوم ويتحدث إليه في صوت رقيق خفيض، فقد أراد أن يعتاد الذئب على صوته وأن يفهم معنى العطف. أراد ويدون سكوت لأبيض الناب أن يعرف أن الجميع لا يريدون إيذاءه، بل أراد له أن يتعلم أن يثق في الآخرين.
قال مات وهما يتناولان العشاء ذات يوم: «ما زلت خائفًا من جلوسك على مقربة شديدة من الذئب. لا أقول إنه لا يمكنك تهدئته، لكن هل ما زلت معتقدًا أن بإمكانك استئناس هذا الذئب؟»
قال ويدون في إصرار: «إنه لم ير عطفًا قط، وسوف يتعلم معنى العطف من خلال المعاملة الطيبة.»
أومأ مات برأسه في تباطؤ، فقد أدرك أن ما قاله صديقه صحيح، غير أنه كان يعرف أيضًا أنه لا يمكن التنبؤ بأفعال الحيوانات البرية، خاصة ما تعرض منها لإيذاء شديد. قال مات لصاحبه: «أنت أكثر مني تفاؤلًا، ففي رأيي أنه إذا لم يستطع البشر أن يكونوا رحماء فيما بينهم، فكيف تتوقع من ذئب أن يكون رحيمًا؟»
قال ويدون: «هذا هو محور الأمر كله، فالناس لا يحترم بعضهم بعضًا دائمًا، لذلك لا بد لك بين الفينة والفينة أن تغير العالم أجمع أشخاصًا وذئابًا.»
كان ويدون كل يوم، قبل أن يخرج إلى العمل، يذهب فيلقي نظرة على أبيض الناب، وكان في كل مرة، يجلس إلى جانبه ويقترب منه أكثر وأكثر. في النهاية، مد يده نحو الذئب الذي تشممها. مد ويدون يده أكثر ولم يكشر الكلب عن أنيابه. كان ويدون يقترب أكثر وأكثر حتى مع هرير الذئب إلى أن لمس الفرو الذي يغطي ظهره فوجده متسخًا متشابكًا. تساءل ويدون هل يمكن أن يثق فيه أبيض الناب ذات مرة بما يكفي لأن يسمح له بتنظيفه. تراجع الذئب قليلًا، لكنه سمح لويدون بالتربيت على ظهره.
خرج مات من الكوخ ليفرغ مقلاة طعام فرأى صديقه مع الذئب: «رباه، لا بد أنني أحلُم!» غير أن صوته قضى على جمال هذه اللحظة الساحرة، فتراجع أبيض الناب إلى الخلف مكشرًا عن أنيابه.
وقف ويدون على قدميه وسار نحو صاحبه، وقال: «لا أعرف يقينًا ما الذي سيحدث الآن، لكنني أظن أن أبيض الناب قد تعلم أخيرًا بعض الثقة.»
ولم تتوقف الدروس عند هذا الحد، فقد استمر ويدون في الجلوس على مقربة من الذئب والتحدث إليه. اعتاد الذئب تدريجيًّا على وجود أشخاص بالقرب منه، لكنه لم يكن قد أحب الملاطفة بعد. فعلى الرغم من سماحه لويدون بأن يمسه، فقد كان يهِرُّ طوال الوقت. غير أن ويدون لم يكن لينخدع بذلك كله، فقد استطاع أن يلحظ الفارق حتى وإن لم يلحظه أي شخص آخر. لم يكن ذلك هرير غلظة أو دناءة، بل كانت له نبرة أخرى؛ كان هريرًا يدل على الارتياح والحب المتزايد.
بعد نحو شهر من قدوم أبيض الناب لكي يعيش مع ويدون ومات، رأى الاثنان عودة للذئب الغاضب المتوحش. ففي إحدى الليالي بعد العشاء، كان الرجلان يلعبان الورق عندما سمعا هريرًا قويًّا آتيًا من الشرفة الأمامية. فتحا الباب ليريا الذئب وقد كشر عن أنيابه وهمَّ بالانقضاض على شيء ما في الظلام. نظر ويدون ومات في الظلام لكنهما لم يريا أي شيء، نادى مات: «هل من أحد هناك؟» لكن أحدًا لم يجبه.
فجأةً وثب الذئب من فوق السلالم وإذا بصوت رجل يصرخ من الألم. هرع مات ليحضر مصباحًا، بينما سار ويدون نحو الذئب.
قال ويدون للذئب: «اهدأ يا فتى، اهدأ!»
لم يهدأ أبيض الناب عند سماع صوت سيده، وإنما استمر في التذمر والزمجرة والهرير، بل حاول أن يحرر نفسه من بين ذراعي ويدون ويهاجم الرجل الذي يئن من الألم أمامه.
عاد مات ومعه مصباح رفعه عاليًا، ثم قال: «هكذا إذن! هذا يفسر غضب الذئب وثورته.»
كان بيوتي سميث مستلقيًا على الثلج، يمسك بقدمه عند موضع عضه فيه أبيض الناب، وعلى الرغم من أن جرحه لم يبد عميقًا، فقد استمر في الصراخ من شدة الألم.
قال ويدون: «انهض يا سميث، ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
تلعثم بيوتي وهو يرد: «أنا … أنا … أنا.» استمر أبيض الناب في الهرير، وأدرك سميث أنه في ورطة كبيرة، فأردف قائلًا: «احرص فقط على ألا ينفلت الذئب من يدك.»
سأله ويدون: «لماذا تحوم حول كوخنا في منتصف الليل، يا سميث؟ لا أظن أنها زيارة ودية.»
رد سميث وهو يئن: «أتيت … أتيت لأستعيد ملكيتي؛ لأستعيد ذئبي!» وما إن نظر سميث إلى أبيض الناب حتى بدأ الذئب يزمجر ويهِرُّ ثانيةً.
ضحك منه ويدون: «هل تريدني حقًّا أن أتركه من يدي؟ هل تحب حقًّا أن تأخذ أبيض الناب معك إلى المنزل؟»
جاهد الكلب لكي يحرر نفسه من قبضة سيده وقد لمعت أنيابه في الظلام وانتصب شعر فروه.
عندئذ صرخ سميث: «لا … لا … لا، لا تتركه من يدك.» ووضع يديه على وجهه.
قال ويدون: «سيظل أبيض الناب حيث هو الآن، إن رحلت في هذه اللحظة.»
وأضاف مات: «وتذكر أننا لن نمنعه عنك إن حاولت فعل ذلك مجددًا.»
تمتم سميث، وحول وجهه عن الكوخ ثم بدأ يعرج في الاتجاه الذي جاء منه.
نادى ويدون على الذئب يدعوه إلى العودة إلى الشرفة قائلًا: «هلم يا فتى، أعتقد أنك ينبغي أن تنام بالداخل الليلة.»
قال مات: «الآن يا ويدون لا يمكنك أن تقلق من أن يحاول ذلك الجبان سميث أخذ الكلب ثانيةً، أليس كذلك؟»
اصطحب ويدون أبيض الناب إلى داخل الكوخ وأفسح له مكانًا بالقرب من المدفأة. «نعم، قد يحاول بيوتي ثانيةً، لكن ما يقلقني أنه ربما لن نكون هنا المرة القادمة لنمنع الذئب من الهجوم عليه.»
جلس ويدون على كرسي، وأشعل غليونه، وقال: «لقد رأيتَه بالخارج، أعتقد أنه قد يقتل هذا الرجل.» عندها أخذ ويدون ينظر إلى الذئب الذي يمكن أن يكون شديد الرقة معه، وكان أبيض الناب قد ذهب في نوم عميق بجوار النار.