منزل ويدون
وصل القارب سان فرانسيسكو حاملًا ويدون سكوت وأبيض الناب على متنه. ترجل الاثنان من على القارب إلى مرسى شديد الازدحام. لم يكن أبيض الناب قد عرف في حياته قط عالمًا كهذا العالم، فقد كانت المدينة كبيرة للغاية على ذئب بري؛ انتشرت الطرق الخرسانية والبنايات العالية والسيارات وجموع الناس في كل حدب وصوب. وكانت هناك أيضًا الكثير من الروائح والكثير من الناس وكذلك الكثير من الأشياء التي يمكن تعلمها. وكان يخشى جميع أشكال الضوضاء المحيطة به. اعترض طريقه أعداد كثيرة من البشر، وفقد إحساسه بالاتجاهات فلم يعرف أي طريق يسلك. أصابه الذعر من أنه قد لا يرى سيده ثانيةً، فقد كان معتمدًا عليه اعتمادًا كليًّا، لذلك كان يتبعه كظله، حتى إن الكلاب الأخرى والأطفال لم تكن لتصرف انتباهه عنه.
لحسن الحظ أنهما لم يمكثا في المدينة طويلًا، فقد انطبعت ذكراها في ذهن أبيض الناب على أنها حلم مزعج. اصطحبه ويدون إلى محطة القطار، ووضعه في إحدى عربات الأمتعة. وعندما أُغلقت أبواب العربة الحديدية ولم يكن ويدون معه، خاف أن يكون قد فقد سيده. جلس قرب حقائب سيده، يحرسها جيدًا. فحتى لو فقد سيده، سوف يتأكد أن حقائبه في أمان. كان يدرك على نحو ما أن سيده سيعود للبحث عنه.
لم تمض إلا ساعة واحدة حتى فتحت الأبواب الحديدية ثانيةً وظهر أبيض الناب من العربة. تملكه الذهول عندما لم ير المدينة. لقد عاد إلى مقاطعة أكثر ألفة له، على الرغم من أنها لم تكن كموطنه. كانت جميع مظاهر حياة المدينة وأصواتها قد اختفت، وحل محلها ريف به كثير من النباتات والأشجار العالية. لم تكن هناك أشجار عالية في الشمال، ولم يكن أبيض الناب قد رأى من قبل قط تلالًا مموجة أو غابات خضراء كهذه. كانت كاليفورنيا مكانًا شديد الاختلاف.
كانت هناك عربة تنتظرهما، واقترب شخصان من ويدون. راقب أبيض الناب المشهد في فزع شديد بينما يحيط هذان الشخصان سيده بذراعيهما. عانقه كل منهما على حدة، فظن أبيض الناب أن سيده يتعرض للهجوم. إلا أن ويدون أسرع يطمئن الذئب الذي صار كالشيطان الغاضب.
قال ويدون بعد أن أحكم إمساك أبيض الناب: «لا بأس يا أمي. لقد ظن أنكما تحاولان إيذائي. لا تقلقا، فسيتعلم كل شيء قريبًا.»
ردت الأم: «في الوقت الحالي، سأتعلم أن أحتضن ولدي عندما لا يكون الذئب موجودًا.» ثم ضحكت لكن بدا واضحًا للغاية أنها كانت شديدة الاضطراب.
أجلس ويدون أبيض الناب في هدوء، واحتضن أمه ثانيةً، وعندما بدأ الذئب في الزمجرة ثانيةً، حذره ويدون قائلًا: «اهدأ! اهدأ!» في النهاية، تعلم أبيض الناب أن يجلس في هدوء بينما يحتضن سيده والديه، فقد أدرك أنه لا خطر في ذلك.
رُفعت الحقائب على العربة، وانطلق الجميع على الطريق يعدو خلفهم أبيض الناب. كان الذئب سعيدًا بالعدو، فقد كانت رحلة القارب الطويلة شاقة على نفسه، ولم يكن معتادًا على مثل هذه المساحات الصغيرة حيث لا يمكنه التجول واستكشاف البيئة المحيطة. أما وقد بات حرًّا طليقًا ثانيةً، فقد أخذ يعدو بكل ما أوتي من قوة. بدت هذه الأرض الجديدة شديدة الروعة، وكثرت بها المناظر والأصوات الجديدة. أراد الذئب أن يعدو داخل الغابة لينظر ما يمكنه أن يجد هنالك، لكنه أراد ألا يفقد أثر سيده. بعد خمس عشرة دقيقة، انعطفت العربة في أحد الطرق الخاصة، وتبعها أبيض الناب.
خرج آخرون من المنزل لتحيتهم، ومن بينهم طفلان صغيران. أقلق ذلك أبيض الناب فقرر الابتعاد عنهما، فغالبًا ما كان الأطفال في قرية الهنود الحمر يضايقونه أو يؤذونه، وكان الأطفال في «فورت يوكون» يرمونه بالعصي والأحجار. ولحسن حظه، كان هذان الطفلان أكثر اهتمامًا بعودة أبيهما، فلم يلتفتا إلى الذئب.
انزعج أبيض الناب من كلبي المزرعة اللذين استقبلاه بالنباح والزمجرة، وقد عضه أحدهما — وهو كلب صيد — في عقبه وقت عدوه خلف العربة، بينما اعترض الآخر — وهي كلبة من سلالة الكولي — سبيله دائمًا، فلم تكن لتتركه يقترب كثيرًا من الأسرة. بذلك أُبعد أبيض الناب عن سيده، وكان شعوره بالذعر أكبر من شعوره بالغضب. كان يرى سيده على بعد بضعة أمتار، ولا يستطيع الوصول إليه، فكان يحاول الاتجاه يمينًا أو يسارًا، لكن دون جدوى، إذ كانت كلبة الكولي دائمًا هناك.
نظر ويدون خلفه فرأى معاناة أبيض الناب.
على الفور نادى: «كولي، توقفي عن ذلك.» وسرعان ما توقفت كولي ليشق أبيض الناب طريقه إلى سيده.
عندها قال القاضي سكوت، والد ويدون: «حسنًا، من الواضح أنه متعلق بك للغاية، وإني لمنبهر لذلك.»
رد ويدون وهو يربت على رأس أبيض الناب: «إنه يتعلم بسرعة، لكن ينبغي الحذر من عضته الأولى؛ فهو يثق بي، غير أنه ليس له تجارب كثيرة مع الآخرين؛ أعني الطيبين منهم على الأقل.»
قال القاضي سكوت: «هيا ندخل المنزل، فلا بد أن العشاء قد صار جاهزًا الآن. سنصحب الكولي معنا إلى الداخل ونترك أبيض الناب وكلب الصيد هنا.» بدأت الأسرة تتجه نحو المنزل، وكان أبيض الناب يراقب ويدون جيدًا.
ابتسم ويدون قائلًا: «أعتقد أنه ينبغي بقاء أبيض الناب معنا، وإلا فقدنا كلب الصيد الذي نملكه.»
نظر والده إلى الذئب، وتذكر زمجرته عند محطة القطار. وقف أبيض الناب على مقربة من ويدون يضمن الحماية له، فأضاف الوالد: «ربما كنت محقًّا يا بني، ربما كنت محقًّا.»