اختيار رفيق
عاد قطيع الذئاب أدراجه على طول ضفة النهر ومنها إلى الغابة، مستمرًّا في البحث عن الطعام، لكن حدة المزاج كانت قد وجدت طريقها بين الذئاب، حتى إن كلًّا منها شرع يكشر عن أنيابه في حنق في وجه الآخر.
كانت الكلبة الحمراء أسرع من الكلاب الأخرى في اللجوء إلى العض والنباح في وجه كل من يقترب منها أكثر مما يلزم، وعلى الرغم من أنها لم تكن القائد، فقد شغلت مكانة خاصة داخل القطيع. فقد كانت أول من لاحظ الرجلين وكلاب مزلجتهما، وهي من قاد الذئاب أيضًا إلى المخيم والنار، ومن أسرع بتحذير الذئاب عندما وصل الرجال الآخرون بفضل ما تتمتع به من يقظة.
كان قائد القطيع ذئبًا رماديًّا ضخمًا، انتصر في العديد من المعارك، وكانت لديه ندوب تدل على ذلك، بل زاد على هذا أنه فقد عينه اليمنى. كان الذئب الأعور يهِرُّ في وجه أي ذئب أصغر سنًّا يحاول تخطيه أو الاقتراب منه أكثر مما ينبغي. مع ذلك، كانت الكلبة الحمراء تأخذ مكانها بجواره وكأنه مكانها الشرعي. ولم يكن الذئب يهِرُّ أو يكشر عن أنيابه في وجهها، فقد بدا في حقيقة الأمر شديد السعادة لذلك، بل كان يلاطفها وقت عدْوِهما فوق الثلج.
سعى ذكور آخرون في قطيع الذئاب إلى لفت انتباه الكلبة الحمراء، لكن الذئب الأعور أجبرهم جميعًا على التراجع، فكان أي ذكر يتحدى القائد يخاطر بالدخول في معركة معه. وقد سعى كثيرون إلى انتزاع القيادة من الذئب الأعور أو الفوز بحب الكلبة الحمراء، لكن أحدًا منهم لم يفلح في ذلك، وكان ذلك كله جزءًا من نواميس البرية. فالذئب الأعور كان قد جدّ في العمل والقتال لكي يصير قائد القطيع، ولم يكن ليتخلى عن منصبه في سهولة.
ذات يوم وصلت الذئاب إلى أرض خالية، وتوقف الذئب الأعور فجأةً وتبعه في ذلك بقية القطيع منتظرين أن يروا ما سيفعله بعد ذلك. كان ظبي ضخم يقف على بعد بضع مئات من الأمتار، وعلى الفور شرع أفراد القطيع في وضع التشكيل المناسب واستعدوا للصيد. حاصرت الذئاب جميعها — ومعها الكلبة الحمراء — الحيوان الضخم، وعدت نحوه. كان وزن الظبي ثقيلًا يزيد عن ثمانمائة رطل، فكان ذلك كافيًا لكي يَطعَم الجميع. في نهاية الأمر، انتهت المجاعة، وعادت الذئاب حينئذٍ إلى حياة اللعب واللهو.
بدأت الذئاب في الانفصال بعضها عن بعض، فقد شرع أفراد القطيع في مغادرة القطيع في ثنائيات من ذكر وأنثى. وهنا حان الوقت الذي يتحدد فيه رفيق الكلبة الحمراء. بيَّن الذئب الأعور في وضوح شديد أنه لا ينبغي لأي ذئب آخر أن يسعى إلى ذلك ولو من باب المحاولة. فعندما مس ذئب شاب بأنفه رقبة الكلبة الحمراء، سرعان ما انقض عليه الأعور، ولم يستمر القتال طويلًا، إذ لاذ الذئب الشاب بالفرار، وعاد الأعور إلى الكلبة الحمراء وقد حاز ولاءها عن جدارة.
كانت البرية بيئة قاسية، ولم تكن القوانين التي تحكم الذئاب مشابهة لتلك القوانين التي تحكم البشر. والذئاب لم تناقش هذه القوانين أو حتى تفهمها، لكنها عرفت أن عليها الانصياع لها.
والآن بعد أن صار الذئب الأعور والكلبة الحمراء وحدهما، عثرت الكلبة على الطعام ثانيةً، فقد قادت الذئب إلى إحدى قرى الهنود الحمر حيث تمكنا هناك من الإغارة على حوانيت الأطعمة وفخاخ الأرانب. وقد علَّمت الأعور كيف يشد الحبال من الأشجار ويمسك بالأرانب من الفخاخ. وكانت الكلبة تعرف كيف تسرق اللحم المطهو على النار وأين تُحفظ الأسماك بالقرب من الخيام. كانت روائح المخيم ومشهده غريبة على الذئب، لكن التفاصيل كافةً كانت معروفة للكلبة. وقفت الكلبة على مقربة من المخيم تصغي وتنتظر شيئًا أو شخصًا ما، ثم أرسلت أنةً رقيقةً عندما رأت الرجال والنساء الموجودين في المخيم يجلسون حول النار وينخرطون في الحديث. ومع هذا عادت الكلبة الحمراء إلى الغابة بعد أن حثها الأعور كثيرًا على ذلك.
بعد مرور بعض الوقت، بدأت الكلبة الحمراء تبطئ السير، وزاد وزنها زيادة كبيرة، وصار من الصعب أن تلاحق رفيقها خطوة بخطوة. في تلك الأثناء، كانت بحاجة إلى مكان آمن وجاف لتستقر به وتضع جراءها. عثرت على كهف على بعد بضعة أميال تجاه منبع نهير صغير. كان الكهف مرتفعًا بعض الشيء فوق أحد التلال، وكان آمنًا من خطر الحيوانات الأخرى. تحسست الكلبة طريقها إلى داخل الكهف تبحث عن أي علامات للحياة فلم تجد أيًّا منها.
قصد الأعور إلى الاهتمام بها، فما إن استقرت في بيتها الجديد حتى جلب لها الطعام، وقام على حراسة المدخل وقت انتظارهما للولادة.
وضعت الكلبة خمسة جراء، أربعة منها إناث وذكر واحد، ثم أخذت تلعق هذه الجراء كي تنظف أجسامها في الوقت الذي كان فيه الأعور يراقب ذلك كله. أطلقت الجراء صرخات ضعيفة وقت التقاط أنفاسها الأولى.
كان الذكر مختلفًا عن أخواته؛ فقد احتفظت جميعًا بفرو أمها الأحمر، أما هو فكان رماديًّا من الرأس إلى القدم، وبدا شبيهًا بوالده تمامًا.
عاشت الجراء في الفترة الأولى من حياتها في عالم من الظلمة؛ إذ ظلت أعينها مغلقةً. كان كل ما تعرفه هذه الجراء هو الروائح والأصوات الموجودة داخل الكهف ولمسة أمها الحانية. أما الجرو الصغير فسرعان ما اعتاد على الأشياء المحيطة به ليجد الطريق المؤدي إلى أمه والآتي من عندها، وينصت إلى أبيه عندما يعود إلى الكهف، وقد كان هو وأخواته يتدحرجون ويلعب بعضهم مع بعض، منتظرين الطعام ومكتشفين أصواتًا جديدة في كل مكان من حولهم.
ورويدًا رويدًا، بدأت أعين الجراء الصغيرة تتفتح، وتمكنت بعد طول انتظار من رؤية أمها. بعد ذلك شرعت الجراء تستكشف الكهف، فكانت تشتم جميع الأركان وتتسلق كل الصخور. وعلى الرغم من ذلك، فإنها لم تقترب من المدخل، ومتى كانت تسير بعيدًا في ذلك الاتجاه، كانت أمها تردها إلى داخل الكهف. ولم يكن المدخل في أعينها الناشئة وعقولها الساذجة إلا حائطًا آخر، فلم تكن لديها أي فكرة عن وجود عالم آخر خلف حائط الضوء؛ إذ كان الكهف هو كل ما عرفته.
وبينما تتوالى فصول السنة، إذ ضربت الأرض مجاعة أخرى، فكان الأعور يبحث بحثًا طويلًا وصعبًا عن اللحم لكي يجلبه لأسرته، على الرغم من ندرته الشديدة وعدم كفايته لإطعام هذا العدد الكبير من الأفواه. نتيجة لذلك، صارت الجراء ضعيفة، ولم تعد قادرة على اللعب في جوانب الكهف أو التجول بداخله.
خرجت الذئبة الحمراء هي الأخرى للصيد، لكنها لم تعثر على شيء، وقد آلمها أن ترى جراءها يزداد ضعفها يومًا بعد الآخر، لكنها أدركت في أعماق قلبها أن البرية مكان موحش وأنها لا بد أن تتعلم تقبل هذه الحقيقة. تأوهت الكلبة حزنًا عندما عادت من الصيد إلى الكهف لتجد أن الجرو الرمادي فقط هو من بقي على قيد الحياة بين جرائها. وعلى الفور، جذبته إلى حضنها لتبقيه دافئًا، باذلةً كل ما تستطيع لكي تحفظ حياة جروها الوحيد.
في النهاية، حالف النجاح الذئب الأعور، وقتل طائرًا، وأحضره إلى الكهف. وهكذا باتت الأمور أكثر سهولة مجددًا. فقد دأب الأبوان على الخروج لجلب الطعام والعودة بما يكفي منه لإطعام الجرو الرمادي الذي لم يلبث أن استعاد صحته ثانيةً وشرع يقفز داخل الكهف. وهكذا تمكن هذا الجرو الصغير من تجاوز المجاعة الأولى له، مع أنها لن تكون الأخيرة.
سار كل شيء على ما يرام إلى أن جاء يوم لم يعد فيه الذئب الأعور إلى المنزل، فأدركت الكلبة الحمراء أن مكروهًا قد وقع، لذا غادرت الكهف للبحث عنه لتجد جسد رفيقها على بعد بضعة أميال من الكهف وقد فارق الحياة بعد أن خسر قتالًا مع أحد السنانير.
قضت الكلبة الحمراء بضع دقائق تشتم الأعور وتودعه، وفجأة تذكرت أن جروها وحيد في البرية الموحشة، فتساءلت: ماذا قد يحدث إن شق السِنَّوْر طريقه إلى الكهف؟ حدثتها نفسها أنه قد يحدث أي شيء حال وجودها بعيدًا. لذلك عادت الكلبة الحمراء أدراجها إلى الكهف على جناح السرعة.