استكشاف
قضى الجرو الرمادي الكثير من الوقت وحده في الوقت الذي كانت فيه أمه تخرج للصيد، ولم يكن قد برح فم الكهف بعدُ، بل لم يكن قد أدرك أن هذا المدخل لم يكن سوى فجوة كبيرة. ففي نظره، لم يكن ذلك المدخل إلا جدارًا آخر من جدران الكهف، فيما عدا أن والدته تستطيع أن تنفذ من خلاله، وقد وقع في ظنه أن أمه تقدر على فعل أي شيء، فقد رحل والده بعيدًا ولم يرجع قط. وكان إن حدث وتجول الجرو على مقربة شديدة من مدخل الكهف؛ تكِزُه أمه إلى الخلف، وأحيانًا تطلق في وجهه هريرًا خفيفًا على سبيل التحذير. أما الجرو فكان دائمًا ينزل على رغبة أمه؛ إذ عرف أنها كانت قلقة من أن مكروهًا قد يصيبه إن اقترب من المدخل أكثر مما يلزم، فمع أنه لم يعرف معنى الخطر قط، فقد عرف معنى الخوف؛ ذلك أنه كان جزءًا من عاداته الموروثة، بل كان جزءًا من البرية، وكان الخوف يعلِّم جرو الذئب العديد من الدروس المفيدة.
لا شك أن الذئب لا يفكر مثل الإنسان، فلم ينظر الجرو إلى فتحة الكهف ويسأل نفسه ماذا يوجد بالخارج، بل لم يخطر ذلك بباله. عرف الجرو العالم المحيط به فقط، وكان كل يوم بعد رحيل أمه للبحث عن الطعام يقترب شيئًا فشيئًا من المدخل. ومع كل خطوة يخطوها تجاه المدخل، كان يشم روائح جديدة ويسمع أصواتًا جديدة. وتمامًا كما كان الخوف جزءًا من عاداته الموروثة، كانت الحاجة إلى التجول والصيد. لذلك عندما جاء أخيرًا اليوم الذي تحول فيه الحائط النورانيّ إلى ألوان — أشجار وسماء ونهير يشق الغابة — خطى في شجاعة إلى خارج الكهف، ثم نظر إلى ضوء الشمس الساطع بعينين نصف مغمضتين، وسأل نفسه: ما هذا المكان؟
فجأةً شعر بخوف عظيم جعله يربض على حافة الكهف ويدقق النظر في ذلك العالم المجهول الموحش من حوله. انتصب الشعر الذي يغطي ظهره، وانكمشت شفتاه محاولًا أن يطلق هريرًا قويًّا، لكن شيئًا لم يحدث.
أطال الجرو النظر إلى الأشجار الخضراء ومنها إلى السماء الزرقاء، وفي أثناء ذلك، شاهد طائرًا يحلق بجناحيه فوق الأشجار ليختفي بعد ذلك في الغابة. اختفى ذلك الطائر وقت مروره بين الأشجار، فتساءل الجرو ماذا حدث له. أخذ يشاهد الرياح وهي تتحرك حركة رقيقة في عرض السماء، وإذ بنسمة رقيقة تداعب وجهه. وبينما كان يكتشف هذا العالم الجديد، ويزداد فضولًا، نسي أن يكشر عن أنيابه، ونسي خوفه كذلك.
وهكذا تخطى باب الكهف في جرأة وشجاعة ليسقط على وجهه ويصطدم أنفه بالأرض في الوقت الذي تدحرج فيه إلى أسفل التل. لم يدرك معنى السقوط، تدحرج إلى أسفل المنحدر مرارًا وتكرارًا، وامتلأ قلبه هلعًا. كان ذلك العالم المجهول قد تمكن منه أخيرًا.
توقف عن التدحرج عندما وصل إلى قاع المنحدر، وفي خوف وارتباك وقف على أرجله الأربع. أخذ يلعق فروه لينظفه من الطين والأوساخ، ولم يصبه أذى سوى بعض الندوب الصغيرة. وهكذا تمكن من اختراق الحائط الذي يفصله عن العالم الخارجي، وكُتبت له الحياة.
نظر إلى الحشائش من أسفله، وحك أنفه في الشجيرات، ورفع رأسه عاليًا ليستنشق النسيم. كاد سنجاب يجري حول شجرة أن يصطدم به، وملأ ذلك قلبه هلعًا. كان هذا هو أول حيوان يراه في حياته بعد أفراد أسرته. انكمش الجرو مرتعدًا من الخوف، وكشر عن أنيابه، لكن السنجاب كان على الدرجة نفسها من الخوف. دفع الخوف السنجاب إلى أن يتسلق إحدى الأشجار، ومن مكانه الآمن فوق الشجرة أخذ يرسل صرخات حادة.
زاد ذلك من ثقة الجرو في نفسه. وعلى الرغم من أن أشياء أخرى روعته أثناء مواصلته السير — نقار الخشب، وفرع شجرة صدمه في وجهه، وصوت حيوان غريب جاء إليه من بعيد — لم يثنه ذلك كله عن المواصلة. خالطه في حقيقة الأمر شعور غامر بالجرأة والتحدي حتى إنه عندما وثب طائر الفأر عاليًا تجاهه، حرك هو الآخر كفه تجاهه مداعبًا إياه. في المقابل، استجاب له الطائر بنقرة حادة في طرف أنفه جعلته يعوى في ألم، ودفعت الطائر إلى أن يسرع بالتحليق بعيدًا.
كان الجرو في مرحلة التعلم، وكان عقله شارعًا في تصنيف هذا العالم الجديد إلى مجموعات مختلفة ومفيدة. فقد كانت هناك كائنات تنبض بالحياة مثل الطائر والسنجاب، وكان عليه الاحتراس منها. وكانت هناك أشياء غير حية مثل الكهف والصخور التي لا تفارق مكانها. أما الأشياء التي تنبض بالحياة فكانت تجوب الأرض ولا يمكن التنبؤ بما قد تفعله، لذلك عليه دائمًا أن يكون مستعدًا لمجابهتها.
كانت مشيته في ذلك الوقت خرقاء غير مصقولة. فقد كان يصطدم بالشجيرات وتزلُّ أقدامه فوق الصخور، ويتعثر في الأشجار، غير أنه مع كل خطوة جديدة، كان يتعلم شيئًا جديدًا، ومع كل خطوة جديدة، كان يزداد فضولًا، وقد أدى ذلك كله إلى مزيد من المفاجآت.
تتبع صوتًا غريبًا بين الأوراق، وصادف نهيرًا صغيرًا. هنا غمر كفه في الماء، وكان رطبًا باردًا وجديدًا عليه تمامًا، ثم أتبعه بكف آخر حتى وقف في الماء بأقدامه الأربع. في تلك الأثناء، شعر الجرو بتحرك التيار من حوله، وتشابه ذلك مع أولى الخطوات التي خطاها خارج الكهف. فجأة اختفت الأرض أسفله، وذهب ثانيةً، بعد أن امتلأ هلعًا وذعرًا، إلى عالم المجهول.
رفع رأسه فوق سطح الماء، وكأنه كان يفعل ذلك طيلة حياته وبدأ يسبح. حاول أن ينظر حوله وأن يعود أدراجه إلى الشاطئ، لكن التيار تحكم فيه، وجرفه بعيدًا في اتجاهه. خالطه شعوران تجاه هذه المغامرة الجديدة هما الخوف والإثارة. كان كل شيء جديدًا وكل شيء يبعث على الخوف في الوقت نفسه.
عندما دفعه التيار بالقرب من بعض الصخور، اقتلع نفسه من الماء. زحف الجرو إلى الشاطئ، وهز نفسه هزة عنيفة لكي يتخلص مما غمره من ماء. لم تكن لديه أي فكرة عن المكان الذي يوجد به في ذلك الوقت أو عن طريق العودة إلى المنزل. فكر في أمه، وكانت حاجته إليها في ذلك الوقت أكثر من أي شيء آخر في هذه الدنيا. تساءل كيف سيعثر عليها مرة أخرى، وفي النهاية، شرع في السير وكله أمل أن يكون على الطريق الصحيح.
حينئذ مر بجواره وميض أصفر، وكان ذلك ابن عِرس يقفز في خفة مبتعدًا عن طريقه. لم يكن الجرو خائفًا، لكنه كان مصدومًا يعتريه الفضول. لاحظ الجرو كائنًا حيًّا آخر أقل حجمًا بكثير من الكائنات السابقة — ابن عِرس رضيع — على مقربة شديدة منه. مال نحو ذلك المخلوق يتشممه ووكزه وكزة رقيقة بكفه، فربما يلعب معه. فجأةً عادت ابن عِرس الأم، كانت تقف إلى جانب الجرو، وعلى الفور أسقطته أرضًا.
عوى الجرو الرمادي، وأحدثت ابن عِرس الأم جلبة مفزعة ومخيفة أثناء انقضاضها عليه. ضربته ضربًا عنيفًا، وحاولت أن تعضه في رقبته. لم تدرك أن الجرو لم يكن يقصد الإيذاء، بل كل ما كان يجول بخاطرها هو أن تحمي صغيرها.
كان الجرو الرمادي سيموت في تلك الأثناء، ولم يكن سيُقدَّر لقصته أن تُكتب، لولا مجيء الكلبة الحمراء تشق طريقها بين الشجيرات. حولت ابن عرس الأم وجهها إلى ذلك الخطر الجديد، لكن الكلبة الحمراء كانت شديدة السرعة. وعلى الفور أمسكت ابن عِرس الأم بأسنانها، وهزتها بقوة، ثم ألقت بها من فمها إلى الأشجار بعيدًا للغاية عن جروها.
بدت فرحتها بالعثور على الجرو الرمادي أكبر من فرحته هو بعثوره عليها. وعلى الفور أخذت تمسه بأنفها وتعانقه وتلعق الجروح التي أصابته إثر هجوم ابن عِرس الأم عليه. وبينما يلتمس الجرو الصغير الدفء في صدر أمه، شرع يئن ويتنهد بصوت خفيض؛ إذ شعر بالأمان والسعادة أخيرًا وبعد عناء.