قانون البرية
كبر الجرو في الحجم، وتعلم كل شيء سريعًا؛ تعلم متى يجب أن يكون شجاعًا ومتى يتراجع. اصطحبته أمه في رحلات الصيد وكان يحذو حذوها، فعلمته أن قانون البرية أعظم بكثير من الكلمات المجردة: «كل أو تؤكل.» فالذئب لا يقتل إلا عندما يشعر بالجوع أو الخطر؛ ذلك أنه حتى الأعداء يجب أن يحترم بعضهم بعضًا.
تركته أمه يتجول ويمارس الصيد بمفرده، فقد كانت تدرك أن عليه أن يكتشف بعض الأشياء بنفسه، على الرغم من أنه لم يذهب بعيدًا عن الكهف قط. بعد مغامرته الأولى، كان الجرو شديد الحرص على ألا يضل طريقه ثانية. وفي واحدة من رحلاته الفردية، قابل جرو الذئب البشر للمرة الأولى في حياته.
ذات يوم كان يجري صوب النهير ليحظى بشربة ماء. ولأنه كان لا يزال جروًا صغيرًا متحمسًا، فقد شق طريقه مندفعًا بين الشجيرات حيث وجد خمسة مخلوقات غريبة يجلسون في صمت بجوار الماء. وأثناء محاولته التوقف تدحرج على الصخور الموجودة على ضفة النهر. أدهشه أن أحدًا من الخمسة الرجال لم يثر لرؤيته وأن أحدًا منهم لم يكشر عن أنيابه أو يزمجر في وجهه. لكنهم جلسوا جميعًا في ذلك المكان صامتين، ولم يكن بين تلك المخلوقات والحيوانات الأخرى الموجودة في البرية أي تشابه. ولم يكونوا يتبعون أيًّا من القوانين التي عرفها جرو الذئب.
لم يتحرك الجرو قيد أنملة، ودفعته غرائزه إلى الجري، لكن شيئًا ما كان قد سلب فكره. داخَله إحساس بالهيبة. شيء ما بداخله أخبره بضرورة احترام هؤلاء الرجال. عندما اقترب منه أحدهم، انزوى في جلده وانكمش، وعندما مال عليه ذلك الرجل، هَرَّ وكشر عن أنيابه.
ضحك الرجل وقال: «انظروا! الأنياب البيضاء!»
مد الرجل يده ليمس رأس الجرو، لكن الذئب الصغير تحرك سريعًا وعض يد الرجل ما جعلها تنزف.
توجع الرجل، وتراجع للخلف قائلًا: «قد عضني.»
ضحك منه أصدقاؤه، وسأله أحدهم: «وماذا كنت تتوقع؟»
شعر الرجل بالحرج والضيق، فضرب الجرو بعصا. صرخ الذئب من الألم. ولأنه لم يكن قد تعرض للضرب في حياته قط، أصابته دهشة كبيرة مما كان يحدث له. كان الرجل سيستمر في ضرب الجرو الصغير لولا قدوم الكلبة الحمراء. ففي تلك اللحظة، قفزت من بين الشجيرات مكشرةً عن أنيابها ومستعدةً تمام الاستعداد للدفاع عن ولدها.
علا صوت أحد الرجال الآخرين عند رؤية الكلبة الحمراء. نظر إليها، وقال: «كيتش!». توقفت الكلبة في مكانها، والتفتت إلى الرجل المتكلم، وطربت آذانها لسماع صوته. قال الرجل مرة أخرى: «كيتش، تعالِ هنا!»
بعد ذلك رأى الجرو أمه، التي لا تخشى أي شيء، تربض حتى لامست بطنها الأرض. بدأت الكلبة تنتحب في صوت رقيق وتهز ذيلها، واقترب الرجل الذي كان قد تكلم إليها. وضع يده على رأسها، فربضت على الأرض أكثر. أثناء ذلك كله، لم تهِرّ الكلبة أو تكشر عن أنيابها. تبع بقية الرجال ذلك الرجل وجاءوا جميعًا وتحسسوا الكلبة، لكنها لم تمنع أيًّا منهم من فعل ذلك.
قال الرجل واسمه جراي بيفر: «لقد هربت منذ عام مضى.» كانت الكلبة الحمراء، واسمها كيتش، ملكًا لأخيه قبل أن ترحل إلى البرية. «هربت أثناء إحدى المجاعات عندما كان الطعام نادرًا للإنسان والحيوان على السواء. ولمّا كان أبوها ذئبًا، لم يكن عجيبًا أن ترحل إلى البرية.»
ربط جراي بيفر حبلًا حول رقبة كيتش، ولم تبد هي أي مقاومة، أو تنبح في وجهه، بل تأوهت في فرح وهزت ذيلها. نظر جراي بيفر إلى جرو الذئب الذي كان لا يزال منبطحًا على الأرض وقال: «نظرًا لأن أخي توفي الشتاء الماضي، فالكلبة وجروها صارا ملكًا لي الآن.» ولم يبد أي من الرجال اعتراضًا على ما قال.
انحنى جراي ليمسك بالجرو من جلد رأسه، لكنه قابله بالهرير وكشر له عن أنيابه. ضحك جراي من ذلك وقال: «يا لك من شجاع، إذن فأنت تحب أن تُظهر أسنانك البيضاء؛ حسنًا؛ سيكون اسمك من اليوم أبيض الناب.» وهكذا اقتاد جراي كيتش بعيدًا عن النهير وقيدها إلى شجرة من الأشجار، وتبعها أبيض الناب، كما كانوا يدعونه منذ وقت قليل، وجلس إلى جوارها. إذا كانت هي قد استسلمت لهؤلاء الرجال، فلا بد أن يفعل ذلك هو أيضًا.
وضع جراي بيفر إحدى يديه على ظهر أبيض الناب وقلبه على ظهره. شاهدت كيتش الرجل يمسح على بطن جروها، وشعر الجرو في ذلك الوقت بالعجب والسخف؛ فها هو ذا يضطجع على ظهره وأرجله سابحة في الهواء. وفي حقيقة الأمر، كان في هذه الجلسة عجز تام قاومته طبيعة أبيض الناب مقاومة شديدة. لم يستطع أن يفعل شيئًا ليدافع عن نفسه، ولم يستطع الهرب، غير أنه سرعان ما تخلص من خوفه، وبدأ يلاحظ شيئًا جديدًا، بل لعله وجد متعة في مسح الرجل على بطنه. كانت هذه التجربة جديدة عليه تمامًا، لكنه أحبَّها.
قطع بهجة هذه اللحظة صوت ضوضاء غريبة يصل من بعيد، فقد كانت بقية قبيلة الهنود الحمر قد بدءوا يتوافدون على المكان لنصب مخيم. ظهر العديد من الأفراد من بين الأشجار يحملون المؤن والطعام، وأخذت الكلاب والأطفال يقطعون أرض المعسكر جيئة وذهابًا إذ كانت الخيام قد نصبت وحفرت حفر النيران. فجأة، أحاط الصخب والضوضاء أبيض الناب، وكانت أشياء عديدة تحدث من حوله في وقت واحد. حاول جرو الذئب أن يفهم ما يجري حوله كله، لكنّ ذلك كان مستحيلًا. في هذا الوقت كان الجرو على وشك البدء في المرحلة التالية من حياته؛ وهي مرحلة تحكمها قوانين الإنسان أكثر مما تفعل قوانين البرية.