نمط حياة جديد
واجه أبيض الناب تحديًا جديدًا أمامه تمثل في الكلاب الأخرى، فمع أن الذئاب والكلاب أبناء عمومة، كان هناك اختلاف كبير بينها. فقد عاشت الكلاب مع الإنسان أعوامًا طويلة حتى إنها فقدت الجزء الأكبر من طباع البرية، أما الذئاب على الجانب الآخر فلم تدرك قط شعور الانتماء لأي فرد. فقد جرت عادتها أن تتحرك كيفما أرادت، وأن تذهب إلى أي مكان شاءت، لذلك كان أمام أبيض الناب الكثير ليتعلمه عن قوانين الكلاب.
ما إن رأت الكلاب أبيض الناب وأمه كيتش في المخيم حتى بادرتهما بالهجوم، فلاقاها الجرو مكشرًا عن أنيابه ومزمجرًا، لكنه لم يكن ندًّا لأي منها. اجتمعت الكلاب عليه، وسرعان ما سرت في المكان موجة من هرير الكلاب الغاضبة التي كشرت عن أنيابها في وجه أبيض الناب. جذبت كيتش زمامها في محاولة للوصول إلى مكان المعركة، وأخذ أبيض الناب يعض الأرجل والبطون التي تقترب منه. أدركت الكلاب أن جرو الذئب كان مختلفًا عنها؛ فلم يكن يشبه الكلاب في أي شيء، وأدركت أيضًا أنه جاء من البرية وأنه دخيل، وقد أرادت له أن يعرف من هو صاحب الكلمة العليا في المخيم من الحيوانات. في تلك الأثناء جاء الرجال إلى المكان يصيحون في الكلاب ويبعدونها.
في غضون بضع دقائق كان أبيض الناب واقفًا على أقدامه مرة أخرى. خلَّص الجرو نفسه، وذهب إلى أمه لكي يقف بجوارها. لم يُصبْ بجروح خطيرة، باستثناء بعض الخدوش، غير أنه أصيب بالفزع. لماذا حاولت هذه الكلاب إلحاق الأذى به؟ ولماذا لم تحاول أمه مساعدته؟ كان يراقب الموقف عندما دفع الرجال الكلاب بعيدًا عنه بعصيهم. ومع أنه لم يكن يعي معنى كلمة «عدل»، فقد بدأ يفهم معناها، وهنا أخذ احترامه للإنسان — وانعدام ثقته في الكلاب في المقابل — في التزايد.
اصطحب جراي بيفر الكلبة كيتش وأبيض الناب إلى خيمته حيث أخذ أبيض الناب يجول بنظره داخل منزل سيده الجديد. بدت الخيمة مشابهة للكهف غاية التشابه؛ فقد كانت مظلمة وجافة ودافئة إلى حد ما، لكن الرائحة التي انتشرت بداخلها كانت مختلفة تمامًا عن رائحة الكهف. لم يكن أبيض الناب معتادًا على رائحة اللحم الناضج وجلود الحيوانات المجففة أو رائحة بني الإنسان. كانت هذه الحيوانات العجيبة الجديدة لا تشبه رائحتها أي رائحة في البرية. لذلك تراجع الجرو إلى الوراء خوفًا واضطرابًا، فقد كان منتميًا إلى خارج هذا المكان وفضل لو ظل حيث ينتمي.
سرعان ما اعتادت زوجة جراي بيفر، كلو-كوتش، وابنه، متساه، على الحياة في المكان الجديد. فقد أمَّنا الخيمة، ونصبا أسرَّتهما، ووضعا أمتعة الأسرة بالداخل، وكان هذان الشخصان يعملان دون أن ينطقا ببنت شفة. كانا قد نصبا الخيمة وفكَّاها مرات عديدة حتى بدا الأمر مألوفًا لهما للغاية. وكانت الأسرة تتنقل مع تتابع فصول السنة، تصطاد من الحيوانات ما يصلح للأكل، وتلتمس الحماية من الطقس القارس. وبينما كان جراي بيفر يوقد النار في إحدى الحفر، ناولت كلو-كوتش سمكة لكل كلب من الكلاب.
راقب أبيض الناب سيده الجديد في اهتمام بالغ وأخذ يسأل نفسه عما يفعله. كان ضوءًا عجيبًا يخرج من بين يديه، فاقترب منه أبيض الناب، ووجد الضوء دافئًا أيضًا. تمايل ذلك الضوء واضطرب حول العصي والنباتات الصخرية. لم يكن أبيض الناب يعرف شيئًا عن النار، لكنها جذبت انتباهه مثلها في ذلك مثل الضوء الذي كان قد جذب انتباهه عند فم الكهف عندما كان جروًا رضيعًا. قطع الخطوات القليلة التي فصلته عن النار زحفًا، وسمع جراي بيفر يضحك ضحكًا رقيقًا من فوقه. أخرج الجرو الصغير لسانه ليتذوق هذا الضوء العجيب، وكان اللهب يتراقص أمام أنفه ولسانه.
تراجع الجرو إلى الوراء، ثم انخرط في موجة من العواء والصراخ بعد أن تدحرج على الأرض. وهنا نبحت كيتش وأخذت تجذب الحبل التي ربُطت به وهي غاضبة لأنها لم تستطع أن تذهب لمساعدته. في الوقت نفسه علا صوت ضحك جراي بيفر وأخذ يضرب على فخذيه من شدة الفرح. بعد ذلك أخبر جميع من كانوا في المخيم بحكاية الجرو الصغير الذي حاول أن يتذوق اللهب، وسرعان ما انخرط الجميع في الضحك من الجرو الرمادي. وكلما زاد نحيبه وبكاؤه، زاد في المقابل ضحكهم وسخريتهم.
أصاب أبيضَ الناب حرجٌ كبير، فلم يكن يحب أن يضحك منه الناس. فكيف يثير نحيبه كل هذا الضحك؟! ومن هذه الحادثة، تعلم أبيض الناب أن يبغض الضحك، بل كان الضحك سببًا آخر جعله لا يثق بالآخرين.
كانت كيتش قد عاشت من قبل مع البشر، لذلك حاولت أن تعلم جروها بعض الأشياء عن هذه المخلوقات. فمثلما قادته داخل البرية، ستقوده الآن في حياته مع الإنسان. وهكذا تعلم الجرو أن يقرأ لغة الأجسام وأن يستمع إلى نبرة الصوت، وتمكن كذلك من أن يعي كثيرًا من الأشياء عبر حاسة الشم. والكلاب في العادة تستطيع أن تستشعر خوف شخص ما أو فزعه منها أو تهديده لها، وكانت هذه موهبة خاصة اشتركت فيها الكلاب فقط وبعض الذئاب.
علاوةً على ذلك، تعلم الجرو الصغير من مراقبته لأمه أن يطيع أوامر سيده. فقد أصبحت الكلبة الحمراء، التي كانت فيما مضى عظيمة الشجاعة والقوة داخل البرية، شديدة الاستكانة الآن داخل معسكر الهنود الحمر، بل وكانت تهز ذيلها كلما اقترب منها جراي بيفر. وكانت تنبح في سعادة عندما كانت كلو-كوتش تحضر لها العشاء، وقد أصابت أبيض الناب دهشة عظيمة من التحول الذي طرأ على أحوال أمه، لكنه لم يشغل باله.
في تلك الليلة، ذهب إلى النوم تحت شجرة من الأشجار حيث تكوَّم إلى جانب كيتش التي كانت لا تزال مربوطة في حبلها. رويدًا رويدًا، تلاشت الأصوات التي كانت تملأ المخيم. كان أبيض الناب ممتلئ المعدة ويشعر بالدفء من النار بعد أن قضى يومًا شاقًّا. فقد التقى الرجال في بداية اليوم، وبعد ذلك اشتبك في عراك مع مجموعة من الكلاب، ثم حرق لسانه بالنار. لذلك كله، كان في غاية الإرهاق.
راح في النوم على صوت أنفاس أمه وطقطقة النار المجاورة. ولم يعلم أبيض الناب أن حياته قد تغيرت تغيرًا أبديًّا، فلم يعد مقدرًا له أن يحيا داخل الكهف وأن يخرج للصيد مع أمه ثانيةً. وهكذا ذهب للنوم في هذا اليوم متسائلًا: «ما الذي سيأتي به اليوم الجديد؟»