العيب
ثلاث مرات في تاريخ المصلحة ازدحمت مثل هذا الازدحام … يوم تُوفي سعد زغلول ونعاه الناعي، ويوم طُرِد الملك، واليوم الذي عُيِّنت فيه سناء؛ ففي ذلك اليوم تم تعيين خمس من زميلاتها الناجحات في المسابقة، وفي نفسه أيضًا انقلب المستحيل حقيقة وانقلبت المصلحة سوقًا أرخص ما فيها الكلام، بل لا شيء فيها غير الكلام، المصلحة من يوم إنشائها والعاملون فيها رجال في رجال، الرجال هم الذين أنشئوها ووضعوا لها اللوائح والقوانين، وهم الذين تولوا طوال تاريخها التنفيذ، وهم الذين بنوها طوبة طوبة ورسموا التقاليد، رجال، كلهم رجال! حين يشيخ منهم جيل ويُودِّع العمل يحل محله جيل جديد، شبان صغار بآراء جديدة ودم جديد، ولكنهم مع ذلك أيضًا رجال، ربما لهذا لم يصدِّق أحد البتة تلك الإشاعة التي سُرِدت ذات يوم، وقالت إن النية قد اتجهت إلى تعيين «بنات»! كيف يصدقها أحد والمصلحة من يومها — ككل مصلحة — وكر رجالي لا تسمع فيه إلا أصواتهم وشكاياتهم، ولا تشم فيه سوى روائحهم ووقع خطواتهم … طالعين هابطين، دارسين لأسرار العمل العظمى والكادر وأمزجة الرؤساء؟
ولم تكن استحالة التصور تحيزًا ضد المرأة، ولكنها استحالة أن يعتقد أحدهم أو يهضم أن تستطيع فتاة أو سيدة ما في الوجود أن تجد لها مكانًا داخل هذه المؤسسة الرجالية الخالصة … تمامًا كما لا تستطيع أن تتصور أن تُوجد فتاة أو سيدة في جناح الملابس الداخلية الخاصة بالرجال مثلًا، فهنا مكان رجالي مزدحم — لا بحكم اللوائح — ولكن بحكم الكتلة ونوع الكتلة وكتلة الكتلة، تمامًا كما لا تستطيع أن تتصور وجود لوزة سوداء مع لوز القطن الأبيض، أو وجود رجل — أي رجل — في مكانٍ خاصٍّ بالسيدات مهما كان السبب في تجمعهن، حتى ولو كان سببًا لا يمتُّ إلى الجنسين بصلة.
لهذا فالإشاعات حين سرت قبل بضعة شهور عن اتجاه النية لتعيين بعض الفتيات في المصلحة، لم تُقابل بأيِّ تعليق على الإطلاق، وأي تعليق بإمكانك أن تدلي به لو قالوا مثلًا إن النية متجهة لتعيين أطفال للتدريس في مدارس روضة الأطفال!
والضجة التي لم تحدث إلا حين ذهبوا إلى عملهم ذات يوم كالمعتاد لا بهم ولا عليهم، فوجدوا في أكثر من حجرة من حجرات المصلحة فتيات، وأكثر من هذا وجدوا قرارات بسرعة قد كُتبت على الآلة الكاتبة في أقسام المستخدمين، ومكاتب جديدة — وخطَّان تحت جديدة هذه — أُعدَّت وجلست عليها الفتيات.
ولا يهمنا ما حدث في الحجرات الأخرى، يكفي جدًّا أن نختار مكتب التصاريح الذي قُدِّر أن تعمل به «سناء» من بين الخمس فتيات اللاتي عُيِّنَّ كدفعة أولى، وخطَّان تحت أولى هذه.
يومها وبعدما بقيت في الردهة فترة تسأل عن محيي أفندي الذي قِيل لها أن تذهب إليه بالورقة التي معها، وفي الطرقة الطويلة نسيت اسمه، ووقفت حائرة تسأل الساعي الجالس فوق كرسي واضعًا ساقًا على ساقٍ، ومن تحت شاربه الكث غير المشذب تخرج كميات هائلة من الدخان أكثر بكثير من التي يجذبها تباعًا من السيجارة النحيفة التي لا تكاد تظهر بين أصابعه … تسأله عن محيي أفندي والساعي يحتسي القهوة من الكوب الزجاجي الرفيع باستمتاع، ويُؤكد لها أن لا أحد في قسمهم له هذا الاسم، وبعدها تحايلت على التذكر بأن طلبت منه في لباقة — وابتسامة لجأت إلى أنوثتها كي تجعلها ساحرة — أن يُعدد لها أسماء الموظفين، وتفعل الابتسامة فعلها ويكر الساعي الأسماء، وبهذا وحده تعثر كالغريقة على اسم محيي أفندي، وبعد قليل تعثر عليه شخصيًّا، ويدخلها الساعي وهو لا يعلم مَن تكون، بل وكاد يفقد عقله وظل أكثر من ربع ساعة يضرب كفًّا بكف — لا تدري لماذا — حين عرف أنها موظفة جديدة عُينت في المكتب، ولا يُصدِّق … ولا يصدق حتى وهو يقطع احتساءه للقهوة ويحمل لها على كاهله من المخزن مكتبًا جديدًا أنيقًا ويضعه كيفما اتُّفِقَ في حجرة الموظفين ذات الأربعة مكاتب، ويُعاني الأَمرَّين وهو يضعه وكل منهم يُشير عليه أن يضعه في مكان، والمشير والمشار إليه لا يزالان غير مصدقين أو مقتنعين أو مؤمنين بأن ما يدور، أمامهما وأمام الآخرين، حدث حقيقي سيظل موجودًا غدًا مثلًا وبعد غد وإلى وقت القيام بالإجازة السنوية، حتى حين استقرت سناء على مكتبها الذي جاء وضعه في أسوأ مكان في الحجرة، فالحجرة لها أربعة أركان، وكل موظف فيها قد اختار له ركنًا تشبث به واحتمى، واحتله احتلالًا أبديًّا، وكل ما يُميز ركن الباشكاتب رئيس الثلاثة، أن مكتبه أكبر قليلًا ومتقدم قليلًا بحيث يواجه الداخل إلى الحجرة. المكتب الجديد وضعوه هكذا بجوار الباب مباشرة ودون أن يتنازل أيهم ويزحزح مكتبه، حتى بدا وضعه نشازًا، وبدا وكأنه متطفل على الحجرة؛ فللحجرة أربعة أركان، وفيها أربعة مكاتب قائمة وثابتة ومشغولة، ما حاجتها إلى موظف أو موظفة جديدة أو ركن خامس؟! ولم تكن هذه كل سيئات الوضع الجديد للمكتب، فبوجوده بجوار الباب يُعَرَّض الجالس عليه — أقصد الجالسة — للخبط كلَّما فُتِحَ الباب، حتى حين حاولت سناء جهدها أن تُعَدِّل من الوضع بحيث يتلقى مكتبها أقل الخبط باءت جهودها بالفشل.
كل هذه تفاصيل صغيرة وغير مهمة، فالمهم أن الساعة ما كادت تُشرف على التاسعة حتى كانت سناء قد استقرت تمامًا على كرسيها، ووضعت يديها أمامها فوق المكتب كعادتها إذا جلست إلى ترابيزة لجنة الامتحان قبل توزيع الأسئلة، كانت تنتظر ما سوف يُعهد إليها به من عمل، فهي لم تنم ليلة الأمس إلا نادرًا، وقضت الساعات الطويلة تحلم بما سوف يحدث في الغد بتفاصيله الصغيرة حتى: كانت تحلم بدخولها المكتب، برئيسها، بالطريقة التي تقابل بها زملاءها، ثم أخيرًا بالعمل، لم تكن تعرف بالضبط ماذا ستعمل، ولكن أحلامها ظلت تدور في غموض مثير حول هذه النقطة بالذات، ويدق قلبها بالانفعال وكأنها سَتُزَفُّ إلى العمل مثلًا … إلى ذلك الشيء الغامض المحير الذي له رائحة الرجال ولملامحه جديتهم وصرامتهم. مهما كان فهي تريده، وها هي ذي تحلم وتتلوى وتحتضن المخدة مفكرة فيه محاولة أن تتخيل نوعه ووقعه وأهميته، وتصرفاتها إزاءه.
وحين جاء الصباح أخيرًا وتمَّ كلُّ شيءٍ تقريبًا كما تخيلت، لا تزال برغم وجودها فوق كرسي وأمام مكتب وفي حضرة رئيس وزملاء، تحلم وتتصور وتبتلع ريقها مرارًا في انتظار ما ستكشف عنه اللحظات القليلة الخطيرة المقبلة.
•••
اللحظات القليلة المقبلة لم تتكشف عن شيءٍ ذي بال بالنسبة لسناء، الحقيقة تكشفت عن أشياء بالنسبة لزملائها الموظفين! إذ في ذلك اليوم ورغم مضي ساعة على بدء العمل لم يبدأ العمل، وإن وجد كل منهم نفسه مشغولًا بترتيب أوراق، والتحدث إلى الرئيس الباشكاتب في مسائل تتعلق بالعمل، مستعملًا في حديثه اصطلاحات وتعبيرات تكنيكية خاصة، مدسوسة من عمد، ولكن أحدًا منهم — حتى الباشكاتب نفسه — لم يكن قد فكر لثانية واحدة في العمل، وفي الفترات التي كانوا يكفون فيها عن التفكير في العمل — وهي ليست قليلة بالمناسبة خلال اليوم الواحد — كانوا في العادة يتحدَّثون عبر المكاتب ويتناقشون، في تلك الساعة لم يعملوا، ووجدوا أنفسهم غير قادرين لسبب ما على التحدث عبر المكاتب كما اعتادوا، لا لوجود سناء أو لخجلهم منها ولا لأي سببٍ معلوم، كل ما في الأمر أن أمنية كل منهم كانت قد تركزت دون أن يشعر حول أن يُتاح لهم أن ينفردوا بأنفسهم قليلًا ليعودوا أربعة مثل ما كانوا حتى يصبح باستطاعتهم التفكير أو الحديث، وأيضًا لم يكن يعرف أيٌّ منهم بالضبط ما يريد قوله، أشياء كثيرة يحس بها، ولكنه لم يكن يعرف بالضبط ما هي أو كيف يعبر عنها، وحتى تلك اللحظة لم يكن أي منهم قد ألقى نظرة متطلعة أو متعمقة إلى زميلتهم الجديدة، ولا حتى رأى إن كان شكلها يعجبه، أو حاول معرفة اسمها أو ماذا ستقوم به من عمل، كان يؤجل هذا كله إلى أن يعود نفسه أولًا … أن يمسك بزمام كيانه ليستطيع أن يتكلم أو يرى أو يسمع أو يعرف، كل شيء ظل يؤجله إلى أن تغادر القادمة الجديدة الحجرة، ولو حتى للحظة.
ولكن سناء لم تغادر الحجرة، بل وكانت هي الأخرى لا تستطيع أن ترى أو تسمع أو تحس بما حولها، وإن كانت لا تزال جالسة ويداها فوق المكتب وعقلها في حالةِ سكونٍ تامٍّ في انتظار أن يقول أحد له تحرك ليتحرك. خيالها فقط هو الذي كان يتحرك … وحتى لم يكن يذهب بعيدًا، كان يتحرك «محلك سر»، يترقب أن يعرف أخيرًا هذا الشيء المجهول الذي تعبت سناء وأتعبت أهلها معها وتعلَّمت ونجحت ليُتاح لها أن تأتي إلى هذا المكان وتعرفه.
وفقط حين انتقل عقرب دقائق الساعة المثبتة فوق رأس الباشكاتب إلى علامة النصف بعد الثانية «فالساعة كانت ثمة خمس ساعات فرق بينها وبين التوقيت المحلي للقاهرة»، حين تحرَّك العقرب ليشير إلى التاسعة والنصف ولم تتحرك سناء أو تغادر الحجرة، بدأ الأربعة يتململون ولم يَعُد باستطاعتهم الصبر، واستأذن أحمد وخرج، وما لبث شفيق أن تبعه والتقى الاثنان على الباب، وقبل أن يحدث أي شيء آخر وجدا نفسيهما يقهقهان ويتصافحان بعنف، وكأن أحدهما قد انتهى لفوره من إلقاء نكتة أعجبت الآخر، وجعلته يتطوح ويتلوى «ويدق» على كف زميله مرة ومرات.
قال أحمد: شفت يا عم؟
وضحك شفيق وهو يأخذه من ذراعه ويبتعد عن الحجرة حتى لا تتسرب ضحكاتهما إلى الداخل، ولم يذهبا بعيدًا فقرب البوفيه وجدا إسماعيل وصفوت و«أبو» النجا من قلم المراجعة في حالة مؤتمر ضاحك، دخل عليهم أحمد بقامته الرفيعة الطويلة وصديريه الذي يتهدل من ناحية ويبدو في هذه الناحية بالذات أوسع من صدره وقميصه، وطوق صفوت وإسماعيل بذراعيه قائلًا: شفتوا اللي حصل؟
– دا احنا لسه نا نتكلم.
– كفك على كده.
وتصاعدت من الخمسة قهقهة غطت على كل الضجة الصادرة من البوفيه … قهقهة انزعجت لها لا بُدَّ أبنية المصلحة العالية الوقورة، وما لبثت الطرقة والصالة وحجرة الموظفين في قسم الأرشيف — الوحيدة التي بقيت على حالها رجالية محضة — أن امتلأت بموظفي المصلحة وكأنهم في حالة فسحة أو إضراب … جماعات متفرقة وشلل وأقسام بأكملها على هيئة مؤتمر، وحتى حجرات الرؤساء ذات السجاجيد كنت تجد بعضهم قد سعى إلى الآخر وطلب القهوة وجلس وبدأ الحديث.
في تلك الساعات الأولى من اليوم الأول لم تكن الآراء محددة، بل لم تكن هناك آراء على الإطلاق! ضحكات وقهقهات كنت تجد تريقة، لا على الموظفات الجديدات ولكن على أنفسهم، أو على وجه أصح على الضعفاء منهم، وبالذات تلك النماذج الغلبانة التي ليس باستطاعتها التريقة أو قول النكات، أحدهم يقترح على عم فرج موظف الخزنة أن يذهب ويبحث لنفسه عن عمل آخر، إذ هم في الطريق إلى فصله من عمله بسبب شكله القبيح وتعيين موظفة خزنة من طراز مارلين مونرو، والنكات تنهال على الحاج إبراهيم الفراش ذي اللحية: بكره الست تبعتك تشتري خضار يا حاج … واللا ترضع النونو، ومين عارف يمكن تقصدك مرة ترجع الكورسيه! وذلك الذي يقترح على متعهد البوفيه أن يفتح فاترينة للروج والريميل! إلى آخر ما استطاعت عقول الموظفين ابتكاره من أبواب القافية والتنكيت.
وفي طواف أحمد وشفيق بالمصلحة، والمصلحة كلها كانت في حالة طواف ببعضها البعض، التقيا بالباشكاتب وسلَّما عليه بحرارة وكأنهما يقابلانه بعد سفر، وهو الآخر أخذهما بالأحضان وكأنه نجا لتوه من حادث، وقال له أحمد: هيه … إيه رأيك؟
– قالوا اللي يعيش يا ما يشوف … وياما لسه حنشوف!
واكتشف الثلاثة بعد برهة أن «الجندي» ليس موجودًا في طرقات المصلحة ولا ردهاتها، وأنه لا بُدَّ قد عسكر في الحجرة لم يبرحها، وزمانه في تلك اللحظة هو و«الست» وحدهما، وأن يُترك الجندي مع سيدة بمفردها في حجرة تقابل عندهم أن يُترك المراهق مع سيجارة، أو المراهقة مع تليفون، وضع معناه كارثة محققة.
•••
وليس لهذا الأمر وحده عادوا جميعًا إلى الحجرة، كانوا بعدما شبعوا ضحكًا وتهليلًا وأفرغوا كلَّ ما عندهم من نكات، قد اكتشفوا أن أحدًا منهم أو من غيرهم ممن كُتب عليهم أن يرزءوا بفتاة من الفتيات الخمس لم يكن قد رأى «الست» أو تفرج عليها، اكتشفوا أن انفعالهم كان لمجرد الخبر المؤكد الذي ليس إشاعة أو نية أو اتجاهًا، ولكن حقيقة واقعة أصبح لها مكاتب، وصدرت من أجلها قرارات، أليس من الواجب أن يروا كنه تلك الحقيقة ويتأملوها؟
وصحَّ ما توقعوه، فما إن فتح أحمد الباب وتراجع ليدخل الباشكاتب أولًا، حتى تناهى إلى سمعهم صوت محمد الجندي الأخنف قليلًا يقول: يعني لسه ما تشرفناش باسم حضرتك.
ولأول مرة يتعالى في حجرتهم صوت حريمي يقول: سناء.
يقولها في خجلٍ متلعثمٍ سريع لا يليق بزميلة، هنا تلكأ الباشكاتب في الدخول وبقي الباب مفتوحًا، وجاءهم صوت محمد الجندي مرة أخرى يقول بطريقة ليست غريبة عليهم.
– تشرفنا … أهلًا وسهلًا … ثناء وأنت صحيح ثناء.
– أنا اسمي سناء … سناء بالسين.
وإلى هنا لم تحتمل الأعصاب، وهجم الثلاثة داخلين في كتلة مندفعة ذات ثلاثة أحجام مختلفة ما لبثت أن انقسمت وتمكتبت، وصوَّبت ستة أزواج من العيون التقت كالأنوار الكاشفة النهارية على وجه محمد الجندي، وكأنما لتضبطه وتصب عليه ستين زوجًا من اللعنات … لعنات الباشكاتب معروفة بترفعها واحتقارها لأساليب الجندي، ولعنات أحمد الطويل فيها قرف من لزاجة الجندي المعهودة، ولعنات شفيق لم تكن في حقيقتها لعنات، كانت مجرد تأنيب دقيق كإمضائه لا تتبينه بسهولة كتأشيراته، كآرائه في الناس والحياة.
وفعل كل هذا فعله في الجندي، فما لبث أن اختفى وجهه عن الأنظار اللاهثة الكاشفة وانكفأ يكتب، أو على الأصح يُحرِّك القلم على هيئة كتابة.
ولكن الأنظار ظلت مسلطة عليه، وكأنما لتتأكد من صدق توبته، ثم ما لبثت في أزمنة متفاوتة، وبسرعات متفاوتة، وتردد وأدب وقلة أدب وقوة أبصار متفاوتة أيضًا، أن استدارت إلى «الست» تتفحصها وتُحلِّل ملابسها إلى عواملها الأولية وأثمانها، ووجهها إلى أنف وعيون ونوع بودرة وطريقة تصفيف شعر، وحذائها الواضح من تحت المكتب لتحدد إلى أي الطبقات الاجتماعية تنتمي.
والظاهر أنهم اندمجوا في الاستطلاع والتحليل إلى درجة لم يشعروا فيها بعيون محمد الجندي، وهي تنضم إلى وليمة العيون بلا حرجٍ أو تكليف، وبطريقته الدنيئة اللزجة الخاصة.
وغير مهم الزمن الذي استغرقته عملية الفحص، فهم وإن كانت مشاربهم وشخصياتهم وأهواؤهم مختلفة متباعدة إلا أنهم جميعًا — بمن فيهم الجندي — خرجوا برأي واحد … الواضح أن الزميلة العزيزة جميلة التقاطيع، مسمسمة، سمراء قليلًا، ومن كل أدوات الزينة لا تستعمل سوى الروج، ليس غامقًا كالسمراوات حين يضعنه، ولكنه روج مؤدب هو الآخر ليس هدفه أن يبرز جمال الشفاه، إنما هدفه فقط أن يدل على وجودها ويحددها، وكان واضحًا أنها ليست مؤدبة فقط، ولكن أدبها من النوع الذي لا يمكن التحول عنه، فهي لا تستعمله؛ لأنها مع رجال مثلًا أو تخاف على سمعتها، ولكنه أدب حقيقي نابع من طبعها.
غير أن الجندي لم يفته أن يلاحظ أنها قد طَلت قدميها بالمانيكير، وقد أسعده اكتشافه هذا سعادة لا توصف، فهو في نظراته لجنس النساء عامة كان دائمًا يحاول أن يجد فيهن أو في شخصياتهن ما يسميه هو بعلامة «الرضاء الموارب»، وسناء كان من الواضح أنها من النوع المحصن المغلق الحصين، ما عدا هذا الطلاء الذي لا يكاد يُرى في أصابع قدميها.
لعلَّ وعسى يصلح علامة للرضاء الموارب، مَن يدري؟ لعل وعسى.
•••
وفي حوالي الحادية عشرة بدأت تحدث في المصلحة — وعلى نطاق أضيق — حركة تجوال أخرى وتطواف هدفها تكوين فكرة ما عن الموظفات الجديدات، واثنان من موظفي الحجرة هما اللذان خرجا هذه المرة … كان أولهما محمد الجندي الذي اتجه فورًا إلى إدارة التفتيش، حيث قد سمع عرضًا من الساعي أن الموظفة التي عُينت هناك مثل «المهلبية»، فعلًا وجدها كذلك وبطريقة تسيل اللعاب، فقد كانت تبتسم على الفاضي والمليان ولكلِّ مَن هبَّ ودبَّ، وتحادث كل راغب في الحديث، وكل شوية وشوية تمد أصابعها بسرعة لتطمئن على «القُصَّة» وتفرد شعراتها أو تجذبها إلى أسفل لتعيدها إلى فوق جبهتها، ولكنه أيضًا لم يتوقف كثيرًا في إدارة التفتيش؛ فقد كان عليه أن يطوف بالمكاتب الثلاثة الباقية، لتكون فكرته عن الزميلات الجديدات كاملة ومبنية على أساس من المشاهدة الشخصية التي لا تقبل الجدل.
وأكثر من «جندي» كنت تجدهم كذلك، وأكثر من جماعة تكوَّنت أعضاؤها من السعداء التي عُينت في أقسامهم فتيات يتبادلون الرأي حولهن ويقارنون بينهن ويختلفون حول أيهن تتوج ملكة الجمال على الخمس؟ وأيهن أكثر أناقة؟ ومن ملكة السيقان؟ ولم يخلُ الأمر من جماعات مشتركة من سعداء الحظ وتعسائه، أولئك الذين ظلت مكاتبهم رجالية خشنة في تلك الجماعات، وبعد أن كان أعضاؤها ينتهون من التحسر أو التفاخر كان يبدأ حديث ما عن المستقبل، وبالذات عن مستقبل الفتيات! وعند هذه النقطة كانت تتفق آراء الجميع على أنها مسألة أيام فهن قد نجحن حقيقة في اقتحام ذلك المعقل الرجالي، واغتصاب مكاتب بقرارات، ولكن المشكلة ليست في الاقتحام … المشكلة في الصمود في العمل نفسه، فمما لا شك فيه ولا نقض أنهن لن يستطعن بأيِّ حالٍ أن يُمارسن العمل، لا لصعوبته، ولكن لاحتياجه إلى عقلية الرجل وتصرفه وشخصيته … وهكذا كان أكثر المتفائلين تفاؤلًا لا يعطيهن سوى شهر واحد مهلة، بعده ستضطر المصلحة حتمًا لأن تطلب نقلهن إلى أعمال أخرى في الوزارة، أو حتى خارج الوزارة كلية … والدلائل كانت تُشير إلى أن شيئًا من هذا وشيك الحدوث، فالمصلحة لتلك اللحظة حائرة لا تعرف ماذا تعهد إليهن به، والفتيات لا يزلن جالسات لا يفعلن إلا الانتظار، بينما موظفة التفتيش نادمة على أنها لم تحضر معها الإبر والتريكو؛ إذ كان باستطاعتها خلال السبع الساعات التي قضتها جالسة تنش الذباب أن تنتهي بسهولة من البلوفر الذي بدأته.
يومها، ذلك اليوم الأول، عادت سناء إلى البيت بإحساس تلميذة أولى ابتدائي حين تعود بعد أول يوم دراسي في حياتها، وكل ما داعب خيالها من أحلام حول الدراسة قد تبخَّر في أثناء جلستها الطويلة على المقعد بلا حصصٍ ولا كتب جديدة ولا مسائل حساب.
ولكن ذلك كان في اليوم الأول فقط، فما كاد يمضي يوم آخر إلا وسناء قد وجدت نفسها غارقة في العمل، ضائعة مشتتة، وكأنها تقرأ أسئلة امتحان جاءت كلها خارج المقرر، لقد ظلَّ الباشكاتب يشرح لها ما يجب عليها عمله أكثر من ساعة، ويسألها بعد نهاية كل شرح إن كانت قد فهمت فتهز رأسها بالإيجاب، ولكنها حين يعهد إليها بالموضوع على سبيل التجربة تجد كل ما قاله يطير من عقلها ويتشتت، وتجد نفسها عاجزة عن تنفيذ ما طلبه أو فهمه. تحدق في يأسٍ قاتلٍ ناحية أحمد وشفيق وحتى محمد الجندي، وتجدهم جميعًا منكبين يعملون بسرعة وببساطة، فتكاد تبكي وهي تحس بهم عباقرة مشتعلي الذكاء، وبنفسها غبية حمقاء لا يمكن أبدًا أن يأتي عليها يوم يصبح لها فيه نفس قدرتهم الخارقة تلك.
والغريب أنها بعد بضعة أسابيع حين أدركت أن كل المعميات التي كان مطلوبًا منها أن تنجزها، لم تكن تتعدى تحرير التصريح وتتبعه حتى يُختم بخاتم المصلحة، كانت تضحك على نفسها ولخمتها! ولكنه شيء لم يحدث إلا بعد بضعة أسابيع، أما في تلك الأيام الأولى فحدِّث ولا حرج عن العرق، والمنديل الصغير وهو ينتقل في سرعة واضطراب كمنديل الحاوي المبتدئ من باطن إحدى اليدين إلى الجبهة، والخجل المشل للقلب المعشي للبصر، والدموع … الدموع الداخلية غير المرئية التي لا تني عن سكبها في المصلحة، والدموع الظاهرة التي تنفجر بإرادتها في البيت، حالة ليتها كانت تملك معها القدرة على الرثاء لنفسها، فالعكس هو الصحيح، إذ كانت لا تكف عن لوم نفسها رغم كل هدهدات الأم ومحاولاتها للتخفيف والتبرير، رغم كل ابتسامات زملائها في الحجرة والعمل ونظرات الإشفاق التي يغمرونها بها حتى لا تتعثر فيها وتكاد تنزلق، رغم صبر الباشكاتب وطول باله واحتماله لها وهي تكرر الخطأ نفسه مرة، وتحاول بعناد أن تتلافاه فتجد نفسها تكرره مرة أخرى، وأية أخطاء! أخطاء تصل إلى أنها وهي خريجة التجارة تجد نفسها أحيانًا عاجزة عن تحويل المبلغ المرقوم أمامها إلى مبلغ مكتوب، وتشك وتخاف ألف مرة قبل أن تضع العلامة العشرية.
ولكنها الأيام الأولى — كأية أيام أولى — كان يجب أن تمر وتحمل معها كل الذكريات المحرجة الأليمة، ومواقف الاعتذار، وعشرات المرات التي يئست فيها تمامًا وفقدت الأمل … كان يجب أن تمر لكي تصل سناء إلى المرحلة التي أصبحت تجتازها بنجاح، مراحل الفهم الأولى والإحاطة بالثغرات والمزالق تلك التي تشبه مرحلة الانطلاق في تعلم ركوب الدراجات، المرحلة التي يصبح في مقدرة المرء فيها أن يُبدل ويسير دون أن تسقط به الدراجة بعد بضعة أمتار.
ونفس الشيء حدث لكلِّ ما هو خارج العمل وعلى هوامشه فزملاؤها في الحجرة الذين كانوا يبدون لها — رغم كل ما بينهم من اختلافات — متشابهين إلى درجة لا تملك التفرقة بينهم، كانت قد استطاعت أن تحفظ أسماءهم، وحتى نوع العمل الذي يؤديه كل منهم … وأكثر من هذا بعض خصاله، ولقد اطمأنت لهم جميعًا، وفي وجودهم لم يكن جهاز رادارها الأنثوي ينقل إليها أية نوايا ذكرية خافية، جميعًا ما عدا الجندي فقد كان الجهاز الكامن في أعماقها يَدُق كلَّما حاول أن يقترب منها أكثر من اللازم … كلَّما فضل ألا يتنحى جانبًا ليفسح لها طريق الخروج … كلَّما اتكأ بمرفقه على مكتبها وهو يحادثها حديث عمل في الظاهر، بينما عيونه التي يتأرجح لونها بين الصفرة والخضرة تجوب سطح المكتب ويديها، وتتأمل عُقل أصابعها وخاتمها وجلد رقبتها وكل ملليمتر مربع من شفتيها، في فحص وقح خرب الذمة، لا يرده عن تصور أي شيء قد يخطر بباله وازع أو خجل، ولكنها لم تكن دقات خوف … على وجه أخص خوف أنثى من ذكر، أو فتاة من رجل يطاردها … كانت دقات اشمئزاز واستنكار، فلا أحد ممن تضمهم الحجرة كان قد راق أو استوقف عينيها، خاصةً الجندي، فلا شكله كان عجبها، ولا طريقته في معاملتها ولا علاقته بزملائه، ولا أي رأي قاله أو كلمة خرجت من فمه، حتى عادته في تدخين سجائره نفرت منها، فقد كان يبتلع النفس ثم يفتح فمه ويترك الدخان يخرج منه وحده دون أن ينفثه أو يبذل جهدًا في إخراجه، فكان يبدو وكأن الدخان الخارج من فمه مجرد رائحة منفرة خارجة على هيئة دخان، كأن في بطنه عقب سيجارة تركه أحدهم لينطفئ وحده ويخنق أنفاس المحيطين برائحة شياطه، وهي لا تدري لماذا حرص كل من زميلَيْه الآخرين أن يخبرها — خلسة — عن حياة الجندي الزوجية الخاصة، وكيف أن له زوجتين والثالثة تقاضى منها ثمن الطلاق … وكم استبشع عقلها الذي كان لا يزال بناتيًّا حالمًا في آرائه كل ما سمعت، وكم أصبح الجندي في رأيها بشعًا إلى درجة تتقزز فيها من مجرد أن تراه يقطع عمله ويتحدث أو يضحك، أو يروي نكتة لا يقهقه لها أحد، كم تمنت في لحظاتها لو كانت رجلًا لتلكمه بشدة وتُعلمه الأدب، وكم تضايقت بينها وبين نفسها من سكوت زميليه والباشكاتب عنه واحتمالهم لسخافاته، كم ضايقها ذلك وأرق من جلستها إلى المكتب … تلك التي جاءت لسوء الحظ في مواجهته، والتي حتمت عليها أن تمتنع نهائيًّا عن النظر أمامها طول النهار وحتى لو استوجب الوضع أن تنظر إلى الأمام.
مضايقات طالما تمنت لو كان أبوها الحنون لا يزال حيًّا لتشكو إليه منها، فأمها رغم كلِّ حدبها لا تفهم، ولا تستطيع، هي التي قضت حياتها ربة البيت ورهينة المطبخ، أن تدرك تلك الأنواع الجديدة من المشاكل.
عمها، أو بالتحديد عمها «حسن أفندي» ابن عم والدها الذي كان يبسط على عائلتهم الصغيرة ظل الرجل وحمايته، ويأتي بانتظام دقيق لزيارتهم كل أسبوع مرة، كان يدرك تلك المشاكل، كان هو نفسه موظفًا في الدرجة الخامسة، وقد وصلها خلال خمسة وعشرين عامًا بادئًا من التاسعة، كان يسألها ويبدو فاهمًا حين تحدثه عن تفاصيل كل شيء، وأكثر فهمًا حين تحدثه عن علاقاتها بمن معها من الموظفين، حتى مشكلة الجندي واستثقالها لظله وكل وجوده كان يفهمها، ويقول لها معلقًا — ولا يخلو تعليقه من حكمة أو خبرة — أن مضايقات العمل جزء لا يتجزَّأ من العمل، لا تحاولي حلها بعواطفك فالعواطف لا تحل شيئًا، حليها كمشاكل العمل بعقلك فالعقل وحده هو القادر على حلِّها … العمل ومضايقاته مثل مسائل الحساب لا يمكن للعواطف مهما بلغت حرارتها أن تحلها، الحل بالعقل، بإعمال العقل، بالتفكير وتبريد الانفعالات والتدبير … أنا مثلًا كنت …
ويحكي لها … ولكن يبدو كل ما يحكيه بسيطًا جدًّا بالمقارنة إلى ما هي فيه، إذ يبدو وكأنها مشاكل خُلِقت وفُصِّلت خصيصًا من أجلها ولإغاظتها، ولإحاطتها بجوٍّ لا تستطيع التخلص منه … جو من الارتباك والاضطراب وعدم القدرة على الإتيان بأي حل.
ولكن الأمر لم يكن يخلو أيضًا من سعادات: جمهور المكتب المتردد عليها حين يرجوها ويمتثل لكلماتها، حين يقف الرجل العريض أمامها باحترام بالغ وينحني بسرعة ورضوخ قائلًا بأدب جم: أيوه يا افندم! تسعد هي في سرها وتضحك وتحس بنشوة السلطة والأهمية، ويضيع معها شعورها بأنها مبتدئة وأنها منذ دقائق كانت تقف وستقف أمام الباشكاتب ومدير الإدارة موقف تلميذة الإعدادي أمام الناظرة، هؤلاء المترددون جميعًا لا يعرفون عنها أبدًا ذلك الموقف، والدليل بسيط … ها هم يعاملونها وكأن لها كل خبرة الباشكاتب وأهميته وأقدميته.
ويا لسعادتها يوم اكتشفت خطأ في الاستمارة التي حرَّرها الجندي الأقدم منها بسنين، وذهبت في حماس بالغ تلفت نظر الباشكاتب إلى الخطأ مُدَّعية التواضع وقلة الاهتمام باكتشافها الهائل، صحيح أنها دُهشت لأن الباشكاتب لم يشنق يومها الجندي ولا حتى عنفه، ولكن ذلك لم يثبط من الإحساس الغامر بالتفوق الذي صاحبها طول اليوم.
وهناك حين مضت الشهور الثلاثة الأولى وأصبح من حقها أن تقبض ماهيتها المجمدة، وذهبت إلى الصراف في اليوم الأول من الشهر، وبدلًا من إجابة النفي التي تعودها أومأ لها بغير حماس كثير إلى اسمها في القائمة، ورأته بعينها وتأكدت منه، وحين فك رزمة الأوراق من فئة الخمسة جنيهات وجعلها توقع باسمها الكامل ومضى يعد، ثم يكمل لها المبلغ من رزمة الجنيهات وأرباعها … هناك حين غادرت الخزينة وفي حقيبتها أول ثلاث ماهيات، وحين غادرت المصلحة، ثم وهي تعبر الشارع وترى الناس وتدخل البيت بصرخة فرح بناتية قائلة إنها جوعى مدبرة أن تفاجئ أمها بالنقود رزمة واحدة … هناك وأمها تفرح وتهم أن تزغرد وتقبل الماهية وتقبلها، وتمسك النقود بيدها وتدعو لها … هناك وهما تجلسان بعد الغداء تتحدثان فيما يجب عمله بالنقود وتدبران أمور العيش على أساسها، بينما أخوها الطالب الأصغر يقطع المذاكرة ويطل عليهما بين الحين والحين متلصصًا، وبطريقة تحس سناء معها أن جلستها مع أمها جلسة كبار، وحديثها حديث كبار … حديث وجلسة ومواضيع تعيد لذاكرة سناء صور باهتة عن أبيها المرحوم حين كان يقبض وتراه آتيًا يومها كالمنتصر، له حق رفع الصوت على أمها وفرض الرأي … صورًا عن الأيام الماضية والكلمات الغامضة التي كانت ترن في مخيلتها الطفلة رنين الخطوة الغريبة على أرض خام لم تطأها قدم بشر … أكل العيش وعرق الجبين والماهية، ماهيتي يا ست أم سناء … عمرك لن تدركي كيف أشقى لأحصل عليها، كيف أحرق دمي لأتقاضاها، الماهية يا أم سناء والفلوس … كلمات كانت سناء الطفلة تدرك بطريقةٍ ما ما تعنيه، ولكنها أبدًا لم تشعر بمعناها الحقيقي، بأنها ليست مجرد كلمات، إلا هناك حين اشتغلت هي وتحملت الفشل والضيق، وعرقت وخجلت وغلا دمها غضبًا وتجمد خجلًا، لتقبض آخر الأمر … ليتحول هذا كله إلى نقود، تبدو لها على كثرتها مثلما كانت تبدو لأبيها قليلة، كل قرش منها لا يقدر تعبها في الحصول عليه بمال.
•••
الذين راهنوا خسروا الرهان، والذين كانوا لا يُصدِّقون اضطروا للتسليم، وأسابيع كثيرة مضت و«البنات» قد ثبتت أقدامهن في العمل ومكاتبهن التي كانت موضوعة على هوامش الحجرات — وضع الشيء المؤقت — زحفت زحفًا غير منظور وابتعدت عن الأبواب، واستطاعت بطريقةٍ ما أن تخلق لها أركانًا ثابتة حصينة تكاد تجعل من الحجرة ذات الأربعة أركان حجرة بخمسة، وقد أُضيف إليها ركن جديد لا يقل أهمية وخلودًا عن الأركان الأربعة الأصيلة، وكأنما باستطاعتك دائمًا أن تحيل المثلث إلى مربع، والمربع إلى مسدس له أصالة المربع، وكأن لا ثابت هناك ولا خالد، والغباء فقط لمن يتصور الثبات والخلود …
والزمن مع سناء وزميلاتها باستمرار، وكل يوم يمضي يضيف جديدًا ويزيدها فهمًا ووعيًا، وبغير أن تبذل مجهودًا كبيرًا كانت قد استطاعت أن تعرف عن قسمهم وعن زملائها فيه كل ما تريد معرفته، ثم بدأت معلوماتها تتعدى نطاق الحجرة وأصبحت تعرف على وجه الدقة كُنه التركيب الخارجي للمصلحة، وكذلك وإلى درجةٍ ما استطاعت بتبادل الرأي مع زميلاتها، وبالنصيحة الخالصة لوجه الله التي كان يتفضل بها بين الحين والحين زميل، أن تتبين فيما يُشبه الصباح المضبب كنه التركيب الداخلي للمصلحة، ومن بيده النقل والانتداب والعلاوة، ومن الذي يقرر البدل والأوفرتايم، ومن باستطاعته الدس لدى المدير، وبين التركيبَيْن وبين العالمَيْن، استطاعت أيضًا أن تدرك أن ثمة شخصًا واحدًا يقف، وحول شخصه وموقفه تلتف علامة استفهام كبرى لم تعرف كيف تفسرها أو تحلها، فموظفو المصلحة بمن فيهم الكبار، كانوا ينضوون بشكل أو بآخر تحت أي من التركيبين، هناك المدير ونوابه مديرو الإدارات والمفتشون إلى آخر قائمة الوظائف والألقاب، هؤلاء مع ما بينهم من صراع وتنازع اختصاصات يكوِّنون الهيكل الخارجي للمصلحة. أما التيار الحقيقي الجاري في قلب المصلحة يحرك الأمور ويوجهها فقد كان يقوم على أناس قد تجد بينهم سكرتير المدير مثلًا، أو موظفًا في الدرجة السابعة في قسم المستخدمين، وآخر عجوزًا في مكتب المراقب العام قربت إحالته على المعاش، مع كل ابتساماتهم المؤدبة، مع كل محافظاتهم على الشكل الخارجي وأداء عملهم في حدود وظائفهم لا يتعدونها، إلا أن نفوذهم بالغ الخطورة، تَحَدَّ أحدَهم وانتظر ما يحدث لك. وبين الوجهين يقف هذا الشخص — الجندي — لا يعمل طول اليوم بمليم، ودائم الغياب والتأخير وكثير الأخطاء، يخرج من الواقعة، حتى إذا بلغت الواقعة المدير، خروج الشعرة من العجين دون أن يمسه مجرد لفت النظر، أو على الأقل هذا هو ما خرجت به سناء بعد تجربتها الخطيرة معه؛ فلم يكد يمضي على وجودها في المصلحة أسبوع ويذهب طعم الضيافة عنها، حتى بدأت مطاردته لها، ولم تكن سناء في الحقيقة تتصور — رغم كل ما ذكره لها عمها — أن تبلغ الوقاحة حد أن يبدأ زميل لها في العمل يغازلها مغازلات علنية سمجة فاضحة، تدخل في الصباح وما تكاد تلقي على زملائها التحية حتى يرفع هو الدوسيه ليحجب وجهه عن الباقين، وينسكب اصفرار عينيه ملقيًا سائلًا رخيصًا وزلفى كما ينسكب صفار البيضة، ويقول بهمس لا يقل زيتية عن نظراته: صباح الخير يا حلو … يا مدوخني إنت يا حلو … والنبي أنا دايخ وحاقع … دانا خلاص وقعت.
ولا تعرف ماذا كان يلجم لسانها، أكثر من هذا يلجم حواسها كلها وعقلها عن أن تثور أو تنفجر صائحة غاضبة، أهو الخجل؟ ربما كان هذا صحيحًا في المرات الأولى، أو هو الاشمئزاز؟ ربما كان في الشهر الأول، أهو الغثيان الذي كان يطفح من أعماقها حتى ليعميها أن ترى أو تسمع؟ أم هو كل ذلك معًا؟ جائز، ولكن الواقع أنها كانت تسكت، وللإنصاف أيضًا كان يتبدى على ملامحها الساكتة كل ما لم تكن تنطق به أو تقول، ولكن الوضع أصبح لا يُطاق حين تعدى صاحبنا حدود الغزل ودخل في عروض الزواج، أجل عروض الزواج! خلف الدوسيه سالت كلماته: هو أنا لا سمح الله نيتي وحشة؟ … أنا هدفي شريف … أنا راجل بتاع سنة الله ورسوله … ومستعد من دلوقتي وبالشروط التي تطلبيها … أصلي بصراحة دايب … وواقع … ومش لاقي اللي يسمي عليَّ …
•••
حين أصبح الأمر وكأنه كل مشكلتها … أمر لا تستطيع عرضه على عمها أو مصارحة أمها أو إحدى زميلاتها به، فكرت سناء لفرط ما وجدت نفسها محاصرة ومخنوقة أن تترك العمل وتستقيل، ولكن فكرة أخرى عنت لها …
لماذا تيأس هكذا من أول عقبة؟
ولماذا تسلِّم بالهزيمة أمام إنسان تشمئز منه وتحتقره؟ لماذا لا توقفه عند حده؟ لماذا لا تتصرف التصرف اللائق بوضعها وقد أصبحت موظفة وتشكوه؟
وليلة بطولها قضتها إلى الثانية عشرة تكتب وتمزق وتفشل وتبكي وينتابها الغيظ، وأخيرًا بدا وكأنها استقرت على الصيغة المناسبة للشكوى، وفي الصباح لم تذهب بالعريضة إلى الباشكاتب رئيسهم وإنما مباشرةً إلى مدير الإدارة، دقَّت على الباب ودخلت وحيته وقدمت له «البوستة» ليوقعها وكانت قد وضعت الشكوى في آخرها، وحين انتهى المدير من التأشير على بقية الخطابات ورأت خطها يطل من العريضة والمدير يهم بتوقيعها هي الأخرى اقتربت منه، وترددت، ورجته أن يقرأها فهي شكوى منها، وخُيِّل إليها بعد دهشة الرجل الأولى أنه قد أخذ وقتًا أكثر من اللازم في قراءتها، وأن قهقهته حين انتهى كانت سخرية منها، واشتدت سمرة وجهها فجأة ووجدت نفسها تبكي، حينئذٍ فقط كفَّ المدير عن الضحك واتخذت ملامحه طابعًا أبويًّا مصطنعًا وإن حاول أن يطليه بطبقة حزم حادة، وسمح لنفسه أن يهدهد على كتفها مؤكدًا لها أنه لا بُدَّ أن يوقف الجندي عند حده، غير أن هذا لم يمنعه أن يعود للابتسام وهو يطلب منها أن تحاول في المرات القادمة أن تتعلم أساليب الشكاوى الرسمية، إذ ليس فيها محل لعبارات كثيرة جاءت بشكواها من أمثال «كلام تحمرُّ له خدود العذارى»، و«موظفة مثلي ذات أصل وحسب»، ثم بلهجة شبه حادة هذه المرة أفهمها ألا توقع الشكاوى الرسمية أو المكاتبات بتعبير مثل «المخلصة» سناء عبد الله، فللرسميات لغتها الأخرى.
ورغم كل هذا الدرس الجانبي فقد عاد المدير يُؤكِّد لها أنه سيُوقف الجندي عند حده، تأكيدًا دفعها لأن تعود إلى الحجرة وفي نظراتها رضاء سافر، وحين جلست كان في جلستها تماسك من أن له في النهاية أن ينتصر ويستريح، وهي التي ابتسمت هذه المرة ابتسامة حقيقية حين لم تكد تمضي دقيقة حتى جاء ساعي مدير الإدارة يستدعي الجندي، وبعد أكثر من ربع ساعة عاد مصفر الوجه بطريقة جعلت لجلده لون عينيه وأكسبته بشاعة، ولكنه يضحك أو على الأقل كان فكه الأسفل قد تهاوى في سقطة مهددة ضاحكة … ومن خلف الدوسيه جاءتها كلماته: بتشكيني؟ … هو أنا من بتوع الكلام ده؟ … طيب … بكره نشوف.
وقبل أن ينتهي كانت هي في انفعال حقيقي غاضب قد شرعت تكتب شكوى عاجلة أخرى تثبت فيها ما قاله، وتجري حاملة إياها إلى المدير الذي ما كاد يعرف محتواها حتى استدعى الجندي وقد تملكته شياطين الرئاسة والإحساس المضاعف بالهيبة المخدوشة، وجاء الجندي ويا لدناءته! يا للاستنكار الكاذب الهائل الذي قابل به شكواها! وقسمه وتأكيده لقسمه وأيمان الطلاق التي توالت من فمه، وهو يؤكد أن شيئًا مما قالته لم يحدث، وأنها تتبلى عليه، وأنها هي التي تتمحك فيه وتناوشه على أمل أن تتزوج منه، وأنه مظلوم … أي والله مظلوم لا يدري ما يفعل في هذه البلاوي التي تتساقط من حيث لا يعلم فوق رأسه: يا بيه عيب … أنا راجل متجوز وعندي تسع عيال … ما تخليها تشوف حد تاني تتلقح عليه، يا سعادة البيه ده أنا … أنا …
وبلغ الاشمئزاز بسناء حدًّا جعلها تتمنى أن ينتهي هذا المشهد بسرعة وعلى أيِّ وجه، حتى لو جاءت النهاية ضدها وفصلوها من المصلحة أو أرسلوها إلى السجن. إنها لم ترَ أبدًا في حياتها منذ وعت أناسًا كهذا الجندي يكذبون عيني عينك بلا خجلٍ أو حياءٍ أو ارتباك، مجرمين في كذبهم إلى حد ممكن فعلًا أن يقلب الباطل حقًّا والحق باطلًا.
ولكن الأمر لم ينتهِ تلك النهاية … فالمدير حتى لم يُكلِّف نفسه عناء النظر إلى سناء أو سؤالها عما لديها من أقوال، ظل طوال الوقت يحدق بنظرة غير مفهومة إلى الجندي، وهو يقسم ويتفتف ويرفع عقيرته بالخطب والأقوال — على الأقل لم تفهمها سناء — وحين انتهى أَمَرَه بصوت حاسم خفيض ألا يتعرض مرة أخرى لها أو يُحادثها حتى في العمل … لهجة حيرت سناء، فقد كان واضحًا أن المدير يدرك خطأه ويعلم سفالته، ولكن لهجته في أمره لم تكن تتناسب أبدًا مع هذا الإدراك، والأغرب من هذا أن يمتثل الجندي ويتعهد أن يقوم بكلِّ ما يريده المدير أن يقوم به.
ولقد نفذ الجندي تعهده، ولكن التنفيذ لم يدُم إلا ليوم واحد، أو على وجه الدقة بقية ذلك اليوم الذي بدأته سناء بشكواها، في اليوم التالي مباشرةً صبحها بنظراته، وبعده بيوم — بأقل من يوم — عادت ابتساماته، وما لبث أن أردفها بتعليقاته الهامسة التي كان يُلقيها ثم يعود ليبتلعها ويخفيها، وأخيرًا وجدته سناء يومًا يرفع الدوسيه، وفي الحال قررت أن تذهب إلى المدير وتشكوه، ولكنها ترددت فماذا فعل بشكواها الأولى لتلجأ إليه ثانيةً؟ ثم أليس من المحتمل أن تبدو في نظر المدير بكثرة لجوئها إلى الشكوى طفلة أو تلميذة؟ بل أليس من الممكن أن يصدق أنها بشكواها الكثيرة تناوش الجندي كما ادَّعى؟ لقد جرَّبت عمها ونصيحته وجرَّبت المدير، فلماذا لا تجرب نفسها؟ لماذا لا تواجه الجندي، أو على وجه أصح لماذا لا تكف عن مواجهته والاهتمام بأمره وبكلامه؟ لماذا حتى تشمئز منه وتحتقره؟ إن انفعالها به هو اعتراف بوجوده، لماذا لا تهبط في احتقارها له درجة أخرى، وتلغيه كلية من تفكيرها ووعيها؟
•••
وهو بالضبط ما فعلته سناء وهو بالضبط ما كاد يقتل الجندي ويدفعه إلى الجنون، إنها هي نفسها لم تكن تعتقد أن باستطاعتها أن تتجاهل وجود إنسان على مبعدة منها إلى تلك الدرجة، فما بالك برجل يُزاملها ثماني ساعات كل يوم، ومكتبه يكاد يلمس مكتبها؟ ولكن يا لقدرة النساء الكامنة فيهن على التجاهل! لكأنما أصبحت الحجرة في نظرها بمكاتب أربعة لا خامس لها بالمرة، لكأنما مات الجندي أو ما وُلد قط. ويا للروعة التي سار بها كلُّ شيءٍ وعلى أتم ما تريده من مرام! إلى ذلك اليوم … ليت ذلك اليوم لم يأتِ قط، ليتها قطعت لسانها بيدها قبل أن يزلف وتخبر روحية زميلتها بالمشكلة! ولكنه درس تعلمته وستوصي أحفاد أحفادها بتفاديه، المشكلة عادية وبسيطة ومن النوع الذي تقرأ عنه في الجرائد ويرد أحيانًا في السينما، وتلوكه صباح مساء تمثيليات الإذاعة: مشكلة المصاريف التي لم تُدفع وحلول موعد دفعها، وتوقف حضور الامتحان على هذا الدفع، والمصاريف مصاريف أخيها، القسط الثاني وقدره عشرة جنيهات، كان اشتغالها قد اقتطع من المعاش الذي كانوا يتقاضونه قيمة نصيبها فيه، وكان تراكم مطالبها قبل تسلم العمل وبعده قد أثر في ميزانيتهم الصغيرة وأنهكها حتى أصبحت أعجز من أن تسدد القسط الثاني، أمر لولا اشتغال سناء ما كان يمكن أن يحدث، فالنقود كانت تُوزن … تزنها مدبرة بيتهم ومدبرة حياتهم — أمها — وتوزعها بالمليم، ولم يحدث يومًا أي ارتباك، ولقد ظلت سناء تُعاني من ضغط الموقف الذي لم ينقلب إلى مشكلة إلا بعد أن طرقت الأبواب جميعًا، فلم تَلِنْ أو تستجب حتى عمها الناصح الأمين ما أكثر ما سهل عليهم المأمورية لدى عرضها أمامه، وما أكثر ما تحجج حين تأزم الوضع واقترب موعد الامتحان.
في تلك الآونة الخانقة وفي ساعة ضعف، عرضت سناء المشكلة على روحية عرضًا لا طائل من ورائه إلا لمجرد الشكوى والتفريج عن النفس، ومن تلك اللحظة أصبحت الكلمة الدائمة على لسان روحية: هيه، عملتم إيه في مصاريف أسامة؟ ورغم أن استجابة سناء الدائمة كانت هزَّ كتفيها علامة اللاحل، إلا أن ضيقها كان يتعاظم في كل مرة تسألها وكل مرة تصمم أن تصارحها بما يعتمل في صدرها لمجرد السؤال، ولكنها تعود وتلتمس لها العذر وتسكت، غير أنها لا يمكن أبدًا أن تعذرها لما فعلته ذلك الصباح حين جاءت لتمر عليها بالمكتب، وجلست وتحدَّثت قليلًا، ورحب بها الجندي ترحيبًا ملحًّا مبالغًا فيه، وطلب على حسابه مشروبات وألح وأقسم، وانشغل عن كل شيء إلا حديثه إليها وبطريقة لم تجد معه روحية فرصة تتبادل فيها كلمة واحدة مع سناء، وأول كلمة تبادلتها معها كانت حين سألتها كالعادة: هيه عملتم إيه في مصاريف أخوكي؟
صمتت سناء كالمصعوقة لا تُجيب، بينما وجد فيها الجندي فرصة فتحت له فيها أبواب السماء وأبواب الحديث، وبكل ما يمكنه اصطناعه من نخوة سأل: ما هي المشكلة؟ وببساطة وبرغم نارية النظرات الخارجية من عيني سناء مضت روحية تحكي بكل براءة مقصودة، حكاية القسط الثاني والحرمان، يا عيني، من الامتحان.
وربما كانت تلك أول كلمات تُقال في الحجرة وتشير إلى حقيقةٍ ما عن حياة سناء الخاصة التي عمدت منذ تسلمها العمل إلى إخفائها بنفس الطريقة التي تخفي بها ذيل «الكومبليزون» تحت الفستان، أو «ركبتها» التي أحكمت إخفاءها عن العيون النهمة بأن سدت فتحة المكتب الأمامية بقطعة من الورق المقوى، حقيقة ألقتها روحية بسذاجةٍ أو بخبثٍ، ولكنها جعلت سناء تذوب خجلًا وتتمنى لو اختفت بكلها خلف ورق المكتب المقوى، حقيقة قِيلت وارتفع لها رأس الجندي من طيات الورق وطقطقت لها أذناه في تنصتٍ مشدودٍ متحفز هائل، وما كاد يفطن إلى المقصود حتى همَّ بأن يُلقي بنفسه في الحديث كعادته، ولكنه للوهلة الثانية انداحت في وجهه ابتسامة صفراوية ما، وخنس وسكت.
ورد الفعل الساحق الذي حدث، والذي لم تكن سناء تعتقد أبدًا أن باستطاعتها أن تنساه أو تُشفَى منه — لدهشتها الشديدة — كان مفعوله بعد ساعات قد زال أو كاد، وكانت قد عادت تتمالك نفسها وتنظر إلى ما حدث وتطمئن النفس بقولها … وربما فاتت الكلمة دون أن يسمعها أحد، والجندي بالذات يدَّعي أن سمعه ثقيل، ثم هو لم يتدخل ولم يعلق، خاصةً وليس من عادته أن يفلت فرصة كهذه دون تدخل أو تعليق.
ولكنها كانت واهمة، فلو قد أُتيح لها أن تنظر — مجرد أن تصوب واحدة من تلك النظرات النافذة التي تقتحم صدور الناس وكيانهم وتظهر كالأشعة السينية ما تخفيه — نظرة كانت غير قادرة عليها بالمرة، لا بالنسبة للجندي ولا بالنسبة لأي رجل ربما لمجرد كونه رجلًا … لو أُتيح لها أن تلقي نظرة لوجدت الجندي في حالة ما بعد النشوة، حالة قلَّ أن يُوجد عليها إنسان إذ هي إحدى البقية من أحاسيس الحيوان الذي تفصله عنا ملايين من السنين … حالة الإحساس بالفريسة رهن الإشارة وعلى مدى انقضاضه، حالة السعادة البدائية الجامحة التي تدعو القط وبه من الجوع أن يصبر على صرخاته ويتجاهلها ليستمتع بما هو أكثر إمتاعًا من إشباع أية غريزة بمفردها، ليستمتع بنفسه والفأر قد أصبح حبيس إرادته ونظراته، يرى ارتباكه الأعظم، ورهبته ورغبته العارمة في النجاة، وتحفزه الهائل للهرب، وعجزه الهائل عن الفرار، الحالة التي تشبع في بعض الناس غريزة الغرائز وتنتشي بها حيوانية الإنسان …
أجل … من أين آكلك يا سناء؟
•••
كان العمل قد أصبح أمره بالنسبة لسناء وزميلاتها عادة سهلة، ولكن المشكلة لم تكن أبدًا في العمل ولا في كتابة بضعة سطور وتنفيذ بعض تأشيرات، المشكلة كانت فيما هو خارج نطاق العمل في المصلحة، في الموظفين، في الأسرار التي لم تتوقف عن التشكيك يومًا واحدًا، لا يكاد يوم يمضي حين يكون قد انتهى باكتشاف أمر من أمور المصلحة جديد عليهن كل الجِدة، لاكتشافه فرحة العثور على السر المنيع، والأسرار تبدو كثيرة وكأن لا نهاية لها، وكأن أسفل البناء الضخم الذي أنفق الرجال عشرات السنين في إقامته سراديب خفية، حفروها وجعلوا لها أبوابًا محصنة سرية لا يمكن أن يفطن لها غريب، ولا تُفتح إلا على كلمات سر معينة تُقال … عشرات السنين من العمل الدائب لبناء الهيكل من الخارج والدنيا الخفية من الداخل، والعمليتان ماضيتان معًا، وكل ارتفاع في البنيان تقابله وعورة في الممرات وفي السراديب السرية، والسرية جدًّا، السرية جدًّا جدًّا.
هذا العالم الخفي لم يكن ليكشف عن نفسه هكذا ببساطة للموظف الجديد، فما بالك والجديد موظفة وأنثى، والأسرار أسرار تتكشف ببطء شديد وبالقطارة، ولا تتكشف من تلقاء نفسها … لا بُدَّ من بذل جهود وعقد صداقات وشحذ ذكاء.
وهكذا كان لا بُدَّ — طال الوقت أم قصر — أن تدرك سناء أن ثمة عملية أخرى يقوم بها المكتب الذي تعمل فيه … استخراج التراخيص، ذلك هو العمل الرسمي للمكتب، أهون العملين وأقلهما شأنًا واهتمامًا وأبطؤهما سرعة إنجاز، بل هو في الواقع لم يكن أكثر من مجرد لافتة رسمية معلقة لتدل الزبائن على المكان الذي باستطاعتهم أن يتوجهوا إليه لنهو العمل الثاني، العمل الحقيقي الدائب … بيع التراخيص، بيعها بأثمان لم تُحدِّدها المصلحة ولا الوزارة وإنما حددتها تقاليد ورثها الموظفون جيلًا عن جيل وباشكاتبًا عن باشكاتب، أسعار تخضع لكلِّ ما يطرأ على حياتنا من تغيير، ارتفعت في أثناء الحرب مع ارتفاع الأسعار، وكلما زاد الغلاء ازداد ارتفاعها، والشيء نفسه ينطبق على نسبة التوزيع … الباشكاتب ٣٠ في المائة، بقية الموظفين من مرءوسيه ٣٠ في المائة، والأربعون في المائة الباقية تذهب إلى رأس كبير في المصلحة، ويُقال إن معظمها يذهب إلى رءوس مماثلة في الوزارة نفسها، عملية تجري مجرى اللوائح والقوانين تتم سرًّا معظم الأحيان، وبحرص شديد من الزبون وبجرأة غريبة من الموظفين، والطريق إليها معروف، والواسطة خفاجي ذلك الساعي ذو الشارب الكث وسُحب الدخان الغزيرة، الواقف على باب المكتب «ليفنط» الزبائن و«يوزع» غير المرغوب فيهم، ويفتح الباب «للسالكين».
ورغم كل ذكائها لم تكن سناء قد أدركت طبعًا، ولا كان لها أن تدرك، ذلك الاجتماع الخفي الذي تمَّ بينَ الباشكاتب وزملائها يوم تعيينها، ولا ما دار فيه من نقاش، وكيف كان رأي الباشكاتب أكبرهم نصيبًا وأكثرهم خوفًا أن يتوقف العمل الثاني في ذلك اليوم إلى أن يجسوا نبض هذه القادمة الخام الجديدة، وكيف كان من رأي الجندي أن يستمر العمل وكأن شيئًا لم يحدث، فلا يمكن لبنت مثلها لا تزال مغلقة العينين كالقطط المولودة أن تستنتج أمورًا لا يستطيع الجن الأحمر نفسه إدراكها إلا إذا اشترك فيها، ولم يكن غريبًا أن ينتصر رأي الجندي، ففي ذلك العمل الثاني كان هو الذي يقبض، وهو الذي يتولى التوزيع، وأهم من ذلك كان هو الصلة الوحيدة بين المكتب وبين الرءوس الكبيرة يخصم لها النسبة ويتولى إيصالها، ويحتفظ وحده بأسمائها لا يعرفها سواه، ومن هنا كان نفوذه لا في المكتب وحده ولكن في الوزارة كلها، ذلك النفوذ الذي استطاع به أن يمنع نفسه من النقل أو حتى الترقية أو ترك المكتب بأية وسيلة لخمسة عشر عامًا متواصلة قضاها يُنظم ذلك العمل ويُشرف عليه.
صحيح أن انشغاله بأمر سناء قد جعل اضطرابًا ما يحدث للعمل ولكنه ظل يواصله، وصحيح أنه تساءل مرة أو مرتين — ونادرًا جدًّا ما كان يسأل نفسه عن أمر — ماذا يحدث لو عرفت سناء ما يقوم به، هي التي يبدو أنها نقية مثالية كالقماش الأبيض، بالتأكيد يمرضها بل يحتمل أن يقتلها معرفة أشياء كهذه؟ ولكنها أيضًا مجرد تساؤلات متباعدة تدق دقًّا خافتًا جدًّا على إحساسٍ جامدٍ مُتصلب ولا تتوقف عنده طويلًا.
في ذلك اليوم وقد جاءت سناء متحفزة لقرار التجاهل التام، أحسَّت حين دخلت الحجرة أنها تدخل على جوٍّ مريب، كان زبون بادي الثراء والأناقة من زبائن المكتب يجلس أمام الباشكاتب، وثمة كوكاكولا قد انتهى من شربها وقهوة في الطريق إليه، وحديث كان يبدو أن دخولها السبب الوحيد في قطعه، لم تُلقِ بالًا كثيرًا أول الأمر إذ كانت لا تزال تحيا وتتشبث بقرارها الخاص، ولكن الصمت … الصمت الذي تتخلله كلمات مقتضبة أشد ريبة من الصمت نفسه، والوجوه، الوجوه المستديرة عنها والموجهة بارتباك إليها والمندسة في الأوراق، والاستغاثات المُلحة بالسؤال عن صحتها ومزاجها وكيف تبدو الدنيا في الخارج، بجماع هذا كله، أو في الحقيقة بالفراغ الكامن بين هذا كله، استطاعت أن تُخمِّن مخلوعة القلب شبه مرتجفة أن هناك شيئًا آخر غير العمل يحدث في المكتب، ويحدث باتفاق الجميع وباشتراك الجميع، وأن الجميع يبذلون جهدهم كي يغلقوا عينيها عن أن ترى وحواسها عن أن تشم وتسمع.
وكان طبيعيًّا أن يفوتها وهي فيما هي فيه من وجلٍ وارتباكٍ أن تُدرك أن بعض العيون الثماني التي تزاملها قد استوقفتها حالتها، وكفتها لمحة لتتأكد — العيون — أنها، سناء، قد عرفت.
وتلاقت العيون حينئذٍ تسترق التشاور، وبدا أن ومضاتها ما لبثت أن اتفقت على رأي لم يكن قد بقي على تنفيذه إلا اجتماع عاجل يُعقد وطريقة تُختار.
وفي المقهى — في المساء — وتحت ظليلة من دخان الحشيش ورشفات أكواب الشاي، استقر الرأي على أنها ما دامت قد عرفت أو خمَّنت فلا بُدَّ من إشراكها، وتطوع الجندي وأخذ على عاتقه مهمة جر رجلها وتوظيفها — وأمره إلى الله — في العمل الثاني على شرط أن يكون هذا مقابل أبخس نسبة ممكنة، ورغم أن الآخرين لم يبدوا حماسًا للفكرة … فكرة أن يكون الجندي بالذات هو رسولهم إليها، إلا أنه أصرَّ وأقسم لهم وأكد وتمسك بطريقة لم يجدوا معها بُدًّا من الرضوخ، كان بينه وبين نفسه، وقد سُدت في وجهه كل الأبواب الأخرى، يطمح أن يتقرب إليها من هذا الباب، وأن يُجرب معها هذا المفتاح السحري، وقد وضع في اعتباره ما تعانيه هي وأسرتها من أزمة وحاجة إلى المصاريف.
من هنا وبهذا السلاح قرر أن يأكلها.
•••
كانت خطة الجندي رغم عبطه الظاهر ماكرة خبيثة، فقد ظل يُرتب الأمر بحيث خلت الحجرة إلا منه ومن نفس «الزبون» البادي الثراء، بينما وقف خفاجي على الباب يمنع الدخول بحجة أن هناك لجنة، وإن كانت شياطين الشغف تستبد به أحيانًا حتى ليكاد ينحني ليختلس النظر أو يلصق أذنه بالباب علها تلتقط كلمة، جلس الزبون محرجًا أول الأمر يرد على تحيات الجندي المتعاقبة بجهد وتكلُّف، وبين الحين والحين ينظر ناحية سناء ويعود ينظر إليه متسائلًا متشككًا، وتركه الجندي في حيرته وظل يراقب سناء من طرف خفي إلى أن لمحها تترك انهماكها المتعمد فيما أمامها من عمل، وتبدأ من طرف خفي أيضًا تدرك وجود الزبون أمام الجندي، وتدرك وهذا هو المهم ارتباكه وحيرته، بمعنى أوضح تدرك أن هناك أمرًا يتحرج الزبون من الخوض فيه أمامها، وأن الجندي لا يريد إنقاذه من هذه الحيرة، كان مفروضًا حينئذٍ أن تعاودها إحدى نوبات الاشمئزاز الحادة التي تنتابها كلَّما بدر من الجندي ما يبعث على الاشمئزاز، فتنتفض في الحال واقفة وتغادر الحجرة، ولكنها هذه المرة وجدت نفسها واقعة تحت تأثير ما هو أقوى من الاشمئزاز … حب استطلاع الأنثى، أقوى أنواع حب الاستطلاع، القادر وحده على أن يكبت — إذا استبد بها — كل رغباتها وما يدور بأعماقها من انفعالات، وجدت نفسها تريد بأي ثمن أن تعرف إن كان ما قدرته صحيحًا أم هو من قبيل التخمينات … أم لعل سبب بقائها هو الارتباك العنيف الذي اجتاحها وفصد العرق من كل جسدها وسَمَّرها في مكانها، وكأنها بسبيلها إلى حضور أمر مخجل مجهول لا تعلم مدى بشاعته، أعيب عيب، لعل هذا هو ما دفعها إلى ابتلاع اشمئزازها والبقاء، بل ما هو أكثر من البقاء، ادعاء الانهماك الشديد في العمل، كي تترك أمامهم المجال واسعًا رحبًا حتى يتسنى لها أن تسمع وترى رأي العين.
كل ما حدث أنها حين لاح عليها وكأنها ترفع رأسها مفيقة، لم يُضع الجندي الفرصة الذهبية فرفع صوته يقول للزبون المرتبك المحرج: خد راحتك قوي يا عبادة بيه … الآنسة سناء زميلتنا ومنا وعلينا، خد راحتك قوي قوي … دي مش غريبة … دي معانا.
ورغم أن المقطع الأخير رنَّ في أذنها رنينًا مزعجًا غريبًا، إلا أنها لم تشأ أن تنكص وقررت أن تظل منهمكة، وعادت مرة أخرى إلى الدفتر الكبير الذي كانت تُسجِّل فيه، أو على وجه أصح تدعي التسجيل.
وكأنما انزاح عن كاهل الزبون عبء من جديد، فقد أخرج علبة سجائره وقدم للجندي واحدة، بل عزم عليه بالعلبة كلها، ثم قال: ما دام المسألة كده يبقى نتكلم بصراحة … والصراحة أنتم لازم تتوصوا بنا شوية … أنا ما أقدرش أدفع خمسين جنيه عالتصريح.
وبينما كان قلب سناء يدق أكثر من خمسين دقة متقاربة متتالية كأنها دقة واحدة تفتت إلى دقات، ومضى الجندي يقول: ما دام صراحة بصراحة، نتكلم احنا كمان بصراحة … يا عبادة بيه أنت نسيت أن الخمسين اللي بناخدهم بتكسب من وراهم سعادتك ألف وأكثر.
– بيتهيأ لك، لو تعرف اللي فيها ما تقولشي كده … أنت فاكر إن الحكاية تصريح وبس؟ مش عارف في المراقبة لازم برضه على الأقل خمسين وخمسين زيهم واللا ميه في الجمرك؟ ما أنت عارف كل حاجة … إيه الداعي تخليني أتكلم.
– ما أنت كمان يا عبادة بيه ما فيش داعي أقول لك … أنت بتقول عليهم خمسين إنما أحلف لك بإيه الواحد منا ما بينوبه خمسة يمكن واللا ستة.
– بينوبك خمسة! أمال الباقي بيروح فين؟
– يا سعادة البيه احنا هنا في المكتب أربعة غير الباشكاتب، شوف كل واحد ينوبه كام، ولازم يروح للناس اللي في المصلحة كام، وبتوع الوزارة كام، إن كان عليَّ أنا أحلف لك بإيه إني يمكن ما باطلع بحاجة، وشرفي ورحمة أمي أنا مجرد واسطة خير.
ولسبب ما بدا أن «عبادة بيه» الزبون لم يهمه من كل إجابة الجندي إلا نقطة واحدة رسمت الدهشة على ملامحه أول الأمر، ثم جعلته يُلقي على سناء نظرة خاطفة ويطمئن إلى انهماكها في العمل قبل أن يميل على الجندي عبر المكتب ليهمس له بصوت ملؤه الدهشة وغير قليل من الاستنكار: ودي رخره بتاخد معاكم؟
ورفع الجندي صوته عن عمد وهو يكاد يقهقه قائلًا: أمال يا بيه، هو يصح نبقى زملاء في مكتب واحد وحاجة زي دي ما نقاسمش بعض فيها؟ ده أنا إن مكانش لي خير في زميلي ما يصحش واحد زي سعادتك يعبرني أو يثق في، أمال يا سعادة البيه … كلنا بناخد أنا وزملائي الثلاثة كلنا والباشكاتب.
وكان يقول الجملة الأخيرة وهو يدور بصوته العالي في كلِّ اتجاه، وكأنما ليشهد السقف والجدران والمكاتب الخالية على ما يقول، بينما يُسدِّد بصره الذي لا يطرف إلى سناء.
•••
فجأة اكتشفت سناء أنها غارقة إلى قمة رأسها في هوة كأنما حُفرت داخلها في لمح البصر، ومضت بسرعة مجنونة تتسع وتعمُق وتحتويها، كانت لأول مرة في حياتها تُواجَه بموقف حاد عاجل يتطلب منها تصرفًا حادًّا عاجلًا، وهي لا قدرة لديها على القيام بأيِّ تصرف، أو حتى النطق، مجرد النطق بكلمة، لم تكن تتصور أبدًا أنها ستنقلب هكذا — دون أن تحس — من متفرجة محبة للاستطلاع على موقف، إلى مشتركة لقمة رأسها فيه وأن يكون الجندي العبيط في نظرها هو فاعل هذا ومدبره، كيف استطاع ساذج مثله أن يقلب الحديث الدائر بينه وبين «الزبون»، الحديث المفروض أنها تجهله تمامًا وأن يتم خلف ظهرها ودون علمها، إلى حديث عام يرفع فيه صوته ويسمعها وكأنه في ندوة، وكأنها الطرف الثالث في «الصفقة» … بل كاد لولا بقية من حياء أن يطلب منها أن تُساهم برأيها فيما تجري عليه المساومة.
بقية من حياءٍ تثبت أنها لم تكن موجودة أصلًا، إذ ما لبثت بعد وقفة التقط فيها أنفاسه ومن السيجارة أشعل سيجارة، وبينما «الزبون» يهم بفتح فمه للرد إذا بالجندي يُشير إليه مقاطعًا مصوبًا نظراته إلى حيث سناء رافعًا صوته بحيث خرجت كلماته واضحة مفهومة لا تقبل اللمس: والله إيه رأيك يا آنسة سناء؟ أنا بذمتك وشرفك ببالغ؟ مش يدوب الواحد منا بيتلايمله من الخمسين اللي بناخدهم ع التصريح يدوبك على ورقة بخمسة؟! كده ولا لأ يا سناء؟ كده ولا لأ؟
حشدت سناء نفسها بكل قواها لترد بكلِّ ما تملك من قدرة على الغضب، بكل ما استدعته إلى وعيها من ألفاظ السباب، بكل طاقتها على الانفعال، بوجهها الأسمر الذي من احتقانه كاد يسود، بعينيها اللتين جحظتا إلى أمام، بالارتجافة الشاملة التي اكتسحتها وأرعشت حتى المكتب الذي تستند إليه، ولكن كلمة ما لم تخرج من فمها.
ضغطت بكوعيها على حافة المكتب، واعتصرت صدرها، وتقبضت عضلات زورها وحلقها في محاولة ثانية للنطق بلا جدوى، ليس لأنها لم تكن تجد ما تقوله، ربما لتزاحم ما تريد قوله، ربما الازدحام الخانق من ألفاظ السباب التي تحفظها والتي سمعتها وتحرَّجت طوال حياتها عن ذكرها، وأرادت لحظتها بمثل ما لم ترد به أي شيء خلال عمرها كله أن تقولها وتنطقها وترددها مثنى وثلاث ورباع.
وكادت تُجن! وهذا الضغط الهائل المحتشد داخلها يأبى أن ينطلق أو يجد له منفذًا لكأنه كابوس خانق لا يحدث لها في حلم، وإنما في واقع يجري أمامها، وكلما مضت ثانيةً تضاعف إحساسها بالرغبة العارمة في الانفجار، وتضاعف إحساسها بالقوى القاهرة الخفية التي تُبقيها رغمًا عنها غير منفجرة، حتى صراخ الاستغاثة الذي يصدر من النائم، لم تكن تستطيعه، كل ما استطاعته أنها — من حلاوة الروح — وقفت فجأة كالملسوعة، وضمت قبضتين غريبتين كأنهما ليستا لها، وخبطت بهما سطح المكتب خبطة، وكأنما تقصد بها أن تحطم القبضتين وليس أن تدق المكتب.
وطوال هذا المشهد الذي برغم طوله اللانهائي الذي أحسته له، لم يكن قد استغرق بضع ثوان، في أثنائه كان الجندي منذ أن ألقى السؤال سائقًا العبط على الهبالة يُراقبها، راقب كل حركاتها غير الإرادية الأولى وهو لا يفهم، ثم وهو يشك، ثم وهو يخاف خوفًا لا يعرف سببه، وسرعان ما تحول خوفه إلى رعب حين وجدها تفتح فمها عدة مرات دون أن يصدر عنه شيء أو صوت، ثم تحاول محاولات مستمرة مستميتة أن تبتلع ريقها بطريقة تبدو معها وكأن غصصًا أخطبوطية خفية كثيرة تتزاحم وتسد حلقها حتى لتكاد تمنعها عن أخذ النَّفس أو إخراجه.
وما لبث أن تولاه الذهول حين وجد الخناق الخبيث يزايلها مرة واحدة وتبكي، بكاءً غير عادي بالمرة، فهو لم يبدأ كالبكاء على هيئة انفعال يتطور إلى بكاء، بدأ فجأة دافقًا غزيرًا وتحت ضغط كالإناء المملوء إذا أصابه ثقب.
وجم الجندي وداخ وتاه وحاول أن يفعل شيئًا، وعلى أقل القليل أن يتكلم، ولم يعجز، ولكنه وجد نفسه يُوأوِئ ويهوهو ويقول كلمات على هيئة حروف قاصدًا أن تكون حروف استفهام، يحاول أن يعرف بها ما الخبر وماذا ألمَّ بها؟
أما عبادة بك «الزبون» فقد جاء انزعاجه على هيئة حركات مضى يجمع بها أوراقه ويضعها، ثم يعود يخرجها من حقيبته الفاخرة وقد بدا أنه يستعد لمغادرة الحجرة.
وبنفس الغزارة الأولى رغم كل محاولاتها لإيقاف الدموع، مضت سناء تبكي بكاءً بدا وكأن لا قوة هناك تقدر على إيقافه … بكاء تحس له بأضعاف أضعاف سخطها على نفسها حين عجزت عن الرد والنطق، فقد كان البكاء أسخف تصرف ممكن أن تقوم به لحظتها، وكلما أدركت هذا وثارت عليه واستجمعت قواها لإيقافه، أحست بتصميمها وإرادتها تذوب وتتلاشى، ووجدت نفسها تمضي باكية سادرة في تصرف تحنق عليه حنقًا لا تجد له ردًّا إلا بكاءً آخر، لقد أحست أنها أُهينت إهانة واضحة متعمدة مدبرة، إهانة بلغت بشاعتها حدًّا أخرسها وأعجزها تمامًا، وحين ذهب العجز والشلل وأوشكت أن تنطق وتنفجر، ها هي ذي لا تفعل إلا أن تبكي وتذرف الدموع كأيِّ طفلة، كأي حمقاء معتوهة، تبكي؟ أيكون هذا موقفها من أخطر وأسفل إهانة وُجِّهت لها في حياتها، بل حتى في خيالها لم يكن في حدود التصور المحض بإمكانه أن يحلم بشيء كهذا، فما بالك والإهانة لم تحدث في الخيال، وهي واقعة حقيقية لم تفرغ دقائق الزمن من تسجيلها بعد، والإهانة لم تكن فقط لأنها حضرت واقعة كهذه أو شاهدتها، أو حتى لمحاولات محمد الجندي إشراكها ولو بطريق غير مباشر فيها، الإهانة الحقيقية أنه لا بُدَّ قد وضع في اعتباره وهو يرسم خطته احتمالًا شبه أكيد أنها من الممكن أن توافق، الإهانة الحقيقية هو ظنه شيئًا كهذا فيها، وليست إهانة لشرفها فقط وكرامتها، وإنما الإهانة العميقة هي أن هذا كله وُجِّه إليها من رجل، الإهانة الأعمق والأخطر أنها فتاة أنثى، وأن رجلًا هو الذي ظن فيها هذا الظن، ربما لو كانت شابًّا وعُوملت بتلك الطريقة لما جُرحت هذا الجرح العميق، لاعتبرت أن ما حدث سبة أو تهمة عادية وُجهت إليها ولردتها مضاعفة، ولكنها أنثى تحس بعمق أن الإهانة التي وُجهت إلى شرفها هي في الحقيقة إهانة لأنوثتها، لشرفها كأنثى، وليس لشرفها ككاتبة أو كفتاة تعمل، إهانة ليس ردها الصفع والركل وكيل أقبح الألفاظ، فمهينها رجل … الرجل لا يهمه أن يُسب أو يُشتم أو تصفعه سيدة، بل حتى إذا همه وأهانه فهي إهانة لا تُوجه لشرفه، قد تُوجه إلى شخصه أو مكانته، ولكنها أبدًا لا تخدش شرفه ولا تجرحه هذا الجرح الغائر الدامي، ماذا تفعل وهي تحس بشرفها الأنثوي مهانًا ومجروحًا، وهي عاجزة حتى عن الرد كرجل أهانه رجل؟ عن السب حتى أو الصفع؟ أهناك ما يقتل من الغيظ أكثر من أن تجد نفسها في موقف المعتدى على شرفها، الحرة في رد الاعتداء والعاجزة في نفس الوقت عن رده؟ بكاؤها الشيء الوحيد الذي أفلت منها يكاد يعميها غيظًا وسخطًا! فرد الإهانة التي تلحق بالشرف، ردها بمجرد البكاء إهانة في حد ذاته إهانة صادرة منها هي، وأي مأساة أن ترد عدوان غيرك وإهانته لك بأن تتولى أنت الآخر إهانة نفسك أمامه، أي عار!
أخيرًا جدًّا استطاعت سناء أن توقف سيال الدموع، أوقفته بيدها وأصابعها وقد أعياها البحث عن منديلها الصغير، وكأنما تآمر هو الآخر ليزيد من سوء وضعها ومهانتها، ولم تكن تتصور أن باستطاعة إنسان أن يكون صفيقًا إلى حد أنه — بعد ما فعل ما فعل — يتقدم منها وقد أدرك حيرتها وبحثها اليائس مقدمًا منديله، وربما كانت هذه الحركة منه هي القشة التي قصمت ظهر غصصها الحانقة المكتومة، وقد وجدت نفسها تقذفه بالمنديل وبما أمامها من دفاتر وأوراق وأقلام، هادرة متشنجة صارخة: لو كنت راجل ماكنتش عملت كده، إنما أنت حيوان … كلب … قذر … يا حقير … يا … ورحمة بابا لأوديك في ستين داهية يا مجرم.
وحتى وهي تقولها منحورة مغيظة شبه مجنونة، لم تحس أنها تشتم أو ترد إهانة، كل ما في الأمر أنها نطقت وانحلت العقدة، منفعلة لا لسبب إلا أن البكاء حين هدرت بالكلمات توقف.
ثم وجدت نفسها منساقة باندفاع كلماتها، لا تقوى على البقاء في الحجرة فغادرتها مسرعة هوجاء، حتى بدا وكأن خروجها ذاك أكبر وأعمق وأحط كلمة أطلقتها جعبتها.
وبخطوات عمياء متعثرة انطلقت في الصالة، غير حافلة بالأصوات التي كانت تصدر طول الوقت عن الجندي ومحاولاته للاقتراب منها واللحاق بها، ولا بالنداء المستغيث الذي كان آخر ما سمعته منه …
وبقلب واجف مخلوع، ووجه فاقد العينين هارب الدماء كأنه في طريقه إلى الموت، أسرع الجندي خلفها.
ولم تَعُد عيناه إلى محجريهما والدماء إلى وجناته، ولا نبتت تحت إبطيه قطرات عرق السلامة، إلا حين تأكد تمامًا أنها لم تذهب بعيدًا، وبعيني رأسه شاهدها وهي تتجه إلى ذلك الجزء من دورة المياه الذي خُصص للموظفات، وتدخله وتغلق وراءها الباب.
•••
وبينما كلَّف خفاجة بمراقبة الدورة، كان اجتماع صاخب عاجل ينعقد في الحجرة وينهي فيه الجندي لزملائه — مستسلمًا — قصة فشله الذريع مع سناء، والكارثة التي تنتظرهم فيما لو نفذت وعيدها والدلائل كلها تشير إلى أنها حتمًا ستنفذ ذلك الوعيد.
وما كاد ينتهي حتى تطايرت الاقتراحات من كلِّ صوب … اقتراحات بالمبادرة بالتبليغ عنها قبل أن تبلغ عنهم وإلباسها التهمة … اقتراح بكتابة شكوى تمس أخلاقها … اقتراح بتهديدها والضغط عليها … وعشرات أخرى من الاقتراحات لم تتوقف إلا حين انفتح الباب فجأة وأطل منه رأس خفاجة ليهمس لهم أنها قادمة.
وعلى عَجلٍ هُيِّئ المسرح لاستقبالها واتخذ كل موظف مكانه ودوره، وبينما تصنع البعض الانهماك جلس آخر يعبث بمفاتيح الآلة الكاتبة، بينما الباشكاتب لم يطاوعه سنه على التمثيل فوق مكانه كما كان، كل ما استطاعه أن أمسك بمظروف راح يستخرج محتوياته ببطء ويفحصها بعيدًا عن أعين الزملاء … بعيدًا عن الركن الخامس.
ودخلت سناء وقد أصلحت ما أفسدته الدموع من وجهها وعينَيْها وإن بقيتا منتفختَيْن قليلًا يُلونهما الاحمرار، ودون أن تنطق بكلمة توجَّهت إلى مكتبها وراحت تجمع الأوراق وتضعها في الأدراج وتغلقها علامة الاستعداد لمغادرة العمل، والساعة لم تكن تجاوزت الثانية عشرة إلا بقليل، وسألها الباشكاتب بطريقة عادية جدًّا إلى أين هي ذاهبة؟ وأجابت بطريقة حاولت هي الأخرى أن تجعلها عادية قائلة إنها متعبة طالبة منه الإذن بالمرواح، ورغم دهشة الموظفين المكتومة أذن لها الباشكاتب متمنيًا لها بلهجة أبوية سرعة الشفاء … فقط طلب منها أن تكتب ورقة صغيرة؛ إذ هكذا ينص الروتين، وبينما مضت سناء بيد مضطربة وأفكار مشتتة تحاول كتابة الورقة وتمزق المحاولة، غادر الباشكاتب مكتبه وذهب إلى مكتبها، وبروح الأب أيضًا أعفاها من التفكير وأملى عليها الصيغة، وحين وقفت أخذ منها الورقة وأعاد قراءتها، ولاحظ أنها نسيت كتابة التاريخ فكتبه، وبينما هي تتلفت في حركة غريزية قبل مغادرة الحجرة سألها الباشكاتب: إنتي صحيح تعبانة يا سناء؟
وحين هزت رأسها مجيبة وقد عاودتها الرغبة السخيفة في البكاء، قال الباشكاتب: لا يا سناء، إنتي مش تعبانة … إنتي زعلانة، فيه إيه؟
وبينما مضت تُصر على أنها متعبة فقط ومضى هو يصر وبروح الأب أيضًا على أن هناك مشكلة، وعلى أننا كلنا زملاؤه، وكلنا لا بُدَّ أن نحملَ همَّ بعضنا إذا ألم بالبعض منا همٌّ، ظلت المحاورة دائرة وقتًا غير قليل حتى بدا على سناء الإعياء، وحتى بدا أنها في المرة القادمة لن تحفل بالإجابة وستترك الحجرة، حينئذٍ قال لها الباشكاتب: إنتي زعلانة م اللي عمله الجندي أفندي، شوفي يا بنتي …
وكان قرار سناء بينها وبين نفسها أنها لن تسمع ولن تسمح لنفسها أن يُثار الموضوع أو تكون طرفًا في إثارته، ولكنها لا تعرف بالضبط ماذا أبقاها، وماذا في لهجة الباشكاتب ردَّ لها بعض الاعتبار، ربما وضعه لها في موضع القاضي في الوقت الذي وضع نفسه وزملاءها فيه موضع المتهمين، ومنصب القضاء لا يُرفض مهما بلغت وضاعة التهمة.
وحين بدأت سناء تقبل الدور وتستمع وتعي ما يقول، أحسَّت مرة أخرى بتلك الدوامة تجتاح عقلها ووعيها وكل كيانها … ذلك الكيان الذي صنعته حياة قوامها اثنان وعشرون عامًا من الخبرة والتعليم والمعاناة. ما إن بدأت تنصت إليه لم تكن أشياء غريبة على أذنيها فقط، ولكنها معانٍ عاصفة مهولة كانت تهب من فم الرجل الطيب وتكاد تقتلع كل ما صنعته لنفسها من كيان، وكأنها كانت طوال حياتها لا تعيش ولا ترى الدنيا أو تحيا فيها، لكأن حياتها بكل ما كان فيها من صعوبات وقلاقل كانت لا حياة بجوار ما راحت تسمعه وتعيه، أو لكأن حياتها هي الحياة وما يُقال لها إن هو إلا وصف لا يعقل لحياة شاذة منحرفة لا تمت بصلة إلى عالم الأحياء.
سألها صفوت أفندي الباشكاتب أول ما سألها عن رأيها فيه، أهو سيئ؟ أفي ملامحه أو تصرفاته معها ما يُوحي بالجريمة والإجرام؟ أجابت سناء بالنفي، فالباشكاتب قد بدا لها طوال عملها معه وخوفه من الله والحساب والميزان لا يقل عن خوف عالم متبحر في الدين، ما الذي يدفع رجلًا هذا شأنه إذن إلى أن يكون شريكًا في عمل قذر تأباه النفوس؟
– الدنيا يا سناء يا بنتي، العيشة … أنا ماهيتي كلها بعد الخصومات ١٩ جنيهًا و٢٣٠ مليمًا ومصاريف بيتي في الشهر ما تقلش عن ٥٠ أو ستين، عندي ولدان في الجامعة، وبنتان وولد في الثانوية، وبنت في المعهد، وعيلين صغيرين في ابتدائي، ولي أخت مطلقة وقاعدة معايا هي وولادها ثلاثة، منهم واحد طلعناه من المدارس وبيشتغل في مصنع، ساكن في بيت الناس بيحسدونا عليه، ومع كده إيجاره ثمانية جنيه ونص، بند الأدوية بس بياخد منا بالميت خمسة جنيه في الشهر غير الدكاترة، لو في مكاني تعملي إيه يا بنتي؟
– أعمل أي حاجة إلا كده، أعلم ولادي بفلوس حرام؟ أطلعهم من المدارس أحسن وأشغلهم.
قهقه الباشكاتب بسخرية مريرة ربما لسذاجة الاقتراح: لو رضيت أنا أمهم ح ترضى؟ ولو رضيت أنا وأمهم ح يرضوا هم؟ ولو اشتغلوا حتى ح يشتغلوا إيه؟ ح يكسبوا إيه؟
– بس دي جريمة يا عم شكري … سرقة، دانت راجل طيب، دا كأنك بتمد إيدك في جيب واحد لا مؤاخذة يعني … وبتنشل منه فلوس، إزاي ترضى تعمل كده؟
– يا بنتي الأخلاق الكويسة حاجة، وأكل العيش حاجة تانية.
– أكل العيش حتى بالسرقة؟
– يا بنتي إنتي لسه صغيرة ع البر ما شيلتيش هم المسئولية، لما تكوني مسئولة عن جيش زي اللي أنا مسئول عنه، وكل يوم لازم تسدي ٢٠ بق مفتوحين لك، مش ح تسميها سرقة أبدًا، أنا باسرق مين؟
– المواطنين.
– دول أغنيا … وأنا ما بخدش غصب عنهم هم اللي بيدفعوا من نفسهم.
– يبقى الحكومة.
– الحكومة خسرانة إيه؟ هو أنا بختلس من أموالها؟ حق الحكومة محفوظ ما حدش بيقدر يمد إيده عليه.
– يعني رأيك ما فيهاش حاجة أبدًا أنك تعمل كده؟
– معاك إن فيها حاجات كتير … فيها وفيها وفيها … إنما حطي نفسك في موقفي تعملي إيه؟
– أنا شخصيًّا لا يمكن … لما أموت أنا وأهلي م الجوع ما أقدرش أمد إيدي على حاجة حرام.
– إنتِ ما تقدريش … إحنا غصب عنا لازم نقدر ولازم نمد إيدينا فإيه رأيك فينا؟ ح تتصرفي معانا زي ما قلتي للجندي؟
– أنا قلت له كده عشان هو … هو مش محتاج زيك وأخلاقه وحشة و…
وهمَّ الجندي أن يعترض وقد احتقن وجهه بالغضب، ولكن الباشكاتب أشار إليه أن يسكت ومضى يقول: بس إحنا معاه.
– يبقى انتو أحرار.
– أحرار إزاي؟ مش فاهم.
– يعني انتو في سكتكم وأنا في سكتي … أنا ماليش دعوة بيكم، إنتم كبار ومسئولين عن نفسكم قدام ربنا وقدام الناس.
– وليه ما تكونيش ويانا؟
– أنا؟ والله لما يتقطع دراعي.
– وليه يا بنتي التزمت ده؟ احنا عارفين برضه وعارفين أزمتك وعارفين أخوكي عايز على الأقل عشرة جنيه عشان يمتحن، وادي إنتِ شايفة أهه … يعني مش ح تكوني متمسكة بالأخلاق الكريمة والدين والذمة أكثر من واحد زيي، ما تخلينا سوى سوى تفكي أزمتك ونفك أزمتنا وأهي ماشية.
– يا عم شكري أفندي … أرجوك … أي كلام بالشكل ده بينرفزني وح يخليني أتهور، انتو في طريقكم وأنا في طريقي.
– وهو كذلك، بس على شرط … ما حدش منا يتدخل في طريق التاني.
– عني أنا … خدها مني كلمة شرف.
– وعننا احنا … أعدك بشرفي، الفاتحة على كده.
ورد الجميع قائلين: الفاتحة.
وتململت سناء قليلًا، واستغربت، ماذا حدث للدنيا؟ أيقرءون الفاتحة لتكريس اتفاق شائن كهذا؟ ماذا حدث للناس؟
ولكنها، تحت إلحاح العيون المنتظرة، هزَّت كتفيها ومضت تتمتم بالفاتحة، وحين وصلت إلى منتصفها تقريبًا خُيِّل إليها أنها أخطأت في التلاوة، فأعادت القراءة من جديد، وكالخاطر العابر تذكرت أنها لم تقرأ الفاتحة من زمن بعيد منذ أن كانت طفلة تُصلي، وتذكرت أيضًا إلحاح أمها عليها بالصلاة وتأجيلها التنفيذ دائمًا، ماذا تقول أمها إذن وهي تسمع هؤلاء يقرءون الفاتحة صحيحة سليمة، ويقرءونها في اليوم مرات ويصلون ويحجون ويسمون الرشوة أكل عيش، تُرى ماذا تقول؟
ولكن الحادث على أية حال لم يمر ببساطة ولا مرَّ الاتفاق، فلقد ظلت سناء محط الشكوك لفترة، وكلماتها وكل حركة من حركاتها ظلت محل دراسة وافية ونقاش، والجميع يميلون إلى افتراض أنها تخدعهم أو في الطريق إلى خداعهم، والباشكاتب وحده يقف في صفها ويؤكد أنها لن تفعل، وأن عهد البنت وكلمتها على عكس ما يقال، كلمة واحدة متى قالتها لا تتراجع عنها، ومن ناحية أخرى لم يَعُد الأمر يُزاوَل بالبساطة الأولى … مجرد علمهم أن سناء زميلتهم الموجودة معهم في مكتب واحد تعرف وتسكت، ولكنها لا تشاركهم «اللعبة»، مجرد علمهم هذا أحاطهم بجو من عدم ارتياح غامض، كانت مزاولتهم لأعمال المكتب الثاني كجماعة قد أضفت على العمل نوعًا من القانونية، ومحا عنهم كل أثر للإحساس بالذنب، سناء بوجودها واشمئزازها ونظراتها جعلت إحساسًا جديدًا يبدأ يزحف … إحساسًا بخرق القانون، بارتكاب معصية! وقد تجسد هذا على هيئة ضيق شديد بسناء ووجودها ورغبة ملحة في التخلص منها، حتى الجندي دفعته تلك الأحاسيس المتضاربة إلى الكف عن الإحساس بها كفتاة، فلم يعد أبدأ يختلس النظر إلى شفتيها ويزدرد ريقه كلَّما توقف بصره عند شفتها السفلى، وهو الذي كان لا يتصور أو يقبل أن يحاول أحد إبعاد سناء عن المكتب وحرمانهم منها بدأ يتمنى في أحيان لو ذهبت … وبدأت رغبته في وجودها تتعادل ككفة الميزان مع رغبته في ذهابها.
إن المذنب لا يحسد البريء، إنه يكرهه، ويحس به كأنه ضميره، وكأن الضمير هو الجزء البريء في قلب المذنب، وسناء ذلك الجزء، ذلك الركن الخامس البريء في المكتب كانت قد أصبحت كالضمير المقيم الذي لا يتحرك، والذي لا تخفى عليه خافية، والذي يقابل كل ما يدور أمامه بالصمت والسكون، ليتها كانت تتكلم أو تنصح أو حتى تشتم، ليتها تفعل أي شيء إلا أن تسكت، والكارثة أنها ضمير مؤنث، إن الرجل لا يخجله كثيرًا أن يرتكب الخطأ أو الحماقة أمام زميله الرجل، أي رجل … ولكنه يخجل ببشاعة أمام الأنثى، أي أنثى.
وكان طبيعيًّا جدًّا في مثل ذلك الجو أن تحدث ارتباكات في مزاولة العملية، فمحاولات كل منهم للتخفي واستدراج الزبون بأقل ما يمكن من الضجة وبسرعة لا تثير الانتباه، وبالذات انتباه سناء، هذه المحاولات كانت غالبًا ما تفشل، وكثيرًا ما تصدر عن الزبون كلمة أو إشارة تفضح فيفقد الموظف أعصابه ويعدل عن الصفقة نهائيًّا بين عجب الزبون ودهشته، ويُصِرُّ على أن يأخذ القانون مجراه، وفي إصراره ذاك يرفع صوته ويَعظ ويُحاضر، ويكاد يُشهد الجدران والمكاتب والأثاث على ما يقول، ثم بدأت تحدث منافسات، وبدا كأن كلًّا منهم يريد أن يبدو أكثر من الآخر غيرة على القانون، وفي مقابل هذا بدأت تحدث اتفاقات خاصة وبينما الواحد منهم يرفض في العلن ويصر على الرفض إذا به يتفق سرًّا مع الزبون ويتقاضى الثمن وحده، بعيدًا عن أعين الزملاء، بعيدًا عن الركن الخامس.
•••
– خفاجة! إنت يا هباب إنت ياللي اسمك خفاجة.
– يا فتاح يا عليم … نعم يا محمد أفندي؟
– شيل القهوة دي.
– ليه؟ مالها يا محمد أفندي؟
– زفت … قطران … قرف شيلها لحسن وديني أرميها في وشك.
هكذا انفجر محمد الجندي في الرجل، وبعد أن وجه إليه الأوصاف الثلاثة الأول مضى يدور بأبصاره ماسحًا الحجرة بناظريه، هادرًا في كل وجه من أوجه الزملاء يواجهه: دا لا قهوة نافعة ولا طيب نافع، والناس بقت عايزة الضرب بالجزم، عايزين كرباج من بتوع زمان يسوقهم، أصل احنا كده ولاد (…) مانجيش بالذوق أبدًا، إن ما كانش الواحد ياخد على دماغه ما ينفعش، شيل القهوة يا حلوف … شيلها بقولك.
ويبدو أن صوته الصارخ الزاعق وصل إلى الحجرات الأخرى، إذ ما لبثت رءوسٌ ما أن بدت تطل، ولا تستغرق وقتًا كبيرًا لتكشف أنها نوبة أخرى من نوبات محمد الجندي، فتتراجع منسحبة خائفة أن يصيبها من شتائمه رذاذ.
ولم يكن أحد يجهل السر، فإيراد المكتب الثاني قد بدأ ينخفض انخفاضًا ملحوظًا، وعيون الرجال الكبار في المصلحة والوزارة قد بدأت تحمر وتتلمظ وتلمح، وأحيانًا تجهر بالاتهامات والشكوك، غير مستعدة أن تصدق أن السبب ممكن أن يرجع أبدًا إلى وجود الموظفة الجديدة كما يدَّعي الجندي، غير ملقية بالًا أو اهتمامًا إلى محاولة الجندي «سبك» الدور ومطالباته المستمرة بنقلها أو التخلص منها، منهية مقابلاتها معه بهزات رءوس مهددة تهديدًا يعلم الجندي خطورته، بحيث تلقي كل اهتزازة رأس الرعب في أعماقه.
غير أنها نوبات مهما طالت لا بُدَّ أن تنتهي، ويعود الجندي يجلس إلى مكتبه، ويعود الهدوء يسود الحجرة، ولكن أي هدوء؟ والعمل بشقيه تقريبًا توقف، وخلف الهدوء الظاهري يكمن تحفز، وتحت جلود الوجوه الطبيعية جلد أصفر شاحب شحوب الخطر وترقُّبه … شحوب الحالة «ج»، حتى سناء مصدر الخطر كانت هي الأخرى قد بدأت تستشعر أن ثمة أمرًا محيرًا غريبًا يحدث، لا من وراء ظهرها ولكن أمام عينيها وإن كانت لا تراه ولا تستطيع تحديده، ها هم جالسون مثلًا يرفرف عليهم سقف واحد وتضمهم جدران أربعة، ولكن أية حواجز هائلة قائمة تحول بينهم، أو بالتحديد بينها هي وبينهم! لأول مرة تحس بعمق أنها لا تفهم هؤلاء الرجال وأنها بينهم كالطفل الغريب اليتيم التائه في مدينة لا يعرفها، لأول مرة تحس أنهم يكوِّنون عالمًا ثانيًا تجهله، وتخافه، وتحس به معقدًا تعقيدًا بالغ الوعورة مجرد تأمله يخيف، نفس خوفها الذي لا تجد له تفسيرًا كلَّما اعترت محمد الجندي إحدى نوبات زعيقه وهياجه وشتائمه … محمد الجندي الذي طالما استثار اشمئزازها الصارخ، والذي طالما ألقت عليه نظرات احتقار لو أحسها لصعقه الإحساس، ما لها حين يبدأ يشخط ويهدر حتى لو كان يخاطب خفاجة أو الحظ أو الصباح المقيت، تتوالى دقات قلبها وتخاف خوفًا يدفعها لتأمل محمد الجندي تأمل المذعور؟ تأملًا لا يحمل كرهًا أو اشمئزازًا … تأملًا لا ترى معه ملامحه سائلة صفراوية لزجة، وإنما تراها غاضبة، وكأنما تجمدت سيولتها فجأة وتحولت صفرتها حمرة — حمرة الغضب — ولزاجتها صلابة، وعيونه الخضراء الشاحبة توقد فيها نار جهنمية وكأنما يوقدها الشيطان، حتى إذا ما استدار ومستها لمحة من وجهه الغاضب خافت واقشعرت وأصبحت كل أمانيها أن يهدأ ويذهب عنه الغضب ليعود ذلك الكائن الذي لا يُخيف.
وأيضًا لم يكن خوفها مجرد خوف بسيط، على الأقل ليس مجرد الخوف من زميلها الغاضب، فقد كانت تحس بغضب الجندي يكشف لها ويحمل معه علامات من ذلك العالم الآخر، عالم الرجال الذين تحس بهم أكثر جرأةً وأعنف انفعالًا ولغضبهم قدرة كبيرة على التحطيم والتخريب، لكأنما كلب رجالي خشن الصوت حاد الناب سيخي النظرات قد انطلق من مربطه في أعماق الرجل فجأة إلى كلماته وتصرفاته وملامحه ومضى ينبح ويهدر ويُهدد … ينشب أنيابه المسنونة في كل ما يعترض طريقه.
خوف مُركَّب أبشع ما فيه أن سناء في الحقيقة، في ذلك الجزء الخفي من الحقيقة الذي لا يطلع عليه أحد سواها وأحيانًا تخجل حتى أن تطلع نفسها عليه، لم يكن خوفها الأكبر بسبب احتمال أن يفقد الجندي وهو غاضب صوابه وينشب فيها أظافره وأنيابه، وإنما لاحتمال أغرب لا يكاد العقل يصدقه، أن يفقد صوابه ويتعرى أمامها كرجل مثلًا، أو أن ينقض عليها وقد انطلق فيه الرجل الكلب من عقاله ويغتصبها هكذا فجأة، وقبل أن يتمكن أحد من الدفاع عنها، بل حتى قبل أن تتمكن هي من الدفاع عن نفسها.
أيام لا تستطيع حصرها، لا لكثرتها أو لقلتها، ولكن لأنها كانت مجرد يوم واحد متصل طويل، تذهب فيه إلى العمل متمنية أن يكون كل شيء قد تغير، والوضع كالكابوس مر وانتهى، وبهذه الروح تدخل المصلحة في خفة وتحيي خفاجة بابتسامة واسعة وتعرف أنها مبكرة أكثر من اللازم وأن أحدًا من زملائها لم يحضر بعد، فتجلس تنتظر التغير الذي تتمناه وتترقبه، محاولة أن تستشفه من طريقتهم في قول: صباح الخير، ومن الثامنة والنصف يبدءون في الحضور، ومن أول الباشكاتب إلى محمد الجندي آخر القادمين تخرج التحية فاترة لا روح فيها ولا طعم، هذا إذا لم يتشاغل بعضهم عن قولها أصلًا، لا تغيير! وكأنها هي التي أذنبت وكأنهم ليسوا هم المخطئين، وتمضي الساعات بطيئة ساكنة تكاد تكون كالقوارب في بحر لا هواء فيه … لا تتحرك، وهي تعاني من شعور غير المرغوب فيه الحساس للكلمة، أي كلمة حين تُقال وأي كلام لا يُقال، قلقة تغادر مكتبها كل خمس دقائق مرة تجوب المصلحة وتزور الزميلات، وتدهش حين يُحادثها الموظفون الآخرون حديث النِّد للنِد البريء إلى البريء ولكنها تعلم أنه حديث إلى حين … ففي الحجرة مشكلتها، وعبث ذلك الحل الذي تحاول العثور عليه لدى الآخرين، كانت قد اشتهرت في المصلحة ﺑ «البنت القنزوحة بتاعت التراخيص» صفة كانت تحنق عليها علنًا وتُعجب بها سرًّا، وتعمل على أن تظلَّ محتفظة بها، ورغم إحساسها أن كثرة التجوال في الحجرات والمكاتب والحديث إلى مَن هبَّ ودبَّ يذهب عنها المكانة الخاصة التي تحتلها، إلا أنها كانت لا تملك منع نفسها من الحديث والتجوال لتعود منهكة بعد رحلاتها المتعاقبة إلى الحجرة، وكأنما بإرادتها تعود تسجن نفسها بين الوجوه الأربعة التي تبدو لها أسمك من الجدران، سجن وإن كان يضايقها إلا أنها تأبى في أعماقها أن تتخلص منه … فبمثل رعبها من غضب الجندي وزهقها من الزمن الساكن المتوقف ورغبتها المتأججة أن تعرف ما يدور في أعماق سجانيها الأربعة … بمثل هذا وأكثر منه كانت مستعدة لأن تحتمل الضيق الخانق إلى أقصى مدًى، فقط لكي تعرف ماذا سيحدث بعد هذا أو ماذا يمكن أن يحدث؟ شغف كالشغف العارم لمعرفة نهاية قصة بدأت فجأة وسرعان ما ركدت أحداثها وتوقفت، ولكن لا بُدَّ أن هناك نهاية لها، لا بُدَّ.
•••
وربما لهذا السبب تضخم إحساسها بيوم الأحد وتضاعف ترقبها له، هي التي لم تُعره أول الأمر عناية ما، وحين ذكر الخبر أمامها ودُعيت لم تحفل لا بالخبر ولا بالدعوة، ولا خطر لها احتمال أن تفكر في الذهاب، فما أهمية أن يكون ليسرية زميلتهن المعينة مساعدة لأمين المحفوظات عيد ميلاد يحل يوم الأحد، وتهتم به اهتمامًا يدفعها إلى التفكير في حفلة وإلى دعوتهن؟ ما أهمية شيء كهذا؟
اليومان التاليان كشفا عن أهمية غير عادية للحفلة كانت ستضمهن جميعًا هن الخمس، ولأول مرة سيجمعهن مكان مغلق خارج العمل وبعيدًا عن أسماع المصلحة والموظفين، وسناء كانت قد بدأت تؤمن أنها وحدها ليست نِدًّا للموقف، وصحيح أنها كما وعدت لن تتحدث في موضوعها بالذات، ولكن ربما تحدَّثت أخرى، وربما تناقشن جميعًا، ربما صدرت عن إحداهن كلمة قد تضيء كفنار النجاة لها الطريق.
وكادت تندم على حضورها وعلى كل الآمال التي علقتها، فبعدما انقضت ساعة في بهجة مصطنعة، وكأنها تقليد غير متقن لماركة بهجة حقيقية لا بُدَّ موجودة في مكان ما على سطح الأرض، وضحك في فشله التام للتعبير عن المرح تكاد تضحك عليه، آن لهن أن ينفردن بأنفسهن وقد ذهبت القريبات والصديقات اللدودات كلهن ما عدا واحدة داعرة القهقهة والنظرات أصرَّت على البقاء، وحين بدأن يتحدثن عن المصلحة والعمل حديثًا تافهًا أول الأمر يتناول وجهة نظر كل منهن في هدوء هذا الموظف أو ذاك، وفلان ده يا ختي عليه، عليه حتة طابع حسن يجنن.
بدأت الصديقة أو القريبة — لا أحد يعرف — تعلق من عندها هي الأخرى تعليقات داعرة كأنها صادرة عن امرأة كشفت عن نفسها كل حجاب، متسائلة بشغف المحرومة عن إحساسهن «الجسدي» بزملائهن الموظفين، مبدية اشمئزازها من خيبتهن وكسوفهن الذي لا يليق بموظفات مثلهن يقبضن كالرجال الماهية في «آخر الشهر»، وكأنها لا ترى في العمل سوى طريق مختصر إلى الرجل أو «الذكر» في الرجل، منطق بدا لهن، حتى لبهيجة صاحبة «القصة» والضحكة واللبانة مثيرًا للغثيان. والغريب أن تشترك بهيجة بالذات معهن في الشعور، فقبل بضعة أسابيع كانت يكاد يكون لها في العمل نفس الرأي، بل لِمَ لا نقول إنه السبب الحقيقي لبحثها عن العمل وتفتيشها عن الوظيفة … كأنما كانت تفتش عن حظيرة للرجال هم موجودون فيها بمختلف الأنواع والأشكال والأحجام بحيث تصبح كل مشكلتها أن تختار؟ ماذا حدث حتى أصبحت مشكلتها بعد بضعة أسابيع من الوجود بالحظيرة، ومن الاحتكاك بالرجل في مجال الوظيفة، وبعد موعد أو اثنين خرجت فيهما بلا حماسٍ كبيرٍ مع زميلين لها … ماذا حدث وأنساها هدفها الأساسي، وفقد الرجل طعمه القارص الأول وبدأت تجد له في نفسها مذاقًا جديدًا لا يلدغ، ولا يجعل جسدها يقشعر، ولا يصيبها بأيِّ إحساس يمت إلى الجنس أو الجسد بصلة؟ وأصبح كل ما يعنيها في الحظيرة أن تعرف من هو الرئيس من المرءوس ومن صاحب المستقبل، إذ هناك في مؤخرة عقلها المغامرات قد تغيرت بقدرة قادر إلى مشاريع، كانت مشاريع — لدهشتها — زواج … زوج تختاره بعقلها المجرد عن الهوى وبوعيها المجرد عن الشعور، بل في أقل من شهر تطورت مشاريعها تطورًا آخر وأصبح همها لا أن تسعى «للترقي» عن طريق اختيار الزوج الأرقى في الوظيفة والمستقبل، وإنما للترقي عن طريق أن تترقى هي وتحتل الوظيفة التي يتنافس على خطبة صاحبها المتنافسون، ولا بأس هنا من استعمال كل الطرق وأي الطرق على الوظيفة الأحسن، بالعمل المتواصل لكسب رضاء الرؤساء، بالشكولاتة أو البونبون أو بأنوثتها حتى، أي تطور أصابها هي التي ذهبت تفتش عن الرجال في العمل «لإشباع» أنوثتها، فانتهت في أقل من شهرين إلى التفتيش عن العمل ونتائج العمل في الرجال، حتى لو اضطرها الأمر «لاستعمال» أنوثتها وجعلها وسيلة للوصول، في ذلك الميدان الجديد الذي اكتشفت في حظيرة الرجال وجوده؟
وحتى فيما وصلت إليه كانت تعليقات السيدة الجالسة واضعة فخذًا فوق فخذ تتحدث عن كل ما هو «عيب» بانطلاق زائد، وكأنما هي العالِم المُتبحِّر يطرق موضوعه المفضل … السيدة الغريبة التي استنكرت حين سألتها إن كانت تشتغل — مجرد السؤال — باعتبار أن العمل «عيب» لا يليق بالسيدة الفاضلة أن تترك بيتها لأجل أن تزاوله … السيدة التي تفخر بأنها «ربة بيت» وتلتقط مواقف العيب لتخوض فيها وتتوسع، معتقدة أنهن ما دمن يرتكبن العيب الأكبر ويعملن فلن يمانعن قطعًا في مزاولة العيوب الصغرى مثل الحديث عن العيب والنكات والقفشات العيب.
كلمات كانت وجوه البنات تخضر لها كإشارات المرور وتصفر وتحمر، ويشعرن لدى سماعها أن مسافات شاسعة الطول قد حملتهن بعيدًا عن عالم «حريمي» آخر قائم وعتيد، وكن إلى أسابيع قليلة مضت من رعاياه وعبيده … عالم المرأة فيه في نظر الرجل، وبصراحة قد تجرح في نظر نفس المرأة أيضًا عيب متجسد يرتدي الفساتين ويتجمل بالمساحيق، وكل رغبة لها أو مطلب تحمل في ثناياها وصمة عيب أبدية … خلقت عيبًا وستظل إلى يوم مماتها عيبًا، تلك هي الحقيقة الوحيدة الراسخة في عالم الحريم والرجال الذي كن يحيين فيه، وكل ما عداها من حقائق لا يفعل أكثر من أن يؤكد تلك الحقيقة الكبرى ويعمقها، من أسابيع قليلة مضت خرجن من عالم العيب هذا إلى عالم اللاعيب اللاخطأ، عالم اللارذيلة، عالم الرجال، خرجن من عالمٍ كلُّ ما فيه ومن فيه حرام إلى عالم كل ما فيه ومن فيه حلال، ولا تستغرق وقتًا كبيرًا لتكشف أنها نوبة في الأرض المحايدة، في العمل، حيث لا تسري قوانين البيت والمجتمع، حيث لا تسري قوانين الأخلاق، حيث القانون الوحيد المطاع هو قانون العمل، حيث الخطيئة الكبرى لمن لا يعمل. بضعة أسابيع أتاحت لهن أن يرين الرجال ويرين أنفسهن — لأول مرة — متجردين ومتجردات عن العيب واللاعيب، عن الحرام والحلال، بدأن بعدها يقتنعن أن للحياة قوانين أخرى وأحكامًا تختلف عن الأحكام الأزلية اختلافًا شاسعًا كبيرًا، كبر المسافة الكائنة بينهن وبين السيدة الجالسة واضعة فخذًا فوق فخذ تتحدث بفخر الأسيرة بآسرها، والعبدة بسيدها ومحور حياتها، عن العيب.
ويبدو أن السيدة قد أخذت وقتًا طويلًا تضحك فيه ببحبحة وتسخسخ فيه بإرادتها لدى ذكر الرجال وعالم الرجال، قبل أن تُدرك أن الأخريات لا يشاركنها، وبمعنى أصح يتفرجن عليها تفرج المشمئز.
ودون أن تخجل أو تؤنب نفسها قالت: ده انتو الظاهر جد أوي، دانا مش بتاعت كلام من ده، أنا ست بتاعت حظ وفرفشة وانتو باينكم خام أوي أوي، لا، اسمحيلي يا ختي يا يسرية أصلي أنا ما استحملش الجد أبدًا، بيعمل لي ارتكاريا يا حبيبتي وأنا مش ناقصة هرش، عن إذنكم.
وكأنما انزاح عن صدورِهنَّ همٌّ ثقيل أو كانت السيدة رجلًا يخجلن من الحديث أمامه، والتشبيه ليس من عندي، لقد جاء على لسان سناء وهي تشيع المرأة وتكاد تسمعها الكلمات … تشبيه ضحكن له، وما لبثت «نور» خريجة التجارة أيضًا وكاتبة الآلة في السكرتارية أن علقت عليه قائلة: أهو احنا دلوقتي لا احنا ستات على ناحية ولا رجاله على ناحية، زي ما نكون عملنا جنس تالت.
فقالت سناء: ما هو لازم يحصل كده! ما احنا ستات إنما بنقوم بعمل رجاله، زي الرجاله لما بيقوموا بشغل الستات … زي الترزي اللي بنفصل عنده وزي الأسطى إبراهيم الكوافير … مش تلاقوهم برضه ستاتي شوية … نواعمي كده؟
ثم أضافت ضاحكة: زي احنا ما ابتدينا نخشن شوية.
ولكن مجرى الحديث تغير فجأة، مالت نور على يسرية وقالت لها شيئًا، رفعت يسرية بعده صوتها في شبه صرخة: يا نهار أبيض، وعندنا كمان!
– إيه هو اللي عندكم؟
ورسمت نور بإبهامها وسبابتها مصطلح «الفلوس» وقالت سناء: في السكرتارية كمان؟ أنا كنت فاكرة عندنا بس.
وهكذا، وبانزلاقة فجائية وجدت سناء أنها وزميلاتها قد أصبحت فجأة في قلب المشكلة.
ولا تدري لماذا أحسَّت بكلِّ تلك الفرحة الطاغية التي اجتاحتها لمجرد علمها أن قسم التراخيص ليس هو الوحيد الذي يقوم بالعمل الآخر الثاني.
وشهدت الغرفة الصغيرة التي كانت مسرحًا للاحتفال المتواضع أكثر من خبطة على كف، وارتعاشات يد علامة البراءة والاستنكار، بينما الصدور تتهيأ وكأنها مقبلة على سباقٍ لتقص كلٌّ منهن على الأخريات أغرب وأعجب واقعة رأتها في حياتها.
وبعد قصة من نور وأخرى من نجاة بدأن يدركن أن قصصهن متشابهة إلى حدٍّ بعيد، وأن لا غرابة إلا في أنها حدثت لكل منهن على انفراد، وإلا في أنها صادرة عن جنس غريم آخر.
هنا كففن عن الحكي وإصدار آهات الدهشة والاستنكار، وبدأت تظهر على الواحدة منهن إذا تحدثت علامات دالة على تفكير، فالحديث كان قد اتخذ وجهة نادرًا ما يتخذها حديث النساء عن الرجال، إذ هو لم يكن يدور عنهم كرجال، وإنما عنهم كأكلة عيش، وعن الوجه الآخر لعالمهم، عالم المسئولية وأكل العيش … العالم الذي أقاموه واحتكروه واحتفظوا بمفاتيح أسراره، العالم الذي تكفل بصبهم في قوالبهم وتكوين أمزجتهم وصنع هياكل شخصياتهم وقيمهم، قالت نجاة: عندنا محمد أفندي راجل زي أولية الله تمام، حاجج مرتين وطول النهار السبحة في أيده وطول النهار يكلمنا عن اللي يصح واللي ما يصحش، والمصيبة أنه مش بيدعي، ده جد تلقيه كريم وعنده نخوة وشرف ونبل، آخر شرف ونبل! وأعرف لك بعد كل ده قال إنه بياخد على كل استمارة جنيه، معتبرها عيب وكل حاجة، إنما يقول لك على رأيه: هادي نقرة يا ولد عمي وهادي نقرة.
– ونروح بعيد ليه؟ رئيس الإدارة بتاعتكم يا سناء راجل بيلعب بُوكر بدينه، وقال إيه قبل ما يلمس الورق لازم يقرأ الفاتحة.
وتدخلت نور صاحبة الحفلة: طيب أنا بعيني بقى شفت الحكاية دي، الراجل اللي ساكن تحتنا ده موظف في شركة، لو كنتم هنا امبارح كنتو سمعتوا الصراخ جايب من آخر الشارع وكل يوم والتاني مولد بالشكل ده، وعلشان إيه ده كله؟ حضرته بينزل ضرب في ابنه لما بيجي متأخر من بره، ومتأخر دي عنده يعني بعد الساعة عشرة، كويس كده؟ إيه رأيكم لينا واحد قريبنا بيشتغل معاه لما سمع الحكاية دي مات م الضحك، وقال: مش معقول ده، أي حد تاني معقول، إنما الراجل ده بالذات … ده معروف عنه زي الشمس إنه بيورد الستات لكل الموظفين الكبار في الشركة.
– ومستغربة ليه؟ هادي نقرة يا ولد عمي وهادي نقرة.
وارتفعت ضحكاتهن عالية، وما لبثت سناء أن قالت مواصلة نغمة السخرية: الظاهر الرجالة دول عندهم لكل مبدأ دوسيه … الشرف في بيته غير الشرف في عمله، والحرام في الليل غير الحرام في النهار، والفضيلة ما تمنعش الرذيلة، كله موجود مع بعض في حالة تعايش سلمي.
ثم اعتدلت جادة لتكمل آراءها «الفلسفية» بقصة حقيقية عن رئيسها عم صفوت أفندي، الرجل الذي هدهد عليها كالأب وحاول أن يقنعها باقتسام الرشوة، والذي لا تخلو جملة من جمله من حديث شريف أو آية قرآنية.
– من يومين كان صفوت أفندي يحكي لي كيف اكتشف مرة أن مع ابنه الصغير إصبع طباشير ملون، سأله عن مصدره فتلجلج، وحقَّق معه فعرف أنه أخذه من صندوق الطباشير في حجرة الرسم دون علم المدرس … وكيف ظلَّ ساعة يشرح له خطأه ويُوضِّح له الجريمة التي ارتكبها، وكيف أمره في النهاية أن يذهب في الغد إلى المدرس ويعترف له بما حدث، ويرد الأصبع، وكيف لم يفعل الولد، وكيف ضربه وأخذه من يده في الصباح وذهب معه إلى المدرس، وجعله يعترف للمدرس أمامه بما فعله ويطلب الصفح والمغفرة، قصة من فم عم صفوت أفندي حكاها عرضًا ودون أن يكون له من وراء حكايتها هدف، وعم صفوت أفندي هذا لا يجد عيبًا أبدًا في الحصول بطريقة غير شريفة بالمرة على نقود تشتري آلاف أصابع الطباشير؟
وأنهت سناء قصتها قائلة أنها لا تزال إلى الآن حائرة مع صفوت أفندي لا تعرف كيف تحكم عليه … إذ ما الحكم على نفس الشخصية والمنطق والعقل حين تنهَى عن الشيء بحرارة وصدق حقيقيين في نطاق، وبحرارة وصدق ترتكبه في نطاقٍ آخر؟ كيف تحكم عليه؟
وبدأ الحديث يتعثر وقد استغرقتهن جميعًا تأملات، وبدأ الحديث يأخذ شكل الأحكام … أحكام تدين الرجال وتشمئز من عالمهم المنقسم على نفسه، وذواتهم التي تحيا بمائة وجه ومنطق، وأحكام أخرى تصدر وتحاول أن تجد العذر وتغلفها صاحبتها بكلمة عطف، والجميع يسيطر عليهم الشعور بأن هؤلاء الرجال وإن كانوا أكثر منهن خبرة وقدرة، إلا أنهن ها هن يكتشفن أنهن أكثر منهن قذارة أيضًا، وأنهن بعالمهن قد يكن أكثر تخلفًا وضيق أفق، إلا أنهن أيضًا أكثر نظافة.
– المسألة مس مسألة قذارة ونظافة يا جماعة.
– أمال المسألة إيه يا نجاة؟
استدرن إليها متسائلات، إذ كن بدأن يعين أن نجاة دأبت منذ بدء الجلسة على الدفاع بعطف ولباقة عن عالم الرجال المزعوم ذاك.
ورمقتها نور بنظرة ماكرة مستكشفة قائلة: سيبيكي إنتي تلقيهم غمزوكي بحاجة.
قالتها نور شبه هازلة، وبهزل أيضًا ضحكن عليها، نجاة وحدها هي التي أخذتها — لدهشتهن — جدًّا، وما إن راحت تدافع عن نفسها وتستنكر وتبالغ في إبداء علامات النفي والاستنكار حتى بدأن يخمن شبه مروعات أنها تكذب، وأن عالم الرجال والأخلاق وأكل العيش من الواضح أنه قد نجح في ابتلاع واحدة منهن، على الأقل واحدة.
خسارة يا نجاة.
•••
كان المفروض أن نتتبع سناء بعد خروجها من الحفلة وهي محملة بمزيج متباين من الانفعالات، إذ كانت رغم كلِّ شيءٍ قد سعدت بالحفلة واجتماعها بزميلاتها وكسر الروتين الذي يخطط حياتها تخطيطًا صارمًا غير مسموح لها أن تخرج عليه فتاة من المدرسة للبيت، ومن البيت للمدرسة، وحين انتهت أيام الدراسة وجاءت أيام الوظيفة استمرت الحلقة المفرغة أيضًا مع استبدال المدرسة بالمصلة، وكل ما تسمح به ظروفها من ترفيه أن تدخل السينما مرة كل أسبوع أو أسبوعين مستصحبة أخاها الصغير أو إحدى قريباتها، وحياتها العاطفية لم تزد كالعادة عن غرام صامت مع ابن الجيران أيام أن كانوا يسكنون شبرا، ثم تلك المغامرة الفاشلة الأخرى أيام المعهد … أيام أن كانت صديقتها الصدوقة كوثر تحب، وكانت تستصحبها معها للقاء حبيبها الطالب في كلية الطب البيطري، حين وجد الحبيب أن خير حل للانفراد بكوثر أن يأتي معه بصديقه عمر الطالب بكلية دار العلوم، الذي يشبه — رغم أنه من ميت غمر — مشهور السينما مارلون براندو، أو على الأقل هكذا كانت تصر العزيزة كوثر، ويُشبهه أو لا يُشبهه فقد أحبَّت فيه خجله الشديد إلى درجة أنهما قضيا ثلاثة أشهر يلتقيان ويقطعان شوارع القاهرة الجانبية سيرًا دون أن يلمس يدها، بل حتى دون أن يذكر كلمة واحدة تدل على شعوره ناحيتها، ورغم هذا فالصخرة التي تحطم عليها حبهما كانت الحب، ليس ممارسة ولكن كنقاش، إذ ظل هذا الخجول الطالب بدار العلوم شبيه مارلون براندو الذي لم يجد في نفسه الشجاعة يومًا لأن يزحزح حدود النصف متر الذي كان قائمًا كحدٍّ أدنى لأي مسافة بينهما، ظل يناقشها ليقنعها «بحب الجسد» باعتباره النوع المثالي للحب، بينما ظلت تصر هي على «حب الروح» وتتمسك به، وانتهى النقاش وقد انقطع كلُّ ما بينهما من علاقات كانت بينهما.
وهناك تلك الحادثة الغريبة التي جرت لها مع زوج خالتها الشاب حين جاء لزيارتهم فوجدها وحيدة في البيت، ودون أن تدري وجدت القرصات والضغطات والكلمات الهامسة التي كان يخصها بها كلَّما أُتيحت له الفرصة في أثناء زيارة عائلية أو من تحت طرابيزة سفرة … وتأخذها هي على محمل يمكن التغاضي عن براءته لزوج الخالة، حين وجدت هذه فجأة تتحول من علامات مبهمة قابلة للشك وغفران الشك إلى واقع فاجر سافر، وهي فيه بين ذراعيه القويتين اللتين أطبقتا عليها غدرًا، ولكن لا المفاجأة ولا الإطباقة ولا السرعة التي حدثت بها الحادثة كانت السبب في رعبها، الرعب الذي اجتاحها وشلَّ إرادتها وجعلها تناضله مناضلة النائم في كابوس لا يخرج عن حلقه صوت ولا يملك رفع أصبع … هذا الرعب كان لسبب أكبر وأخطر، إنه زوج خالتها المحرم عليها، والمحرمة هي كأمه كأخته كخالته، الرعب أن يسجل رجل لنفسه — أي رجل — مهما كان سيئ السُّمعة والأخلاق مثله، أن يفكر مجرد تفكير في الشيء الذي لم يفكر فيه لحظتها، وإنما كان يفعله.
وصحيح أن ما حدث، وبالطريقة المجنونة الشاذة التي حدث بها لم يكن قد أفقدها — عدا الإهانة — شيئًا يُذكر، إلا أن الحادث كان أبشع وأضخم حدث مرَّ بها إلى تلك السن في حياتها، لقد ظنت أنها أبدًا لن تعود سناء التي كانتها، وإن تلك العاصفة الآثمة الهوجاء سوف تجعلها تُكفِّن نفسها إلى آخر الزمن في ثياب حداد تام.
ولكن، وهذا هو الغريب، لم تتوقف الحياة بسناء كما كانت تظن عند هذا الحدث، ولا تكوَّنت لها، مثلما يحلو لبعض الكُتَّاب والخبراء المزعومين في النفس البشرية، عقدة، فلا هي خافت من الرجال ودفعها الخوف إلى الانطواء ونبذ الدنيا ومتعها والتقوقع، ولا هي أُصيبت بالعقدة الأخرى واندفعت تحت تأثير هذا الاتصال العيب المحرم في طريق الانحلال ونبذ القيم، لا شيء من هذا قد حدث، فهناك عامل نسيته سناء يومها وينساه بعض الكُتَّاب وخُبراء علم النفس في معظم الأحيان … الزمن! ليس الزمن المجرد ولكن الزمن والإنسان، والأيام وهي تقبل بيضاء وتغادرنا ماضيًا ممتلئًا بالأحداث والذكريات، ونستقبلها في مرحلة ونغادرها وقد أُضيف إلينا الزمن وتكوَّن من خليطنا — منا ومنه — مزيج حي كائن جديد آخر غير الذي خاض التجربة.
الحدث الهائل كان حدثًا هائلًا بالأمس لأننا كنا نحياه ونواجهه، أما وقد مر بنا فقد أصبحنا جزءًا من تاريخه كما أصبح هو جزءًا منا، نتوءًا هنا أو أثرًا لجرح هناك … أثرًا لا يختلف عن بقية كياننا وجسدنا إلا في اختلاف لونه وبروز سطحه، والألم الذي يصدر عنه إذا نحن بوعي لمسناه.
أو قد يحول إلى شيء آخر بوظيفة أخرى، مثلما حدث لسناء، فرغم نوبات الضيق الشديد والاستنكار والتقزز التي كانت تنتابها كلَّما رأت زوج خالتها أو جاءت سيرته — وأحيانًا بغير أن تراه أو تأتي سيرته — رغم هذا فلن تستطيع أن تُنكر على نفسها أن شيئًا فيها قد استجاب ووافق وارتعش لتلك التجربة الأولى التي صممت أن تكون الأخيرة، والتي في أحيان قليلة جدًّا، خاصةً في ليالي الصيف، كانت تجد نفسها رغمًا عنها تفكر فيها وبطريقة تزعجها للغاية، إذ تفكر وكأنها تتمنى أن تعود التجربة بشرط أن يتغير البطل، وبشرط أساسي ثانٍ … أن يحدث كل شيء كما حدث في المرة الأولى، بغير إرادة منها … هكذا … عنوة واغتصابًا.
وكذلك لم تكن تجارب سناء قد توقَّفت عند هذه التجربة الغريبة اليتيمة، ولا ظلت طويلًا مثلها مثل يوم عرض الرشوة من محمد الجندي «أبشع وأضخم» حدث في حياتها، تلك الفتاة السمراء المسمسمة التقاطيع الجذابة المؤدبة، ظلت تجرب باستخفاء كثير ومن بعيد لبعيد وبتورط أحيانًا وبفضائح محدودة الانتشار في أحيان، ولكنها دائمًا في وسط الحياة — ودائمًا داخلها يحفل بالنوازع والعواطف والأحياء — دائمًا هناك مرشح للزواج من قِبل الأهل ومرشح للحب من قِبلها، فإذا فشل المرشح والمشروع بعد أيام تبدو في الأفق رائحة آخر وآخرين، ونيران تنهش صدرها للعريس اللقطة إذا طار، والعشق الصامت طالما أرق لياليها، وأقربها ذلك الإعجاب الخفي الذي تكنه لزميلها في المكتب أحمد الطويل … الإعجاب الذي لا يفصح عن نفسه إلا بأمنية أن تحدث معجزة لتنقل مكتبه مكان محمد الجندي في مواجهتها.
ورأسها الصغير رغم شعرها الناعم الغزير مليء بالأحلام أيضًا باقتناء الملابس الفاخرة الأنيقة، بحياة الثروة والغنى، بالطموح، أحلام تتغير هي الأخرى وتتجدد … إذ بينما كانت تحلم في العام الماضي بجوانتي من الجلد الفاخر المبطن بالفرو، في هذا العام هي تحلم بأن تبلغ في وظيفتها شأوًا ومرتبًا تستطيع أن تدفع منه أقساط عربة نصر ١١٠٠ وتسوقها وحدها وتفسح أمها وتذهلها بها، وكل هذا رائع وجميل وليس أسهل من ملء الصفحات به، فسناء وحياتها ونقاط حياتها إذا تُقاس بالحياة، تكون إذا أردنا ذكرها بالتفصيل ملايين الأشياء وملايينها، حتى لو نحن فقط تتبعنا سناء من لحظة أن غادرت حفلة بهيجة زميلتها، عن عمد سنغفل أشياء كثيرة؛ حتى لا نفقد في غمارها ذلك الخط الواهي الدقيق الذي يحدد لنا مجال حركتنا خلال القطعة الصغيرة من بحر الحياة الزاخر التي اخترناها.
وآجلًا أم عاجلًا كنا سنصل إلى يوم الأحد التالي الذي ذهبت فيه سناء إلى المكتب وقد قضت ليلة من أتعس لياليها، يوم لن تنساه أبدًا، فقد كان الأحد وغده الاثنين يوم امتحان أخيها، ذلك الذي عليه فيه قبل أن يدخل الامتحان أن يدفع المصاريف ويأخذ الإيصال، وبدون هذا الإيصال لا دخول ولا امتحان.
لم تكن أول الحاضرين كعادتها في الفترة الأخيرة … وصلت فوجدتهم جميعًا جالسين إلى مكاتبهم بنفس أنهكها التفكير ودبل خضرتها، حيتهم وجلست وقد عقدت العزم على أن تنتهز أي فرصة تلوح لتروي لهم كلَّ شيء، ولتطلب منهم — هكذا ودون خجل أو تردد — أن يجدوا لها حلًّا، يومها كانت مستعدة أن تقتل أو تسرق أو تصنع أيَّ شيءٍ في سبيل أن تحصل لأخيها على قيمة القسط، فليلة الأمس بكى … لأول مرة تراه منذ أن كبر يبكي كما كان يفعل وهو طفل، كانت تتناقش مع أمها في كيفية الحصول على النقود، وطرقا بنقاشهما كل الأبواب والاحتمالات دون جدوى، حتى بات واضحًا أن النقود لن تأتيهم إلا إذا فتح الله سبحانه سقف حجرتهم وأسقط لهم من خلاله قيمة القسط، وكان النقاش قد استغرقهما إلى درجة نسيا معها أن أسامة موجود بجوارهما، ولم يفطنا لوجوده إلا حين سمعتا بكاءه والتفتتا لتجدا دموعه تلمع بكثرة فوق وجهه، وخيبة الأمل مرتسمة بصورة واضحة تنطقها رغم طفولتها الخرساء ملامحه، مس مَرْآه هكذا شعور سناء مسًّا سريعًا حاسمًا داميًا كقطع المشرط، ولحظتها صدر عن كل ذرة من كيانها قسم تلقائي مفاجئ غير منطوق ودون أن تعي أو تريد، قسم أنها لا بُدَّ واجدة حلًّا … لا بُدَّ صانعة المستحيل وما هو أكثر منه كي لا يذرف أسامة دمعة أخرى، أو ترتسم على وجهه هذه الصورة الخرساء لخيبة الأمل.
وأصبحت الساعة العاشرة دون أن تحين الفرصة، ودون أمل حتى أن تحين فرصة، وأمل سناء قد أصبح مركزًا كله في هذه الساعات القليلة التي ستقضيها بالمصلحة، إذ ما لم تنجح في الوصول إلى حلٍّ قبل الساعة الثانية فقد انتهى كل شيء، حقيقة لمحت من كثرة المرات التي ضبطت فيها عيون زملائها وهي تحدق ناحيتها، أنهم لا بُدَّ أدركوا أنها في حالة غير عادية، ولكن أحدًا منهم لم يتعدَّ في اهتمامه بحالتها أكثر من مجرد النظر، أليس فيهم رجل أوتي ذرَّة من نخوة يستطيع أن يُلقي إليها سؤالًا … مجرد سؤال؟ هل أصابهم العمى والعته؟
كان الزمن على عكس عادته يمضي بسرعة خارقة، فما أسرع ما أصبحت الساعة العاشرة والنصف، مضت ألف وثمانمائة ثانية دون أن يجدَّ جديد.
ولكن في تلك اللحظة بالذات جدَّ جديد … فُتح الباب ودخلت نور، بنت حلال حقيقة يا نور، جئتني في وقتك! حيتهم نور واتجهت إلى سناء تحييها التحية الخاصة، وتنتظر سناء أن يتحرك محمد الجندي الكلب ويصنع مظاهرته المعتادة، أو حتى حين تريثت وردت تحية نور بطريقة مهمومة مكروبة أن تسألها نور عما بها بلا جدوى، لكأنما هناك مؤامرة أو لكأن الجميع يعرفون المأزق ويتركونها عن عمدٍ تختنق وحدها به، انتظرت سناء السؤال المعتاد من نور عما فعلوه لحلِّ مشكلة مصاريف أخيها؟ ولم يأتِ السؤال، كل حديث نور انصب على مباراة الأمس بين الزمالك والأهلي، وكيف أنها لو كانت رجلًا لنزلت إلى الملعب وضربت الجناح الأيمن للزمالك — ذلك الذي ضيع المباراة على فريقه — علقة ساخنة، ومن المباراة استطردت تتحدَّث بلا مناسبة عن تليفزيونهم الجديد الذي حلَّ موعد تسلمه اليوم، وكيف أنها ستخرج مبكرة، وقد عهدت إليها الأسرة بمهمة إحضاره و… وبدأت نور في تشطيب الحديث والتحرك حركات القلق فوق مقعدها علامة التهيؤ للرحيل، دون أن يبدو عليها أنها تذكرت أو في سبيلها لتذكر السؤال، أكثر من هذا غادرت المقعد فعلًا وقالت: أسيبك بقى … باي!
وكاد الأمل الذي علَّقته سناء على مقدمها أن يخبو تمامًا وينطفئ، بل خبا فعلًا وانطفأ، حينئذٍ لم تستطع الصبر، وانطلقت الكلمات مستغيثة من فمها: اسمعي يا نور.
والتفتت نور، وأشارت لها سناء أن تعاود الجلوس وقد بدا واضحًا أن ثمة شيئًا هامًّا تريد إخبارها به، وحتى حين فعلت ذلك كادت نور تعتذر محتجة بأوراق عاجلة عليها أن تعرضها حالًا، غير أن سناء كانت قد قررت ألا تتراجع، وهكذا ظلت تلح حتى عادت نور تجلس جلوسًا على مضض، وكانت سناء تتوقع من كثرة ما دأبت نور على سؤالها واهتمامها بالمشكلة أن تفزع، أو على الأقل تندهش، حين تندفع وتروي لها الموقف الفاصل الرهيب الذي صار إليه الوضع، ثم إنها حرصت على أن تروي الموقف بكلِّ تفاصيله بصوتٍ عالٍ كأصوات الخطباء لا يصل فقط إلى آذان زملائها، ولكن يخترقها اختراقًا وينتزعها من أيِّ عمل، ولقد روعت سناء للنتيجة، فقد استمعت نور باهتمام مصطنع … حتى وسناء تتوقف عند دموع أسامة وتسهب في وصف وقعها على نفسها لاحظت أن نور رغم اهتمامها الظاهر سرحانة، بل حتى حين جابت الحجرة وأركانها الأربعة بطرف خفي من عينيها لم ترَ واحدًا ترك عمله واعتدل، أو ترك اعتداله وانتبه، أو حاول بسؤال أو استفسار أن يصبح طرفًا ثالثًا في الحديث.
– والنبي زعلتيني يا سنسن … وانتي عارفه وحياة ماما أنا لو كان معايا القسط ما كنت اتأخرت، إنما ضروي حتلاقي حل إن شاء الله، عن إذنك بقى لحسن المفتش زمانه مشي وتبقى وقعتي سوده.
وقبل أن تنطق سناء كانت نور قد اخترقت الحجرة جريًا وخرجت من الباب.
والتفتت سناء إلى الزملاء فوجدتهم ولا كأنهم هنا، ولا كأن أحدًا سمع أو رأى.
وتسمرت في كرسيها وقد دهمها الشعور الضاغط القاهر الذي لا بُدَّ ساور كلًّا منا في لحظة من حياته … الشعور بأنها وهي وسط الدنيا المزدحمة بالناس والأصدقاء والأقارب والمعارف وحيدة منبوذة كأنها مريض مصاب بالجذام أو خاطئة يتبرأ الكل منها … الشعور الذي يجعلنا نرثي لأنفسنا رثاءً يدفعنا — حتى أقوى الأقوياء منا — للبكاء.
ولكن شعور سناء كان واضحًا مكشوف الوجه صاعقًا إلى درجة حرمتها حتى من نعمة البكاء، بل دفعها إلى القيام بعمل لم تكن تتصور ولو في الأحلام أن تقوم به، إذ وجدت نفسها بعد قليل تذهب إلى صفوت أفندي وتلح عليه أن يفرغ لها قليلًا، ثم تحكي له المشكلة وتسأله إن كان لديه حل، وكالقاضي الذي لا أثر للعواطف في كلماته يفهمها الرجل أنه لا يملك لها أي حل، وحتى السلفة على ماهيتها يلزمها إجراءات تستغرق يومين على الأقل، وسكت بينهما الحديث باستغراق متعمد آخر من جانبه في العمل تاركًا إياها واقفة غير قادرة حتى أن تقرر ما إذا كان باستطاعتها أن تعود إلى مكتبها وتجلس.
كل ما استطاعت أن تفعله أخيرًا وهي في وقفتها تلك، هو أن تجوب الحجرة بنظرات مستغيثة مسلوبة الروح كانت تدرك أنها الأخيرة، وأنها للتأكد ليس إلا، نظرات مضت تصوبها إلى الجدران والدواليب والمكاتب والوجوه المتعمدة الانكباب على الأوراق، وهي تدق بإلحاح هستيري مجنون … النجدة! النجدة!
ومن كل اتجاه كانت نظراتها تعود بغير أن تعلق بها بادرة استجابة واحدة، وكان رد الوجوه على استغاثتها تمامًا مثل رد الجيران … الصمت المطبق التام.
•••
ولأن المعجزة الإلهية لم تحدث ولا فُتح السقف في الليل وتساقطت منه نقود، فقد جاء الصباح التالي، وليس في البيت سوى الجنيه الذي كان موجودًا ليلة الأمس.
وجاءت الساعة السابعة لتجد سناء قد استصحبت أسامة إلى المدرسة حاملة كل مالية الأسرة، ذلك الجنيه، مؤملة أملًا سخيفًا أن تتنازل المدرسة مثلًا في آخر لحظة عن شرط دفع المصاريف، أو أن تستكتبها تعهدًا أو أي احتمال آخر يعادل في غرابته وبُعده عن الواقع حكاية السقف الذي يُفتح وتسقط منه النقود.
وأتعس ساعة قضتها سناء وهي ترى التلاميذ جميعًا يتهيئون لدخول الامتحان، ويحيون أسامة، وأسامة يخجل من رد التحية، ثم وهي ترى بضعة تلاميذ آخرين قد استصحبوا كأسامة أولياء أمورهم، الذين تجمعوا حول الصراف الذي كان قد وضع لنفسه تختة وكرسيًّا كالمحصل قريبًا من مكان اللجنة، ثم وهي تكتشف أنهم جميعًا سدَّدوا وأخذوا الإيصالات وقبلوا آباءهم علامة الفرحة، وأن أسامة هو الوحيد الذي لن يدفع، وهو الوحيد الذي حين دقَّ الجرس بقي واقفًا بجوارها يراقب زملاءه الداخلين إلى العنابر والفصول ويبكي، ويمنعها بكاؤه من البكاء، ثم تُفاجأ به ينطلق من جوارها راكضًا بأقصى قوته مخترقًا باب المدرسة إلى الشارع إلى حيث لم تعد تعلم.
وبقيت هي وأمها على نار حامية حتى عاد لهما مطأطئ الرأس ذليلًا قرب الظهر … ودون أن ينطق حرفًا خلع ملابسه وارتدى البيجاما ونام.
وبالضبط بعد ثلاثة أيام كان الجرح قد التأم، وأصبح يؤلم فقط حين تتحسسه سناء أو يتعرض رغمًا عنها للمس، ونحن في الحياة لا ننسى ولا تلتئم جروحنا بالاستشفاء أو تغيير الجو أو بالمفاجأة السارة حين تقبل … نحن ننسى الجرح بجروح أخرى طازجة نُصاب بها وتستحوذ على اهتمامنا، وسناء في اليوم التالي وجدت مشكلة تنتظرها وتهددها في وظيفتها وعملها، مشكلة اليوم الذي تغيبته دون إذن ودون حق في إجازة عرضية أو اعتيادية، والحق الوحيد الباقي … الحق في إجازة مرضية كان يلزم للتمتع به شهادة من طبيب تكلفها على الأقل خمسين قرشًا، أو بالدقة سبعة وثلاثين قرشًا ونصفًا، فقد اقتضى الأمر نزهة لأسامة وأكلًا لحلويات وسهرة في سينما، وتصوروا أن هذه الشهادة ذات الخمسين قرشًا كادت تكلف سناء وظيفتها، لولا ما طلت به وجهها من وقاحة وجرأة وألحت على زميلاتها في المصلحة رغم اعتذارهن وتحججهن بآخر الشهر، حتى جمعت منهن ثمن الشهادة خلال يومين من السؤال الدائب المتصل!
وهكذا ما كادت تنجح في دفع هذا البلاء ويُحتسب اليوم من إجازتها المرضية وتتنفس الصعداء، حتى أدركت أنها في خضم ما حدث نسيت اليوم المؤلم تمامًا وأصبحت أقل حساسية لذكره، بل الحق أفاقت لتجد نوعًا من عدم المبالاة قد أصبح يصبغ تفكيرها وآراءها وتصرفاتها، وكانت اللحظة الصاعقة التي عانت فيها من الشعور بأنها مُبعدة منبوذة قد جعلتها هي الأخرى تبدأ تنبذ الناس في تفكيرها وتصرفاتها … لم يَعُد مهمًّا أن تحظى برضائهم عنها، وبين يوم وليلة ملأها الشعور بأنها لا تملك في هذه الدنيا، ولا يجب عليها أن تراعي سوى نفسها، شعور لم يَكُ عميقًا خافيًا … لقد ظهر حتى لزميلاتها وزملائها ولاحظوه واتخذوه مادة لتعليقاتهم.
وكل هذا شيء قد يستطيع العقل هضمه وقبوله، أما الذي لا يمكن أن يستوعب العقل وقوعه فهو ما حدث في ذلك اليوم الثالث حين فُوجئت سناء بمحمد الجندي — وقد خفت في الآونة الأخيرة نوبات هياجه وثوراته — ينظر لها نظرات باسمة لا تصدر على هيئة شعاعات مبتسمة وإنما كأنها تسيل من عينيه لتختلط صفراويتها ولزاجتها بملامحه الشاحبة المفرطحة التكوين، نظرات ذكرتها بأيام العمل الأولى وبمحمد الجندي حين كان يتراءى لها أثقل دم خلق الله أجمعين، وأكثرهم استثارة للاشمئزاز والغثيان، ولكنها، وهذا هو الغريب، لم تجدها هذه المرة كذلك، لا لأن محمد الجندي كان قد تغير في نظرها أو تبدل، ولكن لأنها هي نفسها كانت قد تغيرت، إلى أين وكيف؟ لم تكن تدري، كل ما تعرفه أنها لم تشمئز من نظرات محمد الجندي لها، وربما هذا ما شجعه إلى أن يرفع الدوسيه بعد قليل ويبدأ يهمس لها من خلفه: ازيك يا حلو … والنبي شفايفك دول مجننيني ووحشيني … وحشيني موت حتى وأنا جنبهم طول النهار وحشيني.
لا بُدَّ أن هذا الرجل مصاب بخلل في قواه العقلية، ذلك ما فكرت فيه سناء، لكنه لم يكن حكمها النهائي، فلسبب ما حين اختلطت صورته الحاضرة مع صورته وهو ثائر غاضب يهدر الرجل الكلب الذي فيه وينبح ويرعبها، ما لبث حكمها الأول أن أُصيب بهزة تبعثرت على أثرها كلماته وحروفه وتطايرت، وبقي الأمر في حاجة إلى رأي جديد وحكم جديد، لا تعرف بعد كيف تصوغه أو حتى تحدد قبل صياغتها معالمه … لقد أخذ هذا الرجل من تفكيرها ما لم يأخذه أي إنسان عرفته … تفكير حقيقة كان معظمه اشمئزازًا واجترارًا للاشمئزاز، ولكنه تفكير فيه والسلام، ورغم كل هذا لم تستطع إلى الآن أن تخرج من تفكيرها بنتيجة.
كل الفرق أن سناء لم تجزع ولم تجفل هذه المرة من كلماته، ولم ترغم أذنيها وعينيها على صمم وعمى إجباريين حتى تنفي لنفسها نفيًا باتًّا أنها سمعت أصلًا أو رأت، هذه المرة لم تطرف عيناها ومضت تحدق فيه غير هيابة أو خجلة، وأغرب ما لاحظته — الشيء الذي كاد يفقدها الوعي — أنه كان لا يكذب، وأن في نظراته ونبراته صدقًا قد يستبشعه العقل ويأبى رصده، ولكنه موجود، وقد تخطئ سناء في حكمها على عشرات الأشياء، ولكنها أبدًا لا يمكن أن تُخطِئ رنة الصدق وهو يقول: حتى وأنا قاعد جنبك ودين النبي وحشاني.
ولنفرض جدلًا أنها أخطأت الحكم، فأي تفسيرٍ آخر تستطيع أن تفسر به آخر شيء كان باستطاعة محمد الجندي أن يفعله حين واجهته بنظرتها المحدقة الفاحصة، فإذا به حين أكمل الجملة وحاول أن يبدأ غيرها يتلجلج وتفشل محاولته؟ ثم لا يلبث تحت وقع نظراتها أن يرتبك ولا يقوى على مواجهتها ويخفض عينيه، ثم بحركة غريزية، وزيادة في حجب نظراتها عنه يلصق الدوسيه بوجهه ويخفيه.
كادت سناء من أعماقها تنفجر ضاحكة، محمد الجندي يخجل؟ وممن؟ منها؟ بل فقط من نظراتها؟ لا بُدَّ أن شيئًا خطيرًا مهولًا قد حدث للدنيا.
ولكنها كتمت الرغبة في الضحك وإن كانت قد حلَّت محلها رغبة في الكلام … في كلام تقوله لمحمد الجندي، وأيضًا لم تتكلم مؤثرة أن تفعل حين تلوح الفرصة.
ولاحت الفرصة قرب الظهر حين خلا المكتب إلا منه ومنها، فجأة وجدت نفسها تقول للجندي: إنت إيه حكايتك بقى يا سي محمد يا جندي؟
حملق فيها بعينَيْن اتسعتا فجأة، فلم يكن يتوقع أبدًا أن تحادثه وأن تكون البادئة، وبالكاد استطاع عقله أن يستوعب السؤال، وحين بدأ يجيب كان عليه أن ينظر إليها — ولأنه كان لا بُدَّ له حينئذٍ ألا يظهر ارتباكه وخجله — فقد استمرَّ يواجهها بعينيه، ولكنه في الحقيقة لم يكن يراها … كان فقط يواجهها بعينين عطل الخجل وظيفتهما، قال: حكايتي إيه؟ مش عارفة حكايتي؟ طبعًا إيه يهمك إنتِ مني ومن حكايتي؟
– لا … أنا عارفاها كويس واشتكيتك مرة واتنين عشانها، وعملت البدع عشان تبطلها وكنت بطلتها وخلاص، إيه اللي رجعك تاني تبص وتقول الكلام السخيف بتاعك ده؟
– إذا كان ع التبطيل أنا من ناحيتي ما بطلتش ولا يوم ولا ساعة ولا ثانية، أما سكوتي المدة اللي فاتت فده كان عشان حضرتك أهنتي كرامتي، وأنا قولي فيَّ اللي قاله مالك في الخمر، إنما كرامتي دي أهم حاجة في الدنيا!
وضمت سناء نفسها وتماسكت بقوة، فضحكة واحدة كانت كفيلة بأن يفلت منها الموقف إلى الأبد.
واستمر الجندي يقول: أنا يمكن تشوفيني كده، إنما أنا والله إنسان حساس، الشعرة إذا مست كرامتي أتكهرب، وإنتي يا آنسة سناء أهنتيني أكثر من مرة، إنما كله كوم ويوم ما شتمتيني كوم، يومها قررت إني ألغيكي من حياتي ولو أنتحر وفضلت كابت نفسي وساكت، لغاية النهاردة بقى ماقدرتش، أنا … أنا …
– وإنت فاكر أنك كنت يومها تستاهل الشتيمة بس؟ إنت فاكر إنت أهنتني يومها إزاي؟
– أنا؟! لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا كان قصدي مصلحتك، كان قصدي أخدمك، ولولا كده عمري ما كنت فتحت الموضوع ده قدامك.
– بقى رأيك إنها خدمة؟
– أكبر خدمة … ونروح بعيد ليه؟ ولو وافقت كانت حصلت حكاية أخوكي دي؟
– معنى كده إنك كنت سامع.
– أيوه كنت سامع وعارف.
– طيب يا أخي بدل كلامك السخيف اللي بتقوله من وراء الدوسيه كنت سلفني القسط.
– آه … جينا للكلام المهم، عندك حق، إنما تعرفي أنا بشرفي ما كان يومها معايا إلا ييجي خمسين قرش … إنما ده مش السبب، كنت أقدر أستلفهملك حالًا، كنت أقدر على الأقل أقول لك كلمتين حلوين يواسوكي، إنما تعرفي عملت كأني مش سامع ولا داري ليه؟
سكتت سناء ولم تشأ أن تسأل ليه، غير أن الجندي عاد يلح ويقول: قوليلي ليه؟
وتشبثت بسكوتها أيضًا وإن كان حبُّ استطلاع كبير كان ينهش قلبها وأصر الجندي على سؤاله: ما تقوليلي ليه … مش عايزه تعرفي سبب ما يخطرلكيش على بال؟
هنا تغلب حب الاستطلاع ووجدت سناء نفسها تقول: أيوه يا سيدي … ليه؟
اندفعت سناء تقول: إنت مش غلطان، إنت فسدان، كلكم كنتم في يوم من الأيام بني آدمين، وبعدين لقيتم حد علمكم الكلام ده وفسدكم، وخلاص دلوقتي كل همكم إنكم تفسدوا الناس وتحللوا الفساد في نظركم، عشان يغلطوا ويتورطوا ويبقوا زيكم وما يصبحش فيه حد أحسن من حد، إنت لازم تعرف نفسك كويس، إنت صحيح لابس بدلة واسمك السيد محمد أفندي الجندي وليك مكتب ومحترم، إنما إنت زيك زي أي نشال في الشارع أو أي حرامي غسيل، سبتني عشان أتزنق، ولو كل واحد اتزنق فك زنقته بالسرقة أو بالقتل كان زمان الدنيا بقت كلها حرامية وقتالين، إنما ده ما بيحصلش لأن الناس دايمًا بتساعد المزنوق، عمرهم ما يسيبوه يقف لوحده، ولما يسيبوه عشان يدوق الزنقة يبقوا هما الغلطانين، هم المجرمين، بالضبط، حكمهم حكم اللي بيحرض على الفساد، إنت كنت مش عايزني أدوق الزنقة، إنت بتكدب على نفسك، إنت كنت عايز تحرضني عشان أمشي في الطريق الغلط، إنما ده بُعدك! أنا نضيفة وح أفضل طول عمري إن شا الله الدنيا كلها تتوسخ، نضيفة.
وأول ما اندهش لهذا «الخطاب» الحار المتدفق كانت سناء نفسها، فكأنما هو درس وعته وحفظته عن ظهر قلب، أما ما ظل يحيرها فهو تساؤلها عن كنه هذه الخطبة … تُرى هل هي تعبر عن رأيها الحقيقي، أم مبعثها أنها تريد أن تحقر الجندي لموقفه منها، أم هو كلام تتمنى أن يكون رأيها الحقيقي؟
أما الجندي فقد ذُهل! طوال عمره ومنذ أن كف أبوه عن ضربه وعقابه وصب الأوامر والنصائح كالزيت المغلي فوق رأسه، منذ أن مات كأنما عاهد نفسه بعدها ألا يستمع لنصيحة أحد سواء أكان مخطئًا أم مُصيبًا وسواء أكانت النصيحة من عاقل أم أحمق، بل لقد جعل شعاره بوعي منه وبغير وعي أن يخالف كل ما يُقال له من نصائح، وهوايته الكبرى أن يعصي القوانين، إن القانون يظل عدوه اللدود إلى أن ينجح في خرقه، والتعليمات تظل شيئًا لا يُطاق إلى أن ينجح في العثور على وسيلة يستطيع أن يتحايل بها عليها، وليست فقط القوانين واللوائح المكتوبة، أكثر من هذا وأبعد كل ما يأخذ شكل القانون، إذا تصادف ووجد الرخام القيشاني في أي دورة مياه يدخلها لامعًا نظيفًا أنيقًا لا يستريح إلا إذا أخرج قلمه الكوبيا وخطط وشخبط حتى يشوه من المنظر، إذا جلس على مقعد عربة الأتوبيس سرعان ما يخرج سلسلة مفاتيحه وبها المطواة الصغيرة ذات السلاح الحاد الذي يفتحه ويعمله في جلد الكرسي وفي تخف شديد يقطعه حتى يطل القطن، ويعمله في بوية الجوانب حتى يظهر معدنها، وإذا أردته أن يكرهم كُره العمى فانصحه نصيحة أو انقده نقدًا.
وحين بدأت سناء تتكلم، ولم تكن أولى كلماتها توحي أنها ستمضي هكذا ترص ذلك الخطاب الطويل … حين بدأت بدأ معها ضيقه الشديد وتذمره، ولكنه ربما لأنه وجد نفسه للمرة الأولى في حياته في موقف لا يستطيع فيه أن يرفض الاستماع، فالمتحدثة كانت سناء والحديث كله أول حديث جاد يدور بينهما ويتطور إلى أن يصبح نقاشًا عليه فيه أن ينصت جيدًا ويعي ليمكنه أن يرد، ربما لهذا — وحين طال أمد إنصاته وإصغائه، بلا عداء يكنه للمتكلمة — أَكَثَرَ من هذا بحب أو بعاطفة قريبة جدًّا من الحب.
حين حدث هذا كله وجد الجندي نفسه في محنة لم يستعد لها، فحقيقة وللمرة الأولى يجعله كلام شخص آخر يبدأ يشك في صحة رأيه، وطريقته وموقفه من الحياة تلك التي لم يتطرق إليه الشك فيها يومًا؛ على الدوام إذا كان هناك خطأ فهو حتمًا وقطعًا وبلا جدال خطأ الآخرين.
حادث لا يمكن أن يقع أو يحدث، مستحيل! شيء مفروغ منه لا يحتمل جدلًا أو نقاشًا.
ولكنه مجرد شك انتابه، للإنصاف أشباح شك أجل الحكم لها أو عليها إلى ساعة يخلو فيها لنفسه ويُفكر بعمق فيها، أما في تلك اللحظة فالحديث لا يزال متصلًا، وسناء انتهت من كلماتها وتنتظر إجابته، فقد وجد نفسه بابتسامة غير محدودة المعنى أو الهدف يقول: كلامك كله جايز يا ست سناء، وكل اللي يهمني إنك تبقي إنتي وتفضلي حلوة ونضيفة وفوق الناس كلها، ويمكن عندك حق، إيش جاب لجاب؟ إنتي في السما فوق واحنا في الأرض، يمكن تحت الأرض كمان، إحنا ناس حرامية حلل … مين عارف، ما يمكن إحنا كده صحيح وما حناش عارفين؟
كان يريد إجابة يمجد فيها من سناء ويتملقها، ولكنه لا يدري كيف انقلبت إلى كلمات ذليلة … ذليلة وبلهجة ذليلة مست وترًا في قلب سناء كاد يطفر الدمع من عينيها، وبنفس القوة التي خافته بها حين كان يثور وجدت نفسها، وكأن الآية انقلبت وكأنها العملاقة الضخمة وهو الدودة الزاحفة، وجدت نفسها ترثي له دون إرادتها، وعملت الكلمات واللهجة التي كان واضحًا أنها صادقة وأن قائلها يعنيها حقيقة، عملها في الحال واحمر وجه سناء تأثرًا وحرجًا ولم تدرِ ماذا تفعل ولا ماذا تقول؟ حرجًا وارتباكًا لا يدانيهما إلا حرجها وارتباكها يوم أحست أن محمد الجندي أهانها أكبر وأخطر وأول إهانة من نوعها وُجِّهت لها في حياتها.
كل ما استطاعت أن تفعله أنها غمغمت معتذرة، ثم غادرت الحجرة بسرعة قاصدة التواليت لتنهي الموقف … بالضبط نفس ما فعلته يومها.
وبينما كانت تصلح «فورمة» شعرها بيدها، بينما عقلها تائه تتجاذبه انفعالات متضاربة خفية، كان مركز الخطر الغريزي في نفسها يتخذ قرارًا بلا حيثيات أو أسباب أو دوافع، ولكنها كانت مصممة عليه بقوة: أن تنهي كل انشغال في نفسها بالجندي سواء أكان ثقل دمه أو قبح ملامحه أو فساد أخلاقه أو ذلته، وفي الحال.
وحين عادت إلى البيت لتجد المناقشة التي تكررت كثيرًا في الأيام الأخيرة، بين أمها وهي تحاول أن تغري أسامة بتناول الطعام، وأسامة وهو يرفض ويلح في الرفض … المناقشات التي لم تكن تنتهي إلا بتدخل سناء واحتضانها لأسامة وعبثها بشعره وتغيير المنطق الذي تحثه به، حتى يرضى أسامة في النهاية أن يبتلع بضع لُقم أخرى إكرامًا لخاطر أخته، حدث نفس الشيء في ذلك اليوم، ولكنها وذراعها تضم أسامة ويدها تعبث بشعره فطنت إلى خاطر لم يطرق عقلًا قبلًا … إن ما يحدث لأسامة والاضطراب الخطير الذي اجتاح حياته بعد حرمانه من الامتحان إن هو إلا ثمن «لنظافتها»، ثمن لم تدفعه هي، ولكن تحمله وسحق به هذا الصبي الذي لا ذنب له، إنه كالنبات النامي لا بُدَّ له من الحصول على الماء والغذاء وإلا هلك، ولا بد لأهله أن يوفروا له هذا وبأي ثمن وبأي وسيلة، فهو كالنبات لا يهمه سوى مطلبه من الغذاء، لا يهمه أبدًا نوع المصدر، تُرى هل يغفر لها الآن أو حين يكبر — وهي المسئولة عنه وعن عائلتها الصغيرة — أنها جعلته يقاسي من ضربة معطلة قاصمة فقط لتظل في نظر نفسها وفي نظر الناس محترمة نظيفة؟ إنها تعرف آباءً وأمهات يحللون الحرام ليوفروا لأولادهم الغذاء والكساء، وربما محمد الجندي في كل قذارته لا يفعل أكثر من أن يوفر للجيش الجرار الذي أوجده على سطح الأرض حاجته، بمعنى آخر هو يضحي بذاته ويلوثها لينقذ أولاده، أيهما إذن أكثر نظافة؟
لقد أمضت ساعات الصباح تعطي الجندي دروسًا في النظافة والصواب والخطأ، لماذا لا تواجه نفسها الآن كما واجهته وتعترف بالمعنى الحقيقي لما فعلته؟ أليس معناه الحقيقي أنها كانت أنانية إلى درجة دفعتها للتمسك بذاتها وقيمها حتى ولو أدى الأمر إلى تشريد أخيها الصغير وابنها وحبيبها الوحيد؟ وأليس معناه الحقيقي أيضًا أن محمد الجندي أقل منها أنانية، بل هو ملاك إذا قيس بها، مسيح ضحى بذاته ولوثها ومرمطها من أجل أن ينشأ أبناؤه الذين يحبهم نظافًا صالحين؟
أفكار تطرق عقلها لأول مرة وتقلب تفكيرها رأسًا على عقب، وتجعلها تغوص وتغوص في التأمل على هدي هذه الخواطر، إننا حلقة واحدة من سلسلة طويلة نصل فيها بين آبائنا وجدودنا وبين أبنائنا وأحفادنا، ونفعل هذا برغمنا لأنه وضع لم نُسْتَشَر فيه، فقد خُلقنا بما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من علامات، وبما سنورثه لأبنائنا وأحفادنا، من أجل هذا نحن لا نملك أن نفكر في أنفسنا كأنفسنا فقط، وإنما علينا أن نفكر فيها باعتبارها جزءًا من سلسلة، وهمزة الوصل بين جيل مضى وجيل مقبل بحيث نعي أن القرار الذي نتخذه لا يخصنا وحدنا ولكن سيؤثر أعمق التأثير في حلقات السلسلة من بعدنا، وأولئك الذين يفكرون في أنفسهم ﮐ «أحرار» ﮐ «أنا موجود» ﮐ «أنا الكون» ﮐ «أنا البداية والنهاية» أناس مخرفون يتجاهلون ألف باء الوجود الإنساني، بمعنى أدق يقطعون بهذا النوع من التفكير أنفسهم من سلسلة البشر، يصبحون كالسيقان والأذرع المبتورة عمرها محدد بعمر خلاياها، في حين أنهم وهم أعضاء ومكونات في السلسلة البشرية عمرهم يبدأ قبل مولدهم بملايين السنين هي عمر البشرية قبل وجودهم، وعمرهم يظل ممتدًا بعد موتهم بملايين السنين هي عمر البشرية من بعدهم، من المهم جدًّا إذن حين نتحدث عن أنفسنا وقيمنا والحرام والحلال والعيب واللاعيب بالنسبة إلينا أن نضع في اعتبارنا أنها ستكون كذلك أيضًا بالنسبة لأبنائنا ومن بعدهم بالنسبة لأحفادنا.
•••
لكي أكون صادقًا أحب أن أقول هنا إن أفكارًا كهذه وبمثل هذا الوضوح والتجريد لم تخطر لسناء، هي فقط أحست رغم طول جلوسها للتفكير أنها كان يجب عليها أن تراعي أخاها أسامة وتضعه في اعتبارها وهي تحدد ما يجب عليها سلوكه، وربما الفارق بينها وبين محمد الجندي أن الأخير وضع أولاده وزوجاته في اعتباره، وربما لهذا تلوث هو بينما بقيت هي في نظافة الصيني والكريستال.
أردت فقط بإيراد تلك الأفكار أن أتعمق قليلًا في الحيرة التي تملكتها وفي الإحساس العام الذي سيطر عليها وخلخل من إيمانها الراسخ في الصباح، آنذاك كانت تؤمن أنها على حقٍّ لا شك فيه، ومحمد الجندي على باطل لا شك فيه أيضًا، الآن وفي المساء بعد أن احتضنت أسامة وشعرت بجسده الصغير الدافئ كتلة حية مجسدة وملموسة، بدأ الشك يتسرب إلى إيمانها ذاك، ولم تَعُد واثقة كل الثقة أنها الأحسن والأنظف والأكثر شرفًا وسموًّا.
والشك، هذا الشعاع الخفي الذي لا يمكن — إذا تسلط — أن تصمد له أقوى الحقائق وأكثرها صلابة ورسوخًا، ذلك الشك الذي بدأ على هيئة تساؤل خَطَرَ لسناء بعد ظهر ذلك اليوم، لم يلبث بمضي بضعة أيام أن اجتاح كل آراء سناء ومعتقداتها وحقائقها الصلبة الراسخة، إلى درجة أنها في ساعات كانت تفقد القدرة تمامًا على التمييز بين الخطأ والصواب، ففي كلِّ صواب أكيد تفكر فيه كانت تجد خطأ واحتمالات خطأ، وفي كل خطأ كانت لا تعدم أن تجد صوابًا، تبلبلت تمامًا، وكأنما بفعل فاعل انفكت كل مكونات حياتها وشخصيتها إلى آلاف الأشياء الصغيرة والمواقف الصغيرة والقضايا الصغيرة، والعيب أصبح بقدرتها أن تحلله إلى عشرات الأشياء التي تجد فيها العيب، وعشرات الأشياء التي تجد فيها اللاعيب، وفي الحرام أجزاء كثيرة من الحلال، وفي الحلال مناطق بأسرها حرام.
وضع ما كان باستطاعتها أن تواجهه لفترة طويلة، فالعقل فيه لا يحتمل وقد ينقصم في أية لحظة لثقل ما يحمله، وهي مثلها مثل كل الناس تُواجَه في كل لحظة ودقيقة بموقف يتطلب منها أن تختار فيه جانبًا، فأي جانب تختار وميزانها نفسه مفكك تمامًا، الكفة في ناحية والأوزان متناثرة هنا وهناك، والمؤشر يعطي القراءات على مزاجه؟
في تلك اللحظة كانت تلجأ مستنجدةً إلى أمها لا لتسألها النصح والمشورة، وإنما وهي الخبيرة العليمة بها كانت كلَّما وُوجهت بموقف سألت نفسها ترى ماذا كانت تفعله أمي لو وُجدت في مكاني؟ وقياسًا على تصرفها تتصرف تصرفات كانت أشياء في نفسها تضيق بها، ولكنها لم تملك سواها.
في تلك الأيام أيضًا كان واضحًا أن الحظ خدمها حين جعل محمد الجندي يتصرف كما لو كان يحافظ بدقة على الوعد الذي قطعه على نفسه، كانت تحس أنها فرصة من السماء أُتيحت لها كي تستطيع أن تجمع شتات نفسها المبعثرة وتعود كاملة متكاملة كالعهد بها مرة أخرى. حادثة أخيرة وقعت، ولكنها حمدت الله أيضًا على أنها مرت بها بسرعة خاطفة ودون أن توقعها في مأزق يحتاج إلى إعمال فكر وقيم: كانت قد خرجت إلى التواليت لإصلاح ما أفسده اليوم والعمل من زينتها استعدادًا لمغادرة المصلحة والسير في الطريق، وحين عادت من زينتها استعدادًا لمغادرة المصلحة والسير في الطريق، وحين عادت وهمَّت أن تُغلق الدوسيه وجدت ورقة صغيرة استرعت انتباهها بلونها الوردي … ورقة صغيرة في حجم علبة السجائر وعليها هذه الكلمات: أنا متأكد أن حبي لك حب يائس من طرف واحد لا أمل عندي فيه، ولا أطمع ولا أطلب من الله أي شيء منك، ولكنك تسببت لي من أول لحظة رأيتك فيها في ارتباكٍ شديدٍ حدث لي في حياتي وقاربت أن أنتحر لأجله، صدقيني قبل أن تضيع الفرصة وتتحملي الذنب … لهذا كل ما أرجوه منك أن تقبلي أن أقابلك بالخارج في أحد الكازينوهات المُطلَّة على النيل لأفضفض لك عن نفسي، فأنا أشعر بالراحة التامة حين أتكلم معك حتى وإن لم تتكلمي أنت، أرجوك وحياة أخوكي العزيز ألَّا ترفضي رجائي الأول والأخير، ولن أضايقك أبدًا بعد هذا، وأتسبب لك في شيء، عبدك … محمد الجندي.
قرأت الورقة بلا اضطرابٍ أو تردد، وقبل أن تنتهي منها كانت وكأن شيئًا لم يحدث لها أو تفككت للحظة أجزاء عقلها وموازينه، إذ قررت القرار في الحال، وغادرت مكتبها في حضور الجميع وذهبت إلى مكتب الجندي ومالت عليه وقالت بهمس حاسم لا راد له: اسمع يا محمد أفندي! إنت يا إما عاوز تودي نفسك في داهية … وأنا بانذرك أهه، دي آخر مرة أسمح لك فيها أنك تفكر فيَّ بالشكل ده، واعمل حسابك المسألة دي مش بالعافية، دانت لما تتسخط قدامي قرد ولا تموت نفسك مليون مرة ولا ح يهمني، أنا لا حبيتك ولا بحبك ولا باقبلك، وإذا كنت جدع صحيح نفذ كلامك وانتحر، وده آخر كلام لك.
وبمنتهى الهدوء عادت إلى مكتبها — وكأن شيئًا لم يحدث — وأدخلت الأوراق المهمة في الدرج وأغلقت عليها، وعلقت حقيبتها في كتفها وغادرت الحجرة.
ولم تراجع نفسها لما قالته أبدًا ولا صدرت من ضميرها كلمة تأنيب، فإذا كان ثمة شخص في العالم كله هي متأكدة من رأيها فيه وموقفها منه فهو الجندي، وهو الكلام الذي قالته له والذي عبرت فيه بصراحة كاملة عن رأيها فيه وفي «عواطفه».
يومان مضيا على هذه الحادثة أو ثلاثة، لا تذكر، ولكن المؤكد أنها أيام قليلة جدًّا مضت، وكاد اليوم نفسه يمضي … يوم كانت سعيدة فيه بلا شك … إذ كان الزملاء الأربعة غائبين، سليمان لمرضه، وأحمد الطويل لانتدابه للعمل لمدة يومين خارج المصلحة وصفوت أفندي منذ العاشرة ذهب إلى مراقبة المستخدمين في لجنة لم تحفل سناء بمعرفة اسمها ونوع عملها، وخرج معه محمد الجندي الذي لم تلتقِ عيناه بعينيها منذ الورقة الوردية على أن ينجز شيئًا ما ويعود، وقد خرج وهي منقبضة النفس لفكرة عودته وقضائهما بقية اليوم وحيدَيْن في مكتب خالٍ، غير أنه لفرحتها لم يلبث أن أرسل خفاجة الساعي ليدخل أوراقه في أدراجه ويحمل له علبة سجائره ومفاتيحه وولاعته، علامة أكيدة أنه قرر «التزويغ».
جلست سناء تنعم بوقت تمنته كثيرًا، إذ طالما حلمت بأن تحدث معجزة تضعها في صفوف كبار الموظفين، الذين لهم الحق في حجرات خاصة وتليفونات خاصة، ولم يكُ لديها عمل عاجل يُذكر، ولولا خجلها من فكرة أن تنتهز الفرصة وتزوغ هي الأخرى ما ترددت في تنفيذها، وبينما هي تفكر في طريقة توفق بين خوفها من الموقف المُخجل أمام صفوت أفندي في الغد، وبين رغبتها في مغادرة العمل ودخول إحدى حفلات الصباح السينمائية … بينما هي في هذا وجدت الباب يدق والداخل عبادة «بك»، صبح وسلم وسأل عن الجندي، فأخبرته بما حدث وعن صفوت أفندي وأحمد الطويل وسليمان، وبالتفصيل أجابته عن سبب غيبة كل منهم على حدة، بدا عليه الهم والقلق حينئذٍ وبرطم بما معناه أن اليوم الخميس والغد إجازة والتصريح إذا لم يُستخرج اليوم كلفه مبالغ طائلة، أخيرًا واجهها بالسؤال الذي كان باديًا أنه يفكر فيه مذ دخل الحجرة ووجدها خالية إلا منها، فسألها إن كان باستطاعتها أن تستخرج له التصريح؟ ودون تفكير أجابته بأنها لا تستطيع، فليس لديها تصاريح فاضية، وحتى لو كان لديها فهي لم تزاول العملية إلا بحضور زملائها والباشكاتب، ثم إن الأختام مقفول عليها في درج الأخير.
وكانت تعتقد أنها سدت كل الأبواب بطريقة لن يملك معها الرجل إلا الاستئذان منها ومغادرة الحجرة، ولكن بدا أن هذا آخر شيء ممكن أن يُفكِّر فيه، وأنه من الصنف المثابر العنيد الذي لا ييأس أبدًا، قال لها: أما عن التصاريح الفاضية فأمرها بسيط.
بكل بساطة صفق، ودخل خفاجة فطلب منه تصريحين أو ثلاثة فاضية، وتلكأ خفاجة فأشار له عبادة بك إشارة ذات معنى طالبًا منه أن يذهب ويشتريها، حتى إن كانت تُباع فهو مستعد أن يدفع في كل منها جنيهًا.
وفي أقل من دقيقة عاد خفاجة بالتصاريح، فأخذها الرجل وتأملها ثم بسطها على المكتب أمام سناء، واستدار إلى خفاجة قائلًا: فيه حاجة تانية يا خفاجة عشان تاخد الورقة بخمسة حتة واحدة.
– تحت أمرك يا عبادة بك من غير أي حاجة، والله يكفينا ظُرف سعادتك.
– الأختام يا خفاجة وإمضاء الباشكاتب.
– أجيب لسعادتك الباشكاتب بنفسه هوا.
وهذه المرة استغرق إحضار الباشكاتب «بنفسه» خمس دقائق كاملة.
جاء الرجل وقد قطع اجتماع اللجنة لاهثًا، وبسرعة أنهى مهمته فقد وقع التصاريح على بياض وختمها، وطلب من سناء أن تملأها وبعد أن تنتهي تذهب إلى مدير الإدارة وتحصل على توقيعه الكريم، كذلك أخرج لها دفتر القيد لتقييدها.
أما بالنسبة لعبادة بك فقد طلب منه أن يمر يوم السبت «ليسلم» على محمد الجندي، مؤكدًا أنه يُجازف بإعطائه التصريح قبل السلام على الجندي، ولكنه يفعل هذا اعتمادًا على ثقته الكبيرة فيه، وأكد له عبادة أنه حتمًا سيفعل، وطمأنه بقوله إنه رجل في أيديهم ومن العبث أن يحاول اللعب بذيله معهم.
وعلى عجلٍ أيضًا غادر الباشكاتب الحجرة، وظل خفاجة واقفًا بضع لحظات وكأنما يؤكد دوره ووجوده، ثم حين أحس أن وجوده نفسه غير مرغوب فيه من الزبون استأذن خارجًا طالبًا من سناء أن تدق الجرس فقط إذا لزمها شيء.
وهكذا وجدت سناء نفسها وقد فُتحت على مصاريعها جميع الأبواب التي سدتها، ولم يعد أمامها إلا أن تملأ خانات التصريح أو تفتعل حجة ما وترفض.
وطاوعها عقلها أخيرًا على افتعال حجة، وقالت إنها غير خبيرة في ملء التصاريح، وإن من المحتمل جدًّا أن تخطئ فيبطل مفعول التصريح، وأنه لهذا السبب يستحسن أن ينتظر «الأستاذ» عبادة ليوم السبت ليملأها الجندي الخبير بها.
هنا تغيرت لهجة عبادة تمامًا، وبعد مقدمات طويلة دقت قرون الاستشعار في نفسها معلنة أنه اقترب جدًّا من المنطقة الخطيرة التي كانت تحدثها نفسها منذ اللحظة التي رأته فيها أنه سيتقرب منها ويحاول، وبالتحديد لم تصغِ بوعي إلا حين بدأ يقول: أنا فاهم إزاي واحدة ذكية مدردحة زي حضرتك قاعدة ساكتة وهي شايفة ناس أغبى منها كتير، وأقل منها كتير، وهم عمالين يبلعوا في بطونهم اللي ما بتتمليش؟ دلوقتي حدش شايفنا؟ حدش سامعنا؟ إنتي عندك أمر من رئيسك إنك تملي التصاريح، هو المسئول وهو اللي قالك وما عليكي إلا التنفيذ، فيها حاجة دي؟ ما فيهاش حاجة أبدًا، أنا ليكي عليَّ أسكت خفاجة والباشكاتب سكوت أبدي، ولا هم ح يعرفوا إنك خدتي ولا الجندي ولا حد ح يعرف، ودي فيها مصلحة متبادلة، بدل أنا ما أدفع ١٠٠ جنيه تتوزع على سبعة ولا عشرة، ادفع سبعين … الباشكاتب وخفاجة عشرين، وإنتي لوحدك خمسين، ودول تصريحين يعني إنتي لوحدك ح تطلعي بميه، ميت جنيه قد ماهيتك سبع تشهر ح تاخديهم من غير ما تتحملي أي مسئولية، لمجرد إنك تكتبيهم، وكل المطلوب منك إنك تكتمي على الحكاية وما تقوليش للجندي ولا لحد، أظن اللي يرفض حاجة زي كده اسمحيلي بقى يبقى ما يستاهلش المكتب اللي قاعد عليه.
وكأنما استمرارًا للحديث مد عبادة بك يده وفتح درج مكتبها فتحة ضيقة وأخرج من جيبه رزمة أوراق من ذات الخمسة جنيهات مثبتة معًا «بأستك» البنك، رزمة منتفخة مغرية كالصفحات المتراصة لكتاب ثمين، وقد يكون ألف خاطر وخاطر قد دار في عقل سناء، وقد يكون الأمر وكأن خاطرًا واحدًا لم يَدُرْ فالدوران السريع يبدو كالثبات المقيم … والألف خاطر حين تدور في جزء من الثانية لا تترك في العقل أو التصرف أثرًا وتبدو وكأن خاطرًا لم يَدُرْ.
كل ما حدث أن القلم في يدها كف عن الكتابة وألقت نظرة عابرة سريعة على الرزمة في قاع الدرجة، ثم عادت تحدق في خانات التصريح وقد شل عقلها تمامًا، ولم يبقَ متحركًا فيها وفيه غير تساؤل واحد ظل يدق باستمرار في إلحاح عنيد، كجرس الباب حين يدقه صاحب دين لحوح.
كان التساؤل هو … ماذا يحدث لو أخذتها؟ تساؤل هكذا يُلقى ويعود يُلقى دون أن تنتظر إجابة عليه، ماذا يحدث لو أخذتها؟ ماذا يحدث؟ ماذا يحدث؟
كل ما كانت تريده هو مهلة خاطفة تستطيع بطريقة ما أن توقف هذا التساؤل المتواصل المزعج وتفكر فيها، ولكن بدا وكأن عقلها نفسه لا يريد هذه المهلة ولا يريد أن يفكر، ويريدها أن تتصرف بوحي من غرائزها البدائية الأولى … الغرائز التي تنجذب إلى الدفء والنور وتهرب من الظلام والبرد، التي تطمع وتستنكر على الآخرين الطمع … الغرائز التي تنجذب إلى الأشياء وتنفر من الأشياء لا بحسب قيمها العليا ومعانيها العميقة وإنما بحسب قيمها الظاهرة المحسوسة ومعانيها التي تتلخص في معنيين اثنين: أهذا الشيء يضر جسدي حتى أهرب منه، أم يفيده حتى أحصل عليه؟
وبحكم هذه الغرائز لو كان لص قد دخل الحجرة في ذلك الوقت لاستماتت سناء دفاعًا عن الرزمة، بحكمها كانت قد أصبحت ملكها وبحكمها أيضًا قد أصبحت المشكلة لا أن تأخذها أو لا تأخذها، وإنما هي كيف تدافع عنها وتمنعها من التسرب من حوزتها.
وحتى حين كفَّ التساؤل الملح عن التردد وأصبح بإمكانها أن تستعمل عقلها، لم تشأ بإراداتها هذه المرة أن تستعمله، وبسرعة كانت قد كونت لنفسها رأيًا يخرج بها من اللحظة المتوقعة، إذ قالت آخذها أولًا وبعد هذا أمامي المتسع من الوقت للتفكير، بحيث إذا وصلت في تفكيري إلى أن من الخطأ أخذها فمن الممكن حينئذٍ أن أردها لصاحبها مهما رفض وأبى.
وهكذا لم يطل توقف القلم، وسرعان ما استأنف تسديد الخانات وهي مصرة ومقتنعة ومتصرفة على أساس أن شيئًا ما لم يحدث، وأنها لم ترَ أو تسمع أو تلاحظ أمرًا غير عادي.
ولعل عبادة بك بحكم خبرته الطويلة كان يقرأ تفكيرها كالكتاب المفتوح، فلم تكن هذه أول مرة يتولى فيها إفساد ذمة موظف، ولن تكون الأخيرة، إذ بصرف النظر عن أنها بعض عمله فقد تربت لديه هواية قوامها ذلك الجزء من العمل، هواية ككل الهوايات الشاذة كانت مزاولتها تشيع في جسده العريض القصير المترهل نوعًا من اللذة الشيطانية الوحشية دونها بكثير لذة إفساد الفتاة البكر، أو الكسب الضخم الحرام في البوكر والباكاراه، وكان يفخر أن موظفًا كبيرًا أو صغيرًا، مديرًا أو وزيرًا لم يصمد أمامه أبدًا، وأنه يتحدى أن يصمد أحد أمامه، ولذته الكبرى كانت تبدأ تلوح إذا آنس من هذا الموظف أو ذاك مقاومة، أو وجده عنيدًا مصرًّا، أو لاح وكأنه من أصحاب المبادئ، حينئذٍ تنشط كل مراكز الإبداع والتفكير في عقل عبادة بك، وكلما زادت الصعوبات في وجهه استبشر بها ووطن نفسه على النشوة العظمى يوم النصر … إذ هو متأكد دائمًا من النصر، والفرق في نظره هو فارق زمني محض، وحتى كلَّما طال الزمن طال استعذابه للتجربة والهواية … وكانت طريقته أن يتفحص في اللقاء الأول الشخص ليصدر حكمه المبدئي عليه، وهو فخور بأحكامه تلك يتباهى بأن واحدًا منها لم يخب، وبهذا الحكم يخمن نقطة الضعف في الموظف أهو المال أم النساء أم الترقية أم التهديد؟ ثم يجمع بنفسه وبالاستعانة باثنين من موظفي مكتبه ما يمكنه جمعه من معلومات ليستطيع على هداها أن يحدد «الكم» بعد أن حدد الكيف، والكم هنا لا يقل أهمية عن الكيف، إذ هو لا يعتمد أبدًا على مركز الموظف أو أصله أو منصبه، كم من وزراء بكل هيلمانهم اشتراهم بعشوة أو بباقة زهور معينة استوردها من هولندا، وكم من موظفين صغار كلفه شراؤهم آلافًا، والنساء رُتب، ولبابهم طلبات خاصة وتوصيات، والتهديد سلاح نادرًا ما يلجأ إليه فهو يحب أن يكون أولًا محل ثقة الموظف … ثقة مطلقة لا تشوبها شائبة، فهو الذي سيودع عنده ذمته ولا بُدَّ أن تكون ثقة الناس فيه تصل إلى حد يستخدمونه كبنك مضمون لإيداع الذمم. وكذلك عاين سناء في أول لقاء، ومن معاينته استنكف طريقة محمد الجندي المكشوفة الخشنة التي لا ذوق فيها ولا فن، ومع هذا تظاهر باندماجه فيها فقط ليسبر غور هذه الإنسانة الجديدة التي لا يعلم عنها شيئًا، وقد علمته الأيام والتجارب أن النساء أصعب في بيع ذممهن بعشرات ومئات المرات من الرجال، بل المرة الوحيدة التي فشل فيها وخاب كانت أمام إحدى الموظفات الكبيرات، كثيرًا ما استعمل سلاح الحب إذ هو يعرف أن نقطة الضعف الوحيدة الخطيرة في أية امرأة هي الحب، ولديه لهذا عشرات من الشبان المدربين القادرين على إيقاع أشرف نساء الدنيا، تمامًا مثلما لديه عدد من الجميلات من كلِّ جنسٍ وملةٍ قادرات على إيقاع أشرف رجال الأرض، والغريب أن معظم هؤلاء وأولئك هواة لا يتقاضون، إذا تقاضوا، إلا ما تكلف المغامرة من مصاريف.
ومما حدث يومها حيره أمر سناء ورأى أنه مقبل على مغامرة صعبة مثيرة، وغادر المصلحة يومها وهو يحاول أن يصدر حكمه المبدئي مفاضلًا بين طريق الحب وطريق المال، وثمة شيء يؤكد له أن الطريقين لا يصلحان، وأنه لا بُدَّ أن يبتكر طريقًا جديدًا لهذا الجيل الجديد الذي دخل الحكومة حاملًا معه قيمًا جديدة وعقليات وأفكارًا ليس من السهل التغلب عليها.
وكان بعد تفكير طويل ودراسة قد انتهى إلى حل سببه استحالة مواجهة ذلك النوع الجديد بالمساومة على الشراء سافرة، ووجوب اللجوء إلى أسلوب غير مباشر ينتهي إلى توريط، وأحد الاقتراحات التي فكر فيها أن يفتتح ناديًا ثقافيًّا يضم إليه سناء ومثيلاتها وعضوات من صديقاته يستطعن بالاحتكاك والدعوات وغسل المخ والتلقين أن يفككن شخصيات هؤلاء الفتيات المتماسكة المترابطة ككتلة واحدة تضم قيمهن جميعًا … وكلها قيم متحدة واحدة، الحرام فيها حرام تحت مختلف الظروف والأحوال والحلال أيضًا واحد، والعيب في العمل مثله مثل العيب في الشرف، وما يعيب في البيت يعيب أيضًا في المصلحة، كتلة مترابطة واحدة فرق كبير بينها وبين قيم الرجال الموزعة على أدراج ودوسيهات، بحيث يحيا الرجل صادقًا بأكثر من مقياس وأكثر من شرف وأكثر من حلال أو حرام، ويستدعي — إذا اضطرته الحاجة — المقياس الذي يناسبها … إذا اكتشف أن ابنه يدس لأخيه عند أمه عاقبه بشدة، وإذا ضبط نفسه وهو يدس لزميله عند الرئيس برر وشرح وأفاض في الشرح ليخرج نفسه منها كالشعرة من العجين، أبدًا ليس مثل الرجل الذي باستطاعته أن يفقد إحدى قيمه دون أن يؤثر هذا على غيرها من القيم … باستطاعته أن يكون زئر نساء، لكنه في نفس الوقت تجده صادقًا وشجاعًا وأمينًا، بل ربما تجده أيضًا شاعرًا، ومن هنا تنشأ الصعوبة، ومن هنا تعلم عبادة بك ألا يطبق على النساء — على عكس ما يفعله بالرجال — قاعدة واحدة، إذ قد ثبت له أن كل فتاة أو سيدة حالمة بمفردها لا تنجح معها القواعد، وحتى وهو يفكر في مشروع النادي كان غير واثق أبدًا أن سناء بالذات ممكن أن يدب إلى نفسها من هذا الطريق.
كانت المسألة في رأسه مجرد مشاريع ودراسات لمشاريع، وكان مقدرًا أن الأمر سيستغرق وقتًا وأنه وطن نفسه على هذا، ومع أن مجيئه اليوم كان بمشورة الجندي ونصيحته كما سنعرف، إلا أنه جاء ولا فكرة لديه عن خطوة ما يمكن أن يخطوها تجاه سناء، ماذا حدث إذن حتى جعله يقدم على هذا التصرف الذي كان كفيلًا لو لم يكن متأكدًا تمامًا من نجاحه، بإيداعه السجن بلا إبطاء؟ الحقيقة أنه هو نفسه لم يكن حتى تلك اللحظة يملك إجابة شافية، ولكنه مجرد شبح عَنَّ له وصوب تجاهه، وكان هو أول من فُوجئ بالإصابة المباشرة، أما الشبح فقد كان في كلمات سناء الأولى تلك التي أخبرته بها عن سبب تغيب الآخرين، وليس في الكلمات الأولى بالضبط ربما قبلها بقليل، إذ كان يتوقع بعد الذي حدث في آخر مرة كان بها في المكتب أن تلقاه سناء مواصلة نفس الموقف منه، تلقاه باشمئزاز واضح أو خفي، ولكنه كان لا بُدَّ أن يكون موجودًا، غياب هذا العنصر دفعه للتساؤل والشك، وجاءت الكلمات الأولى لا تحمل ضغينة واضحة أو خفية، إحساسه صحيح إذن! وحتى اعتراضاتها والعقبات التي أقامتها أحس أنها لم تقمها في وجهه هو بقدر ما أقامتها لنفسها … لتمنع نفسها، كانت إذن تريد أن تتكفل ظروفٌ خارجة عن إرادتها بالرفض، طيب! وحين نرفع هذه الظروف الخارجة ونترك إرادتها عارية بلا دروع هي والموقف وحدهما، ماذا يحدث؟ حدث الشيء الذي توقع بالضبط أن يحدث، وقفت إرادتها لا تملك الحركة إلى الأمام أو الخلف عاجزة عن التقدم وعاجزة في الوقت نفسه عن التراجع، واحتاج الوضع حينئذٍ لدفعة تحركها إلى الأمام قبل أن يفيق الوعي، قبل أن تستجمع نفسها المشتتة وتتخذ قرارًا لا بُدَّ كان سيؤدي إلى التقهقر الحاسم المفاجئ، وجاءت هذه الدفعة حين أمرها صفوت أفندي رئيسها بكتابة التصاريح، حينئذٍ وبخطًى وئيدة بدأت تتحرك إلى الأمام، ولكنها تتحرك في اتجاه أداء الواجب فقط وملء الخانات، ولكن من قال إن هذا الاتجاه ليس هو نفسه اتجاه بيع الذمة؟ وهل حدث لعبادة بك في كل تاريخه الحافل وثرائه، هل حدث أن تحرك موظف أو موظفة وتقدم واضعًا بيع ذمته كهدف؟ على الإطلاق لم يحدث شيء من هذا، إنه دائمًا يتحرك موهمًا نفسه مؤكدًا ومقسمًا ومؤمنًا إيمانًا لا يتزعزع أنه إذ يتحرك فإنما ليؤدي واجبه فقط … لينجز عمله، عسكري المرور الذي يقبل القروش العشرة حتى لا يحرر لك محضرًا يوهم نفسه، بأدلة يصنعها أو يصطنعها، أنك فعلًا لا تستحق المحضر، وإنه بإلغائه إنما يؤدي واجبه الذي يمليه عليه ضميره، وما العشرة القروش سوى مبلغ تطوَّعت أنت بدفعه سذاجة منك وعبطًا، إذ كان هو على أي الحالات لا ينوي تحرير محضر، كذلك الوزير الذي يقبل دعوتك وهو عالم أنك في حاجة غدًا لتوقيعه، يقبلها وهو قد انتوى نية خالصة مخلصة أنه، وإن كان قد قبل، إلا أنه لن يوافق غدًا ويوقع إلا إذا كنت فعلًا قد استوفيت شروط الموافقة، وحين يأتي الغد وتعرض أوراقك مع أوراق الآخرين ويجد أنك مثلهم مستوفيًا للشروط أو معظمها، يؤكد لنفسه أن اختياره لك دونًا عن الباقين لن يخلو من حكمة، إذ هو يعرفك حق المعرفة ويعرف أنك لن تخدع الحكومة ولن تسف أموالها، بينما هو لا يعرف الآخرين ولا يضمنهم، حينئذٍ ولأجل مصلحة الدولة والحكومة، بدافع هذه المصلحة العليا وحدها يؤشر على ورقك بالموافقة وعلى الآخرين بالحفظ، مؤمنًا أشد الإيمان أنه بهذا العمل قد أدى أكبر الخدمات وأجلها للبلاد وللوطن.
لمح الرجل سناء إذن وهي تشرع في الكتابة وعلى سيمائها ما يؤكد لنفسها أنها تؤدي الواجب الحلال الزلال الذي لا غبارَ عليه، علامة يعرفها جيدًا إذ الخبرة قد علَّمته أن الشخص حين يبدأ في إقناع نفسه أن ما يفعله أمر لا غبار عليه، يكون فعلًا وحقيقة قد بدأ يدافع عن الشيء الذي عليه غبار … مؤكدًا لنفسه أن لا غبار عليه البتة. حينئذٍ عليك أن تضرب بسرعة ضربتك القاضية التي تطبب كفة الميزان إلى الأبد، فليس من المصلحة بقاء الشخص طويلًا في تلك المرحلة الحرجة التي «يحاول» «إقناع» نفسه فيها، إذ قد يحدث حينئذٍ — والأمر لا يزال نظريًّا محضًا وهو لا يزال على البر — أن يتملكه خوف مفاجئ أو يتذكر حادثًا أو موقفًا أو شخصًا كان يعتبره المثل الأعلى ويغير رأيه، وصعب بل أحيانًا من المستحيل إذا «حرن» الشخص في تلك المنطقة أن تستخرجه منها أو تستطيع جره، لا بُدَّ حينئذٍ أن تشل حرجه بوضعه أمام الأمر الواقع و«تلبيسه» التهمة، ولكنها أيضًا عملية في حاجة لحذق كبير، إذا زاولها الغشيم فمن المحتمل أن يفعلها بطريقة تفزع الشخص وتجعله يفر بجلده هاربًا، أما في يد الخبير فلا خوف عليه، إذ كل المطلوب منه هنا أن يُثَمِّن الشخص بسرعة وحسم، يضاعف الثمن أو يجعله ثلاثة أضعاف بحيث «يغرق» الشخص فيه، بحيث ينتفي من عقله كل تفكير آخر ولا تبقى سوى الرزمة المهولة التي لم يتوقع أبدًا أنها بهذه الكثرة والضخامة، والتثمين هنا لا يعني قيمة ما يستحقه الشخص ولكنه يعني على وجه الدقة قيمة ما يطمع هو في الحصول عليه؛ أي بمعنى آخر قيمة ثمنه في نظر نفسه، وعليك أنت أن تثمنه بأغلى … أغلى بكثير مما توقع أو يستحق، ولا تخشَ الخسارة أو بعثرة نقودك فأنت لا تشتري إمضاء لمرة … أنت تشتري شخصًا بأكمله ووظيفة ونفوذًا إلى زمن لا نهاية له؛ ولهذا فأي ثمن تحدده مهما بدا لك غاليًا ومبالغًا فيه فهو — لو كنت من العارفين العالمين كعبادة بك — رخيص جد رخيص، سوف يرتد إليك أضعافًا وأضعافًا مضاعفة.
بحكم الخبرة عرف أن خير ما يفعله أن يسكت هو الآخر ويدَّعي مثلها أن شيئًا لم يحدث، وحين انتهت وتهيأت لمغادرة الحجرة للحصول على توقيع مدير الإدارة كفاها هو مئونة التعب، ونادى على خفاجة يكلفه بالمهمة، ولم ينتظر أن يعود، آثر أن يتابعه، بل الحقيقة آثر أن يغادر الحجرة وقد أدرك أن خير ما يفعله هو أن يتركها فورًا ليقطع عليها آخر مراحل التردد من ناحية، ومن ناحية أخرى لتنفرد بنفسها إذ هي لا بُدَّ في شوق شديد لهذا الانفراد.
وبحرارة واحترام كبيرين سلم عليها وخرج، وحين عاد خفاجة بعد قليل وحاول أن ينتهز فرصة وحدتها ليفتح أبوابًا للحديث ولم يجد منها تشجيعًا يُذكر، سألها إن كانت في حاجة لشيء من البوفيه تشربه؟ وحين أجابت بالنفي وهي تتفرس في ملامحه علها تلمح بارقة تدل على أنه أدرك أو يدرك شيئًا يتعلق بالرزمة الضخمة التي لا تزال في درج المكتب … ولم تلمح بارقة تدل على شيء، كان واضحًا فقط أنه قبض هو الآخر، والنقود التي قبضها تعميه عن رؤية أي شيء آخر، وأدركت سر تلكئه حين قال لها في النهاية: أظن عبادة بك وصى حضرتك إنك ما تجيبيش سيرة لحد.
وابتسمت بافتعال، وأجابت بما يؤكد أنه وصاها وأنها ستعمل بالوصية، كل ما هنالك أنها تساءلت ببراءة عن السبب الذي يدفعه لهذا التكتم، وأجابها خفاجة بأنها لا تزال حسنة النية لا تعرف بعدُ أحوالَ المصلحة الخفية، وأن عبادة بك إنما يفعل هذا ليخفف عن كاهله ولو لمرة «الضرائب» الباهظة التي يدفعها للكل إذا عرف الكل.
وطمأنت هذه المحاورة سناء، وطمأنت كذلك خفاجة حتى أصبح وجوده في الحجرة غير ذي موضوع.
غادرها حينذاك وهو يدعو — بلا مناسبة — لسناء بأن يصلح الله أحوالها ويزرقها بعريس ابن حلال، وأغلق الباب وراءه.
أخيرًا، ها هي ذي وحدها كما تمنت، ها هو الوقت أمامها ممتد متسع باستطاعتها أن تناقش فيه كل المشاكل والقضايا.
واستعجبت حين حاولت أن تجد شيئًا يتعلق بالنقود، أي شيء يمكنها أن تفكر فيه بدون جدوى، بقي عقلها بلا تفكير، وبلا قلق أو إرهاق، بلا سعادة أو اكتئاب، بلا شيء على الإطلاق، بقي هكذا وقتًا ما لا تدري كم طوله، وحين بدأ يعمل بدأ يفكر بطريقة لم تخطر لها على بال، من أدراها أن النقود ليست فخًّا نُصب لها … نصبه الجندي وزملاؤه من أجل الإيقاع بها وفصلها وسجنها كي يخلو لهم الجو؟
الحقيقة كان الخاطر مفاجئًا ولاسعًا إلى درجة قفزت معها سناء واقفة ودون أن تتردد لثانية واحدة أمسكت النقود كما قرأت في الروايات بمنديلها، ثم وكأنها فكرت طويلًا في المخبأ السري، إذ في لمح البصر كانت قد مدت يدها أسفل الدرج الأوسط لمكتب محمد الجندي، وهناك وجدت قطعة خشب بارزة كالرف وضعت فوقها النقود، وعادت إلى مكانها لاهثة.
حتى إن ضبطوها فسيحمل هو التهمة ويقع في الحفرة التي أراد لها أن تقع فيها.
وانتظرت ساعة وساعتين أن تأتي النيابة والبوليس دون أن يأتي أحد أو تبدو بادرة خطر، وإلى أن وصلت إلى البيت في ذلك اليوم كانت قد ضُبطت أكثر من عشرين مرة، وراحت في داهية أكثر من مائة مرة، وأمسكها سائق التاكس المتخفي عشرات المرات.
ووصلت إلى البيت برغبة واحدة … أن تنام، ودون أن تلحظ أمها استخرجت الرزمة من الحقيبة ووضعتها تحت المخدة ونامت.
وأيقظتها الأم ساعة العشاء حاسبة أنها مريضة! وبالكاد ازدردت بعض اللقم، وهي في أثناء الطعام وقبله وبعده تحاول أن تعثر على هاتف واحد من آلاف الهواتف التي اعتقدت أنها لا بُدَّ مستيقظة لديها ذات ساعة، صارخة فيها أن تعيد الرزمة الحرام إلى صاحبها دون جدوى.
بدلًا من الهواتف كان ثمة إحساس طاغٍ أن المسألة قد حدثت وانتهت وأن المهم ليس النقود … المهم هو الخطوات التي سبقت وأعقبت النقود، خطوات مهما فعلت وارتفعت ودقَّت رأسها بالسقف وهبطت لا يمكنها التراجع عنها.
حسنًّا جدًّا! فليكن ما حدث ولتكفِ نفسها مئونة التفكير.
ومرَّ صباح الجمعة وظهرها وعصرها وهي لا تريد لليوم أن ينتهي ولا تريد العودة للمصلحة أبدًا، ولكن الليل ما كاد يجيء حتى بدأ حب استطلاع غير حب استطلاعها العادي … رغبة خبيثة ماكرة في الاستطلاع تطغى عليها وتتمنى معها أن ينقضي الليل بسرعة لترى ما حدث أو ما يمكن أن يحدث في المصلحة.
ورغم أنها لم تتوقع أبدًا أن تجد ما وجدته، إلا أنها لدهشتها لم تستغرب حدوثه، في الواقع منذ يوم الامتحان وهي لم تَعُد تستغرب حدوث شيء … أي شيء.
وجدت سر صفقة الخميس قد تسربت إلى الزملاء الأعزاء … من الباشكاتب، من خفاجة، أو من عبادة نفسه … تفصيل لا يهمها في قليل أو كثير، والغريب أنها بعد برهة وجدت نفسها غير ساخطة، أكثر من هذا سعيدة بهذا التسرب، لكأن حائطًا سميكًا كان يفصلها عن سليمان وأحمد والباشكاتب والجندي قد تهدم من أساسه، ولم يسخر منها أحد ولم يحاول أحد أن يعايرها، بالعكس أقبل الجميع عليها وكأنها نجحت في امتحان وانتقلت إلى خانتهم، أو لكأنها الأخت المريضة التي عُوفِيت وشُفِيت وانضمت إلى العائلة، التحفظ زال والحرص في المعاملة اختفى والحجرة تحولت إلى مكان عذب خفيف الروح يغري بالإقامة ويمحو الأشجان.
الشيء الغريب الذي لحظته بعد قليل أن الجندي رغم اشتراكه في موجة المرح العامة، في أعماق نفسه كان يبدو مكتئبًا حزينًا، وقد أحست أن الحالة سببها هو حرمانه من نصيبه في صفقة الخميس، ولكنها حين علمت أن أنصبتهم جميعًا وصلتهم وكأنهم كانوا حاضرين. خبر في حد ذاته أخذ سناء على غرة وجعلها تفطن إلى أن الهدف من حكاية إخفاء الأمر عن محمد الجندي والآخرين هو مجرد خدعة من عبادة بك قصد بها أن يبث الطمأنينة في نفسها حتى تلتف حولها «الخية»، إذن دبَّر الرجلُ كل ذلك بهدف إيقاعها، ومن المحتمل أنه أشرك معه الجندي والباشكاتب في التدبير، وحتى إذا كان هذا هو ما حدث فأية أهمية الآن وهي لم تأخذ النقود لبراعة التدبير؟ لقد أخذتها لأسباب لا تدريها … وحتى قبل أن تأخذها بزمن طويل، من لحظةٍ دقَّ عبادة الباب ودخل وربما قبلها بكثير، فما علينا من هذا كله، المهم لماذا هذا الاكتئاب الذي يطفو من أعماق الجندي ويطغى على ملامحه؟
سألته وألحَّت ولم يستطع الصمود، أخبرها أنها كادت منذ ذلك اليوم الذي ألقت عليه فيه خطابها الطويل أن تنجح في تغيير مجرى حياته كله وفي إنقاذه، هو الجندي الذي قضى أكثر من ثلاثين عامًا يعيث في الدنيا فسادًا ويؤذي نفسه ولا يستريح حتى يتأذَّى الآخرون، وأنه من يومها أصبحت له المثل والبطلة، ومن شدة ثقته بها تحدى عبادة أن يُوقعها، وما كان غيابه بالأمس إلا لإعطائه الفرصة كاملة … وكان واثقًا تمامًا من فشل عبادة ونجاحها، أما وقد نجح الرجل، أما وقد حدث ما حدث فهو لا يدري لماذا أحس ولا يزال يحس بالحزن والاكتئاب؟
– ولا يهمك.
قالتها له سناء ككلمة عابرة اختارتها بنت لحظتها لتعبر بها عن حقيقة رأيها في تلك الساعة، ولم تكن تدري أنها ستصبح بعد هذا كلمتها المفضلة، وأنها ستظل ترددها مئات المرات وآلافها كلَّما حاول أحد لومها أو لمحت بوادر تدل على أنها في الطريق إلى لوم نفسها.
وكأن محمد الجندي كان ينتظر هذه الكلمة ليذهب عنه اكتئاب ضاق به … اكتئاب حديث العهد بنفسه غير أصيل، اقتلعته الكلمة وأعادته في لمحة إلى الجندي كما كان وكما هو كائن وكما من المحتمل أن يظل يكون.
وساد الانسجام التام الحجرة، وأرسل خفاجة في طلب مشروبات وعلب سجائر فاخرة، وعزم أحدهم على سناء بسيجارة فرفضت بغير شدة وحين أعاد العزومة قبلتها، وأشعلتها ومضت تجرب باضطرابِ المبتدئة كيف تمسكها وتجذب أنفاسها وتتفادى الكحة.
وبلا ورقة أو مقدمات، وقبيل انتهاء اليوم بدقائق ذهب الجندي لمكتبها وانحنى بجذعه كله حتى أصبح وجهه يكاد يلمس وجهها، ولو كان يعلم أن سناء حين ستراه عن قرب هكذا ستتمسك برأيها الأزلي فيه لما اقترب منها كل هذا الاقتراب، المهم أنه بكلمات متلجلجة متقطعة لم تحتمل سناء أن تظل تنتظره وهو يلوكها ويتلكأ في نطقها أكثر من هذا فسألته: ولا يهمك … بس قول في أي كازينو عايز؟
– إيه رأيك في … والله بيتهيألي أحسن من التاني ده.
– يا أخي فلقتني … كازينو الحمام … ح تلاقيني بكره الساعة ستة هناك.
نطقت الجملة وسكتت هنيهة، وفي أثنائها اقشعر جسدها لدى صورته حين مرت بخيالها وهو يهدر هدير الكلب «الرجل» ووجدت نفسها تقول: ولا إيه رأيك؟ ما بلاش الكازينوهات لحسن حد يشوفنا.
وفتح محمد الجندي فاه مدهوشًا مروعًا مذهولًا، معتقدًا لا بُدَّ أنها أُصيبت بمرض أو مَسَّتْها لَوْثة، إذ لم يكن باستطاعته أن يتخيل أو يصدق أنها حقيقة تعني ما تقول.