أنت من فعلها!
سأقوم بدور أوديب في حلِّ لغز مدينة راتلبورو، وسأشرح لكم بالتفصيل — باعتباري الوحيد الذي يستطيع أن يفعل هذا — سرَّ الخدعة الميكانيكية المبتكَرة التي كانت وراء المعجزة التي حدثت في هذه المدينة؛ تلك المعجزة الوحيدة، والحقيقية، والمسلَّم بها، التي لا تقبل أيَّ جدلٍ أو نقاش، والتي وضعت نهايةً حاسمة للإلحاد بين سكان راتلبورو، وتحوَّل على إثرها كل من كانوا منغمسين في التفكير في الملذات والمتع الحسية، والذين تجرَّءوا من قبلُ على التشكيك في الله؛ إلى إيمان الجدَّات القويم.
وقع هذا الحدث — الذي يؤسفني أن أرويه لكم بنبرةٍ بعيدة عن الجدِّيَّة التي يقتضيها — في صيف أحد أعوام القرن الثامن عشر، حينما اختفى السيد بارناباس شاتلورثي، أحد أغنى سكان المدينة وأكثرهم وقارًا واحترامًا، لعدة أيام في ظروفٍ أثارت لدينا الشكوك في أن يكون قد قُتل. فقد غادر السيد شاتلورثي راتلبورو في وقت مبكر للغاية من صباح أحد أيام السبت على صهوة جواده، معلنًا للجميع عزمه التوجه إلى إحدى المدن التي تبعد عنا خمسة عشر ميلًا على أن يعود في الليلة نفسها، ولكن بعد ساعتين من رحيله، عاد الجواد دونه ودون الحقيبتين المصنوعتين من الجلد اللتين كانتا معلقتين على ظهره في بداية الرحلة، وكان مجروحًا أيضًا وقد غطاه الوحل. بطبيعة الحال أثارت هذه الظروف قلق أصدقاء الرجل المفقود، وعندما حل صباح يوم الأحد من دون أن يظهر الرجل، هب كل سكان المدينة مجتمعين للبحث عن جثته.
كان أول من بدأ رحلة البحث هذه وأكثر من تحمَّس إليها هو السيد تشارلز جودفيلو، صديق السيد شاتلورثي المقرَّب الذي يناديه الجميع ﺑ «تشارلي جودفيلو» أو «تشارلي جودفيلو العجوز». ولا أستطيع أن أجزم ما إذا كان هذا من قبيل الصدف العجيبة، أم أن هذا الاسم في ذاته له تأثير دقيق إلى حدٍّ يصعُب إدراكه على شخصية صاحبه؛ إلا أن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أنه لم يحدث قط أن دُعي رجلٌ تشارلز دون أن يكون له حظ من صفات الوضوح، والرجولة، والأمانة، والبشاشة، ودماثة الخلق، ونقاء السريرة، ويكون له صوت صافٍ عذب يشرح صدرك حين تسمعه، وعين تنظر مباشرةً إلى وجهك وكأنها تقول بلسان صاحبها: «أنا صاحب ضمير نقي، ولا أخشى أحدًا، وأربأ بنفسي عن اقتراف أي فعل دنيء.» ولذا يحرص كل الممثلين الودودين الذين يؤدون أدوارًا صغيرة للنبلاء على المسرح على أن يُسَمَّوا باسم تشارلز.
في ذلك الوقت لم يكن قد مر على قدوم «تشارلي جودفيلو العجوز» إلى راتلبورو أكثر من ستة أشهر أو نحو ذلك، وعلى الرغم من أن أحدًا لم يكن يعرف أي شيء عنه قبل أن يأتي ليستقر في الحي، فلم يجد الرجل أدنى صعوبة في التعرف على كل أفاضل المدينة، ولم يكن هناك رجل منهم إلا وأخذ بكل كلمة ينبس بها وسلَّم بصحتها في أي وقت. أما النساء، فمن المستحيل أن نعرف ما كُنَّ مستعدات لفعله كي ينلن رضاه، وكان كل ذلك سببه أن اسمه تشارلز، إضافةً إلى وجهه البريء الذي كان بمثابة «أفضل خطابات التزكية» على الإطلاق.
كنت قد ذكرت لكم من قبلُ أن السيد شاتلورثي كان أحد أكثر الرجال احترامًا في المدينة، وكان بلا شكٍّ أغنى رجل في راتلبورو، وكانت تربطه ﺑ «تشارلي جودفيلو العجوز» أواصر صداقة حميمة وكأنه أخوه. كان الرجل يسكن في المنزل المجاور للسيد شاتلورثي، ومع أن السيد شاتلورثي لم يكن يزور «تشارلي العجوز» إلا فيما ندر، ولم يكن معروفًا عنه أنه يتناول الطعام في منزله، فلم يمنع ذلك الرجلين، مثلما لاحظت، من الحفاظ على روابط الصداقة الحميمة بينهما؛ إذ لم يكن يمر يوم من دون أن يذهب «تشارلي العجوز» ثلاث أو أربع مرات للاطمئنان على أحوال جاره، وغالبًا ما يجلس معه لتناول الشاي أو الإفطار، أما عن العشاء فكان يتناوله معه بصفة شبه منتظمة، ثم بعد ذلك يجلس الرفيقان ويحتسيان في الجلسة الواحدة كميةً من الشراب يصعب تحديدها. كان الشراب المفضل لدى «تشارلي العجوز» هو الشاتو مارجو، وكان يبدو من دواعي سرور السيد شاتلورثي أن يرى رفيقه العجوز يتجرع الخمر بشراهةٍ مثلَه؛ الكأسَ تلو الأخرى، حتى إن الرجل في أحد الأيام، وبعد أن تمكنت منهما الثمالة وبدأت حماقاتها في الظهور بطبيعة الحال، قال لصديقه وهو يضرب على ظهره: «أتعلم يا تشارلي العجوز، أنت بلا شكٍّ أكثر عجوزٍ شَرِه قابلته في حياتي، وبما أنك تحب تجرُّع الشراب بهذا النهم، فسوف أهديك صندوقًا كبيرًا من شراب الشاتو مارجو. ليسحقْني الرب سحقًا (كان من عادات السيد شاتلورثي السيئة هي القسم، وإن كان قلَّما زاد يومًا عن ألفاظ مثل «ليسحقْني الرب» أو «بحق الرب» أو «أقسم») إن لم أرسل إلى المدينة بعد ظهيرة هذا اليوم حتى يحضروا لي صندوقَيْن من أفضل ما يجدون من أنواع الشراب وسوف أقدمهما لك هدية. سوف أفعل. لا داعي لأن تقول أي شيء. لقد انتهينا. سوف أفعل ما قلت لك؛ لتنتظر هديتي، فسوف تصل إليك في يوم من الأيام، تحديدًا في يوم لا تتوقعها فيه!» ولقد جئت على ذكر لمحة الكرم البسيطة هذه من جانب السيد شاتلورثي كي أبيِّن لكم مدى التفاهم الشديد بين الصديقين.
في صباح يوم الأحد الذي تلا اختفاء السيد شاتلورثي، عندما أدركنا أنه غالبًا قد تعرَّض للقتل، لم أرَ بين الناس من تأثَّر بهذا النبأ مثل «تشارلي جودفيلو العجوز». فعندما سمع للمرة الأولى أن الحصان قد عاد بدون سيده، وبدون حقائب سيده التي كانت معلقة على ظهره، وأن الدم كان يغطيه جرَّاء طلقٍ ناري اخترق صدر الحيوان المسكين مباشرةً دون أن يقتله، أصابه الشحوب وكأن الرجل المفقود أخوه أو أبوه، وبدأ جسده كله يهتز ويرتعش وكأنه مصاب بحمَّى الملاريا.
في البداية، تملَّكه حزن شديد، حتى إنه لم يستطع أن يفعل أي شيء أو يضع أي خطة للتحرك، ومن ثم حاول كثيرًا أن يَثني أصدقاء السيد شاتلورثي الآخرين عن إثارة ضجة حول هذا الأمر، ظنًّا منه أن أفضل شيء هو الانتظار لبعض الوقت، ربما لأسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين، ريثما نرى إن كان سيجدُّ شيء في الأمر، أو إن كان السيد شاتلورثي سيعود بطريقة طبيعية، ويشرح لنا لمَ أرسل حصانه قبل أن يأتي هو. أستطيع القول إنكم كثيرًا ما لاحظتم هذا الميل نحو المماطلة والتباطؤ لدى الأشخاص الذين يقعون تحت تأثير الحزن الشديد، وكأن قواهم العقلية قد هَوَتْ في حالة من الخمول والبلادة، ومن ثم يرتعبون من الإقدام على أي فعل، ولا يبتغون شيئًا إلا الاستلقاء في هدوء في فراشهم، «يجترُّون حزنهم» مثلما تقول النساء العجائز، أو، بعبارة أخرى، يطيلون التفكير في بلاياهم.
كان الناس في راتلبورو يُجِلُّون بالطبع حكمة «تشارلي العجوز» وحصافته، حتى إن أغلبهم كان يميل إلى موافقته الرأي وعدم إثارة أي ضجة حول الأمر، «ريثما يَجِدُّ فيه شيء» على حد قول العجوز الشريف، وأعتقد أن ذلك ما كان الجميع يعقد عليه العزم، لولا التدخل المريب لابن شقيق السيد شاتلورثي، وهو شابٌّ منغمس في ملذَّاته، علاوةً على سوء خلقه. لم يكن ذلك الشاب، الذي يُدعى بنيفيذر، ليستمع إلى صوت العقل في مسألة «التريث والانتظار»، وإنما أصرَّ على البدء فورًا في البحث عن «جثة الرجل الذي قُتل»، على حد تعبير بنيفيذر، إلا أن السيد جودفيلو علَّق على هذا التعبير بحدَّة وقتها قائلًا: «إن هذا تعبير مستغرب، ولا أود أن أقول ما هو أكثر من ذلك!» كان لهذا التعليق الذي أبداه «تشارلي العجوز» تأثير كبير على الناس، حتى إن أحدهم قد سُمع يتساءل وقد بدا عليه التأثر الشديد بكلام تشارلي: «وكيف للسيد بنيفيذر الشاب أن يكون ملمًّا إلى هذا الحد بكل الظروف المتعلقة باختفاء عمه الثري حتى يسمح لنفسه بأن يؤكد يقينًا وبصورة قاطعة أن عمه قد «قُتل»؟» وعندئذٍ سَرَت موجة من السخرية والمشادات الكلامية البسيطة بين كثيرين من الجمع المحتشد، لا سيما بين «تشارلي العجوز» والسيد بنيفيذر، مع أن هذه المشادة لم تكن، في الواقع، بالحدث المستجد بأي حال؛ إذ كانا على خلافٍ مستمرٍّ طيلة الأشهر الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، بل تطورت الأمور لدرجة أن السيد بنيفيذر طرح صديق عمه أرضًا بزعم أن تشارلي تصرَّف بحرِّية زائدة وهو في منزل عمه الذي كان يسكنه. ويُقال إن «تشارلي العجوز» تصرَّف في هذا الموقف بضبط نفس يُضرب به المثل وبالرفق الذي تمليه عليه تعاليم المسيحية. فقد نهض بعد سقوطه على الأرض من أثر الضربة وعدل ملابسه ولم يحاول على الإطلاق أن يردَّ الضربة، كل ما فعله أن غمغم ببعض الكلمات عن أنه «سينتقم لنفسه قريبًا مع أول فرصة قريبة تسنح له»، وهو تعبيرٌ طبيعي ومبرَّر تمامًا نتيجة ثورة الغضب التي كان فيها، لم يكن ليعني شيئًا، وسرعان ما نسيه، بلا أدنى شك، بمجرد أن نفَّس عن غضبه.
وبصرف النظر عن هذه الظروف (التي لا علاقة لها الآن بموضوعنا)، من المؤكد أن أهل راتلبورو قد عقدوا عزمهم أخيرًا على الانتشار في مختلف أنحاء الريف المجاور بحثًا عن السيد شاتلورثي المفقود، بناءً على إقناع السيد بنيفيذر لهم بذلك في المقام الأول، وأعتقد أنهم كانوا يعتزمون ذلك منذ البداية. بعد أن انتهى الجميع إلى ضرورة البحث، قرروا أنه من الطبيعي أن يقسموا أنفسهم إلى مجموعات، حتى يستطيعوا مسح المنطقة المحيطة على نحوٍ أشمل. ولكنني لا أذكر الآن أيَّ منطقٍ بارع ذلك الذي استعان به «تشارلي العجوز» حتى أقنع الناس في النهاية بأن هذه الخطة هي أكثر الخطط حماقة. فقد اقتنع الجميع برأيه للغاية، فيما عدا السيد بنيفيذر، وقرروا في النهاية ضرورة أن يقوم أهل المدينة مجتمعين ببحثٍ دقيق وشامل بقيادة «تشارلي العجوز» نفسه.
لم يكن هناك قائد للرحلة أفضل من «تشارلي العجوز»، الذي يعرف الجميع عنه أنه يمتلك بصرًا حادًّا كالصقر، ولكن مع أن تشارلي قاد أهل المدينة عبر شتى الشقوق والزوايا غير المطروقة وعبر طرق لم يكن أحد يتخيل أنها موجودة بالجوار، وعلى الرغم من استمرار البحث زهاء أسبوعٍ متواصل ليلَ نهار، لم يعثر أهل المدينة على أي أثر للسيد شاتلورثي. غير أنني عندما أقول إنهم لم يعثروا على أي أثر له، فأنا لا أعني ذلك حرفيًّا؛ إذ كان ثمة بعض الآثار للرجل بالتأكيد. فقد اقتفى أهل المدينة أثر الرجل المسكين من خلال آثار فرسه (التي بدت غريبة) حتى وصلوا إلى بقعةٍ تبعد ثلاثة أميال شرق راتلبورو على الطريق الرئيسي المؤدي للمدينة. وعند هذه البقعة انحرفت الآثار إلى طريقٍ فرعي داخل الغابة، ثم عادت الآثار مرة أخرى إلى الطريق الرئيسي حيث ظلت موجودة لمسافة نصف ميل. ظل الناس يتتبعون آثار الفرس عبر هذا الطريق، حتى وصلوا أخيرًا إلى بِركة مياه آسنة على يمين الطريق غطى نصفها شجيراتُ نبات العُلَّيق، وقبالة هذه البركة اختفى كل أثرٍ لنعال الفرس، وبدا كما لو كان المكان قد شهد صراعًا من نوع ما، وبدا وكأن جسدًا ضخمًا وكبيرًا، أثقل وأكبر بكثير من أن يكون جسد إنسان، قد جُرَّ من الطريق الفرعي إلى البركة. ألقى أهل المدينة شبكةً في قاع البركة مرتين بحثًا عن هذا الجسد ولكن لم يجدوا شيئًا، وكانوا على وشك الانصراف بعد أن يئسوا من الوصول إلى أي نتيجة عندما جاء السيد تشارلي هاتف من السماء أوحى له بأنه من الأفضل أن يقوموا بنزح المياه كليًّا من البركة. استُقبل هذا الاقتراح بالتهليل والثناء الجمِّ على «تشارلي العجوز» لحكمته وحسن تقديره للأمور. كان الكثير من أهل المدينة قد أحضروا معهم مجاريف ظنًّا منهم أنه قد يطلب منهم النبش في الأرض بحثًا عن الجثة؛ ولذا تمت عملية نزح المياه بسهولة وسرعة، وبمجرد ظهور القاع رأى الحضور وسط ما تبقَّى من الوحل صدرية سوداء من القطيفة الحريرية تعرَّف عليها جميع الحاضرين على الفور بوصفها تخص السيد بنيفيذر. كانت الصدرية ممزَّقة تمامًا وملطخة بالدماء، وكان هناك الكثير من الأشخاص من بين الحضور يتذكرون بوضوح أن صاحب هذه الصدرية كان يرتديها في صباح اليوم الذي غادر فيه السيد شاتلورثي إلى المدينة، بينما كان آخرون مستعدين لأن يُقْسِموا — حال طُلب منهم ذلك — على أنهم لم يروا السيد بنيفذر مرتديًا هذه الصدرية فيما تبقى من ذلك اليوم المشهود، ولم يكن أحدٌ قد رأى السيد بنيفذر مرتديا إياها بعد اختفاء السيد شاتلورثي على الإطلاق.
اتخذت الأمور منحًى في غاية الخطورة بالنسبة إلى السيد بنيفذر الآن، ومما أكد الشكوك التي أُثيرت حوله إلى حدٍّ بعيد ما ظهر عليه من شحوب شديد. وحينما طُلب منه أن يدافع عن نفسه لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة. في تلك اللحظة تخلَّى عنه أصدقاؤه القليلون الذين تبقَّوا له نتيجة نظام حياته الفاسد، بل كانوا أكثر إصرارًا من أعدائه القدامى المعروفين على المطالبة بالقبض عليه في الحال. ولكن على الجانب الآخر، تجلَّت شهامة السيد جودفيلو واضحة، تتلألأ ببريق يكشف عن الفرق بينه وبين أصدقاء السوء؛ إذ ألقى كلمةً بأسلوب في غاية البلاغة دفاعًا عن السيد بنيفذر، أشار فيها أكثر من مرة إلى صفحه الصادق والحقيقي عن ذلك الشاب المتهور — «وريث السيد شاتلورثي المبجل» — لما بدر منه من إساءة — في فورة انفعال بلا شك — ظن أنه من اللائق أن يلحقها بالسيد جودفيلو. قال جودفيلو إنه قد سامحه من صميم قلبه، وإنه عن نفسه، بدلًا من السعي إلى توسيع نطاق دفع ظروف الاشتباه هذه، التي من دواعي أسفه أحاطت بالسيد بنيفيذر على حد قوله، إلى أقصى مدى وتعزيزها، فإنه سيبذل كل ما في وسعه ويستخدم كل ما أُوتي من بلاغة، بقدر ما يسمح به ضميره، لكي يخفف من وطأة أسوأ آثار هذا الأمر المعقد إلى أقصى حد.
استمر السيد جودفيلو على هذا المنوال زهاء النصف الساعة على نحوٍ يدل على رجاحة عقله ورقَّة قلبه؛ لكن الأصدقاء الطيبين نادرًا ما تكون ملاحظاتهم في محلِّها؛ فهم يقعون في كل أنواع الأخطاء وشتى الخلافات والهفوات في فورة حماسهم البالغ لمساعدة صديق؛ ومن ثم، وغالبًا بأطيب النوايا وأصدقها، تجدهم يبذلون المزيد دون توقُّف للإضرار بقضية ذلك الصديق بدلًا من دعمها.
وهذا ما حدث في هذا الموقف، فمع كل بلاغة «تشارلي العجوز»، ورغم أنه أضنى نفسه وبذل جهدًا جهيدًا للدفاع عن المشتبه فيه، فقد تبيَّن بطريقة أو بأخرى، أن كل مقطع نطق به — والذي لم يكن الغرض المباشر منه، وإنما المستتر، هو نيل استحسان سامعيه — كان له عظيم الأثر في ترسيخ الشبهة التي لحقت بالفعل بالسيد بنيفيذر الذي كان يترافع عنه، وفي تهييج الحشد المتجمهر ضده.
وعليه، قُبِضَ على السيد بنيفيذر في الحال، وبعد مزيد من البحث، بدأ الجمع مسيرتهم في طريق العودة إلى المدينة والسيد بنيفيذر تحت الحراسة. بيد أن حادثةً أخرى وقعت على الطريق أكدت الاشتباه أكثر؛ فقد رأى الجمعُ السيدَ جودفيلو الذي قاده حماسه لأن يسبقهم بخطوة دائمًا، يُسرع بضع خطوات للأمام على حين غرَّة ثم انحنى وبدا أنه يلتقط شيئًا صغيرًا من وسط الحشائش. وبعد أن فحص هذا الشيء في عجالة، شوهد وهو يحاول إخفاءه في جيب معطفه، لكنه شوهد كما قلت، ومنعه الجمع من فعل هذا، ولمَّا خطفوه منه تبين أنه سكين إسباني ما إن تحققوا منه حتى أدرك عدد منهم على الفور أنه يخص السيد بنيفيذر. والأدهى من ذلك أن الأحرف الأولى من اسمه كانت منقوشة على يد السكين، الذي كان نصله مفتوحًا وملطخًا بالدماء.
عندئذٍ لم يبقَ ثمة شك في أن السيد بنيفيذر هو مرتكب الجريمة. وفور وصولهم إلى راتلبورو اقتيد للمثول أمام المحقق لاستجوابه.
ومرة أخرى اتخذت الأمور منحًى وعرًا للغاية. فلما سُئل المتهم عن مكان وجوده صباح يومِ اختفاء السيد شاتلورثي، كان لديه من الجرأة ما يكفي لأن يقر بأنه في هذا الصباح كان بالخارج ومعه بندقيته لاصطياد الغزلان في المنطقة المجاورة مباشرة للبركة التي عُثر فيها على الصدرية الملطخة بالدماء بفضل حكمة السيد جودفيلو.
عندئذٍ تقدَّم السيد جودفيلو للأمام والدموع تترقرق في عينيه طالبًا مثوله للاستجواب. قال إن إحساسًا قويًّا بواجبه نحو البارئ لا يقل عن إحساسه بواجبه نحو أقرانه يحتم عليه أن يخرج عن صمته؛ فحتى هذه اللحظة كانت مشاعره الصادقة نحو الشاب الصغير (على الرغم من سوء معاملة الأخير له) تدفعه إلى وضع كل الافتراضات التي يمكن للخيال أن ينسجها، عن طريق المراوغة بغية دحض أوجه الشبهة في الملابسات التي أحاطت بشدة بالسيد بنيفيذر، على أن هذه الملابسات أضحت الآن مقنعة أيما إقناع، ولم يعد مترددًا في الإدلاء بشهادته؛ لذا سيدلي بكل ما لديه من معلومات، مع أن قلبه سينفطر حتمًا في خضم هذا الموقف. مضى «تشارلي العجوز» يروي أنه بعد ظهر اليوم الذي سبق رحيل السيد شاتلورثي إلى المدينة، أخبر العجوز المبجل ابن أخيه، على مسمعٍ من السيد جودفيلو، أن الغرض من ذهابه إلى المدينة غدًا هو إيداع مبلغ كبير للغاية من المال في «مصرف المزارعين وعمال الميكانيكا»، وفي تلك اللحظة وذلك المكان صرح السيد شاتلورثي بكل وضوح لابن أخيه أنه عقد العزم بلا رجعة على إلغاء الوصية الأصلية التي حررها، وأنه لن يحصل على مليم واحد من ثروته. وعندئذٍ طلب الشاهد مثول المتهم رسميًّا لاستجوابه بشأن ما إذا كان ما ذكره الشاهد لتوِّه هو الحقيقة بحذافيرها أم لا. وما زاد من استغراب جميع الحضور أن السيد بنيفذر اعترف صراحةً بأن هذه هي الحقيقة.
فما كان من المحقق إلا أن أرسل شرطيين لتفتيش غرفة المتهم بمنزل عمه. وسرعان ما عاد الشرطيان من تفتيشهما ومعهما حافظة نقود السيد شاتلورثي الجلدية المعروفة بلونها البني الداكن وقفلها المعدني، والتي اعتاد شاتلورثي العجوز حملها على مدار سنوات. بيد أن الحافظة جُردت من محتوياتها الثمينة، وحاول المحقق جاهدًا أن ينتزع من المتهم اعترافًا بشأن ما فعله بها أو أين خبأها لكن دون طائل. أنكر السيد بنيفيذر بإصرار شديد أي صلة له بهذه المسألة. عثر الشرطيان أيضًا تحت حشية فراش الشاب الشقي على قميص ومنديل عنق، كلاهما يحمل الأحرف الأولى من اسمه وملطخ على نحو مرعب بدم الضحية.
في تلك اللحظة الحاسمة، جاء نبأ نفوق حصان القتيل لتوِّه في الإسطبل إثر الإصابة التي تلقَّاها، واقترح السيد جودفيلو ضرورة إجراء تشريح فوري لجثة الحصان بغية اكتشاف الرصاصة إن أمكن. نُفذ اقتراحه، وكما لو كان يسعى إلى إلصاق الجريمة بالسيد بنيفيذر بما لا يدع مجالًا للشك، تمكَّن السيد جودفيلو بعد فحص ممتد للتجويف الصدري للحصان من العثور على رصاصة هائلة الحجم وإخراجها، وتبيَّن خلال المحاكمة أن حجمها يتطابق تمامًا مع ماسورة بندقية السيد بنيفيذر، على أنها لا تتناسب بحجمها الهائل هذا وباقي مواسير البندقيات التي يمتلكها أي فرد في المدينة أو المناطق المجاورة. وما أكد إدانة المتهم أكثر أن الرصاصة التي عُثر عليها تبيَّن أن بها صدعًا أو شقًّا عموديًّا على الشق الطبيعي للرصاصة، وبالفحص تبيَّن التطابق التام بين هذا الشق ونتوء عارض في قالبين لتشكيل طلقات الرصاص اعترف المتهم بأنهما ملكه. وفور العثور على هذه الرصاصة رفض قاضي التحقيق الاستماع إلى أي شهادة أخرى، وأحال المتهم إلى المحاكمة على الفور، رافضًا رفضًا باتًّا إطلاق سراح المتهم بكفالة، على الرغم مما أبداه السيد جودفيلو من اعتراض شديد أمام هذا التعنت وعرض ضمانه بأي مبلغ من المال مهما كان. لم يكن هذا الكرم من جانب «تشارلي العجوز» بعيدًا تمامًا مع ما أبداه من لطف وشهامة عامة إبان فترة إقامته المؤقتة بأكملها في مدينة راتلبورو. في تلك اللحظة انجرف الرجل المبجل وراء حماسه الشديد وليد التعاطف، كأنما قد نسي تمامًا، عندما عرض أن يضمن صديقه الشاب، أنه معدم لا يملك شيئًا على وجه البسيطة.
ربما ليس من الصعب التكهن بعواقب الجريمة. فقد قدم السيد بنيفيذر إلى المحاكمة الجنائية وسط صخب لعنات أهل راتلبورو، حين اعُتبرت سلسلة الأدلة الظرفية (التي عززتها بعض الحقائق المفجعة الأخرى، التي لم يستطع السيد جودفيلو حجبها عن المحكمة بوازع من ضميره الحي) سليمةً ومقنِعةً تمامًا، حتى إن هيئة المحلفين أصدرت حكمها الفوري بدون أدنى تردد: «مُدَان بارتكاب جريمة قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد.» وسرعان ما حُكم على الشاب البائس الشقي بالإعدام، وأُعيد إلى سجن المقاطعة في انتظار قصاص القانون الذي لا يرحم.
في الوقت نفسه، ضاعف سلوك «تشارلي العجوز» النبيل من مكانته ومعزَّته في قلوب أهل المدينة الشرفاء، فتضاعفت شعبيته أكثر من أي وقت مضى عشرات المرات. وكنتيجةٍ طبيعيةٍ للحفاوة التي استُقبل بها، تحرر رُغمًا عنه — إن جاز التعبير — من عادات الشح الشديد التي أجبره فقره المدقع على اتباعها حتى تلك اللحظة، حتى إنه كثيرًا ما استقبل تجمعات صغيرة في منزله، حيث تسود أجواء البهجة والدعابة، ولا يعكر صفوها بالطبع — وإن كان بقدر محدود — إلا التذكُّر العرضي للمصير المشئوم والكئيب الذي ينتظر ابن أخي الراحل شاتلورثي الصديق المقرَّب كريم الضيافة.
حضرة المحترم تشارلز جودفيلو، مدينة راتلبورو
من شركة إتش إف بي وشركاه
شاتو مارجو، أنتيلوبي؛ درجة أولى، ٦ زجاجات (نصف دستة)
[كان الكلام المذكور أعلاه مكتوبًا في يسار الجزء العلوي من الخطاب المطبوع التالي.]
حضرة المحترم تشارلز جودفيلو،
سيدي العزيز، بناء على الطلب المرسل إلى شركتنا منذ نحو شهرين من عميلنا المبجل، السيد بارناباس شاتلورثي، يشرِّفنا أن نُرسِل على عنوانك هذا الصباح صندوقين من الشاتو مارجو، ماركة أنتيلوبي، مختومة بالختم البنفسجي. الصندوقان مرقَّمان ومميزان كما هو موضَّح في هامش فاتورة الشحن.
ملحوظة: سيصلكم الصندوق عن طريق شاحنة في اليوم التالي لتسلمكم هذا الخطاب. مع خالص احترامنا إلى السيد شاتلورثي.
حقيقة الأمر أنه منذ وفاة السيد شاتلورثي، تلاشت تمامًا كل توقعات السيد جودفيلو في الحصول على الشاتو مارجو التي وعده بها؛ ومن ثم اعتبر هذا الأمر نوعًا خاصًّا من تدبير العناية الإلهية نيابة عن السيد شاتلورثي. اجتاحته فرحة غامرة بالطبع، وفي خضمِّ ابتهاجه، دعا جمعًا كبيرًا من الأصدقاء لحضور حفل عشاء صغير في اليوم التالي بغرض فتح الهدية. لكنه لم يأتِ قط على ذكر السيد «شاتلورثي العجوز الطيب» عند توجيه الدعوات للأصدقاء. فقد فكر مليًّا في الواقع، وقرَّر ألا يذكر أي شيء على الإطلاق؛ فهو لم يُخبر أي شخص — على ما أذكر — أنه قد تلقَّى هديةً من الشاتو مارجو، واكتفى فقط بدعوة أصدقائه للحضور ومساعدته في احتساء بعضٍ من أجود أنواع الشراب وأغناها مذاقًا، التي كان قد طلبها من المدينة منذ شهرين وسيتسلمها في الغد. كثيرًا ما تملَّكتني الحيرة لدى تخيُّل السبب الذي دفع «تشارلي العجوز» إلى اتخاذ القرار بتكتمِ أمر حصوله على الشراب كهدية من صديقه القديم، ولكن لم أستطع قط أن أكتشف سبب سكوته بالتحديد، مع أنه كان يملك سببًا وجيها ونبيلًا للغاية بلا شك.
وأخيرًا جاء الغد ومعه زمرة كبيرة جدًّا من الرفاق الموقَّرين إلى منزل السيد جودفيلو. كان نصف عدد أفراد المدينة موجودين هناك بالفعل — وكنت أنا وسط الجمع — لكن ما أثار سخط الجمع كثيرًا أن شراب الشاتو مارجو لم يصل حتى ساعة متأخرة، وكانوا قد انقضُّوا على العشاء الفاخر الذي أعدَّه «تشارلي العجوز» لضيوفه ولكن وصل الشراب في النهاية، وكان صندوقًا هائل الحجم، ولمَّا كان الجمع بأكمله في حالة من الصخب الشديد، فقد قرروا بالإجماع أن يضعوا الصندوق على الطاولة وأن يُفرِغوا محتوياته في الحال.
فعلنا هذا في التوِّ واللحظة، وساعدتُهم في رفع الصندوق الذي صار في لمح البصر على الطاولة وسط كل الزجاجات والكئوس التي تحطَّمَ منها عددٌ غير قليل وسط الهرج والمرج. جلس «تشارلي العجوز»، الذي كان ثملًا للغاية وتكسو وجهه حُمْرَةٌ مفرِطة على رأس المائدة بوقار زائف، ثم قرع بقوةٍ على الطاولة بإناء لصبِّ الخمر كي يلزموا النظام «أثناء الاحتفال بإخراج الكنز».
بعد قدر من الجعجعة، عمَّ الهدوء التام أخيرًا، وكما هو الحال غالبًا في المواقف المشابهة، ساد صمتٌ مطبِق رهيب. طلب مني «تشارلي العجوز» فتح الغطاء بالقوة، فامتثلت للأمر بالطبع «بسعادةٍ لا تُوصف». أدخلتُ إزميلًا، ثم طرقت عليه بضع طرقات خفيفة باستخدام مطرقة، فانفتح غطاء الصندوق على حين غرَّة، وفي نفس اللحظة، اندفعت جثة السيد شاتلورثي القتيل غارقةً في الدماء، ومليئةً بالكدمات والجروح، وشِبْه متعفنة، إلى وضع الجلوس في مواجهة صاحب الحفل مباشرة. حملقت الجثة بعينيها الذابلتين اللتين انطفأ بريقهما، في حزنٍ وثباتٍ للحظاتٍ معدوداتٍ في وجه السيد جودفيلو مباشرة، ثم نطقت ببطء، لكن بوضوح وبقوة: «أنت من فعلها!» ثم سقطت على جانب الصندوق باسطةً أطرافها على الطاولة وهي ترتعش، كأنما شعرت بالرضا التام.
ليس في الكلمات ما يمكن أن يصف المشهد الذي تلا ذلك تمامًا؛ إذ تدافع الجميع تدافعًا محمومًا نحو الأبواب والنوافذ، بل إن كثيرين من الرجال الأشداء غُشِيَ عليهم من فرط الرعب. ولكن بعد انقشاع نوبة الذعر والصراخ الأولية الشديدة، تحولت جميع الأعين نحو السيد جودفيلو. لا يمكن أن أنسى أبدًا ما حييت الكرب المميت الذي تجسَّد على ملامح وجهه الذي صار في شحوب الأشباح، بعد أن كان متوردًا بحمرة الانتصار والشراب قبل لحظات. جلس تشارلي متصلبًا كتمثال من الرخام لعدة دقائق، وبدا من خواء نظرته الشديد وكأن عينيه قد تحولتا إلى الداخل واستغرقتا في التأمل في روحه البائسة القاتلة. وأخيرًا ومضت عيناه فجأة كأنما عادتا إلى العالم الخارجي، عندما هبَّ سريعًا من مقعده بقفزة سريعة ثم سقط برأسه وكتفيه على الطاولة بقوة، ملامسًا الجثة، واعترف في عجالة وانفعال شديد اعترافًا مفصلًا بالجريمة البشعة التي سُجن بسببها السيد بنيفيذر وحُكم عليه بالموت.
وكانت هذه فحوى ما سرده: تتبَّعَ العجوز ضحيته حتى البقعة المجاورة للبِركة، وهناك أطلق النار على فرس الضحية من أحد المسدسات، ثم ضرب الضحية بمؤخرة المسدس، ثم استولى على محفظته، ولما ظن أن الجواد قد مات، جرَّه بشق الأنفس إلى خلف شجيرات نبات العُلَّيق بجانب البركة. وعلى ظهر جواده هو، نقل جثة السيد شاتلورثي إلى مكانٍ آمِنٍ لإخفائها على بعد مسافة طويلة في قلب الغابة.
أما عن الصدرية، والسكين، والمحفظة، والرصاص، فقد وضعها بنفسه في الأماكن التي عُثر عليها فيها؛ بهدف الثأر لنفسه من السيد بنيفيذر، وهو أيضًا من دبَّر أمر العثور على القميص ومنديل العنق الملطخين بالدماء.
نحو نهاية سرد قصة نافورة الدماء، تلعثم الصعلوك المذنب في كلماته التي صارت جوفاء، وعندما فرغ من اعترافه أخيرًا، نهض من على الطاولة مترنحًا إلى الخلف، ليخرَّ صريعًا على حين غرَّة.
•••
كانت الوسائل التي استخدمتها لانتزاع هذا الاعتراف — الذي جاء في الوقت المناسب — بسيطة على براعتها. كانت الصراحة المفرطة للسيد جودفيلو تثير اشمئزازي، وأثارت شكوكي منذ البداية؛ فقد كنت حاضرًا عندما ضربه السيد بنيفيذر، وكان ذلك التعبير الشيطاني الذي علا وجهه آنذاك — مع أنه لم يدُم إلا للحظات — هو الذي أكد لي أنه سينفِّذ وعيده بالانتقام بكل قسوة إذا سنحت الفرصة؛ ومن ثم كنت متأهبًا للنظر في مناورات «تشارلي العجوز» من منظور مختلف تمام الاختلاف عن ذلك الذي كان ينظر به أهل راتلبورو الطيبون؛ لذا لاحظت على الفور أن كل الاكتشافات التي تُجرِّم السيد بنيفيذر، هو من جاء بها على نحو مباشر أو غير مباشر. على أن الأمر الذي فتح عيني على الحقيقة بكل وضوح هو الرصاصة التي عثر عليها السيد جودفيلو في جثة الحصان. فلم أنسَ — برغم نسيان كل أهل راتلبورو — أن جثة الحصان كان بها ثقبان أحدهما دخلت منه الرصاصة والآخر خرجت منه. فقد تبيَّن لي بوضوح أنه لو كان قد عُثر عليها في جثة الحيوان، بعد أن خرجت من الثقب الآخر، فإن من عثر عليها هو قطعًا من وضعها. أما عن القميص والمنديل الملطَّخَين بالدماء، فما هما إلا تأكيد على الفكرة التي توحي بها الرصاصة؛ إذ تبين إبان الفحص أن الدم الذي يلطخهما ليس سوى شراب الكلاريت الأحمر القاني ليس أكثر. وعندما أمعنت التفكير في كل هذه الأمور، وأيضًا في ازدياد إنفاق السيد جودفيلو وسخائه المفرط في الآونة الأخيرة، أضمرت بداخلي شكًّا قويًّا واحتفظت به لنفسي.
في هذه الأثناء شرعت في عملية بحث شامل ودقيق أحاطتها السرية عن جثة السيد شاتلورثي، ولأسباب وجيهة شمل بحثي مواضع مختلفة قدر الإمكان عن تلك التي هدى إليها السيد جودفليو القوم. وبعد مضيِّ بضعة أيام، أسفر البحث عن العثور على بئر قديمة جافة بمحض مصادفة، كانت فتحتها شبه خفية عن الأنظار بفعل شجيرات نبات العُلَّيق، وهناك، في قاعها، عثرت على ضالَّتي المنشودة.
كانت الصدفة قد قادتني لاستراق السمع إلى الحديث الذي دار بين الرفيقين بشأن هدية الشاتو مارجو، حين خطط السيد جودفيلو للاحتيال على ضيوفه وتضليلهم باستخدام هدية الشاتو مارجو. وبناءً على هذا الخيط رسمت خطتي: فجلبت قطعة صلبة من البلِّين وثبَّتُّها أسفل حلق الجثة، ثم وضعت الجثة في صندوق خمر قديم، مع مراعاة طي الجثة فيه ومعها قطعة البلِّين. وبذلك اضْطُررت إلى الضغط بقوة على الغطاء كي يظل مغلقًا وثَبَّتُّه باستخدام المسامير، وبالطبع توقعت أنه بمجرد إزالة المسامير، سيندفع الغطاء بقوة ومعه الجثة.
وعلى هذا النحو أعددت الصندوق، وميَّزته، ورقَّمته، وكتبت عليه العنوان كما ذُكِر قبلًا، وبعد أن أعددت خطابًا باسم شركة الخمور التي يتعامل معها السيد شاتلورثي، أعطيت تعليمات إلى خادمي كي ينقل الصندوق في عربة إلى منزل السيد جودفيلو عندما أعطيه إشارة الانطلاق. أما عن الكلمات التي تعمَّدت أن تنطق بها الجثة، فقد اعتمدت في هذا على مهاراتي في التكلُّم من البطن دون تحريك شفتي، أما عن مدى فاعليتها، فقد عوَّلت على وخز ضمير الصعلوك القاتل.
لست أرى أن ثمة شيئًا آخر في حاجة إلى الإيضاح؛ فقد أُطلق سراح السيد بنيفيذر في الحال، وآلت إليه ثروة عمه، واستفاد من الدروس التي لقنته إياها هذه التجربة، وبدأ صفحة جديدة في حياته، وعاش حياة جديدة هانئة.