الفصل الأول

البذور

تضمنت أولى قصص ستيف جوبز قطع أحجية، وبدأت بوعدٍ غريب.

figure
ستيف جوبز (أقصى اليسار) مع صديقين من المدرسة في الصف السابع.

كانت «جوان شيبل» طالبة الدراسات العليا في ولاية ويسكونسن في الثالثة والعشرين من عمرها عندما اكتشفت أنها حامل. لم يوافق أبوها على علاقتها بطالب دراسات عليا سوري المولد. وكانت التقاليد الاجتماعية في خمسينيات القرن الماضي في أمريكا تستنكر أن تنجب امرأة من دون زواج. ولتجنب الفضيحة، انتقلت «شيبل» إلى سان فرانسيسكو وذهبت إلى طبيب يرعى الأمهات غير المتزوجات ويساعد على ترتيب إجراءات التبني.

في البداية، وافق محامٍ وزوجته على تبني الرضيع، لكن حين ولد الطفل في ٢٤ فبراير ١٩٥٥م، غيَّرا رأيهما.

كان الزوجان المتواضعان «بول وكلارا جوبز» في انتظار طفل، وهما زوجان من سان فرانسيسكو، حاصلان على بعض التعليم الثانوي. وحين جاءت المكالمة المنتظرة في منتصف الليل، اغتنما فرصة تبني الوليد على الفور، وأسمياه «ستيفن بول».

كانت «شيبل» تريد أن يتبنى طفلها أبوان من خريجي الجامعة. وقبل إتمام إجراءات التبني علمت «شيبل» أن كلا الأبوين لم يحصل على شهادة جامعية، فأحجمت عن القبول، ولكنها وافقت على إتمام إجراءات التبني بعد ذلك ببضعة أشهر، «حينما قطع والداي وعدًا بأن أذهب إلى الجامعة» وفقًا لجوبز.

figure
«باتي جوبز». صورة من الكتاب السنوي، ١٩٧٢م.

متشبثين بأمل المستقبل المشرق لطفلهما، استقر الأبوان جوبز، وتبنيا ابنتهما «باتي» بعد ذلك بعامين. تبين أن ستيف الصغير طفل غريب، وأن تربيته تمثل تحديًا. في إحدى المرات وضع دبوس شعر في مقبس الكهرباء! مما أدى إلى نقله إلى غرفة الطوارئ لاحتراق يده. وفي مرة أخرى تناول سم النمل، وتطلب الأمر نقله إلى المستشفى لغسيل معدته. وحتى يشغلاه في حال استيقظ قبل بقية أهل البيت، اشترى له والداه حصانًا خشبيًّا هزازًا، ومسجلًا، وبعض تسجيلات المغني «ليتل ريتشارد». كان طفلًا صعب المراس للدرجة التي دعت أمه أن تتساءل إن كانت قد أخطأت بتبنيه.

عندما كان ستيف في الخامسة، نُقل والده بول إلى مدينة بالو ألتو، التي تقع على بُعد حوالي خمسٍ وأربعين دقيقة إلى الجنوب من سان فرانسيسكو. بعد أن خدم في خفر السواحل في الحرب العالمية الثانية، عمل بول ميكانيكيًّا وبائعًا للسيارات المستعملة. أما في ذاك الوقت فقد كان يعمل في شركة أموال لجمع الديون المعدومة، وفي وقت فراغه كان يصلح السيارات المستعملة ويبيعها لتوفير بعض المال اللازم ليلتحق ستيف بالجامعة فيما بعد.

كانت المنطقة الواقعة جنوب سان فرانسيسكو غير متطورة حينذاك، تنتشر فيها أشجار المشمش والخوخ. اشترت الأسرة منزلًا في «ماونتين فيو». بينما عمل بول على إقامة ورشته في الجراج، ترك جزءًا منها ونادى ابنه: «ستيف! هذه هي طاولتك لتعمل عليها الآن.» علم الأب ستيف كيف يستخدم المطرقة، وأعطاه مجموعة أدوات صغيرة. على مر السنوات، تذكر جوبز والده قائلًا: «كان يقضي وقتًا طويلًا معي … يعلمني كيف أركِّب بعض الأشياء وأفكها، لأركبها مرة أخرى.»

تركت دقة حرفية والده واهتمامه بأدق التفاصيل أثرًا عميقًا في نفس ستيف. قال عنه جوبز لصحفي في ١٩٨٥م: «كان عبقريًّا في استخدام يديه. يستطيع إصلاح أي شيء ويجعله يعمل، كما يستطيع فك أي آلة وتركيبها مرة أخرى.» وأكد والده أيضًا على أهمية إنجاز الأمور بشكل صحيح. على سبيل المثال، علَّم ابنه: «حين تكون نجارًا يصنع أدراجًا جميلة، لا تستخدم في ظهر الدرج رقائق من الخشب، حتى لو كان هذا الظهر مواجهًا للجدار ولن يراه أحد، سوف تعرف أنه موجود، ولذا عليك أن تستخدم قطعة جميلة من الخشب في الظهر.»

وكان هذا هو الدرس الذي طبقه جوبز كثيرًا على منتجات أبل الجديدة. قال: «حتى تنام مستريحًا في الليل، يجب أن تأخذ الجماليات والجودة مَداها.»

دعمت «كلارا» أيضًا ابنها الصغير، فعملت جليسة لأطفال الأصدقاء في المساء لتوفر له تكاليف دروس السباحة. ولأن ستيف كان مبكر النضج ومهتمًّا، علمته القراءة، مما أعطاه دفعة كبيرة في المدرسة.

لسوء حظ ستيف، صارت معرفته بالقراءة مشكلة. بمجرد التحاقه بالمدرسة، كما يتذكر ستيف: «كنت أود القيام بشيئين فقط: قراءة الكتب؛ لأنني أحب قراءتها، والخروج لمطاردة الفراشات.»

أما ما كان لا يريد فعله، فهو اتباع التعليمات. رفض نظام اليوم الدراسي، وسرعان ما أصابه الوجود في الفصل بالملل. كان يشعر بأنه مختلف عن زملائه.

عندما كان في السادسة أو السابعة، قال لفتاةٍ تسكن في شارعه إنه ابن بالتبني، فسألته: «وهل يعني هذا أن أبويك الحقيقيين لا يريدانك؟»

صدمه السؤال البريء كلكمة في بطنه، وغرس في ذهنه فكرة مرعبة لم يفكر فيها من قبل. جرى إلى المنزل وأخذ ينتحب. قام أبواه بسرعة لتهدئته وإبعاد هذه الفكرة عن ذهنه. وقال ستيف: «كانا جادَّين جدًّا ونظرا في عيني مباشرة، وقالا: اخترناك أنت بالتحديد دونًا عن غيرك.»

في واقع الأمر، كان والداه مؤمنين بأنه متميز جدًّا، متألق بشكل استثنائي، وقوي الإرادة أيضًا بشكل استثنائي. فيما بعدُ، قال أصدقاؤه وزملاؤه إن دافعه وحاجته إلى السيطرة نبعا من إحساسه العميق بالهجر، لكنه لم يرَ الأمر على هذا النحو. قال لكاتب سيرته: «ربما أشعرَتني معرفتي بأنني متبنًّى بالمزيد من الاستقلالية، لكنني لم أشعر قط بالهجر. شعرتُ دائمًا بالتميز. جعلني والداي أشعر بالتميز.»

وعلى النقيض، رأى بعض مدرِّسيه أنه طفل مثير للمشاكل وليس متميزًا. شعر جوبز أن المدرسة مملة وكريهة جدًّا، حتى إن أكبر متعه هو وأحد أصدقائه وقتها كانت تأتي من إحداث الشغب. كان الكثير من الأطفال يذهبون إلى المدرسة بالدراجات، ويربطونها بالأقفال إلى حواجز خارج مدرسة «مونتا لوما» الابتدائية، وفي الصف الثالث تبادل هو ورفيقه أرقام أقفال دراجتيهما مع كثير من الزملاء. وذات يوم، خرجا وبدَّلا أرقام الأقفال كلها. يقول متذكرًا: «استغرقهم الأمر حتى الساعة العاشرة ليلًا لفرز الدراجات كلها.»

وكانت التصرفات الأسوأ على الإطلاق من نصيب مدرِّسته. أطلق جوبز وصديقه ثعبانًا في الفصل وأحدثا انفجارًا تحت مقعدها. وقال فيما بعد: «تسببنا لها في أزمة عصبية.»

طُرد ستيف من المدرسة مرتين أو ثلاثًا لسوء سلوكه، لكنه لا يتذكر أنه عوقب بسبب ذلك، بل على العكس كان والده يدافع عنه، قائلًا للمدرسين: «إذا لم تستطيعوا أن تثيروا اهتمامه فهذا خطؤكم.»

في الصف الرابع أنقذته مدرسة مميزة اسمها «إيموجين» أو «تيدي هيل»، التي أمطرته بعطفها واهتمامها في أثناء إحدى الفترات الصعبة التي مرت بها أسرته. أُعجب «بول جوبز» بنجاح أحد جيرانه في بيع العقارات، فالتحق بمدرسة ليلية ليحصل على رخصة لبيع عقارات، لكن التوقيت كان سيئًا، حيث هبط الطلب على المساكن، بينما كان بول يحاول اقتحام المجال.

وذات يوم سألت السيدة تيدي تلاميذها: ما الذي لا تفهمونه في الكون؟

فرد جوبز الصغير: لا أفهم لم أفلس والدي فجأة!

شغلت «كلارا» وظيفة بدوام نصفي في قسم الرواتب في شركة محلية، وحصلت الأسرة على قرض ثانٍ بضمان المنزل. ولسنة تقريبًا، مرت عائلة جوبز بظروف مادية صعبة جدًّا.

استطاعت السيدة تيدي أن تحجم تلميذها غير العادي خلال بضعة أسابيع من ضمه إلى فصلها. عرضت عليه صفقة ظريفة: إذا استطاع أن يحل تدريبات كتاب الرياضيات بنفسه وأن تكون ٨٠٪ على الأقل من إجاباته صحيحة، فسوف تعطيه خمسة دولارات ومصاصة كبيرة.

يقول جوبز: «نظرت إليها وكأنني أقول: هل أنت مجنونة يا سيدتي؟»

لكنه قبل التحدي، وبعد وقت قصير كان إعجابه واحترامه للسيدة تيدي عظيمًا جدًّا، ولم يعد في حاجة إلى رشاوى.

كان الإعجاب متبادلًا، فزودت تيدي تلميذها الناضج قبل أوانه بعدة لصنع كاميرا، لكن لم يعنِ هذا أن جوبز قد صار طفلًا لين العريكة. بعد ذلك بسنوات طويلة، سلَّت السيدة تيدي بعض زملاء جوبز بعرض صورة لفصلها يوم كان الدرس عن هاواي. كان جوبز وسط الصورة مرتديًا قميصًا ملونًا كالذي يرتدونه في هاواي، لكن الصورة لم تحكِ القصة كلها: في ذلك اليوم لم يأتِ جوبز إلى المدرسة مرتديًا قميص هاواي، لكنه كان قد أقنع أحد زملائه بإعطائه القميص الذي كان يرتديه.

وصف جوبز مُدرسته بأنها: «إحدى الملائكة الذين قابلتهم في حياتي. تعلمت في تلك السنة أكثر مما تعلمت في أي سنة أخرى في المدرسة.»

ويعترف بأن الفضل يعود إليها في انتقاله إلى المسار الصحيح. قال بعد ذلك: «إنني متأكد مائة في المائة أنه لولا السيدة تيدي التي عرفتها في الصف الرابع وبعض الأشخاص الآخرين، لانتهى بي الأمر في السجن بكل تأكيد.»

مع تجدد اهتمام جوبز بالمدرسة وسير أدائه على الطريق الصحيح، تحسَّن مستواه في الاختبارات وارتفعت درجاته بصورة جعلت المسئولين في المدرسة يوصون بأن يتخطى صفين. ووافق والداه على أن يتخطى صفًّا واحدًا فقط.

كانت المدرسة الإعدادية أصعب، وكان ستيف لا يزال راغبًا في مطاردة الفراشات. وُصف في تقرير الصف السادس بأنه «قارئ ممتاز»، لكن أضيفت ملحوظة «أنه يعاني من صعوبة شديدة في تحفيز نفسه أو معرفة الهدف من دراسة القراءة.» وكان أيضًا «غير منضبطٍ أحيانًا.»

كان زملاؤه في الصف السابع أكثر قساوة، وكانت المشاجرات شائعة. ابتز بعض التلاميذ الطفل الضعيف الذي يصغرهم بعام. ابتأس جوبز، وفي منتصف تلك السنة، أنذر والدَيه. ويتذكر والده أن جوبز قال: «إنه إن أُجبر على الذهاب إلى هذه المدرسة فإنه بكل بساطة لن يذهب.»

تعامل والداه مع الأمر بجدية. قال والده: «وهكذا فضلنا الانتقال من هذا المكان.»

جمع والداه القليل الذي كان لديهما واشتريا منزلًا به ثلاث غرف نوم في لوس ألتوس، حيث المدارس ممتازة وآمنة، وافترضا أن ابنهما الموهوب ربما يركز هناك في دراسته. لكن في منتصف ستينيات القرن العشرين، كان الزمن يتغير، وسرعان ما شغلت ذهن جوبز أمور أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤