القراصنة
حين تحدث ستيف جوبز إلى خريجي ستانفورد في عام ٢٠٠٥م، احتوت قصته الأولى على ترابط قطع الأحجية بين وعد أبويه بالتبني لأمه البيولوجية بأن يذهب إلى الكلية، وقراره بالانقطاع عن «ريد» بعد فصلٍ دراسي واحد. في عام ١٩٨١م، وهو في السادسة والعشرين، كانت بقية القصة تكتمل.
بعد استبعاده من مشروع «ليزا» ونجاح الطرح العام، حول جوبز اهتمامه إلى مشروع صغير لبناء كمبيوتر بسيط ورخيص للجميع. وكان المشروع السري، الملقب باسم «ماكنتوش»، قد تعرض للإنهاء مرتين، وكان يقبع في مبنًى منفصل، بعيدًا عن مبنى العمليات الرئيسية.
وبينما كان اهتمام جوبز بفكرة الكمبيوتر البسيط الرخيص يزداد، ومع انتقاله للإشراف على المشروع، بدأ أيضًا يبذل مجهودات نحو تحقيق بعض الابتكارات المبهرة التي كان قد رآها في زيروكس، ومن بينها اختيار مجموعة خطوط رائعة. حتى ذلك الوقت، كانت الكمبيوترات تستخدم خطًّا واحدًا فقط، يبدو مربعًا وحادَّ الزوايا، وكان يسهل عرضه على الشاشات الرخيصة.
وطالب جوبز بأن يكون لدى الماكنتوش القدرة على إتاحة الفرصة للمستخدمين ليختاروا من بين قائمة من خطوط بأحجام مختلفة، بالأسود العريض والمائل، بحيث تكون جميعها ذات فواصل ونسب متساوية. لجعل الخطوط أكثر خصوصية، أصر على تسميتها على أسماء المدن العالمية الكبيرة: نيويورك، لندن، جنيف، شيكاغو.
اعتمد القرار على تجربته في كلية «ريد». وهو هناك، ولأنه لم يكن يحضر الفصول المطلوبة منه، التحق بفصل لخط اليد وأساليب الكتابة الجميلة. في ذلك الوقت، بدت دراسته لهذه المادة عشوائية تمامًا. لكن في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدا وكأنها ستفيده.
يعود الفضل — إلى حد كبير — إلى ذاك الفصل في «ريد»، في أن يكون «ماك» أول كمبيوتر شخصي يقدم للمستخدمين الفرصة لكتابة خطابات جذابة للعمل أو لعمل لافتات أو نشرات إعلانية. كانت سلسلة من الأحداث الغريبة وغير المتوقعة: أدى قرار جوبز بترك الكلية والالتحاق بفصل لخط اليد إلى استخدام جديد للكمبيوتر الشخصي وقلده آخرون فيما بعد.
لم يكن ليستطيع رؤية ذلك كله وهو لم يزل في السابعة عشرة. علمه ذلك الكشف، وتلك الخبرة، درسًا قيمًا، كما قال لخريجي ستانفورد، لأننا لا نستطيع أن نرى المستقبل «ينبغي عليكم أن تثقوا في أن قطع الأحجية ستتجمع بطريقة ما في مستقبلكم.»
بالطريقة نفسها، قاد كل من إعادة هيكلة الشركة واستبعاده من مشروع «ليزا» جوبز إلى ماكنتوش، وهي قطع أخرى من الأحجية. وكان هذا أيضًا قدرًا مرسومًا، يشبه إلى حد بعيد تسلسل الأمور فيما يتعلق بإنشاء أول كمبيوتر أبل في جراج عائلة جوبز.
كان «جيف راسكين»، الذي كان قد سمى المشروع على اسم نوعه المفضل من التفاح، يحلم بصناعة كمبيوتر رخيص سهل الاستخدام ومفيد مثل أدوات المطبخ، وهو تصور داعب رغبة جوبز في صناعة كمبيوتر يكون في متناول الجميع. لكن حين بدأ جوبز التدخل في العمل، وإملاء ما ينبغي أن يكون عليه الكمبيوتر، بدأ الناس يتضايقون منه.
في مذكرة شديدة اللهجة إلى «مايك سكوت»، رئيس أبل في أوائل ١٩٨١م، وصف راسكين جوبز بأنه «مدير شنيع»، مضيفًا أن المواعيد دائمًا ما تفوته، وأنه يتصرف من دون تفكير، ولا ينسب الفضل لأهله كلما دعا الأمر لذلك. وواصل ليفصح عن النقد الذي طالما تكرر طوال حياة جوبز المهنية، كتب راسكين: «غالبًا، حين يتم عرض فكرة جديدة أمامه، يقوم بمهاجمتها على الفور قائلًا إنها تافهة أو حتى غبية، ثم إذا كانت الفكرة جيدة، يسرع جوبز في إعلانها للناس وكأنها فكرته.»
ربما كان كل ما كتبه راسكين صحيحًا تمامًا، لكنه لم يلاقِ استحسانًا. تم استدعاؤه لاجتماعٍ مع جوبز، وحين اتفق الاثنان على أنهما لا يمكن أن يتفقا، طلب من راسكين أن يأخذ إجازة بدون مرتب.
وكان سكوت، أيضًا يواجه مشاكله. جلب سكوت التنظيم لأبل وأعطاها شكلًا مميزًا، واحتفظ بستيف جوبز تحت السيطرة لأربع سنوات. لكن سكوت كان يتميز بشيء من الخشونة على طول الخط، وبينما كانت أبل تنمو، تعرض لمشاكل صحية، وصار أسلوبه في الإدارة غريبًا. في مارس ١٩٨١م، بعد الطرح العام لأبل ببضعة أشهر، قام في عجالة بفصل أربعين موظفًا قرر أنهم ليسوا على المستوى المطلوب. أثارت عمليات الفصل، التي سميت بالأربعاء الأسود، غضب الموظفين وانعكس صداها في كل أرجاء الشركة.
أُزيح سكوت عن منصبه بعد ذلك بوقت قصير، وتولى «ماركولا» رئاسة الشركة، واستمتع جوبز بحرية أكبر مما كان متاحًا له تحت رئاسة سكوت.
بالنسبة إلى مشروع ماكنتوش تولى جوبز بسرعةٍ زمام الأمور، وكان من ضمن أول تحركاته بناء فريق من الموظفين الممتازين. كان «آندي هيرتزفيلد» يعمل في أبل ٢ وكان يتوق للانضمام إلى مشروع ماكنتوش. أجرى مقابلة مع جوبز ذات صباح وعاد إلى عمله. في عصر ذلك اليوم، أطل عليه جوبز في مكتبه الصغير وأخبره بحصوله على وظيفة.
قال هيرتزفيلد: عظيم!
وأضاف أنه في حاجة إلى يوم أو اثنين فحسب لينهي ما يعمل عليه.
وكان لجوبز رأي آخر. سأل: ماذا يمكن أن يكون أهم من العمل في ماكنتوش؟
قال هيرتزفيلد فيما بعدُ متذكرًا: «وعندها، اقترب من مكتبي، وأمسك بكابل الكهرباء الموصل لحاسبي الأبل ٢، وسحبه بحدة، وانتزعه من موضعه.»
وضاع كل ما كان هيرتزفيلد يعمله. جمع جوبز الشاشة والكمبيوتر معًا وقال لهيرتزفيلد: تعال معي. سآخذك إلى مكتبك الجديد.
وتبين أن المكتب الجديد كان مكتب راسكين.
طوال السنوات الثلاث التالية، شهد أفراد المجموعة الصغيرة تقلبات جوبز: سحره ونقده الحاد، حماسه وغطرسته، ورؤيته، قدرته على النظر إلى شيء عادي جدًّا ليرى بحدسه إمكانية أن يصبح استثنائيًّا حقًّا. لم يكن يرغب في منتج جيد، أو حتى في منتج عظيم. كرر باستمرار أن ماكنتوش ينبغي أن يكون «عظيمًا بما يفوق حدود العقل.»
بينما كان أعضاء الفريق «يكتسبون الحافز» للعمل بشكل أفضل، على حد قول جوبز، حاولوا التكيف مع أساليبه المزعجة. قال هيرتزفيلد: «قد يلقي جوبز نظرة على عمل شخص ما ويعلن أنه كوم من القمامة، مستخدمًا ألفاظًا أسوأ بكثير، وأعنف غالبًا. وربما يقول: «هذا أعظم ما رأيت في حياتي»، وكان الشيء المروع هو أنه قد يقول ذلك على الشيء نفسه.»
شرح «بد تريبل»، وكان عضوًا آخر في الفريق، صفةً مميزة لجوبز لم يستطع فريق «ماك» — أو أي فريق آخر عمل معه جوبز — أن يتبين قط كيف يتجنبها. سماها «تريبل» «مجال تشويش الرؤية» لجوبز، وهو تعبير مأخوذ عن المسلسل التلفزيوني «ستار تريك». ويشرح: «في وجوده تصبح الحقيقة مرنة. يستطيع أن يقنع أي شخص بأي شيء تقريبًا. ويتلاشى هذا التأثير في غيابه.»
في مسائل متنوعة، قد يقود مجال تشويش الرؤية جوبز إلى التصرف وكأن قواعد الحياة لا تنطبق عليه. كان يقود سيارته من دون لوحة أرقام ويوقفها بانتظام في المكان المخصص لسيارات الموظفين المعاقين في أبل. كان يستشهد بكلام مختلَق تمامًا باعتباره حقيقةً واقعة، أو يتوقع نتائج على أساس جداول زمنية غير واقعية، أو يضع أهدافًا يستحيل تنفيذها. كان الناس يصدقونه في وجوده ليعودوا إلى رشدهم بعد أن ينصرف، لكن كانوا أحيانًا ما يحققون المستحيل لأنه كان يضغط عليهم بقوة.
بذل جوبز جهودًا شاقة في الاهتمام بكل تفاصيل ماكنتوش. انشغل تمامًا بشرائط العناوين، كما كانت تسمى العناوين الموجودة في مقدمة كل شاشة ووثيقة، مصرًّا على أن يعيد المصممون العمل عليها مرات ومرات، زادت على اثنتي عشرة مرة. وحين اعترض المصممون، رد بعنف: «هل يمكن أن تتخيلوا النظر إلى ذلك يوميًّا؟ إنه ليس بالأمر الهين.»
في إحدى المرات، أراد أن يغير اسم ماكنتوش إلى «دراجة»، لأنه كما تحسن الدراجة من سرعة الإنسان، فإن الكمبيوتر سيعمل بمنزلة «دراجة للعقل». وكان على الفريق أن يقنعه بالعدول عن ذلك.
وجد أحد مصممي البرمجيات، الذي كان يكتب برنامج رسم للماكنتوش، طريقة لرسم أشكال بيضوية ودوائر بسرعة، أعجب به جوبز، ولكنه طلب شيئًا آخر على الفور: «هل يمكن للبرنامج أن يرسم مستطيلات بزوايا مدورة أيضًا؟»
تردد المصمم، وأضاف أن ذلك سيكون شيئًا عسيرًا وغير ضروري حقًّا.
لكن جوبز لم يوافقه على الإطلاق، أصر قائلًا: «توجد مستطيلات بزوايا مدورة في كل مكان!»، وبدأ يشير إلى أمثلة في الغرفة. ثم اصطحب المصمم في جولة في أرجاء المنطقة المحيطة بالشركة، وأشار إلى لافتة «ممنوع الوقوف» وكانت بزوايا مدورة. وعندما رأى المصمم ذلك استسلم وأضاف «مستطيلات بزوايا مدورة» إلى قائمة أعماله.
أحيانًا، كان المصممون يقاومون، لكن ليس بصلابة شديدة. مل «كريس إسبينوزا»، الذي كان قد بدأ في جراج جوبز، من تعديل جوبز المستمر لتصميمه لآلة حاسبة صغيرة كانت ستصبح جزءًا من الكمبيوتر. كلما رأى جوبز التصميم رفضه: الخطوط سميكة أكثر من اللازم، أو الخلفية قاتمة أكثر مما ينبغي، أو الأزرار ليست بالحجم المناسب.
أخيرًا، ابتكر إسبينوزا برنامجًا صغيرًا سماه «مجموعة ستيف جوبز لبناء الآلة الحاسبة التي تروق لك»، متيحًا لجوبز تعديل كل المتغيرات بنفسه. جلس جوبز أمام البرنامج وأخذ يعبث لبعض الوقت، واستقر في النهاية على اختياراته. وصار هذا هو تصميم آلة ماكنتوش الحاسبة لسنوات عديدة.
وبينما كان العمل يتقدم، انتاب جوبز القلق من أن يستغرق تشغيل الكمبيوتر الصغير وقتًا طويلًا جدًّا. وقد حث الفريق على اختصار الوقت بعمليات رياضية بسيطة للتشويش على الواقع، مخمنًا أنه في خلال بضع سنوات سيكون هناك خمسة ملايين مستخدم ﻟ «الماك» يوميًّا، وهو تقدير سخيف بالنظر إلى بيع بضع مئات الألوف وحسب من أجهزة أبل ٢ على مدى عدة سنوات. وذكر أن توفير عشر ثوانٍ من وقت التحميل يعني توفير ٥٠ مليون ثانية يوميًّا. قال لهم: على مدى سنة، ربما يوفر ما يعادل حياة عشرات الأفراد.
ثم أخذته الحماسة قائلًا: إذا استطعتم أن تجعلوه يحمل أسرع بعشر ثوانٍ، سوف توفرون ما يعادل أعمار عشرات الأشخاص. إنه أمر يستحق العناء حقًّا، ألا تعتقدون ذلك؟
توصل الفريق لطريقة يمكنه بها أن يختصر زمن التحميل.
في كل شيء، كان يبحث عن الأيسر والأبسط في الاستخدام، لأنه وفقًا للنشرة الأصلية: «البساطة هي قمة الأناقة». قال جوبز: حين تلقي نظرة أولى على أي مشكلة، يبدو لك الأمر سهلًا لأنك لا تعرف الكثير عنها. ثم «عندما تتعمق في المشكلة تكتشف أنها معقدة حقًّا وتتوصل إلى الكثير من الحلول بالغة التعقيد».
يقول: يتوقف معظم الناس عند هذه النقطة. لكن السر يكمن في الاستمرار والمحاولة، حتى تجد «السبب الأساسي الكامن وراء المشكلة، حتى تجد حلًّا جميلًا وأنيقًا». ربما ركز جوبز بشدة على ما يجب أن يزيله من المنتج بقدر تركيزه على ما يضعه فيه، مستلهمًا ذلك من دراسته ﻟ «الزن».
من وجهة نظر جوبز كانت النسخ الأولى تشبه الصناديق أكثر من اللازم. أصر على مطلبه قائلًا: «لا بد أن يتمتع بالمزيد من الاستدارات.» أخيرًا، حين وافق على التصميم، طلب من الأعضاء الأساسيين في الفريق التوقيع بأسمائهم على القالب. في لمسة خاصة، دمغت توقيعاتهم داخل هيكل الجهاز. وعلى الرغم من أن تلك التوقيعات لم يكن ليراها سوى الفنيين، كان مهمًّا أن يوقع الفنانون على أهم أعمالهم.
وبينما كان جوبز يقود الفريق بلا هوادة، أعطاهم أيضًا انطباعًا بأنهم أكثر العاملين في أبل بذلًا للمجهود. أبقى الثلاجة مليئة بعصائر الفواكه الغالية ودفع مقابل جلسات التدليك للمهندسين المجهدين. وترسخت لدى الفرق الأخرى بأبل فكرة أن مجموعة جوبز متغطرسة ومدللة.
وبينما كان العمل في الماكنتوش يشارف على الاكتمال، أدركت أبل أنها تحتاج إلى تحقيق نجاح غير مسبوق. ومع أن أجهزة أبل ٢ المتنوعة لم تنل ما تستحق داخل أبل، فإن الشركة كانت لا تزال تعتمد عليها بشكل أساسي. وبفضل «ماركولا» وجوبز، كان الكمبيوتر قد أحرز تقدمًا كبيرًا في المدارس وبين طلاب الجامعات، بتعريف شباب أمريكا بالحوسبة، لكن الصناعة كانت تتغير بسرعة.
ولأن أبل كانت صاحبة السبق في المجال، ولأنه لم يكن هناك شيء مميز أو حتى ممتع في الكمبيوتر الشخصي الذي أنتجته «آي بي إم»، استهزأ طاقم أبل الشاب به. لكن بنظرهم إلى الجهاز وحسب، تجاهلوا سمعة «آي بي إم» الممتازة، وقوة مبيعاتها الجبارة، والنفوذ الهائل الذي كانت تتمتع به بين الشركات التجارية. لم يفهموا أن أي مدير لقسم التكنولوجيا بأي شركة قد يعرض نفسه للمشاكل بشرائه جهاز من شركة مغمورة، لكن لم يكن من الممكن أبدًا أن يتم فصل أحدهم لشرائه كمبيوتر «آي بي إم».
بالفعل، لم يكن الكمبيوتر عظيمًا، لكنه كان جيدًا بما يكفي، ونمت مبيعات «آي بي إم» بسرعة، بينما اجتذبت المزيد والمزيد من العملاء.
وحتى يضمن تمتع «الماك» بالبرمجيات، سافر جوبز في ١٩٨١م إلى «سياتل» ليقابل «بيل جيتس» و«بول ألن»، المؤسسين الشابين لشركة مايكروسوفت للبرمجيات. قبل ذلك بسنوات، كانت مايكروسوفت قد كتبت أول برنامج «بيسيك» لجهاز «ألتير»، وكانت أيضًا قد كتبت نسخة «البيسيك» التي تعمل على أبل ٢. كما ابتكرت مايكروسوفت نظام تشغيل لكمبيوتر «آي بي إم»، وهو البرنامج الذي يحدد لجهاز الكمبيوتر ما يفعله ويوفر الأساس لكل شيء آخر.
عقد جوبز اللقاء على أمل إقناع مايكروسوفت بعمل شيء مختلف؛ أراد من الشركة أن تبتكر برنامج جدولة ﻟ «ماك» يجعله مفيدًا في الأعمال، بما يشبه الدفعة القوية التي منحتها «فيزيكالك» لأبل ٢. في أثناء اجتماعهم، عبر جوبز و«جيتس» عن آراء شديدة الاختلاف بشأن الاتجاه الذي يسير فيه الكمبيوتر الشخصي.
بالنسبة إلى جوبز، كان الكمبيوتر المكتبي من أجل المثقفين وطلاب الجامعات، وللاستخدام المنزلي، وخليط من صغار المديرين والعاملين بالسكرتارية. وكان يجب على كل جهاز أن يكون أداة مميزة ومدهشة لتحسين حياتهم. لكن تصور «جيتس» كان عن شيء أكبر وأقل خصوصية بكثير. كان الكمبيوتر، بالنسبة إليه، أداة للمساعدة في إدارة الأعمال بشكل أفضل. كانت له رؤية تتضمن شبكات الحواسب، وهي تعمل معًا للمساعدة في ربط الأعمال والقيام بحساباتها ومبيعاتها. على مدار السنوات القليلة التالية، أثبتت رؤية «جيتس» كونها الأكثر دقة، لكن رؤية جوبز كانت هي الرؤية التي سادت في أبل.
زاد دخول «آي بي إم» إلى أعمال الكمبيوتر وإضافة المزيد من البرامج والذاكرة الأكبر والمعالجات الأسرع من الاهتمام بمجال الكمبيوتر. وبدلًا من اختيار شخص واحد باعتباره «رجل العام»، اختارت مجلة «تايم» الكمبيوتر الشخصي ليكون «آلة العام» لسنة ١٩٨٢م. لكنها صورت شخصًا واحدًا فقط بوصفه صوتًا ووجهًا للثورة؛ ستيف جوبز. كتبت المجلة: «كان ستيف جوبز، بمعسول كلامه عن منتجه وما يقدمه وإيمانه الأعمى بما يفعل، أكثر من أي شخص آخر. هو من فتح الباب على مصراعيه ليدخل الكمبيوتر الشخصي حياة الناس.»
بالنسبة إلى السنة المالية التي انتهت في سبتمبر ١٩٨٢م، باعت أبل رقمًا قياسيًّا بلغ سبعة آلاف كمبيوتر أبل ٢. وعلى الرغم من مشاكلها مع أبل ٣، بلغت مبيعاته ٥٨٣ مليون دولار، بما يكفي لوضعها على قائمة «فورتشن ٥٠٠» لأكبر الشركات الأمريكية للمرة الأولى؛ كما تنبأ «ماركولا» قبل ذلك بسنوات.
لكن الأوقات الطيبة لا تدوم. في خلال سنتين، كانت «آي بي إم» تبيع حواسب أكثر من أبل، وكانت شركات البرمجيات تنتج برامج للكمبيوتر الشخصي ﻟ «آي بي إم» أكثر بكثير مما تنتجه لأبل. وسارع صناع آخرون للكمبيوتر بترخيص نظام تشغيل مايكروسوفت بحيث يمكن أن يشغلوا كل البرامج الجديدة ﻟ «آي بي إم». لم يمر وقت طويل حتى كانت معظم الكمبيوترات المكتبية تتحدث اللغة نفسها؛ أي تشغل البرمجيات نفسها التي يشغلها كمبيوتر «آي بي إم». أما بالنسبة إلى الكمبيوترات التي لم تتحدث تلك اللغة، مثل أبل، فقد كانت تواجه مستقبلًا غامضًا.
قوبل كمبيوتر «ليزا» في ١٩٨٣م باحتفاءٍ كبير، وكان ابتكاره قد تكلف ٥٠ مليون دولار تقريبًا. كان أول كمبيوتر يستخدم الماوس، وأول كمبيوتر يقدم نظام القوائم والملفات الذي أبهر جوبز عند زيارته لزيروكس. كان محملًا بذاكرة كبيرة ومشغلين للأقراص المرنة، وجاءت معه أيضًا بعض البرامج سهلة الاستخدام. وبينما كانت معظم البرامج في ذلك الوقت يستغرق تعلمها أيامًا، كان من الممكن التمكن من برامج «ليزا» في ساعتين. لكن كل هذه الإضافات جعلت سعره يصل إلى عشرة آلاف دولار، ولم تكن هناك برامج أخرى متوفرة. انبهرت جماهير التكنولوجيا، لكن معظم الزبائن المحتملين لم يتفهموا هذا السعر المبالغ فيه.
وبينما كان جوبز يروج للجهاز الجديد في الصحافة، لم يستطع مقاومة التلميح إلى ماكنتوش. بدأ الاهتمام ﺑ «ليزا» يقل قبل طرحه في السوق، لأن الناس عرفوا أن هناك كمبيوترًا بقدرات مماثلة على وشك الظهور بسعر أقل بكثير. ومما زاد الطين بلة أن البرمجيات المعدة ﻟ «ليزا» لم تكن تعمل على ماكنتوش. بالإضافة إلى التنافس مع «آي بي إم»، بدا أن قسمًا من أبل يخوض معركة ضد قسم آخر.
كانوا يخوضون معركة ضد مايكروسوفت أيضًا. في أواخر ١٩٨٣م، قبل طرح «ماك» رسميًّا، أعلنت مايكروسوفت أنها ستبتكر نظام تشغيل ﻟ «أي بي إم» ومقلديه يسمى «ويندوز» (النوافذ)، بحيث يتضمن أيقونات ونوافذ وماوس؛ مثل «ماك» بالضبط. وكان «جيتس» قد وعد بالانتظار عامًا بعد تاريخ طرح «ماك» قبل أن يبيع ما يسمى بالواجهات الرسومية. لكن حيث إن «ماك» تأخر عامًا تقريبًا عن الموعد المحدد، لحقت به مايكروسوفت.
استشاط جوبز غضبًا واستدعى «جيتس» إلى المقر الرئيسي لأبل في مدينة كوبرتينو، ليصرخ فيه أمام مديري أبل، لكن لم تهتز ﻟ «جيتس» شعرة. قال لجوبز والآخرين في غرفة الاجتماعات: «ولكن، يا ستيف، أظن أن الأمر يمكن النظر إليه بأكثر من طريقة. أعتقد أن المسألة هي أننا كان لدينا هذا الجار الغني المدعو زيروكس، وقد اقتحمت منزله لأسرق جهاز التلفزيون فوجدت أنك قد سرقته قبلي.»
في الواقع، استغرق الأمر سنوات طويلة لتتمكن مايكروسوفت من منافسة أبل، لكن ذلك لم يهدئ من غضب جوبز. وكان جوبز لا يزال يعتقد أن وليده وحده سوف يقود ثورة الكمبيوتر. في نهاية الشهر الذي انطلق فيه «ليزا»، ناشد فريق «ماك» على العمل بالمزيد من الجد مستخدمًا عبارات قوية. قال لهم: «الفنانون الحقيقيون ينطلقون.» وكان يعني بذلك أنه لم يعد من المقبول التخلف عن المواعيد المحددة، وأنهم يجب أن يخرجوا منتجهم إلى النور. وكتب: «من الأفضل أن تكون قرصانًا على أن تلتحق بالأسطول البحري.» ملمحًا إلى أن تكنولوجيا مجموعته المتمردة أفضل بكثير مما يقدمه الآخرون.
ألهم الفريق؛ ابتكر اثنان منهم راية قرصان، بجمجمة وعظمتين متقاطعتين، وشعار أبل الملون كرقعة للعين، وجعلوه يرفرف على مبنى ماكنتوش. كانوا قد قدموا كل ما لديهم. لكن هل انتهى بهم المطاف حقًّا إلى الفوز بالغنيمة؟
أجهزة أبل للمعلم
مع بداية تأسيس الشركة تقريبًا، ساعدت أبل على وصول الكمبيوترات إلى المدارس.
حين كانت ابنة «ماركولا» في المدرسة الابتدائية في ١٩٧٨م، بدأ يعتقد أن الكمبيوتر يمكن أن يساعدها على تعلم الرياضيات. باستلهام هذه الفكرة، تشكلت مؤسسة أبل التعليمية لتقدم المال والكمبيوترات للمعلمين وآخرين ممن يرغبون في كتابة البرمجيات التعليمية.
كانت حركة ذكية؛ فقد توفر المزيد من البرمجيات التعليمية لحواسب أبل ٢، واشترتها المدارس أكثر مما اشترت الأنواع الأخرى، وتعرف كثير من الشباب على الكمبيوترات للمرة الأولى عن طريق أبل. ولأن الأطفال تعرفوا على الكمبيوترات في المدرسة، فقد طلبوا من آبائهم أن يشتروها لهم.
في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، حاول ستيف جوبز أن يقنع الكونجرس بتمرير مشروع قانون يسمح لأبل بالتبرع بمائة ألف كمبيوتر للمدارس في مقابل خصم ضريبي. سماه جوبز بقانون «الأطفال لا يستطيعون الانتظار»، لكن القانون لم يتم الموافقة عليه من قبل مجلس الشيوخ. لكن كاليفورنيا وافقت على العرض، وانتهى الأمر بتبرع أبل بعشرة آلاف كمبيوتر تقريبًا لمدارس الولاية.
حاولت الشركة أن تبني نفس النوع من الارتباط بين ماكنتوش وطلاب الجامعة، مشجعة الجامعات على أن تلتزم بإنفاق ملايين الدولارات لتوفير الكمبيوترات الشخصية في برامجها الدراسية. ومرة أخرى، نتيجة لذلك، كانت كمبيوترات أبل على قمة الاختيارات في الجامعات.
وحتى اليوم، تمنح أبل خصمًا لطلاب الجامعات الذين يشترون كمبيوتراتها. وفي عام ٢٠١١م، رتبت الشركة أن يتسلم تسعة آلاف من خريجي الجامعات جهاز «آيباد» مجددًا لاشتراكهم في برنامج «التدريس لأمريكا».