الفصل الخامس عشر

العودة

لم تكن القصة التي حكاها جوبز لخريجي ستانفورد عن الحب والفقدان قد انتهت بعد.

جُرِح جوبز بعمق من تركه أبل. لكن، كما قال: «كان الاستبعاد من أبل أفضل ما كان يمكن أن يحدث لي على الإطلاق.»

من نقطة الفشل هذه، استطاع أن يبدأ من جديد. أسس «نيكست»، ومول «بكسار»، والتقى «امرأة مدهشة»، وهي «لورين» زوجته.

ثم، حدث شيء آخر أكثر استثنائية.

في ١٩٩٦م، احتاجت أبل المساعدة. كان لديها فائض من بعض المنتجات وعجز في بعضها. والأسوأ، أن بعض أجهزة «اللاب توب» الجديدة التي تصنعها كانت تشتعل فيها النيران أحيانًا لعيبٍ في بطارياتها. أنفقت أبل مئات الملايين من الدولارات في العمل على ابتكار نظام تشغيلٍ جديد، أطلقوا عليه «كوبلاند»، ليحل محل النظام العتيق. لكن التطور كان متأخرًا، وكان المنتج مليئًا بالمشاكل. وعلى الرغم من وصول أبل إلى ذروة مبيعاتها بمبلغ ١١ مليار دولار مبيعات في السنة المالية ١٩٩٥م، فقد اختفى المستهلكون، وكانت في حالة متردية، حتى إن قادتها كانوا يحاولون بيعها لأي شخصٍ تقريبًا؛ حتى لمنافستها المملة المفتقدة للخيال، «آي بي إم».

figure
مدخل مبنى أبل في «كابرتينو»، كاليفورنيا. (من تصوير جورافي، تحت رخصة المشاع الإبداعي)

وصفتها «تايم» بأنها «فوضى في فوضى من دون رؤية استراتيجية ومن دون مستقبل بالتأكيد.» ووضعت «بيزنيس ويك» عنوانًا لقصتها الرئيسية «سقوط أيقونة أمريكية». وقالت «فورتشن»: «إنه لأمر يمزق القلب.»

لم تتحول أي من المحادثات إلى صفقة. تم تعيين رئيس تنفيذي جديد، «جيل أميليو»، وكان يبدو أن الأمر يحتاج إلى ما يشبه المعجزة ليوقف الشركة على قدميها. كانت أبل لا يزال لها عدد هائل من الأتباع المخلصين، أكثر من ٢٠ مليون شخص اشتروا كمبيوترات ماكنتوش، لكنهم كانوا على وشك أن يبدءوا التحول إلى كمبيوترات أرخص برقائق «إنتل» ونظُم تشغيل «ويندوز مايكروسوفت» إذا لم تقدم لهم أبل شيئًا أفضل.

في الصيف وبداية الخريف، كان قادة أبل يبحثون عن العصا السحرية؛ شخص أو شركة يمكن أن تجلب البرمجيات المتطورة التي تحتاج إليها أبل لتجديد نظام تشغيلها وتقويته من أجل الدفع بأجهزتها مرة أخرى إلى الصفوف الأمامية للتكنولوجيا. تم التفكير لبعض الوقت في شركة صغيرة لم تختبر، أنشأها مدير سابق في أبل، ثم تلقت أبل مكالمة تلفونية من مدير قسم في «نيكست»، وكان يتصرف من تلقاء نفسه، حيث اقترح عليهم التفكير في «نيكست». كان الاقتران بين الشركتين منطقيًّا؛ فنظرًا إلى أن «نيكست» بناها جوبز ومديرون سابقون في أبل، كانت الشركتان أختَين من أبٍ مؤسسٍ واحد.

كان جوبز يقضي وقتًا أطول في «بكسار»، وأضحى مستعدًّا لأن يبيع لأبل برمجيات «نيكست» أو الشركة كلها، وكانت لم تزل تخسر.

في ديسمبر ١٩٩٦م، عاد جوبز إلى مقر أبل في كوبرتينو للمرة الأولى منذ تركها في ١٩٨٥م، جالبًا سحره الطاغي ومهاراته المذهلة في مجال المبيعات معه. على مدى جلستين، أثار إعجاب قادة أبل بالقدرات الباهرة ﻟ «نيكست» وأغرق «سبورات» الشركة برؤيته لكيف يمكن للبرمجيات أن تجعل كمبيوترات أبل أكثر خفة بالنسبة إلى مبرمجي الإنترنت ومستخدميه. تحمس «أميليو» وفريقه.

في أواخر ديسمبر، وفي مشهد يشبه إحدى نهايات «بكسار»، وافقت أبل على شراء «نيكست» بأكثر من ٤٠٠ مليون دولار. كان سعرًا مرتفعًا بشكل مدهش؛ فعلى الرغم من أن «نيكست» كان عمرها عشر سنوات، لم تحقق أرباحًا، وبلغت مبيعاتها ٤٧ مليون دولار فقط، بما يساوي ما حققته أبل في عامها الثالث. لكن أبل كانت تشتري ما هو أكثر من البرمجيات؛ كانت بذلك تحصل أيضًا على ستيف جوبز، مؤسسها صاحب الرؤية، الذي وافق على العمل مستشارًا ﻟ «أميليو».

كان وضع جوبز من الناحية المالية جيدًا أيضًا. بالطبع، فقد حصل على ١٣٠ مليون دولار نقدًا، ومليونًا وخمسمائة ألف من أسهم أبل، تبلغ قيمتها حوالي ٢٢٫٥ مليون دولار في مقابل ملكيته ﻟ «نيكست» (ذهبت بقية الأموال إلى المساهمين الآخرين في «نيكست»).

في أوائل يناير، ظهر «أميليو» وجوبز في مؤتمر «ماكورلد» (Macworld) الكبير في سان فرانسيسكو، وكان المؤتمر في ذلك الوقت يجمع أكبر هواة الماكنتوش مرتين في السنة للتشاور في الأفكار ورؤية الابتكارات. وقد تزاحم أكثر من أربعة آلاف شخص — من مستخدمي الكمبيوتر والعاملين بالتعليم والمحترفين ومطوري البرامج وآخرين — في قاعة الاجتماعات ليشاهدوا العرض الرئيسي. ومع انخفاض مبيعات الكمبيوتر بحدة، كانوا يتطلعون لبعض الأخبار الجيدة.

تجاوز «أميليو»، الذي لم يكن قد تدرب على إلقاء كلمته، الوقت المخصص له بخطبة مفككة وغير مرتبة. وأخيرًا، قدم جوبز.

وعندما صعد جوبز على خشبة المسرح، تقافز هواة أبل وعلت صيحاتهم، ومضت الكاميرات بأضواء الفلاش، ورحبوا بمؤسسهم العائد بعاصفة من التصفيق. كتب الصحفي «جيم كارلتون»: «ما كانت عودة «إلفيس بريسلي» نفسه لتثير ضجة أكبر.» في عرضٍ بارع موجَز أوضح جوبز كيف ستجلب «نيكست» طاقةً جديدة للأجهزة القديمة.

بعد المؤتمر، كان جوبز و«أميليو» على اتصال منتظم، وبحلول فبراير انتقل اثنان من مساعدي جوبز إلى مناصب عليا في أبل. وفي ذلك الوقت، كان جوبز قد قرر أن «أميليو»، كما كان سكلي من قبله، أحمق، أو «بوزو» كما كان يقول.

مع أن برمجيات «نيكست» ساعدت أبل بالفعل على تجديد كمبيوتراتها، فقد استغرق ذلك بضع سنوات، استمرت في أثنائها مشاكل أبل في الزيادة. هجر زبائنها كمبيوتراتها، واستمرت الخسائر المالية، حتى بلغت ١٫٥ مليار دولار. واعتقد البعض أنها على حافة كارثة.

بدأ جوبز يفقد صبره. في يونيو ١٩٩٧م، باع المليون وخمسمائة ألف سهم التي حصل عليها مقابل «نيكست» بسعر ١٥ دولارًا للسهم، وعاد مرة أخرى ليكون مالكًا لسهم واحد في أبل. قال: «كنت قد تخليت إلى حد كبير عن أي أمل في أن يفعل مجلس إدارة أبل أي شيء.»

كان ينبغي عليه أن ينتظر. ربما نتيجة لتقييم جوبز القاطع ﻟ «أميليو»، قررت إدارة أبل أنها قد استكفت. استُبعد «جيل أميليو» من منصب المدير التنفيذي لأبل في أوائل يوليو ١٩٩٧م. ونما الدور الاستشاري لجوبز.

في ذلك اليوم، دعي كبار المديرين في أبل إلى غرفة الاجتماعات. وقف «أميليو» أمام المجموعة وقال لهم: حان الوقت لأرحل.

وتمنى لهم الخير وخرج.

وبعد بضع دقائق، دخل جوبز الغرفة وجلس. كان يرتدي شورتًا وحذاءً خفيفًا، وكانت لحيته نابتة.

سأل المجموعة: حسنًا، أخبروني عما أصاب هذا المكان.

لم يرد عليه سوى القليل منهم.

اختصر جوبز المسألة قائلًا: إنها المنتجات! إذن، ما مشكلة المنتجات؟

همهم البعض بإجابات، فأوقفهم بإجابته الحاسمة: المنتجات مقرفة!

قبل اثنتي عشرة سنة تقريبًا، استُبعد الشاب المذهل من الشركة التي ساهم في تأسيسها، وبناها، وروج لها، وأحبها. وقد عاد إليها وهو في الثانية والأربعين.

لم يمر وقت طويل حتى أصبح جوبز الرئيس التنفيذي المؤقت لأبل، وهي وظيفة سماها «آي سي إي أو» (iCEO)، في إيماءة إلى المنتجات التي ستقدمها أبل قريبًا.

لم يُدِر أبل في المرة الأولى، ولم يكن قد أدار قط شركة في الحجم الذي وصلت إليه أبل، خصوصًا أنها كانت تندفع بسرعة إلى هاوية الفشل. لكنه لم يعُد الولد المتصلف، المندفع، النزق، الذي استُبعد من الشركة في الماضي. كان قد أصبح رب أسرة وأبًا لثلاثة أطفال وكان أيضًا قد تعلم بعض الأشياء.

كان لم يزل يتسم بالحدة والانفعالية، وبإمكانية أن يكون فظًّا وقاسيًا بشكل جارح. وكان لم يزل بإمكانه أن يصبح كريهًا، حتى مع أقرب الناس إلى قلبه. لكنه تعلم أيضًا أن يرى الأشياء من وجهة نظر الآخرين في بعض الأحيان. وبينما بدأ في تهذيب شجرة شركة أبل المتشعبة، وجد، على سبيل المثال، أن تسريح الناس أو فصلهم قد أصبح أصعب عليه بكثير.

وعندما كان يفعل ذلك كان لأنه يعتقد أن وظيفته تتطلب منه ذلك. لكنه أدرك وقال: «هذا الشخص المفصول كان يمكن أن يكون أنا، عائد إلى بيتي لأخبر زوجتي وأولادي أنني قد سُرِّحت من عملي للتو. أو يمكن أن يكون أحد أولادي بعد عشرين عامًا من الآن. لم أنظر للأمر بهذا الشكل الشخصي من قبل.»

في «نيكست» هزمه فشله في تحقيق المستحيل مرة ثانية. وفي «بكسار»، حيث كان المسئول عن الأمور المالية أكثر مما كان رئيسًا، تعلم أن يترك الفنانين فنانين، وتعلم شيئًا آخر.

في البداية، كما قالت «باميلا كيروين»، نائبة رئيس «بكسار»، كان جوبز يهيمن على الاجتماعات ويقاطع الناس ليقول «حسنًا، هذا ما أراه»، لكنه، الآن، كما قالت، «يستمع أكثر، وهو أكثر استرخاءً ونضجًا.»

رأى جوبز المسألة بشكل مختلف. قال: «زادت ثقتي بالناس.»

بطريقة لا تصدق تقريبًا، اجتمعت قطع الأحجية مرة أخرى. كان جوبز قد طرد من أبل، وأنشأ شركة كافحت لتبقى، ثم باع الشركة لأبل، حبه الأول، ثم صار مسئولًا عنها. وبالطبع، لم يكن أي من هذا ليحدث لو لم يفصل من أبل.

في كلمته لخريجي ستانفورد، حذر من أنهم أيضًا قد يتعرضون لنكسات. قال لهم: أحيانًا تضربكم الحياة بطوبة في الرأس. لا تفقدوا إيمانكم.

كان اختياره الأهم هو إخلاصه المستمر لما أحبه، سواء كان عملًا أو شريك حياة.

وقال لهم إنهم إذا لم يكونوا قد عثروا على هذا الحب بعد: استمروا في البحث حتى تعثروا عليه. لا تتنازلوا عما تريدونه.

في السنوات التالية، واجه جوبز تحديات وأزمات لم يكن يتخيلها، لكنه لم يتنازل قط ليفعل شيئًا لا يحبه.

ولكنه على الرغم من ذلك، بدأ وظيفته الجديدة في أبل بصفقة هي الأكثر غرابة، سوَّى بها منافسة قديمة جدًّا.

زِي ستيف الموحد

بداية من أواخر تسعينيات القرن العشرين ولبقية حياته كان جوبز يُشاهَد عادة في الملابس نفسها: كنزة سوداء برقبة، وبنطلون «ليفايس»، وحذاء «نيو بالانس» بالي.

قال جوبز إنه في البداية ألهمته رحلة إلى «سوني»، شركة الإلكترونيات اليابانية الكبيرة، حيث كان الجميع يرتدي زيًّا موحدًا في ثمانينيات القرن العشرين. فسَّرَت الشركة ذلك بأنه بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى الكثير من العمال ملابس، ومن ثم اشترى أصحاب الأعمال أزياءً موحدة ليكون لدى الموظفين ما يرتدونه. وبمرور الوقت، ربطت تلك الأزياء الموحدة العمال بشركتهم.

اعتقد جوبز أن مثل هذا الزي قد يكون عظيمًا بالنسبة إلى أبل، لكن فريقه الأمريكي رفض الفكرة بسرعة.

مع ذلك أصبح جوبز صديقًا لمصمم الأزياء «إيسي مياكي»، الذي صمم بعض أزياء «سوني» الموحدة، وطلب منه جوبز أن يصنع بعض الكنزات السوداء ذات الرقبة الطويلة التي يحبها. قال جوبز: «لقد صنع لي حوالي مائة منها.» وقد أطلع كاتب السيرة «والتر آيزاكسون» على مجموعة منها في خزانة ملابسه.

صارت الكنزة والجينز (من دون حزام) الزي الشخصي الرئيسي لجوبز، مع أنه كان يلبس شورتًا وصندلًا أو يتجول حافيًا أحيانًا. وقد جعل الروتين ارتداء الملابس يوميًّا سهلًا بشكل كبير بينما كان يرسخ صورة جوبز الشخصية في أذهان العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤