مختلفان
لفترة طويلة، كان ستيف جوبز و«بيل جيتس» صديقين لدودين، لكن حينذاك كانت أبل في مفترقٍ حاسم، وكان جوبز في حاجة إلى أن ينحي اختلافاتهما جانبًا.
كان للاثنين تاريخ طويل معقد. ولد الاثنان في ١٩٥٥م، وحققا شهرة وهما في أوائل العشرينيات، جوبز في مجال الكمبيوتر الشخصي و«جيتس» في البرمجيات. في وقت سابق ومبكر، كتبت مايكروسوفت برنامجًا أساسيًّا لأبل ٢، وبدايةً ابتكرت برنامج الجداول، المسمى ﺑ «الإكسل» لماكنتوش، مطلقةً عملها في صناعة برمجيات إضافية. وكأعزبين في أواخر الثلاثينيات من عمريهما، خرجا في بعض المواعيد المزدوجة.
كان «جيتس» يرى أن الكمبيوترات الشخصية شيئًا سيجعل الأعمال تسير بشكل أفضل. واعتبرها جوبز «أداةً استثنائية يمكن أن تجعل البشر أفضل». كان «جيتس»، العملي والمنهجي، يريد أن يخرج منتجًا مقبولًا ثم يحسنه فيما بعد. ولم يكن جوبز، الانفعالي المتقلب، يريد طرح أعماله في السوق قبل أن تتسم بالكمال.
كان جوبز، بأناقته وسحره المعهودين، قد صار مليونيرًا أولًا وأصبح وجه تطور التكنولوجيا، لكن بمجرد أن طرحت مايكروسوفت أسهمها للاكتتاب العام، حلَّقَت أسهم «جيتس» عاليًا وبسرعة ليصبح في وقتٍ قصير من أغنى أغنياء أمريكا. أحيانًا كان يرغب كل منهما فيما يملكه الآخر: استاء «جيتس»، نابغة الكمبيوتر الحقيقي، من أن جوبز الذي لا يعرف حتى أن يكتب شفرة برنامج يُعتبَر رجل التكنولوجيا المتألق ذا الرؤية. واستاء جوبز، وكان مفاوضًا صلبًا ومديرًا صعبًا، لأن «جيتس» يُعتبَر رجل أعمال أكثر تمرُّسًا.
كما خاضا أيضًا قتالًا طويلًا ومريرًا حول ما إذا كان «جيتس» ومايكروسوفت قد سرقا أفضل أجزاء ماكنتوش ووضعوها في نظام التشغيل «ويندوز». حاربت أبل مايكروسوفت على الأمر في المحاكم لسنوات، لكنها خسرت.
في بعض الأحيان كانا ينتقدان بعضهما بعضًا بشدة. بينما كان «جيتس» من أشد المؤيدين لماكنتوش، كان يسخر من أعمال جوبز في «نيكست».
كان جوبز يتهكم بالمثل على نجاح «جيتس». في مقابلة مع مجلة «رولينج ستون» في ١٩٩٤م، بعد تصنيف «جيتس» أغنى رجل في أمريكا، سُئل جوبز عن شعوره بشأن نجاح «جيتس» إلى هذا الحد ببرمجيات تقلد برمجيات أبل. ردَّ جوبز: «في الحقيقة، ليس الهدف أن أكون أغنى رجل في المقبرة. ليس هذا هو هدفي على أي حال.»
في مقابلة تلفزيونية بعد بضع سنوات، كان جوبز حادًّا بشكلٍ بالغ الفظاظة في وصف مايكروسوفت. قال: «ليس لهم ذوق. لا أعني ذلك على مستوًى صغير. أعني ذلك على مستوًى كبير، بمعنى أنهم لا يفكرون في أفكار أصيلة ولا يضعون كثيرًا من الثقافة في منتجاتهم.»
سلم جوبز بأن مايكروسوفت تستحق نجاحها في معظمه، لكنه أضاف: «لدي مشكلة مع فكرة أنهم يصنعون منتجات من الدرجة الثالثة حقًّا.»
بعد المقابلة، اعتذر جوبز ﻟ «جيتس»، قائلًا إنه لم يكن ينبغي له أن يعلن رأيه على الملأ أبدًا. لكن جوبز واصل بعدها ليقول لصحفي إنه يعتقد أن «جيتس» «ضيق الأفق إلى حد ما»، وكان يمكن أن يكون شخصًا واسع الأفق أكثر لو كان قد «زار أحد المعابد الهندية وهو شاب».
بحلول أواخر التسعينيات، رأى أصحاب «ماك» المخلصين لأبل أن شركتهم تبدو أشبه بالنملة أمام عملاق مايكروسوفت في المعركة الدائرة على حرفية الكمبيوتر وسهولة استخدامه. لكن مع تهاوي مبيعات ماكنتوش وغموض مستقبل نظام تشغيله الجديد لم تكن مايكروسوفت لتلتزم بمواصلة صناعة برامجها الشهيرة: «إكسل» و«وورد» ﻟ «ماك»، والذي يتطلب برمجيات مختلفة عن الويندوز (ولا يزال ذلك صحيحًا، لكن أهميته أقل الآن لأن الكثير من المحتوى يأتي عبر الإنترنت).
كانت برمجيات أبل تجارة جيدة لمايكروسوفت، لكنها لم تكن ضرورية بالنسبة إليها. لكن من دون منتجات مايكروسوفت كان يمكن لأبل أن تنهار تمامًا.
كان من أول ما فعله جوبز بعد رحيل «أميليو» الاتصال ﻟ «جيتس» تلفونيًّا، قائلًا له: «سوف أصلح هذه الشركة.» ثم قال بصراحة: «أحتاج إلى مساعدة.»
في مفاوضات تضمنت تمشية طويلة مع مدير مالي في مايكروسوفت بينما جوبز يسير حافيًا، توصل الطرفان بسرعة إلى صفقة. ستواصل مايكروسوفت إنتاج برمجياتها ﻟ «ماك» وستدفع مبلغًا من المال لم يفصح عنه لتسوية النزاعات المستعرة على براءات الاختراع. وبالإضافة إلى ذلك، تشتري مايكروسوفت أسهمًا من أبل بمبلغ ١٥٠ مليون دولار.
ولإحماء التفاصيل، خطط جوبز للإعلان في مؤتمر «ماكورلد» في الصيف في بوسطن. وفي أثناء الاستعدادات وضع جوبز اللمسات الأخيرة على التفاصيل النهائية بالصفقة مع «جيتس» على التلفون المحمول. سمع مصورٌ كلمات الامتنان التي صدرت عنه، وظهرت فيما بعد على غلاف مجلة «تايم»: «بيل، شكرًا على دعمك لهذه الشركة. أظن أن العالم سيكون أفضل بفضل ذلك.»
انتشى الحشد المخلص في «ماكورلد» برؤية جوبز مرة أخرى، حتى بدأ يفصح عن صفقة مايكروسوفت. لم يقتنعوا حين أخبرهم بأن «زمن التنافس بين أبل ومايكروسوفت قد ولى». وحين قال إن متصفح مايكروسوفت — «الإنترنت إكسبلورر» — سيكون هو متصفح الإنترنت الذي يباع كجزء من «ماك»، تذمروا. وحين ظهرت صورة «بيل جيتس» على الشاشة الكبيرة في قاعة الاجتماع، صدرت عن الجمهور أصوات الاستهجان والرفض.
فيما بعد، اعترف جوبز بأنه تصرف بشكل أخرق على خشبة المسرح، حتى بدا هو وأبل صغيرين بجوار الصورة العملاقة لوجه «جيتس». كما أحرج «جيتس» أيضًا حين رأى فيديو لوجهه الهائل على الشاشة. لكن الهدف تحقق: وضعت مايكروسوفت استثمارًا صغيرًا بالنسبة إلى شركة في حجمها، لكنها كانت تخبر العالم أنها تعتقد أن أبل ستنهض في المستقبل. ووصلت الرسالة إلى «وول ستريت»، وارتفعت أسهم أبل في ذلك اليوم حيث استنتج المستثمرون أنها، حقًّا، ستبقى حية.
مع أن جوبز لم يكن سيتولى رسميًّا منصب المدير المؤقت بضعة أسابيع، لم يضيع وقته من دون القيام بنقلات جذرية أخرى. كان لم يزل محتفظًا بجرأته المعهودة، فطلب الاستقالة من معظم أعضاء مجلس الإدارة، ومن بينهم «مايك ماركولا»، المستثمر الأصلي الذي كان مع الشركة منذ البداية. حل مكان الأعضاء القدامى مديرون يرون العالم بطريقة جوبز، ومنهم صديقه المقرب، «لاري إليسون»، رئيس «أوركل» لصناعة البرمجيات، و«بيل كامبل»، مدير تسويق سابق في أبل وكان يدير في ذلك الوقت شركة أخرى للبرمجيات.
داخليًّا، واصل جوبز جهود «أميليو» لخفض التكاليف بشكل كبير لتبقى الشركة بعيدة عن المشاكل. تخلص من قسم طابعات أبل، وأنهى مشروع أداة محمولة اسمها «نيوتن». درس الخط المتضخم لأبل المتمثل في دستة من الكمبيوترات، ثم رسم جدولًا مكونًا من أربع خانات على السبورة: ستصنع أبل أربعة منتجات رئيسية: كمبيوتر مكتبي و«لاب توب» للأعمال، وكمبيوتر مكتبي و«لاب توب» للمستهلكين.
فرض قواعد جديدة في المقر الرئيسي، مثل منع الكلاب في العمل. وقام جوبز، النباتي الذي كان فطوره يتكون من الحبوب والفاكهة المجففة وعصير التفاح، باستبدال العاملين في الكافتيريا، ووصف عملهم بأنه «طعام للكلاب». وبدأ «التوفو» يظهر في قائمة الطعام.
بينما لم تكن أبل لتمتلك منتجات جديدة أو نظام تشغيل جديدًا لبعض الوقت، عرف جوبز بالغريزة أنه في حاجة إلى أن يغير الطريقة التي يرى بها العالمُ — وحتى موظفوه — وليدَه. بالضبط كما عاد إلى صديقه القديم «بيل جيتس»، ذهب إلى مسئولي الدعاية الذين صنعوا إعلان ماكنتوش ١٩٨٤م، ليمارسوا عملهم السحري مرة أخرى.
لم يكن جوبز يريد الدعاية لمنتجات، بل كان يريد أن يعرض قيم الشركة بالطريقة نفسها التي كانت «نايكي» تحتفل بها بالألعاب الرياضية والرياضيين من دون أن تذكر أحذيتها. قال مفسرًا — وهو يرتدي الكنزة السوداء المعتادة، والشورت والصندل — في أحد الاجتماعات: «زبائننا يريدون أن يعرفوا: «ما هي أبل؟» و«ماذا نمثل؟» أين مكاننا في هذا العالم؟ ما نفعله لا يتعلق بمجرد صناعة صناديق تساعد الناس على القيام بأعمالهم، مع أننا نفعل ذلك بشكل جيد. أبل تتمحور حول شيء أكبر من ذلك.»
لكن كيف يمكن للإعلانات أن تصور هذا؟ جرب الفريق مع زبائن أبل، واللقطات السينمائية، وحتى الفئران. في نوبة إلهام قرر الفريق الاحتفاء بالإبداع، وبالمميزين — أحياءً وأمواتًا — الذين شُغِفوا بتغيير العالم إلى الأفضل. كما قال جوبز عمن لم يعودوا أحياءً منهم: «لو استخدموا الكمبيوتر، لكان ماك.»
انتقد جوبز المسودة الأولى، بالطبع، لكنه ساهم بسطر في القصيدة النثرية النهائية لإعلان التلفزيون. وكانت على النحو التالي:
«طوبى للمجانين، غريبي الأطوار، المتمردين، مثيري الشغب.
المختلفون، من يرَون الأشياء بشكلٍ مختلف.
ليسوا مغرمين بالقواعد، ولا يحترمون الوضع الراهن. يمكنك أن تستشهد بهم، تختلف معهم، تبجلهم، تذمهم.
لكن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك فعله هو أن تتجاهلهم، لأنهم يغيرون الأشياء. يدفعون الجنس البشري إلى الأمام.
بينما قد يراهم البعض مجانين، نراهم نحن عباقرة، لأن المجانين بدرجة تجعلهم يعتقدون أنهم يمكن أن يغيروا العالم، هم من يغيرونه بالفعل.»
كان يصاحب السرد صور لعباقرة من كل نوع: العالم «ألبرت أينشتاين»، الفنان «بابلو بيكاسو»، والقس «مارتن لوثر كنج الابن»، والراقصة «مارثا جراهام»، والمخترع توماس إديسون، ومن المطربين «بوب ديلان» و«جون لينون» و«يوكو أونو»، والطيارة «أميليا إيرهارت»، ومحرك العرائس «جيم هنسون» … وغيرهم الكثير. انتهى الإعلان بشاشة سوداء والشعار «فكر باختلاف»، مع شعار أبل الملوَّن.
فاز الإعلان بجائزة «إيمي»، واستمرت حملة الصحف والتلفزيون بفاعلية لخمس سنوات. أثر الأمر في جوبز بعمق. حين عرضه على صحفي من «نيوزويك» للمرة الأولى، بكى. وأصيب بغصة مرة أخرى وهو يصفه لكاتب السيرة «والتر آيزاكسون». قال: «من حينٍ لآخر، أجد نفسي في حضرة النقاء — نقاء الروح والحب — ودائمًا ما يبكيني ذلك. يتوغل في أعماقي دائمًا ويسيطر علي. كان هناك نقاء في هذا العمل، لن أنساه أبدًا.»
نجح عمل فريق الإعلان. لكن بالنسبة إلى جوبز كان عليه أن يُرِي العالم منتجات تبرهن على أن أبل تستطيع حقًّا أن «تفكر باختلاف» حتى يُصلح أبل بحق.
ستيف و«بيل» على خشبة المسرح
في ٢٠٠٧م، وافق ستيف جوبز و«بيل جيتس» على إجراء مقابلة مشتركة نادرة في مؤتمر جريدة «وول ستريت»، بعنوان «كل ما هو رقمي»، وجمعت المقابلة «ماك» والكمبيوتر الشخصي «بي سي» على الملأ. قرب نهاية جلستهما، سأل شخص عما تعلمه كل منهما من الآخر.
مع أن جوبز كان ينتقد ذوق «جيتس» بشكل مشهور، كان «جيتس» طيب الخلق بالاستشهاد «بالذوق الحدسي» لمنافسه «بالنسبة إلى الناس والمنتجات». قال «جيتس» إنه يرى المنتجات من منظور مهندس، لكن جوبز «يتخذ القرار بناء على إحساس بالناس والمنتجات، بطريقة تصعب عليَّ أنا نفسي أن أفسرها. الطريقة التي يعمل بها مختلفة، وأظن أنها سحرية.»
قال جوبز، من جانبه، إنه معجب بطريقة تعاون مايكروسوفت مع الآخرين. قال: «لأنني أنا ووز بدأنا الشركة على أساس القيام بكل شيء، لم نكن بارعين في مشاركة الآخرين. كان «بيل» ومايكروسوفت بارعين حقًّا لأنهما لم يقوما بكل شيء في الأيام الأولى، وتعلما مشاركة الآخرين بشكل جيد حقًّا.»
وقال إن القليل من هذه الصفة كان ليخدم أبل بشكل جيد.
سئل الاثنان أيضًا عن سوء الفهم الأكبر الذي تعرضا له في علاقتهما الطويلة.
أشار «جيتس» أنه حظي بالكثير من المتعة في العمل مع جوبز في مشاريع مثل «الماك». وأشار جوبز أنهما حين بدآ، كانا أصغر مَن في المجال. وقال إنهما الآن غالبًا أكبر رجلين في المجال.
وواصل: «تعرفون، أفكر في معظم الأشياء في الحياة كما أفكر في أغنية ﻟ «بوب ديلان» أو ﻟ «البيتلز». لكن هناك سطر واحد في إحدى أغاني «البيتلز»: «لنا أنا وأنت ذكريات أطول من الطريق الذي يمتد أمامنا»، ويصح هذا بوضوح هنا.»