الفصل التاسع عشر

السرطان

في خطابه لخريجي ستانفورد في ٢٠٠٥م، وعد جوبز بأن يحكي ثلاث قصص: كانت الأولى عن قطع الأحجية، والثانية عن الحب والفقد، والثالثة عن الموت. لم يكن موضوعًا معهودًا أو مبهجًا لخطاب أمام خريجي الجامعة.

figure
جوبز و«لورين» في لحظة خاصة بعد إلقاء الخطاب الرئيسي في مؤتمر مطوري أبل في يونيو ٢٠١١م.

لكن حينذاك لم يكن ستيف جوبز متحدثًا عاديًّا مبهجًا.

على مر السنوات كان يفصح عن فلسفة شخصية في أحاديث مع الزملاء وأحيانًا مع الصحفيين. في سنة ١٩٩٨م قال لمجلة «فورتشن»: «قال لي شخص ما وأنا في السابعة عشرة أن أعيش كل يوم وكأنه الأخير، وأنني في يوم من الأيام سأكون مصيبًا.»

كان لتلك القصة تأثير شديد عليه، حتى إنه كررها لخريجي ستانفورد. تذكرها حين قابل «لورين باول» في كلية التجارة بجامعة ستانفورد وقرر عدم الذهاب إلى الاجتماع، وفي السنوات الكثيرة منذ أن كان مراهقًا. توقع الموت جعله يركز على أهم الأشياء بالنسبة إليه، كما قال، ودفعه إلى أن يغير اتجاهه حين وجد أنه قد توقف عن الاستمتاع والاستفادة بكل يوم.

ثم حكى المدير الذي عمل بجد لسنوات طويلة على الحفاظ على أسرار حياته الشخصية والعائلية قصةً شديدة الخصوصية والتأثير. قال إن الأطباء، قبل ذلك بعام، وجدوا ورمًا في بنكرياسه، واعتقدوا في البداية أنه لم يتبقَّ له من العمر سوى ثلاثة إلى ستة أشهر، لكن عيِّنة الفحص في ذلك اليوم كشفت أنه نوع نادر من سرطان البنكرياس، نوع يمكن علاجه جراحيًّا بنجاح. قال: «أجريت العملية وأنا على ما يرام الآن.»

كانت قصة مثيرة للمشاعر شدت انتباه الجمهور المنتشي، لكنها لم تكن صحيحة تمامًا.

فلتُسمِّ ذلك «مجال تشويش الرؤية» الشهير لستيف جوبز، أو كما وصفته زوجته «تفكيره السحري».

في أواخر التسعينيات، وبينما كان جوبز ينقذ أبل ويعدو ذهابًا وإيابًا إلى «بكسار» (التي على بعد ستين ميلًا) بدأ يتكون حصى في كليتيه، وهو أمر مؤلم جدًّا. قال: «كنت أنطلق إلى المستشفى فتعطيني المستشفى حقنة «ديميرول» في الفخذ، وفي النهاية يخرج الحصى.»

في أكتوبر ٢٠٠٣م، طلبت منه طبيبة المسالك البولية التي تعالجه إجراء أشعة على كليتيه، حيث كان قد أجرى آخر صور للأشعة قبل ذلك بخمس سنوات. كانت كليتاه في حالة جيدة، لكن الأشعة الجديدة أظهرت شيئًا ما على البنكرياس، وهو عضو يقع خلف المعدة. بالإضافة إلى دوره في الهضم، يفرز البنكرياس هرمونات مثل الأنسولين الذي يساعد على تنظيم مستويات السكر في الدم.

حثته الطبيبة على متابعة الأمر، لكنه لم يفعل. بعد عدة أيام، اتصلت به وكررت عليه: «إنه أمر مهم جدًّا.»

أخذ موعدًا للمتابعة، وكما قال للخريجين، وجد الأطباء ورمًا، كان جوبز وقتها في الثامنة والأربعين. لكن كان ذلك في خريف ٢٠٠٣م، لا في منتصف ٢٠٠٤م. في الواقع كان تقريبًا في الوقت نفسه الذي اختار فيه أغنية «جوني كاش» المؤثرة.

عادة ما يكون سرطان البنكرياس سريع النمو وقاتلًا، لكن جوبز أصيب بنوع نادر بطيء النمو في جزر الخلايا التي تفرز الأنسولين اسمه «ورم الغدد الصماء العصبية». أوصى الأطباء بإجراء جراحة على أمل السيطرة على السرطان قبل أن ينتشر في الجسم.

إذا أجرى جوبز العملية ولم ينتشر الورم في الجسم، تكون فرص الحياة كبيرة بالنسبة إليه. يعيش كثير من المرضى عشر سنوات أو أكثر بعد الجراحة.

لكن الجراحة بالنسبة إلى هذا النوع من السرطان ليست أمرًا هيِّنًا. أحيانًا، يتم إزالة الورم والنسيج المحيط به، وفي أحيان أخرى قد يتطلب الأمر جراحة أكبر اسمها «عملية ويبل المعدلة»، تشمل استئصال جزء من البنكرياس، والمرارة، بالإضافة إلى جزء من المعدة والأمعاء والقناة الصفراوية. في المجمل، يعاد تنظيم القناة الهضمية كلها ويعاد بناؤها.

وكان مما أفزع عائلته وأصدقاءه المقربين وكبار موظفي أبل وصدمهم، أن جوبز قرر عدم إجراء العملية. في حياته العملية، كان سريع الرد غالبًا؛ كان شيئًا إما رائعًا وإما شنيعًا، كانت الإجابة إما نعم وإما لا. لكن نادرًا ما كانت حياته الشخصية أبيض وأسود بهذا الشكل. لم يستطع أن يقرر أن يكون أبًا ﻟ «ليزا»، وبذل مجهودًا كبيرًا ليقرر الزواج. لم يستطع حتى أن يشتري أريكة. بالطريقة نفسها، لم يستطع أن يقبل احتياجه إلى الجراحة.

بدلًا من ذلك، ضاعف تركيزه على نظامه الغذائي النباتي، متجنبًا كل أشكال الأطعمة ذات الأصل الحيواني، مفضلًا الجزر وعصائر الفاكهة.

جرب العلاج بالوخز بالإبر، والأدوية العشبية، ومقاربات أخرى بديلة. خلال حياته العملية، كان يبذل مجهودات كبيرة ليمنع الزبائن من العبث بمنتجاته، وبالمثل، لم يكن يريد أن يعبث الأطباء بجسمه. قال بعد ذلك: «حقًّا لم أرغب في أن يفتحوا جسمي.»

وفي أثناء ذلك، توسلت إليه أسرته والمجموعة الصغيرة من الأصدقاء الذين يعرفون بمرضه، أن يعيد النظر في الأمر. تحدثوا معه بانتظام. طلبوا من الأطباء التحدث معه. تفهمت زوجته قلقه بشأن فتح جسمه، لكنها حاولت إقناعه بأن «الجسد موجود لخدمة الروح». جندت كل من تستطيع حتى يغير رأيه، ومنهم أخته «منى سيمبسون». قال أحد المقربين إليه لمجلة «فورتشن»: «كان الأمر بالغ الصعوبة علينا جميعًا.»

أُجريت له أشعة أخرى في يوليو ٢٠٠٤م ولم تكن الأخبار طيبة. بدا أن الورم كبر وربما انتشر. غيَّر جوبز رأيه أخيرًا، وفي ٣١ يوليو ٢٠٠٤م أجرى عليه الأطباء عملية «ويبل» المعدلة. أرسل جوبز في اليوم التالي رسالة بالبريد الإلكتروني إلى موظفيه من سريره بالمستشفى، يشرح السرطان النادر الذي أصيب به، قائلًا إنه يمكن أن يُشفى بالجراحة إذا تمت السيطرة عليه بسرعة كافية، وقال إنه قد تمت السيطرة على ورمه بالفعل، مما يعني أنه لن يحتاج إلى العلاج الإشعاعي أو الكيميائي، ووعد بأن يعود إلى العمل في سبتمبر.

مرة أخرى، لم تكن القصة كاملة. وجد الأطباء في أثناء الجراحة أن السرطان انتشر حتى وصل إلى ثلاثة مواضع في كبده على الأقل. هل أدى تأخير الجراحة إلى تقصير عمره؟ من المستحيل معرفة ذلك، حيث إنه لا أحد يعرف ما إذا كان السرطان منتشرًا بالفعل وقت اكتشافه قبل ذلك بتسعة أشهر.

بدأ جوبز العلاج الكيميائي، ولم تقتصر المضاعفات على ذلك. بسبب الجراحة الكبيرة، قيل لجوبز إنه سيحتاج إلى تناول وجبات كثيرة والحصول على قدر كبير من البروتينات، بما فيها بروتينات من اللحوم والأسماك ومنتجات الحليب كامل الدسم. لكن باعتباره قضى معظم حياته نباتيًّا، كان قد نجح في أن يتجنب هذه الأطعمة، وقرر أنه سيواصل تجنبها.

كان جوبز دائمًا صعبًا في أكله. على مدى السنوات، كثيرًا ما كان يرد الطعام إلى المطاعم لأنه غير صالح للأكل، وحتى وهو بالغ ومع أسرته، قد يفرط في تناول صنف واحد من الطعام، مثل سلطة الجزر بالليمون فقط، أو التفاح فقط، وقد يصوم أحيانًا. بدأت زوجته، التي كانت نباتية صرفة أيضًا، تضيف السمك والبروتينات الأخرى لوجبات الأسرة على أمل أن تقنع جوبز بتناول ما يحتاج إليه جسمه، ولكنها كانت معركة صعبة.

باستخدام أحدث تكنولوجيا متاحة في ٢٠٠٤م، استطاع الأطباء رسم خريطة لجزء من المادة الوراثية في السرطان، مما سمح لهم باستخدام علاجات دقيقة ومحددة تمامًا. لكن تأثير الجراحة والعلاجات، ومسكنات الألم، والمشاكل المتعلقة بنظامه الغذائي جميعها، جعلت الحفاظ على وزنه صعبًا، فبدا أحيانًا نحيفًا وهزيلًا.

خلقت المشاكل الصحية لجوبز تحديات كبيرة لأبل. بينما فضل كثير من المديرين الكبار الاحتفاظ بالمشاكل الشخصية سرية، فإن الاختيار لا يكون بسيطًا حين تكون أسهم الشركة مطروحة للتداول العام. في ظل قوانين الأوراق المالية، يطلب من الشركات كشف المعلومات التي قد تؤثر على مستقبل أداء الشركة للمستثمرين، سواء كانت مبيعات قوية لمنتج جديد، أو مشاكل تتعلق بمنتج متداول، أو مخاوف تتعلق بالمدير، لأن المستثمرين يتخذون القرارات المالية بناءً على كيفية عمل الشركة، ومن حقهم الحصول على المعلومات الصحيحة التي تؤهلهم للقيام بالاختيارات السليمة.

نظرًا للارتباط الحيوي بين جوبز وأبل والأهمية التي يمثلها لمنتجات خط «الآيبود» الذي حقق مبيعات سريعة ومتجر الآيتونز الجديد، كانت صحته موضع اهتمام واضح. لكن لم تكن هناك قواعد صارمة ومحددة بشأن ما ينبغي قوله وتوقيته.

لم تفصح أبل قط عن تأجيل جوبز للجراحة لعدة أشهر بعد التشخيص. لم يتم الكشف عن ذلك إلا حين ذكرته مجلة «فورتشن» في مقال رئيسي نقدي طويل في ٢٠٠٨م. وكذلك لم تفصح أبل عن انتشار السرطان. بدلًا من ذلك، جاءت المعلومة العامة الوحيدة من رسالة جوبز الإلكترونية (غير الصادقة) بأنه تمت السيطرة على السرطان، وأنه لن يحتاج إلى علاج كيميائي. لاحقًا، حين ارتد السرطان وصار جلدًا على عظم، ادعى في البداية أنه يعاني من اختلال هرموني أثر على هضمه.

خلص أحد محامي الشركة إلى أن حق جوبز في السرية أكبر من حق حمَلة الأسهم في أن يعرفوا، «طالما استطاع أن يؤدي مهامه»، كما ذكرت مجلة «فورتشن». لكن المديرين الآخرين كانوا أكثر صراحة بكثير مع مستثمريهم بشأن أمراضهم.

جعلت المعركة مع السرطان جوبز أكثر تأملًا، لبعض الوقت على الأقل. في صيف ٢٠٠٤م، قبل الجراحة مباشرة قابل «ستيفن ليفي» رئيس تحرير «نيوزويك». حين أخرج «ليفي» «آيبود» بميكروفون ليسجل اللقاء، انزعج جوبز حين رأى أن «ليفي» يضع غطاء من البلاستيك عليه ليتجنب الصدمات والخدوش.

قال جوبز: «أظن أن الصلب المقاوم للصدأ يبدو جميلًا حين يبلى. ما أقصده هو أنني سأبلغ الخمسين في السنة القادمة، وهكذا فأنا نفسي مثل «آيبود» به خدوش.»

بينما تم الاحتفال بعيدَي ميلاده الثلاثين والأربعين باحتفالات خيالية أحياها المشاهير، تم الاحتفال بعيد ميلاد جوبز الخمسين مع أصدقائه المقربين وأسرته في حفلة مفاجئة أعدتها له «باول» في منزل أحد الأصدقاء.

كانت مناوشته مع الموت لا تزال مسيطرة على تفكيره حين وافق على الحديث في حفل خريجي ستانفورد بعد ذلك ببضعة أشهر. قال للطلاب إن الموت يشق طريقًا لكل ما هو جديد، وحتى هم سيكبرون وسيرحلون يومًا ما. قال: آسف على مواجهتكم بذلك، لكن الأمر صحيح تمامًا.

ونظرًا لهذا، قدم لهم أقوى نصائحه: وقتكم محدود، لذلك لا تضيعوه وأنتم تعيشون حياة شخص آخر.

وبالمثل، لا تقعوا فريسة لما يتوقعه الآخرون أو تستسلموا لآرائهم.

وأضاف: والأكثر أهمية: تحلوا بالشجاعة وسيروا خلف قلبكم وحدسكم.

فإنهما يعرفان، بشكل ما، ما تودون أن تصبحوا عليه حقًّا.

بينما كان يقاوم السرطان ويواجه احتمال موته، كان جوبز، قد قرر أن يتبع قلبه. قدرت «فوربس» إجمالي ثروته بما يزيد على ثلاثة مليارات دولار تتزايد مع الوقت، بفضل «بكسار» و«الآيبود». كان بإمكانه أن يقضي بعض وقته على الأقل في التفكير في الإحسان وكيف يمكن أن يساهم بثروته الهائلة. لم يكن جوبز مهتمًّا بتوزيع المال. أنشأ مؤسسة لفترة قصيرة بعد ترك أبل، لكنه أغلقها بعد سنة تقريبًا.

حين عاد إلى أبل سنة ١٩٩٧م، أنهى كل برامج الإحسان التي تتولاها الشركة، بما في ذلك عرضها بدفع مبلغ مماثل لمساهمات الموظفين الخيرية. ولم تعد هذه البرامج طوال تحمله للمسئولية.

لم يشارك جوبز في فعاليات جمع التبرعات أو جهودها إلا نادرًا، وقال لكاتب السيرة، آيزاكسون، إنه «يميل عمومًا إلى رفض المساعي الخيرية». راجت إشاعات حول أنه كان وراء بعض التبرعات الكبيرة التي لم يعلن عن أصحابها، لكنها مجرد ظنون. في ٢٠١٠م، تحدى «بيل» و«مليندا جيتس» العائلات الغنية الأخرى أن تتبرع بأكثر من نصف ثرواتها إحسانًا أو لأسباب خيرية أخرى. ومنذ ذلك الوقت، ساهم عشرات المليارديرات والمليونيرات بشيء في تلك المبادرة، ولكن لم يكن جوبز من بينهم.

كانت زوجته، «لورين باول»، داعمة كبيرة لجهود التعليم، وقد أنشأت برنامجًا لما بعد المدرسة يسمى «مسار الكلية» (College Track)، لمساعدة الطلاب محدودي الدخل على الالتحاق بالكلية. قال جوبز إن عملها «يبهرني حقًّا»، لكنه لم يزر قط برنامجًا من برامج ما بعد المدرسة.

منذ إصابته بالمرض، كما قال صديق لصحيفة «نيويورك تايمز»: «ركز على شيئين: بناء فريق في أبل، وأسرته.» وأضاف الصديق: «كان هذا إرثه. كل شيء آخر إلهاء لا طائل من ورائه.»

نظرًا للتحديات الصحية، كان يمكن أن يستقيل ويقضي وقتًا أطول مع أسرته وهو يقاوم مرضه. ففي خريف ٢٠٠٥م، كان ابنه «ريد» سيبلغ الرابعة عشرة، و«إيرين» العاشرة، و«إيف» الصغرى سن دخول المدرسة بالكاد.

لكن كانت أبل حبه الأول، وكانت هذه هي رسالته في الحياة. عمل بجد ليبرأ من الجراحة حتى يعود إلى مكتبه. كان لا يزال أمامه أهم أعماله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤