وز
«الزمن … يتغير.»
كانت المدرسة الجديدة أفضل حقًّا، وعثر جوبز على أولاد آخرين يشاركونه اهتماماته. وهناك كوَّن صداقات غيرت حياته.
وكان أيضًا محظوظًا لأنه تربى وكبر في وادي سانتا كلارا، وهو مكان مكتظ بالمهندسين والحرفيين الذين أشبعوا رغبته المتنامية للتوسع في مجال الإلكترونيات.
منذ أدرك «بول جوبز» أن ابنه لا يشاركه اهتمامه بالسيارات والأنواع الأخرى من الميكانيكا، أحضر له أدوات إلكترونية ليفكها ويدرسها وهو لا يزال في المدرسة الابتدائية. وعثر ستيف جوبز أيضًا على معلم في حيهم القديم؛ مهندس في شركة «هيوليت باكارد»، اسمه «لاري لانج»، أثار فضول جوبز بميكروفون قديم من الكربون كان قد وضعه في مدخل السيارات في بيته، وكان لا يحتاج إلى مكبر صوت إلكتروني. عرَّف «لانج» الولد على معدات «هيث»، وهي خليط من قطع إلكترونية وتعليمات مفصلة تساعد الهواة في صناعة الراديو وأجهزة أخرى.
تذكر جوبز: «كان ثمنها فعليًّا أغلى من ثمن شراء المنتج النهائي.» لكن ما أثار فضوله هو أن كيفية وضع المعدات معًا جعلته يفهم كيفية عملها، ومنحته الثقة فيما يمكن أن يصنعه. قال جوبز: «لم تعد هذه الأمور غامضة. أقصد حين تنظر إلى جهاز تلفزيون تفكر «لم أصنع جهازًا مثله لكنني أستطيع. هناك واحد منها في كتالوج معدات «هيث»، وقد صنعت جهازين من معدات «هيث»، وبالتالي يمكنني أن أصنع هذا»، كانت توفر مستوًى هائلًا من الثقة بالنفس. ومن خلال الاستكشاف والتعلم، كان بإمكان المرء فهم أشياء تبدو شديدة التعقيد في محيطه.»
قال جوبز: «كان ضخمًا، ربما كان وزنه يبلغ أربعين رطلًا، لكنه كان جميلًا، وقد وقعت في غرامه.»
وجد جوبز، وهو يحاول صناعة عداد التردد المستخدم لقياس نبضات الإشارة الإلكترونية، نقصًا في قطع الغيار التي يحتاج إليها، ومن دون تردد، بحث عن مؤسس «هيوليت باكارد»، «بيل هيوليت»، في دليل التلفون، واتصل به في البيت. تلقى «هيوليت» المكالمة بلطف، وتحدث مع جوبز لعشرين دقيقة. وبنهاية المحادثة كان جوبز قد حصل على قطع الغيار التي يحتاج إليها، بالإضافة إلى عقد للعمل في الصيف. وقضى الصيف على خط الإنتاج، يضع المسامير في عدادات التردد، التي كانت تستخدم في المختبرات والمصانع. وقال متذكرًا: «كنت أشعر كأنني في الجنة.»
وساهم أناس مثل «بيل هيوليت» في جعل وادي سانتا كلارا مكانًا يجذب المهندسين والفنيين المتخصصين. بالإضافة إلى العمليات المتنامية لشركة «هيوليت باكارد» في بالو ألتو، قدم كل من قسم القذائف في شركة «لوكهيد» في سانيفيل، ومركز أبحاث قريب لوكالة «ناسا»، و«فيرتشايلد» لأشباه الموصلات في سان خوسيه، عددًا متزايدًا من الوظائف لذوي الميول التقنية. بالإضافة إلى ذلك، كانت جامعة ستانفورد بالقرب من بالو ألتو وجامعة «كاليفورنيا-بيركلي»، إلى الشمال قليلًا، مركزين نشطين للعلوم والتكنولوجيا.
شهدت سنوات طفولة جوبز حركة سريعة للابتكارات في عالم الإلكترونيات، وهو العلم والتكنولوجيا اللذان يسيطران على التدفق غير المرئي للكهرباء لتشغيل الآلات. وفي أواخر أربعينيات القرن العشرين، ابتكر ثلاثة علماء يعملون في مختبرات «إيه تي آند تي بل» — «جون باردين» و«ولتر براتين» و«وليام شوكلي» — «الترانزستور»؛ وهو أداة صغيرة تستطيع توجيه الإلكترونات وتضخيمها. وكان «الترانزستور» يثبت حول مادة من «أشباه الموصلات»؛ مادة ليست عازلة تمامًا وليست موصلة تمامًا، ترسل التيارات الكهربية في اتجاه واحد فقط. في ذلك الوقت، أصبح السيليكون المادة شبه الموصلة المفضلة، وعُرفت الأدوات الصغيرة المصنعة منها بأشباه الموصلات أو «الرقائق».
بإحلال «الترانزستور» محل الأنابيب المفرغة الأضخم والأقل موثوقية، صار «الترانزستور» أساس كل الأدوات الإلكترونية، مما سمح للعلماء والمهندسين بصناعة أدوات أصغر باستمرار، مثل راديو «الترانزستور» الذي يوضع في الجيب، والتلفزيون الذي يوضع على الرف، وآلات حاسبة في حجم اليد، وفي النهاية الكمبيوتر الذي يوضع على المكتب.
بينما كانت «هيوليت باكارد» والشركات الأخرى تكبر وتنتقل إلى صناعة أنواع جديدة من الأجهزة، وأشباه الموصلات ومعدات ذات قدرات متنامية، تركها الرجال الطموحون لينشئوا شركاتهم ويتوصلوا إلى مزيد من الابتكارات. كان الأمر، كما قال جوبز بعد ذلك: «يشبه تلك الزهور، أو الأعشاب التي تتناثر بذورها في مئات الجهات حين تنفخ فيها.»
مع هذا النشاط كله والتركيز على الرقائق والدوائر الكهربية، انتقل كثيرون إلى هذه المنطقة. جُرفت البساتين لإفساح المكان للتنمية السكنية، وتضاعف عدد سكان سان خوسيه بين عام ١٩٦٠م وعام ١٩٧٠م، وتضاعف سكان مدينة كوبرتينو القريبة منها أربع مرات. وسرعان ما عُرفت المنطقة بوادي السيليكون.
عند وصول جوبز إلى المرحلة الإعدادية، كان والده يعمل في شركة تصنع أجهزة الليزر للإلكترونيات والمنتجات الطبية. وبدأ جوبز في الاهتمام بهذا أيضًا، وبدأ يصنع أدوات خاصة به بقطع الغيار التي يعثر عليها أو التي يحضرها والده إلى البيت، وكان أحيانًا يشارك بمشاريعه في المدرسة.
أصبح «بيل فرناندز»، زميلُ جوبز في الفصل، صديقه المقرب، حيث عمل معه في مشروع لمسابقة العلوم، كما شاركه اهتماماته الأخرى. على مر السنوات كانا يسيران مسافات طويلة في المساء، متحدثين في مختلف الأمور الجادة؛ من حرب فيتنام إلى النساء، ومن المخدرات إلى الدين (في الواقع، كان جوبز طوال حياته يصارع الأفكار الكبيرة والأمور الصعبة بالحديث عنها في أثناء النزهات الطويلة سيرًا على الأقدام).
ومع ذلك ظل جوبز وفرناندز يقضيان ساعات في مناقشة الأمور الروحانية. يقول فرناندز: «كنا مهتمين بالجانب الروحاني للأمور، والأسئلة الكبيرة: من نحن؟ ما سبب وجودنا؟ ما معنى هذا؟ وكان ستيف هو المتحدث غالبًا … قد تكون فكرة طرأت على ذهنه وشغفته تفكيرًا، أو كان هناك ما يشغل ذهنه، وكان يتكلم لساعات ونحن نتمشى.»
كانت السنة التي التحق فيها جوبز بالمدرسة الثانوية من أكثر السنوات اضطرابًا في التاريخ الأمريكي الحديث. في أبريل اغتيل القس «مارتن لوثر كنج الابن»، الذي كافح ضد التمييز العنصري بالوسائل السلمية. وبعد ذلك بشهرين، أُطلقت النار على مرشح الرئاسة «روبرت كينيدي» وسقط قتيلًا بعد إلقائه خطابًا في حملته الانتخابية. وتأججت المعارضة ضد الحرب الفيتنامية، وأثار المتظاهرون المعادون للحرب الشغب في المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي في شيكاغو.
في المقابل، كانت مدرسة «هومستيد» الثانوية، التي التحق بها جوبز في ذلك العام، لا تزال منطقةً كلاسيكية محمية، بدت مباني المدرسة، المشيدة من طابق أو اثنين والمحاطة بأسلاك شائكة، مثل السجن. كان في صف العام الدراسي ١٩٧٢م خمسمائة طالب كلهم من البيض تقريبًا، ولم يكن هناك إلا تلميذان من السود وحفنة من التلاميذ الآسيويين، وكانت القواعد الصارمة لزي المدرسة تتطلب أن يكون شعر الأولاد مقصوصًا فوق الأذن، وكان الجينز الأزرق ممنوعًا، وكان على الأولاد أن يرتدوا بنطلونات قماشية عادية وترتدي البنات تنورات تحت الركبة بحوالي ثلاث بوصات.
في الصف الثاني الثانوي، بدأ صديق جوبز «بيل فرناندز» يقضي الأمسيات ونهاية الأسبوع في مساعدة جاره ستيف وزنياك في صناعة كمبيوتر صغير في جراج الأخير. كان وزنياك، الأكبر من جوبز بخمس سنوات تقريبًا، والمتقدم عليه في الدراسة بأربع سنوات، تلميذًا نابغة في الرياضيات والعلوم والإلكترونيات في «هومستيد». وعلى الرغم من أن أسرته لم تكن تستطيع تحمُّل نفقات تعليمه، فقد سمح له والداه بقضاء سنة في جامعة كولورادو في بولدير. لكن وزنياك، أو «وز» كما كان يناديه زملاؤه، كان أكثر اهتمامًا بتجريب الكمبيوترات الآلية الكبيرة في الحرم الجامعي، ولعب البريدج في وقت متأخر من الليل. وبنهاية العام، تأثر مستواه في المواد الأخرى، فعاد إلى أسرته والتحق بكلية محلية لمدة سنة لدراسة علوم الكمبيوتر.
ابتعد وزنياك سنة عن الدراسة عندما كان غير متأكد من تجنيده في الخدمة العسكرية في أثناء حرب فيتنام، ومع حاجته إلى مزيد من الأموال للكلية، التحق بشركة للكمبيوتر في وظيفة مبرمج كمبيوتر. (وحينذاك، كان الشباب يُجنَّدون في العشرين طبقًا لرقمٍ يُعطى لكل منهم وفقًا لتاريخ ميلاده في سحبٍ سنوي. في النهاية، كان الرقم الموافق لتاريخ ميلاد وزنياك مطابقًا للكثيرين غيره وبالتالي تضاءلت احتمالات تجنيده تمامًا.)
كان الكمبيوتر الذي يصنعه وزنياك وفرناندز عاديًّا؛ يتكون من قطع غيار جمعاها من هنا وهناك، ولا تخزن ذاكرته أكثر من ٢٥٦ حرفًا مكتوبًا، أي جملة تقريبًا. كان وزنياك يكتب برامج صغيرة على بطاقات مثقبة تجعل الكمبيوتر يصدر صوتًا كل ثلاث ثوان، أو يقوم بوظيفته بومضات متصلة بواجهته. كان الكمبيوتر بلا لوحة مفاتيح أو شاشة، وكانت ذاكرته أقل من أن تقوم حتى بحسابات بسيطة، لكنه، على الرغم من ذلك، كان يستطيع تشغيل برنامج. وسمَّياه «كمبيوتر كِريم الصودا»، لأنهما شربا الكثير من كريم الصودا وهما يصنعانه (مات الكمبيوتر ميتة مبكرة حين أحدث اندفاع في التيار الكهربي انفجارًا في الدوائر واحترقت).
أدرك فرناندز أن صديقيه يحبان الإلكترونيات والمقالب الفكاهية، وأنهما ينبغي أن يلتقيا. وهكذا قاد جوبز دراجته إليهما ذات يوم. كان وزنياك يغسل سيارته في الشارع حين صاح فرناندز: «يا وز، تعال، لأعرفك على ستيف.»
على الرغم من الفارق السنِّي بينهما، اتفق الاثنان منذ البداية. أثار وزنياك إعجاب جوبز بمعرفته بالإلكترونيات التي فاقت معرفته هو شخصيًّا، وشعر أن نضجه هو وعدم نضج وز جعلا علاقتهما متوازنة. وقدر وزنياك أن: «ستيف فهم الأمر على الفور. أحببته. كان نحيلًا، صلبًا ومفعمًا بالطاقة.»
بدآ يقضيان معًا وقتًا طويلًا، وعرف وزنياك جوبز على موسيقى «بوب ديلان» وكلمات أغانيه القوية، وبدأ الاثنان يتعقبان الأشرطة المهربة لحفلات «ديلان»، وسرعان ما أصبحا شريكين في أحد الأعمال غير المألوفة وغير القانونية أيضًا.