الفصل الثاني والعشرون

الإرث

مع أن ستيف جوبز كان قد قضى سنوات في مقاومة السرطان، إلا أن موته بدا — بشكل ما — غير متوقع.

خلال ساعات من نشر الخبر، تدفق الأسى عبر العالم بشكل غير مسبوق بالنسبة إلى مدير شركة. أمام المقر الرئيسي لأبل في كوبرتينو، وأمام بيت جوبز في بالو ألتو، وأمام محلات أبل من سان فرانسيسكو إلى نيويورك إلى الصين؛ جاء الناس يعبرون عن تقديرهم له. تركوا زهورًا وشموعًا ومئات من كلمات الشكر في نوافذ المحلات. تركوا تفاحًا، كاملًا ومقضومًا. أحضروا معهم أجهزتهم الخاصة من «الآيفون» إلى «الآيباد»، مع رسائل الحزن والتقدير.

بدا الأمر وكأن نجمًا سينمائيًّا عالميًّا شهيرًا أو نجمًا من نجوم «الروك» قد مات. وصف «بونو» عضو الفريق الموسيقي «يو تو» جوبز بأنه «إلفيس الأجهزة والبرمجيات». وكان وجهه على غلاف المجلات من «بيبول» إلى «الإيكونومست»، ونشرت كثيرًا من المطبوعات أعدادًا خاصة احتفاءً بحياته، وتلقفتها الأيدي من على الرفوف.

تحدثت «منى سيمبسون»، في نعيها له — الذي أُعيدت طباعته في «نيويورك تايمز» — عن إخلاص أخيها، وحبه للجمال، وعناده الذي لا يُصدق، وعمله الشاق. كتبت أنه قبل أن يفقد الوعي لآخر مرة «نظر إلى أخته «باتي»، ثم نظر إلى أبنائه طويلًا، ثم إلى رفيقة حياته «لورين»، ثم تجاوزهم بنظرته. وكانت آخر كلمات ستيف: أوه واو، أوه واو، أوه واو.»

figure
بعد موت جوبز بقليل، توافد المعجبون على بيت عائلته ليتركوا أمامه ما يعبِّر عن تقديرهم له.

ويبقى أنه في السنوات التي شهدت ازدهاره كرجل أعمال ترك أشياء كثيرة لم تكتمل. انهمك بعمق في خطط للمقر الرئيسي الجديد لأبل، ماضيًا من تصميم إلى تصميم، مصرًّا على أن يحتوي بساتين المشمش التي كانت تنتشر في الوادي وهو صبي. تمنى أن تكتشف أبل وسيلة أفضل لتقديم تلفزيون للجمهور. ومدركًا أن كثيرًا من الأطفال لم تعد تُخصَّص لهم خزائن، تمنى أن يعثر على وسيلة توفر الكتب الدراسية إلكترونيًّا بشكل أكبر، ربما ببيع «الآيباد» وعليه كتب دراسية محمَّلة.

ترك الشركة وهي في قمة نجاحها. كانت أبل التي يديرها أكبر خمس عشرة مرة من تلك التي تولاها في ١٩٩٧م. في السنة المالية التي انتهت قبل موته مباشرة، حققت أبل مبيعات بمبلغ ١٫٨ مليارات دولار، مما يعني أنها حققت نموًّا أسرع حتى من السنة السابقة. وحققت ربحًا بمقدار ٢٤ سنتًا تقريبًا لكل دولار مبيعات. على الرغم من أن كمبيوتراتها وتلفوناتها الأنيقة من أغلى الأنواع في السوق، باعت أبل أكثر من ٧٢ مليون تلفون، وأكثر من ٤٢ مليون «آيبود»، و٣٢ مليون «آيباد»، و١٧ مليون كمبيوتر تقريبًا في سنة واحدة.

صار ثريًّا جدًّا، يملك سبعة مليارات دولار تقريبًا، طبقًا لما أوردته مجلة «فوربس»، ويتمثل الجزء الأكبر من ثروته في أسهمه في ديزني، تليها أسهم أبل.

figure
«تيم كوك»، مدير أبل، يتحدث في الحفل التأبيني لستيف جوبز في المقر الرئيسي لأبل.

يذكر التاريخ قليلًا من رجال الأعمال البارزين وحسب بصفتهم قد غيروا صناعة واحدة، لكن جوبز جدد عدة صناعات؛ لم يكن هو مبتكر الكمبيوتر الشخصي، لكنه كان صوت الثورة ووجهها. لم يصنع أفلام الرسوم المتحركة بالكمبيوتر الرائعة التي أنتجتها «بكسار»، لكنه جعلها تظهر للوجود. وضع الموسيقى الرقمية والإنترنت في جيوبنا بطريقة أنيقة. جعل حياتنا أسهل بالإصرار على أن يتميز كل جهاز تصنعه أبل — وبالتالي الأجهزة التي يصنعها كثير من الآخرين استجابة لذلك — بالبساطة ومتعة الاستخدام.

في الحفل التأبيني الذي أقامه موظفو أبل، قال «تيم كوك»، المدير الجديد لأبل: إن من الدروس التي علمها له جوبز أن «البساطة قد تكون أصعب من التعقيد. عليك العمل بجدية ليصفو ذهنك بما يكفي لأن تجعله بسيطًا. لكن الأمر يستحق العناء في النهاية، لأنه بمجرد تحقيق ذلك، يمكنك تحريك الجبال.»

من السهل أن نعلق على غرابة ستيف جوبز وأن نُركز على جانبه الكريه: نوبات غضبه، نفاد صبره، بروده وعدم اكتراثه في بعض الأحيان، توقعاته العالية جدًّا، إلحاحه على من حوله. حتى إن «منى سيمبسون» ذكرت في نعيها له أنه تفحص ٦٧ ممرضة قبل أن يعثر على ثلاث يمكن أن يثق بهنَّ.

لكنه، في النهاية، كان مثل منتجاته: كانت ذاكرة الماكنتوش ضئيلة جدًّا ومن دون مفاتيح مؤشرات، وكان «الآيماك» من دون مشغل أقراص مرنة، وكان «الآيبود» من دون مفتاح تشغيل. كانت كلها ممتازة، ولكن بها عيوب أيضًا. لكن يمكن التغاضي عن النواقص الحقيقية لأن البقية مدهشة جدًّا. بقي كثير من المديرين والمهندسين لسنوات في أبل، متحملين طلبات جوبز التي لا تنتهي، لأنهم كانوا يقومون بأعمال عظيمة تحت إشرافه، بل وربما كانت أعمالًا أفضل مما كان يمكن أن يحققوها من دون إلحاحه.

بقدر ما كان جوبز يدفع من يعمل معهم، لم يكن يريد منهم أن يحاولوا تخمين ما يريد أو يحاولوا أن يفكروا بطريقته. قال «كوك»: «من بين آخر النصائح التي قدمها لي ولكم جميعًا، ألا تسألوا أبدًا عما كان سيفعله لو كان في مكانكم. قال: افعلوا ما يصح فقط.»

بالإضافة إلى الأجهزة، ترك جوبز الدروس التي عبر عنها بقوة في خطابه في ستانفورد وفي الطريقة التي عاش بها: كان على يقين من أن قطع الأحجية ستكتمل، وكان يؤمن بأن المكافأة هي في الرحلة!

اتبَع قلبه. إذا لم يرضَ عما فعله، وإذا لم يؤمن بأنه عمل عظيم، كان يعيد عمله مرة بعد مرة.

حاول أن يعيش كل يوم كما لو كان يومًا مهمًّا حقًّا، حتى قبل أن يصاب بالسرطان.

نعم، وكان هناك شيء آخر، في مقابلة في ١٩٩٨م ومرة أخرى في حفل خريجي ستانفورد، تذكر «كتالوج الأرض كلها» (The Whole Earth Catalog)، مطبوعة غريبة وكانت شهيرة وهو في المدرسة الثانوية. تذكر أن الغلاف الخلفي، في العدد الأخير، كان عليه صورة لطريق ريفي بعيد.
وكان العنوان: «ابقَ جائعًا. ابقَ أحمق» (Stay Hungry. Stay Foolish).

والآن، قال: «أتمنى ذلك لكم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤