الفصل الثالث

عفاريت التلفون

كان الانتقال من السنة الأولى إلى السنة الثانية انتقالًا حافلًا لجوبز.

واصل جوبز في الصيف التالي للصف العاشر وظيفته التي كان يشغلها في أثناء السنة الدراسية كقائمٍ على البضائع في محل به مجموعة هائلة من قطع الغيار الإلكترونية، يشبه إلى حد كبير منافذ بيع قطع غيار السيارات التي كان يصحبه إليها والده وهو صغير. هناك اكتسب معرفة واسعة بقطع الغيار الإلكترونية وأسعارها، بالإضافة إلى معرفة القواعد العامة للتجارة أيضًا. وبشكل شبه تلقائي، فهم الأرباح، والفرق بين ما يدفعه المحل مقابل البضائع وما يبيعها به. وكان جوبز أحيانًا ما يشتري قطع غيار من سوق محلية رخيصة ويبيعها لصاحب المحل محققًا بعض الربح، ثم يعيد صاحب المحل بيعها أعلى.

استطاع جوبز بهذه المكاسب المتنوعة شراء سيارة فيات حمراء صغيرة في حالة سيئة، سهلت له البحث عن أصدقائه القدامى في ستانفورد وبيركلي وزيارتهم.

في بداية سبعينيات القرن العشرين كانت حرب فيتنام توشك على الانتهاء تدريجيًّا، وبدأت ثقافة «الهيبيز» في الوصول إلى الوادي. وبدأ جوبز، المعروف بمحاولاته في اختبار الحدود، يجرب. أطال شعره، وبدأ يدخن الماريوانا. وقد استشاط والده غضبًا حين اكتشف المخدرات في سيارة ابنه، وحاول أن ينتزع منه وعدًا بعدم العودة إليها ثانيةً. ولكن رفض «جوبز الابن»، يقول: «كان هذا هو الشجار الحقيقي الوحيد الذي نشب بيني وبين أبي.»

figure
ستيف جوبز، صورة الكتاب السنوي وهو في الصف الثالث الثانوي، ١٩٧٢م.
figure
ستيف وزنياك. صورة الكتاب السنوي وهو في الصف الثالث الثانوي، ١٩٦٨م.

في الوقت ذاته بدأت اهتماماته تتخطى العلوم والرياضيات والإلكترونيات. قال: «اكتشفت شكسبير وديلان توماس، وكل تلك الأشياء الكلاسيكية. قرأت رواية موبي ديك، وعلى الرغم من أنني كنت طالبًا في السنة قبل النهائية، حضرت دروسًا في الكتابة الإبداعية.»

خففت مدرسة «هومستيد» الثانوية من قيودها على الزي المدرسي، وسمحت بالجينز الأزرق. وشكل جوبز مع صديقه نادي «بَك فراي» (Buck Fry)، وهو تحريف غير لائق لاسم عائلة مدير المدرسة، ولكن على الرغم من ذلك استطاعا العثور على راعٍ للنادي من مدرِّسي المدرسة. نظمت الجماعة الصغيرة حفلات موسيقية مع فرق طلابية تعزف موسيقى الجاز والبلوز والروك التقدمي. اعتمد أعضاء النادي على معرفة جوبز بأجهزة الليزر في إبداع عروضٍ متقنة بالليزر، تنبض فيها نقاط ملونة مع الموسيقى وتغطي المسرح بألوان الطيف.

وكان نادي «بك فراي» معروفًا أيضًا بالمقالب الصغيرة، مثل تلوين قاعدة مرحاض باللون الذهبي وتثبيتها بالأسمنت في حوض الزهور! ذات مرة دعوا مدير المدرسة إلى الانضمام إليهم لتناول الفطور. وتبين أن المكان مميز، على سطح الكافتيريا، حيث وضعوا طاولة ومقاعد، وسيارة فولكس فاجن بيتل كانوا قد تمكنوا من رفعها إلى السطح.

بعد المدرسة، قدم وزنياك لجوبز «جهاز تشويش على التلفزيون» في حجم الجيب صنعه في سنته الأولى في الجامعة، وكان ذلك الجهاز يشوش على صورة التلفزيون عن طريق تداخُله مع الإرسال. كان وز يشغل الجهاز بينما زملاؤه في سكن الكلية يشاهدون التلفزيون، فيقوم شخص ممن يشاهدون التلفزيون محاولًا ضبط صورة الجهاز بلف أزراره، فيعبث وز بالمشاهد، فيشغل الجهاز ويطفئه، بينما يحاول المشاهد ضبط الصورة بحيث يبدو وكأن محاولاته هي ما تصنع الفارق. أحيانًا كان بإمكان وزنياك أن يحول مشاهدًا غير مدرك لما يحدث إلى بهلوان بمجرد تشغيل الجهاز وإطفائه. (أبهر هذا المقلب جوبز إلى درجة أنه بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا، حين توقف مؤشر العرض عن العمل في أثناء تقديمه ﻟ «الآيفون»، توقف جوبز دقيقة ليحكي قصة جهاز التشويش الذي صنعه وز، وليشرح كيف كان الأمر ينتهي أحيانًا بأحد المشاهدين معلقًا ساقه في الهواء وذراعاه متشابكتان حوله في محاولة يائسة لضبط الصورة.)

في نهاية عامه في الصف الثاني الثانوي اتفق جوبز ووزنياك وأحد أصدقاء الأخير سرًّا على أن يهنئوا دفعة التخرج بلافتة خاصة؛ باستخدام ملاءة مصبوغة، رسموا يدًا واقعية جدًّا ترفع الإصبع المعروفة عالميًّا بتعبيرها عن الاستنكار والاستهجان، وأضافوا «مع أطيب التمنيات» بشكل مبهج، ووقعوها بكلمة جمعت الحروف الأولى من أسمائهم واسم عائلة جوبز.

خطط الثلاثة لنصب اللافتة على سطح أحد المباني ونشرها، بينما يمر الخريجون من تحتها، لكن واجهتهم مشكلة في نشر الملاءة بشكل صحيح، وقضوا عدة ليال يحاولون إصلاحها. لكن في يوم التخرج، تلقى وزنياك مكالمة من جوبز؛ كان أحد قد أزال اللافتة، وضبط جوبز متلبسًا.

ولم يعرف وزنياك إلا بعد ذلك أن جوبز تفاخر بشأن المقلب أمام بعض الأصدقاء، فأفسده أحدهم.

في خريف ١٩٧١م، عاد وزنياك إلى الكلية، إلى بيركلي هذه المرة، على بعد ساعة تقريبًا إلى الشمال من لوس ألتوس. وقبل أن يبدأ الدراسة نبهته أمه إلى مقال استثنائي في مجلة «إسكواير»: صنعت مجموعة من قراصنة ما قبل الكمبيوتر أجهزة صغيرة سموها «الصناديق الزرقاء»، تنبعث منها الأصوات التي تستخدمها شركة التلفونات لنقل المكالمات. كان نسخ النغمات بالتردد نفسه يسمح للمستخدمين بالتقاط خطوط التلفون وإجراء المكالمات مجانًا إلى أي مكان في العالم، وأطلقوا على أنفسهم «عفاريت التلفون» (phone phreaks).

انبهر وزنياك بفكرة التغلب على شركة التلفونات بالدهاء والحيلة. كانت إمكانية الاتصال هاتفيًّا عبر البحار للأفراد من دون المرور بعامل السنترال لا تزال حديثة. قبل عقود من اختراع التلفون المحمول، لم يكن أمام الزبائن إلا شركة تلفونات واحدة، وكانت المكالمات بعيدة المدى مكلفة؛ كانت مكالمة لثلاث دقائق من الساحل الشرقي للساحل الغربي من أمريكا تكلف في نهاية الأسبوع ٧٠ سنتًا، بما يعادل أربعة دولارات تقريبًا الآن، وكانت التكلفة في أثناء الأسبوع أعلى حتى من ذلك. كانت فكرة قرصنة المكالمات مذهلةً بحق.

اتصل وزنياك، مفتونًا، بصديقه ستيف جوبز، وبدأ قراءة المقال له. في اليوم نفسه اتجه الاثنان إلى المكتبة لبحث الموضوع، مكتشفين الترددات نفسها في الوثائق التقنية. على مدار عدة شهور، عمل وزنياك على تصميم صندوقه الأزرق الخاص وصناعته. استخدم آخرون تسجيلات على شرائط كاسيت، أو صفيرهم لسرقة الخطوط، ولكنه كان يريد استخدام الشرائح الرقمية من الشركات من حوله ليشغل صندوقه.

وبدآ يبحثان أيضًا عن إحدى الشخصيات المذكورة في مقالة مجلة «إسكواير». كان «كابتن كرانش»، أحد الرواد في تكنولوجيا قرصنة المكالمات، قد اكتسب اسم شهرته بعد اكتشافه أنه إذا نُفخَت الصافرة البلاستيكية الموجودة في علبة حبوب الإفطار المسماة «كابتن كرانش» بشكل صحيح، يمكن أن تصدر التردد الصحيح لسرقة مكالمة بعيدة. ومن خلال أحد معارفهما، عثر جوبز ووزنياك عليه وطلبا مقابلته.

لم يكن الرجل الذي ظهر عند باب مسكن وزنياك بالكلية يمت للقب كابتن بصلة. كان شعره مائلًا على جانب واحد، وبعض أسنانه مفقودة، ولأنه كان مقيمًا في سيارته الفولكس فاجن، كان قد مضى عليه بعض الوقت من دون استحمام. على مدار عدة ساعات، تعلَّما تفاصيل أكثر عن طريقة استخدام الصندوق، وتبادلوا شفرات المكالمات وتقنياتها.

في وقت متأخر من تلك الليلة، تعطلت السيارة الفيات الحمراء الصغيرة، بينما كان وزنياك وجوبز عائدَين في طريقهما إلى منزل جوبز في لوس ألتوس. وجدا هاتفًا عموميًّا وطلبا من عامل شركة الهاتف أن يتصل بالرقم المجاني بأمريكا الذي يبدأ ﺑ ٨٠٠، وقد عقدا العزم على استخدام الصندوق لطلب المساعدة، لكن العامل استشعر القلق وأخذ يقاطع المكالمة. وفي اللحظة التي وضعا نقودًا حقيقية في التلفون العمومي لإجراء مكالمة قانونية وصلت سيارة الشرطة.

قامت الشرطة بتفتيش الاثنين. أخرج الشرطي الصندوق من جيب وزنياك وسأله عنه، فقال له وزنياك إنه صندوقٌ لتشغيل الموسيقى، ابتكار جديد نسبيًّا. بينما استجوبَتهما الشرطة، كان الاثنان يزدادان عصبيةً، ولكن على ما يبدو كانت إجاباتهما مقنعةً، واصطحبتهما الشرطة إلى محطة للوقود حيث أعادوا لهما الصندوق.

في البداية، استخدم وزنياك وجوبز الصندوق للتسلية. استخدمه جوبز في إجراء مكالمات من التلفون العمومي في المدرسة للاتصال بخط للنكات في بريطانيا العظمى. وترك ملاحظة على التلفون لزملائه تقول: «اسمعوا لكن لا تغلقوا الخط». في مرة من المرات وفي وقت متأخر جدًّا من الليل، اتصل وزنياك بالفاتيكان، مدعيًا أنه «هنري كيسنجر»، مستشار الأمن القومي للرئيس «ريتشارد نيكسون» في ذلك الوقت، وطلب التحدث إلى البابا. في البداية، قال الشخص الذي يستقبل المكالمة على الناحية الأخرى من الخط إنه سيرسل أحدًا لإيقاظه، لكنه تنبه للخدعة حين لم يستطع وزنياك السيطرة على ضحكه.

وعلى الرغم من احتكاكهما السابق بالشرطة، راودت جوبز فكرة مفاجئة، فقال لوزنياك: «علينا أن نبيع هذه الصناديق.» ومع توالي الطلبات، اكتشف وزنياك طريقةً لخفض تكلفة قطع الغيار من ٨٠ دولارًا إلى ٤٠ دولارًا، وأخذا يبيعان الصندوق مقابل ١٥٠ دولارًا للطلاب، و٣٠٠ دولار للآخرين. وتحت الاسمين المستعارين: «بيركلي بلو» لوزنياك، و«أوف توبارك» لجوبز، حقق الاثنان ربحًا جيدًا.

وفي إحدى أمسيات الصيف، ذهب الاثنان لمقابلة زبون محتمل. وبينما هما يحاولان عرض الصندوق وإقناعه به أخرج الزبون مسدسًا ووجهه إلى جوبز. أدرك جوبز بسرعةٍ عدم جدوى الجدل، فسلمه الصندوق.

قرر جوبز التخلي عن هذا العمل بعد ذلك بوقت قصير. كان قد بدأ يشعر بالملل، كما كان الخطر المضاعف لتعرضه إما لإطلاق الرصاص وإما للقبض عليه في أثناء بيعه شيئًا غير قانوني هائلًا جدًّا. لكن وزنياك استمر في المجال وباع في نهاية الأمر مائتي صندوق تقريبًا. حتى بعد انسحاب جوبز، كان وزنياك يقسم الربح بالتساوي مع صديقه، كما كانا يفعلان في البداية.

وربما أدت هذه التجربة إلى نتيجةٍ غير متوقعة. قال «رون روزنبوم» كاتب مقال «إسكواير» المذكور سنة ١٩٧١م لاحقًا، إنه ربما كانت صلة جوبز ووزنياك المبكرة ﺑ «كابتن كرانش» الخارج على القانون الشهير — واسمه الحقيقي «جون دريبر» — من ضمن الأسباب التي جعلت قراصنة الكمبيوتر بعد ذلك بسنوات يركزون على أجهزة الكمبيوتر التي تصنعها الشركات الأخرى ويتركون «الأبل ماكنتوش» لحاله.

وكما بدأ الوقت الذي يقضيه جوبز في مدرسته الثانوية يقل، بدأ أيضًا في التمرد على التوقعات التقليدية. أجاد التحديق من دون أن يطرف له رمش، بطريقةٍ يمكن أن تثير أعصاب الناس. بدأ يجرب الصوم والنظُم الغذائية الصارمة، من قبيل تناول الفاكهة والخضراوات فقط. وجرب جوبز عقار الهلوسة «إل. إس. دي» مع رفيقته الأولى «كريسان برينان». واﻟ «إل. إس. دي»، المعروف أيضًا بالحمض، هو عقار غير قانوني يعتبر بالغ الخطورة اليوم؛ ولكن منذ أربعين عامًا، كان من الشائع أن تلتقي بأناس جربوه في محاولة للوصول إلى شكل من أشكال الوعي الأكثر عمقًا.

في السابعة عشرة من عمره كان جوبز نحيلًا بشعر طويل ولحية شعثاء وشعلة متقدة من القلق الداخلي. قالت برينان: «كان متململًا على الدوام ويبدو شبه مجنون.» لكن عندما كانا معًا كان يتحول إلى فتًى هادئ وخجول ومرح ورومانسي؛ يحب الشعر، و«بوب ديلان»، ومداعبة أوتار جيتاره. قالت: «قال لي في لقائنا الأول أو الثاني إنه سيكون مليونيرًا ذات يوم، وصدَّقتُه. كان بإمكان ستيف رؤية المستقبل.»

في نهاية السنة الدراسية قرر جوبز أن يقضي الصيف مع برينان في كابينة تطل على الوادي، مما ضايق أباه. ومع رفض المالك لطلبه في البداية، إلا أن إصرار جوبز دفع المالك للرضوخ في النهاية، حيث أجر لهما غرفة. قضى جوبز وبرينان معظم الصيف هناك. كان والده قد طلب منه ألا يذهب، ولكن على الرغم من ذلك، وكما فعل في مراتٍ كثيرة، نفَّذ جوبز ما كان يريده، من دون أي عواقب. بل إن والده هب لإنقاذه حين شبت النيران في السيارة الفيات الحمراء.

ولكسب بعض المال لإصلاح السيارة وتغطية النفقات، حصل جوبز وبرينان ووزنياك وصديق آخر على وظائف بأجور جيدة كشخصيات «ألِيس في بلاد العجائب» في مركز تجاري محلي. كانت برينان هي «أليس»، وتبادل الفتيان الثلاثة تمثيل دور «صانع القبعات المجنون» و«الأرنب الأبيض»، مرتدين رءوسًا ضخمة تصل إلى ركبهم. كان الجو حارًّا، والمكيف في المركز التجاري معطلًا، وملابس التمثيل ثقيلة. وكان الفتيان يهرعون بانتظام إلى غرفة الملابس لشرب المياه وتبديل الرءوس.

كان وزنياك يعتبر الأمر مسليًا، ولكن كان لجوبز رأي مختلف. قال جوبز: «كانت الملابس تزِن طنًّا. بعد حوالي أربع ساعات من ارتدائها، لا بد أن تنتابك الرغبة في قتل بعض الأطفال!»

لم تطل حالة البؤس كثيرًا. انتهى الصيف وتوجه جوبز إلى الكلية بسرعة، بالضبط كما وعد والدَيه قبل ذلك بسنوات طويلة. لكن الشاب قوي الإرادة سرعان ما سيبدأ في ممارسة الأمور بطريقته الخاصة مرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤