الفصل الرابع

الكلية

تعامل «بول وكلارا جوبز» مع وعدهما بإرسال ابنهما إلى الكلية بجدية. وعلى مدار السنين ادَّخرا بعض الأموال. لكنهما لم يكسبا قط ما يكفي أساسًا، ولم يكن بمقدورهما سوى ادخار القليل. لكن ابنهما لم يرَ الموقف بهذه الطريقة. وحين حان موعد تقديم طلبات التقدم للكليات، لم يكن جوبز مهتمًّا بكليات جامعة «كاليفورنيا» الكثيرة، على الرغم من أن جامعةً حكومية مثل بيركلي كانت ستكون أرخص بكثير. اتجه العديد من زملائه إلى ستانفورد، وكان بإمكانه الحصول على منحة دراسية هناك. لكنه رفض هذه الفكرة أيضًا، متعللًا بأنها جادة بدرجة لا تناسبه، وتناسب أكثر الشبان الذين يعرفون وجهتهم.

figure
كلية «ريد».

وبعد زيارة لصديق في كلية «ريد»؛ وهي مدرسة صغيرة وخاصة للفنون الحرة في بورتلاند بولاية أوريجون، رأى أنها مناسبة. وكانت كلية «ريد» تضم حوالي ١٢٠٠ طالب — أقل بكثير مما كان في مدرسة «هومستيد» الثانوية — وكانت سمعتها طيبةً في جذب ذوي التفكير الحر والباحثين الجادين. عقد جوبز النية على الالتحاق بها، وتم قبوله بالفعل، لكن مصاريف «ريد» للسنة الدراسية ١٩٧٢-١٩٧٣م كانت ٣٩٥٠ دولارًا (ما يعادل حوالي ٢١٤٠٠ دولار اليوم)، وكان هذا المبلغ ببساطة أكثر مما يتحمل والداه.

ذُهل الأب من التكلفة، وحاول أن يغير رأي ابنه، وحاولت أمه أيضًا. لكنهما في النهاية خسِرا هذه المعركة كما خسرا الكثير من المعارك قبلها. قالت «كلارا جوبز»: «قال ستيف إنها الكلية الوحيدة التي يريد الذهاب إليها، ولن يذهب إلى أي مكان آخر إذا لم يذهب إليها.»

وهكذا، مرة أخرى، استسلم الوالدان ووفرا بالكاد مصاريف الفصل الدراسي الأول.

في ذلك الخريف، استقلوا سيارة العائلة، واصطحب بول و«كلارا» ابنهما إلى الكلية. وفي خضم استعداده لبدء حياة جديدة لم يمنحهما ستيف حتى لحظة الوداع المنتظرة. قال: «قلتُ شيئًا من قبيل «حسنًا، شكرًا، إلى اللقاء» لم أرغب حتى في أن تعرف المباني أن والدَي هنا. كنت أريد فقط أن أكون مثل يتيم من «كنتاكي» كان يتسكع في البلاد متنقلًا في قطارات الشحن لسنوات!»

قال لاحقًا إنه ندم حقًّا على سلوكه في ذلك اليوم. قال لأحد كُتاب السيرة: «إنه أحد المواقف التي أخجل منها حقًّا في حياتي، لقد آذيت شعورهما، وما كان ينبغي عليَّ أن أفعل ذلك. كانا قد فعلا الكثير ليضمنا التحاقي بهذه الكلية.»

بدأ جوبز على الفور في خوض تجربة جامعية غير معتادة تمامًا، لكنها لم تكن تشمل المحاضرات بالضرورة. كانت كلية «ريد» تُلزم طلابها الجدد بمعايير أكاديمية صارمة تتطلب منهم شق طريقهم عبر قائمة من القراءات الجادة في الفصل الدراسي الأول. كان جوبز يتوقع جوًّا أكثر تسيُّبًا. وحين أتى صديقه وزنياك لزيارته، اشتكى مُر الشكوى: إنهم يجعلونني آخذ كل هذه المواد.

ولم يكن وزنياك نفسه طالبًا جامعيًّا ممتازًا، لكنه كان على الأقل يفهم ما يتطلبه الأمر. قال له وزنياك: أجل، هذا ما يفعلونه عادةً في الجامعة.

ولم يكن جوبز ليقبل بأيٍّ من ذلك. اشترك في صف للرقص، غالبًا ليقابل فتيات. وكان معروفًا في الحرم الجامعي لذهابه لكل مكان حافيًا. وحين يتساقط الجليد لم يكن ينتعل إلا صندلًا. تابع هو وصديقه الجديد «دانيل كوتكي» القراءة في قائمة الكتب الخاصة بهما عن «بوذية الزن»، والروحانية، والتنوير، ورفع الوعي. وقد مارسا التأمل وقرأ كتاب «حمية من أجل كوكب صغير» (Diet for a Small Planet) من تأليف «فرانسيس مور لابيه»، والذي حقق أعلى المبيعات سنة ١٩٧١م. ومن ثم صار الاثنان نباتيَّين ملتزمَين.

وانبهر جوبز أيضًا بزعيمٍ جامعي اسمه «روبرت فريدلاند»، كان قد قضى سنتين في السجن بتهمة حيازة عقار «إل. إس. دي». كان فريدلاند بائعًا يتمتع بالكاريزما. وبالإضافة إلى نظام جوبز الغذائي وقراءته المكثفة، وفر لجوبز عقار «إل. إس. دي» في إطار جهوده المتواصلة نحو الوصول إلى المزيد من التنوير الشخصي، وبعد سنوات طويلة، قال جوبز لصحفيٍّ إن تناول هذا العقار المخدر يعد واحدًا من أهم شيئين أو ثلاثة أشياء فعلها في حياته، والتي غيرته بطرق لن يفهمها حتى من يعرفونه جيدًا.

كما غيرت جوبز علاقته مع فريدلاند. يتذكر «كوتكي» أن جوبز عند وصوله إلى الجامعة كان خجولًا وهادئًا جدًّا. وكان فريدلاند سريع الكلام وطلْق اللسان ومركز الاهتمام دائمًا، بعكسه تمامًا. بدأ جوبز، مستلهمًا كاريزما فريدلاند وموهبته في البيع، ينفتح على الآخرين ويأخذ بدفَّة المواقف. وقال «كوتكي»: «بعد أن قضى بعض الوقت مع «روبرت»، بدأت خصال الأخير تجد طريقها إليه.»

أعجب فريدلاند من جانبه بحدة جوبز وعزمه وعادته في التحديق في الناس ومهاجمتهم بالأسئلة، بينما عيناه تقتحمان الشخص. وقد وصف جوبز بأنه «من غرائب الجامعة».

وأعجب جوبز أيضًا بزوار «ريد»، ومنهم «ريتشارد ألبرت»، والذي عرف لاحقًا باسم «رام داس»، مؤلف أحد كتب جوبز المفضلة، كتاب «كن هنا الآن» (Be Here Now)، و«تيموثي ليري»، أستاذ سابق في «هارفارد»، ومن أنصار العقارات المخدرة، واشتهر أكثر بشعار تلك الفترة: «ابدأ وانسجم وانفصل» (Turn on, tune in, drop out).

قال جوبز: «كان هناك تدفق مستمر للتساؤل الفكري حول حقيقة الحياة.»

مع قرب انتهاء حرب فيتنام، انتهى تجنيد الرجال الذين يبلغون العشرين في ديسمبر ١٩٧٢م، مما سمح لذلك الجيل بالتحول إلى التركيز على أنفسهم، بعيدًا عن المعارك الطويلة من أجل الحقوق المدنية ومن أجل مناهضة الحرب التي استهلكت إخوتهم وأخواتهم الأكبر سنًّا.

لم يكن والدا جوبز سعيدَين به نظرًا لاختياراته. لم تكن درجاته جيدة، ولم يدفعا كل تلك الرسوم التعليمية ليعيش ابنهما بأسلوب «الهيبيز».

فكر جوبز في الموقف وقدره، ومن ثم قرر الانقطاع عن «ريد» في نهاية الفصل الدراسي الأول.

كانت تلك هي قطعة أخرى في أحجية حياته؛ الأحجية التي بدأت منذ مولده وامتدت قِطعها لتشمل مستقبله. بر والداه بالوعد مع أن مصاريف «ريد» كانت تستنزف مدخراتهما. ولكن بما أن جوبز لم تكن لديه أدنى فكرة عما يريد فعله، بدأ يتساءل إن كان الأمر يستحق كل هذا الثمن.

وبينما كان الانقطاع عن الدراسة مفزعًا في البداية، قال جوبز لخريجي ستانفورد متذكرًا: «كان واحدًا من أفضل القرارات التي اتخذتها.»

فبعد تخلصه من كل المناهج المطلوبة، صار حرًّا في اتخاذ أي الطرق التي يريدها.

ولأنه لم يكن يدفع إيجار غرفته في المسكن، كان ينام على أرضية غرف أصدقائه، أو يشغل الغرف الخالية التي كان يشغلها طلاب آخرون فقدوا إلهامهم. وقد أبهر وكيل شئون الطلبة «بعقله كثير التساؤلات»، وقد سمح له بالبقاء وحضور المحاضرات.

كان جوبز يجمع زجاجات المشروبات الغازية في مقابل الحصول على خمسة سنتات، وساعده ذلك على توفير الطعام. وقال لخريجي ستانفورد: «كنت أسير سبعة أميال عبر البلدة كل ليلة أحد للحصول على وجبة جيدة في الأسبوع في معبد «هاري كريشنا».» وكثيرًا ما استقل سيارات الغرباء هو وفريدلاند معًا، وأحيانًا ما كان «كوتكي» ورفيقته يصاحبانهما، حيث يرقصون ويغنون ثم يستمتعون بوجبات عشاء الكاري النباتية المجانية.

وبدأ جوبز أيضًا يتبنى نظمًا غذائية أكثر غرابة. لبضعة أسابيع لم يتناول إلا وجبة من حبوب الإفطار كاملة الحبة من «رومان ميل» مع الحليب من كافتيريا الجامعة، ثم صار مهووسًا بأعمال كاتب بروسي من القرن التاسع عشر زعم أن بعض الأطعمة تنتج مخاطًا ونفايات أخرى تدمر وظائف الجسم. «بغرابة أطواره المعهودة» وبَّخ جوبز أصدقاءه لتناولهم الكعك، وتخلى عن تناول حبوب الإفطار، وبدأ يعيش على الفواكه أو الخضراوات فقط. وجرب الصيام لفترات امتدت من أيام إلى أسبوعين، يكسرها بالمياه والخضراوات الورقية. قال صديقه إنه في فترة معينة أكثر من تناول الجزر حتى تحول جلده إلى «لون الشفق».

كان يقضي نهاية الأسبوع في مزرعة تمتلكها عائلة فريدلاند، والتي صارت ملجأً. كان جوبز مسئولًا عن الحفاظ على بساتين التفاح في حالة جيدة، بحيث تنتج المزرعة وتبيع عصير تفاح عضوي، يتخمر إذا عُولج بشكل مناسب، ويتحول إلى خمر به نسبة عالية من الكحول. وكان الآخرون يقيمون ولائم من الخضراوات المطبوخة. وتتذكر إحدى صديقاته أن جوبز كان يلتهمها، ثم يرغم نفسه على التخلص منها. وقالت: «اعتقدتُ لسنوات أنه مصاب بالبوليميا.»

حين انتهى العام الدراسي الأول، وأُغلقت مساكن الطلبة، استأجر جوبز غرفة من دون تدفئة قرب الجامعة بخمسة وعشرين دولارًا شهريًّا. في وقت من الأوقات، استعار نقودًا من أحد الصناديق الدراسية، ثم حصل على وظيفة في صيانة أجهزة يستخدمها قسم علم النفس في التجارب على الحيوانات. حين زاره وزنياك، باعا بعض الصناديق الزرقاء. (تم القبض على مستخدميها وعقابهم، لكن جوبز لم يُقبض عليه)، وكانت «كريسان برينان» تأتي أيضًا لزيارته أحيانًا.

كانت غرفته باردة والنقود شحيحة، لكن جوبز قال لخريجي ستانفورد إنه «عشق» الفترة التي قضاها في الكلية بحريته؛ كان حرًّا في استكشاف كل ما يجده مثيرًا للفضول. ولدهشته عادت عليه بعض هذه الأمور بالفائدة بعد ذلك بسنوات طويلة.

والتحق أيضًا بدروس الخط. في أنحاء الجامعة كانت توجد كتابات دقيقة رائعة بخط اليد على الملصقات، والنشرات الإعلانية، وحتى على الأدراج والوريقات الملصوقة عليها. فُتن جوبز بتلك الكتابات وأراد تعلم المزيد. عرف في هذه الدروس خطوطًا متنوعة: «السريف» و«السان سريف»، والمسافات بين الحروف. كان الأمر يبدو تافهًا حينذاك لكنه كان ممتعًا.

بالنسبة إلى «كوتكي»، كان جوبز شابًّا ذا دافع، على الرغم من أن هدفه كان أبعد ما يكون عن الوضوح. ربما كان الأمر عائدًا إلى شعور متغلغل في أعماق نفسه بعدم الأمان، أو ربما يرجع إلى كونه طفلًا متبنًّى. وأيًّا كان السبب، كان جوبز كما يقول «كوتكي»: «يحتاج إلى أن يثبت نفسه للعالم. كان في انتظار الفرصة المناسبة.»

في أوائل عام ١٩٧٤م، بعد سنة ونصف تقريبًا من وصوله إلى «ريد»، لم تظهر الفرصة المناسبة بعد، وكان جوبز يستعد للرحيل. كان يريد السفر إلى الهند، ولكن لم يكن لديه نقود. وهكذا عاد إلى البيت لمستقبل مظلم يكتنفه الشك.

قائمة القراءة في الكلية

في سبعينيات القرن العشرين، جذبت كلية «ريد» في بورتلاند، أوريجون، خليطًا من الأرواح الحرة والفنانين وصانعي الأفلام والشعراء، والمفكرين غير التقليديين، مثل الشاعر «ألن جينسبرج» والمؤلف «كين كيزي».

وعلى الرغم من المقاربة الليبرالية التي تبنَّاها أساتذة «ريد»، كانوا يتوقعون من الطلاب القراءة والتفكير بعمق، وكانت قائمة القراءة للفصل الدراسي الأول تشمل كتبًا مثل «الإلياذة» و«الحروب البيلوبونسية».

لكن جوبز كان أكثر اهتمامًا بالبحث عن نوع مختلف من الفهم من خلال بوذية الزن، والتصوف الشرقي ونظم التغذية. والكتب التالية من قائمة الكتب التي شكلت قائمة قراءاته الخاصة خلال الوقت القصير الذي قضاه في «ريد».

«كن هنا الآن» (Be Here Now): تأليف «ريتشارد ألبرت» (اشتهر بعد ذلك باسم «رام داس»).
«سيرة ذاتية ليوجي» (Autobiography of a Yogi): تأليف «باراماهانسا يوجاناندا».
«الوعي الكوني» (Cosmic Consciousness): تأليف «ريتشارد موريس بوك».
«الإيغال في المادية الروحية» (Cutting Through Spiritual Materialism): تأليف «شوجيام ترونجبا».
«حمية من أجل كوكب صغير» (Diet for a Small Planet): تأليف «فرانسيس مور لابيه».
«التأمل الفاعل» (Meditation in Action): تأليف «شوجيام ترونجبا».
«نظام الشفاء الغذائي الخالي من المخاط» (The Mucusless Diet Healing System): تأليف «أرنولد إريت».
«الصيام العقلاني» (Rational Fasting): تأليف «أرنولد إريت».
«عقل الزن، عقل المبتدئ» (Zen Mind, Beginner’s Mind): تأليف «شونريو سوزوكي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤