الفصل الخامس

البحث

عاد جوبز إلى بيت والدَيه، وبدأ يفتش في الصحف، فوجد إعلانًا مثيرًا لطلب وظائف: «استمتع واكسب نقودًا». كانت شركة «أتاري»، وهي من أحد أوائل صناع ألعاب الفيديو، تبحث عن فنيين.

كان المؤهل الرئيسي لجوبز هو أنه قد أنفق الكثير من أرباع الدولارات على لعب «البونج»، وهي لعبة بسيطة، كان اللاعبون فيها يحركون خطوطًا أفقية، تمثل المجاديف، لتدفع كرة إلكترونية إلى الأمام والخلف؛ بينج بونج إلكترونية بدائية للغاية. كانت أول منتج ﻟ «أتاري» وأول لعبة «أركيد» فيديو. وقد حققت نجاحًا هائلًا حين ظهرت في سنة ١٩٧٢م. ورسخ نجاح اللعبة الشركة باعتبارها رائدة خلاقة في ألعاب الفيديو التي تُلعب في الحانات وقاعات البولينج والبلياردو. كما بدأت «أتاري» أيضًا في تصنيع ألعاب يمكن لعبها على تلفزيون البيت.

مصممًا على كسب ما يكفي للسفر، وغير قلق من افتقاره إلى الخبرة، ظهر جوبز في ردهة الشركة بشعره الطويل وملابسه المهلهلة، وأعلن أنه لن يغادر المكان حتى يتم التعاقد معه. تحدث كبير المهندسين «آل ألكورن» معه، ورأى «وميضًا ما، طاقةً داخلية من نوعٍ ما» أقنعته أن يمنح الطالب ذا التسعة عشر عامًا والمنقطع عن الجامعة وظيفةً.

كان الكثير من موظفي «أتاري» الآخرين يطيلون شعورهم، أو كانوا منقطعين عن الدراسة، أو من هواة ركوب الدراجات البخارية على الطرق الوعرة. لكن حتى بين هذه التشكيلة المتنوعة من البشر، بدا جوبز غريب الأطوار. لطالما أزعج زملاءه بآرائه القوية ونقده لأعمالهم. وكان الأسوأ من ذلك أنه اعتقد أن غذاءه المكون من الزبادي والفاكهة كان يغنيه عن الاستحمام بانتظام، مما جعل وجوده غير مرغوب فيه. كانت رائحته سيئة.

figure
لقطة من «بونج» (Pong)، أول لعبة «أركيد» على الكمبيوتر، قدمتها «أتاري» في ١٩٧٢م.

نقل «ألكورن» جوبز إلى الوردية الليلية، حيث يستطيع أن يقوم بعمله في تعديل الألعاب وتحسينها من دون أن يزعج زملاءه.

بعد أشهر قليلة، أخبر جوبز رؤساءه في شركة «أتاري» بأنه يخطط للاستقالة للذهاب إلى الهند في مهمة روحانية. على الرغم من جهود جوبز، لم تهتم الشركة بدفع تكاليف رحلته، لكن «ألكورن» عرض عليه بكرمٍ أن يساعده في الحصول على جزءٍ منها. كانت «أتاري» تعاني من مشكلة تقنية في ألمانيا لم يستطع الموزع الألماني إصلاحها. أرسلت الشركة جوبز لعلاجها، واستطاع أن يسافر إلى الهند من هناك.

أضاف «ألكورن»: «أبلغ المرشد الهندوسي تحيتي».

في ألمانيا، عالج جوبز المشكلة، لكن مكتب ألمانيا اشتكى من طبيعته المزعجة ورائحته الغريبة. من جانبه، لم يكن جوبز سعيدًا باللحوم والبطاطس التي كانوا يقدمونها له ليتناولها.

بعد التوقف في زيورخ بسويسرًا، طار إلى نيودلهي، حيث أُصيب على الفور ﺑ «دوسنتاريا»، وحمى شديدة، وهزال. وحين تحسنت حالته، انطلق إلى الشمال حيث حضر مهرجانًا دينيًّا. قال متذكرًا: «شممتُ رائحة طعام جيدة. لم أكن محظوظًا بدرجة كافية لأشم رائحة طعام جيدة لفترة طويلة، فطفت لأحييهم ولأتناول الغداء.»

ويبدو أنه كان مميزًا بين الجموع. بينما كان يتناول الطعام، لمحه رجل المهرجان المقدس وجلس بجواره يضحك. جذبه الرجل المقدس، لأنه كان غير قادر على التواصل معه بالكلام، من ذراعيه وقاده في طريق جبلي صاعد إلى منطقة بها بئر وبِركة صغيرة. وهناك، غمر الرجل المقدس رأس جوبز في المياه وأخرج موسى وحلق له شعره، وقال إن ذلك من أجل صحة الشاب.

وبحلول الوقت الذي التحق فيه «كوتكي» بجوبز في رحلته، كان جوبز قد أضحى نحيلًا، وشبه أصلع، ويرتدي ملابس خفيفة من القطن. استقل الاثنان حافلات متهالكة، وساوما في الأسواق، وتسكعا بطول مجاري الأنهار الجافة. وذُهل جوبز من تجاور الفقر المدقع والقداسة الدينية، مع أنه كان يبحث عن إدراك روحي أكثر عمقا، بحث الاثنان عن المرشد الهندوسي الذي حدثهما فريدلاند عنه بعد رحلةٍ قام بها قبل ذلك بعام. لكن المرشد الهندوسي كان قد مات، وتفرق الجميع تاركين خلفهم ما لا يزيد على بعض الحلي الدينية من البلاستيك الرخيص.

واصَلا الرحلة، وأُصيبا بالجرب في بلدة معروفة بينابيع المياه المعدنية. وبعد معاركه مع القمل والبراغيث، حلق «كوتكي» شعره أيضًا، واستنتج جوبز في النهاية: «لم نكن لنعثر على مكان يمكن أن نقصده لنحصل على التنوير في شهر واحد».

وبما أنه كان قد أتى للتو من عمل في مجال التكنولوجيا، بدأ يفكر «ربما كان ما فعله توماس إديسون لتحسين العالم أكبر بكثير مما فعل أي منظر أو مرشد ديني». بعد عدة أشهر عاد جوبز و«كوتكي» إلى شمال «كاليفورنيا»، مدفوعين بتجربتهما الثرية.

بعد ذلك بسنوات، قال جوبز إن خبرته في الهند علمته «قوة الحدس والحكمة التجريبية»، النابعة من الاعتماد على الخبرة والبديهة، في مقابل العقل الغربي والتفكير المنطقي، وهي مقاربة مختلفة أثرت على أعمال حياته. ومع ذلك، كان جوبز وهو يتجاوز العقد الثاني ليدخل في العقد الثالث من حياته، لا يزال يبحث عن شيء أكبر.

لعامٍ تقريبًا بعد ذلك، تنقل بين حياته التقليدية إلى حد ما في وادي السيليكون — العمل في «أتاري»، وحضور دروس الفيزياء في ستانفورد، والدراسة ف مركز الزن المحلي — وحياته الغريبة في أوريجون. كان يقيم ويعمل بشكل دوري مع زملائه في الكلية في مزرعة فريدلاند، التي كانت قد صارت ملجأ مزرعة «أول ون» (All One). بدأ البحث عن معلومات عن والدَيه الحقيقيين، وعرف أنهما كانا طالبين في الدراسات العليا غير متزوجين. كما دفع ١٠٠٠ دولار لحضور فصل مدته ١٢ أسبوعًا في مركز الإحساس في أوريجون. كان من المفترض أن يعالج مشاكل عميقة من الطفولة من خلال علاج الصراخ البدائي (primal-scream therapy)، وأخيرًا قرر أن هذه أيضًا ليست هي الإجابة التي ينشدها.
في صيف ١٩٧٥م، عاد إلى «أتاري»، للعمل في ورديات الليل كمستشار، حين منحه مؤسس الشركة، «نولان بوشنل»، مهمة خاصة. لفت جوبز انتباه بوشنل، الذي كان رائدًا للأعمال في الثالثة والثلاثين من عمره، فطلب منه تصميم لعبة تسمى «بريك آوت» (Break Out)؛ يحطم فيها اللاعبون حائطًا من الطوب بكُرة مرتدة. ولأن الألعاب في تلك الأيام كانت تبرمج في رقائق، ولا تكتب في صورة برمجيات منفصلة مثلما هو الحال الآن، طلب بوشنل أقل عدد ممكن من الرقائق في التصميم، وكان يريده بسرعة، بسرعة فائقة جدًّا؛ كان يريده في أربعة أيام.

كان جوبز يقضي أيضًا وقتًا مع صديقه القديم من المدرسة الثانوية، ستيف وزنياك، الذي انقطع عن الكلية مرة أخرى ليكسب بعض النقود، وكان يعمل في وظيفة مرموقة في شركة «هيوليت باكارد» في مجال الآلات الحاسبة.

لم يكن وزنياك مدمنًا على المخدرات، لكنه كان في مرحلة متطورة من إدمان لعبة «أركيد أتاري» اسمها «جران تراك ١٠» (Gran Trak 10)، وكان جوبز يدعو صديقه بانتظام إلى مكتب «أتاري» في الليل، حيث كان وز يلعب أول لعبة فيديو بمقودٍ كما يحلو له، وكانت هناك فائدة أخرى من وجود وزنياك؛ كان يمكنه أن يساعد جوبز إذا ما وقفت مشكلة في طريقه.
عندما أدرك جوبز أن تنفيذ التصميم يتخطى مهاراته، استخدم وزنياك لوضع الرقائق والتصميم، ووعده باقتسام السبعمائة دولار التي كان سيتقاضاها مقابل المشروع. كان وزنياك يعمل على التصميم في أثناء الليل بعد أن يُنهي عمله في «هيوليت باكارد»، وقد نجح في وضع التصميم باستخدام أقل عدد من الرقائق، ومن ثم دمجها جوبز في لوحة نموذجية. سعد بوشنل، الذي أسس بعد ذلك سلسلة مطاعم «تشاك إي تشيز» للبيتزا (Chuck E. Cheese)، بالتصميم، حتى إنه دفع لجوبز مكافأة يقال إنها كانت خمسة آلاف دولار، كما عرض على وزنياك وظيفة.

دفع جوبز لوز النقود — لكنه دفع فقط ٣٥٠ دولارًا كما كان الاتفاق في البداية — وعاد إلى أوريجون. ودفع الاثنان ثمن عملهما المكثف؛ أُصيب الاثنان بفيروس كثرة الوحيدات العدوائية الذي يستنزف الطاقة.

حين تم الكشف عن المكافأة التي أعطاها بوشنل لجوبز بعد عشر سنوات في كتاب عن «أتاري»، بعد فترة من تأسيس الاثنين لشركة أبل، جُرح وزنياك حقًّا، حيث شعر بأن صديقه الحميم لم يكن أمينًا معه وبأنه قد خانه.

حين سمع جوبز عن الكتاب، أخبر صديقه القديم بأنه لا يتذكر أنه حصل على مكافأة، حيث إنه من المؤكد أن يتذكرها في حال حصوله عليها بالفعل، «فإنه على الأغلب لم يحصل عليها».

قال الكاتب «والتر آيزاكسون» حين استفسر بعد سنوات طويلة من جوبز عن المبلغ: «أصبح هادئًا وتردد بشكل غير معتاد. وقال: لا أعرف من أين يأتي هذا الادعاء. أعطيته نصف النقود التي حصلت عليها.»

ولكن على الرغم من ذلك، فإن بوشنل و«ألكورن» يتذكران دفع مكافأة، ووز متأكد أنه لم يستلم إلا ٣٥٠ دولارًا. كان ذلك هو الجانب الكريه من ستيف جوبز، الساحر الذي كان أحيانًا لا يهتم إلا بنفسه.

بطرق كثيرة، كان من حُسن الحظ أن وزنياك لم يعرف القصة كاملة وقت حدوثها. كان يحضر اجتماعات ناد جديد للكمبيوتر، وكان متحمسًا جدًّا، حتى إنه سرعان ما كان يحاول تصميم كمبيوتره. ولم يملك إلا أن يشارك صديقه القديم وشريكه الجديد، ستيف جوبز، في أفكاره.

ما حدث بعد ذلك غير حياة الاثنين، وغيَّر العالم أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤