أبل
قول إن ستيف وزنياك كان مبهورًا بفكرة كمبيوتر في صندوق صغير، تبسيط مخلٌّ للحقيقة.
ولكن أقل ما يقال هو أن الفكرة قد ألهمته بما يفوق الوصف، ولم يكن يطيق الانتظار حتى يجربها.
بينما كان وزنياك يركز على الآلات الحاسبة في «هيوليت»، ويدير خدمة خط هاتفي للنكات من بيته، ويواعد صديقته الأولى، كانت قوة أشباه الموصلات وقدراتها قد تعدت جميع الحدود. بداية من خمسينيات القرن العشرين، اكتشف المهندسون كيفية تجميع ترانزستورات كثيرة على رقيقة صغيرة من السيليكون، مع وصلات بينها. ويمكن لهذه الدوائر المتكاملة الجديدة — أو الرقائق المصغرة — حفظ قدر وافر من الذاكرة أو القيام بوظائف أخرى، مسيطرة على قطاعات كاملة من الكمبيوتر. لكن الدوائر كانت مثبتة في الرقائق، مما يعني أن الرقائق لا يمكن أن تقوم إلا بما برمجت للقيام به؛ مثل نسخة جوبز ووزنياك من «بريك أوت».
حصل وزنياك على أول نفحة من هذه التطورات الهائلة في أول اجتماع لنادي كمبيوتر «هومبرو» في أحد جراجات مدينة مينلو بارك، ي كاليفورنيا، في مارس. كانت أمسية باردة وممطرة، لكن عددًا كبيرًا من الثلاثين شخصًا الذين حضروا كانوا يتحدثون عن «ألتير» واحتمالات ظهور كمبيوتر صغير، ثم وزع أحدهم على الحضور ورقة بيانات حول معالج صغير منافس.
أخذ وزنياك ورقة البيانات معه إلى البيت ودرس هذا النوع الجديد من الرقائق. فجأة، تكشف له أمر ما. قال فيما بعد: «بدا وكأن حياتي الماضية كلها كانت تقودني إلى هذه النقطة.» كانت كل تلك الأوقات التي رسم فيها مخططات لإعادة تصميم كمبيوترات صغيرة، وكمبيوتر كريم الصودا البدائي، والعمل في ألعاب الفيديو، تقوده إلى هذه الفرصة الحقيقية. «تلك الليلة، ليلة ذلك الاجتماع الأول، انبثقت هذه الرؤية الكاملة لنوع من الكمبيوترات الشخصية في رأسي، فجأة.»
بدأ مباشرةً يرسم تصميمًا.
تبين له أن تصوره لكمبيوتره الجديد أسهل بكثير من بنائه. تبين أن رقاقة «إنتل» الخرافية تكلف ٤٠٠ دولار، «أكثر من إيجاري الشهري»، كما قال. وكان يحتاج، إضافةً إلى ذلك، إلى رقائق للذاكرة، ولغة للتواصل مع الرقائق، وقطع غيار أخرى. وكان الأمر يحتاج إلى وقت ونقود لإنجاح الأمر برمته.
بسرعة، اكتشف وزنياك أن العاملين في «هيوليت باكارد» يمكنهم الحصول على خصم على معالج «موتورولا» صغير يتمتع بنفس إمكانية معالج «إنتل». ووجد بعد ذلك بديلًا أرخص، نسخة مقلدة تبيعها شركة صغيرة بعشرين دولارًا يمكن أن تشغل تصميمه كما تصوره بالضبط. اتخذ القرار على أساس اقتصادي، وليس على أساس هندسي، وتبين فيما بعد أنه كان قرارًا مهمًّا؛ وإن انطوى على حماقة، فقد كانت كل الكمبيوترات الأخرى تقريبًا تُصمَّم على رقيقة «إنتل»، وكانت مختلفة بدرجة تجعل كل جزء من البرمجيات التي تستخدمها مختلفة أيضًا.
حضر ستيف جوبز صديق وزنياك بعضًا من اجتماعات «هومبرو»، حاملًا تلفزيون وز بحيث يعرض أحدث التطورات التي توصل إليها على شاشة التلفزيون. لكن جوبز وجد محادثات مهاوييس الإلكترونيات التي تدور في الاجتماعات التي تعقد كل أسبوعين مملة. لكن في كل مرة كان الاثنان يتحدثان في التلفون أو يتقابلان، كانا يتكلمان عن الكمبيوتر والتقدم الذي حققه وزنياك.
بحلول أواخر يونيو، أحرز وزنياك تقدمًا مفاجئًا؛ كان قد جمع الرقائق ومصدرًا للكهرباء وشاشة ولوحة مفاتيح معًا. في أول مرة كتب فيها باستخدام لوحة المفاتيح، ظهرت الحروف على الشاشة، بالضبط كما يفترض بها أن تفعل. كانت لحظة «اكتشافية عظيمة».
ولو كان الأمر قد تُرك كله لوزنياك، لأفصح عن كل تصميماته وتفاصيلها لأعضاء النادي، الذين كان شعارهم: «قدم المساعدة للآخرين». لكن جوبز، الذي كان معجبًا بالعمل الماهر الذي أنجزه صديقه، رأى في الأمر فرصةً أكبر، وشجعه على أن يتوقف عن مشاركة التفاصيل مع أعضاء النادي، الذين كانوا قد وصل عددهم إلى عدة مئات.
في أواخر تلك السنة، قدم جوبز عرضًا؛ كان لدى الكثيرين ممن يترددون على النادي أفكار، ولم يكن لديهم وقت كافٍ لإكمالها بنجاح. وهكذا اقترح أن يقوم هو ووزنياك ببيع لوحات الدوائر المطبوعة للأعضاء الذين يمكنهم بعد ذلك أن يضعوا فيها رقائقهم، وهي عملية أبسط بكثير من أن يقوموا بأنفسهم بتصميم لوحات.
شك وزنياك في وجود اهتمام كافٍ بهذا، أو في إمكانية استرداده وجوبز للألف دولار التي سينفقانها على الأمر. لكن أصر جوبز، الذي لم يتبين بعد ما يريد حقًّا أن يفعله بحياته، قائلًا له: «حتى لو خسرنا نقودنا، ستكون لدينا شركة.»
استسلم وزنياك، وبدأ الاثنان البحث عن مصادر لاستثمارهما المبدئي. باع وزنياك آلته الحاسبة من «هيوليت باكارد» بمبلغ ٥٠٠ دولار، لكن المشتري لم يدفع له في النهاية إلا نصف المبلغ، وباع جوبز حافلته «الفولكس فاجن» الحمراء والبيضاء، لكن كان عليه أن ينفق جزءًا من الربح على إصلاحها بعد أن تعطلت بعد بيعها بوقتٍ قصير. تمكن الاثنان معًا من توفير ١٣٠٠ دولار تقريبًا، تساوي خمسة آلاف دولار اليوم تقريبًا.
بعد ذلك، كانا في حاجة لاسمٍ لشركتهما. بينما كان وزنياك يوصل جوبز من المطار بعد عودته من رحلة أخرى إلى مزرعة «أول ون»، اقترح جوبز اسم كمبيوتر أبل (التفاحة).
كان عائدًا للتو من بستان التفاح، وكان وقتها يعيش على الفاكهة، ويأكل الكثير من التفاح. والأفضل من ذلك هو أن الاسم يضعهم تقريبًا في مقدمة أي قائمة مرتبة أبجديا، وقبل «أتاري» في دليل التلفون. حاولا العثور على اسمٍ أفضل: مثل «ماتركس»، أو «الإلكترونيات»، أو «إكسيكوتك». لكن بدا اسم أبل الأنسب.
ولكن القلق انتاب الاثنين من أنهما قد يدخلان في مشاكل مع فرقة «البيتلز»، وهي الفرقة الرباعية الشهيرة والمعروفة بشعار التفاحة على تسجيلاتها (وتبين فيما بعد أن ذلك القلق كان في محله). كما تخوف جوبز من أن يكون أبل اسمًا يتسم بشيء من الطفولية بما يتعارض مع رغبتهما في أن تؤخذ شركتهما على محمل الجد. لكن عجزهما عن التوصل إلى اسم أفضل جعلهما يوافقان عليه.
أقنع جوبز «رون وين»، وهو مدير سابق تعرَّف عليه في أثناء عمله في ورديات الليل في «أتاري»، بابتكار شعار ورسم مخططات للوحة الدوائر. أنتج «وين» لوحة ذات نقوش دقيقة لنيوتن تحت الشجرة، وتفاحة براقة فوق رأسه.
وبينما كانا يحرزان تقدمًا فيما يخص أمر الشركة، بدأ وزنياك يتخوف من العواقب: ماذا لو اضطر إلى استخدام بعض أفكاره لأبل في عمله في «هيوليت باكارد»؟ ماذا لو أراد أن يشارك بأفكاره بطريقة أخرى؟ وليريح ضميره، أخبر وزنياك رؤساءه في «هيوليت باكارد» أنه توصل إلى تصميم كمبيوتر صغير ورخيص.
عقد اجتماع مع بعض مديري «هيوليت باكارد»، وعرض وزنياك كمبيوتره. اهتم الرؤساء، لكنهم لم يستطيعوا تصور أن يكون الكمبيوتر من منتجات «هيوليت باكارد»، وأخبروا وزنياك أن الشركة ليست مهتمة بالأمر.
أُحبط وزنياك، لكنه كان يمكنه الآن مواصلة العمل على الكمبيوتر بنفسه، واتفق هو وجوبز على اقتسام حصتهما بالنصف. لكنهما شعرا بأنهما في حاجة إلى شخص آخر للتأكد من صحة القسمة: جعلا «وين» شريكًا أيضًا، بنسبة ١٠ في المائة، مما جعل حصة كل منهما ٤٥ في المائة.
أعد «وين» اتفاقًا، وفي أول أبريل ١٩٧٦م، وقعه الثلاثة، وأسسوا شركة أبل رسميًّا.
لكن هذا الاتفاق لم يعمر طويلًا. كان «وين» في الأربعينيات، وكان محافظًا جدًّا، بالمقارنة بشريكَيه اللذين كانا في العشرينيات. وكان قد سبق أن تعرض بالفعل لخسائر كبيرة حين حاول أن يبدأ شركة آلات تعمل بوضع النقود فيها، وفشل. لذا، فإذا حدث وتعرضت أبل لمشاكل، سيصبح في منطقة الخطر مرة أخرى. وعندما فكر في ذلك، تلبسه القلق والتردد. قال: «كنت قد عرفت ما الذي يصيبني بعسر الهضم. لو كانت أبل قد فشلت، لأضاف ذلك جرحًا جديدًا إلى جراحي الموجودة. كان ستيف جوبز شعلة متوقدة وكنت أنا قد فقدتُ الطاقة المطلوبة للتعامل مع مثل هذه الشعلة.»
بعد التوقيع بوقت قصير، خرج «وين» من الشراكة واستلم ٨٠٠ دولار عن حصته. بعد ذلك، لمجرد التأكد من أن كل شيء يسير بشكل عادل وصحيح، دفعت له أبل ١٧٠٠ دولار أخرى. وكان ذلك كافيًا بالنسبة إليه (لكنه لو كان قد استمر في الشركة وظل محتفظًا بحصته فيها حتى اليوم، لأصبح مليارديرًا).
صُعق جوبز. كان يتطلع إلى بيع لوحات دوائر بمبلغ ٥٠ دولار تقريبًا، والآن صار في يده طلب بمبلغ ٢٥ ألف دولار، والتمعت عيناه لمجرد تخيل منظر الدولارات المنتظرة.
اتصل بوزنياك مباشرة وسأله: «هل أنت جالس؟»
ذهل وزنياك وأصابته نفس الصاعقة؛ فقد كان الطلب يساوي راتبه السنوي تقريبًا، أكثر بكثير مما كان يمكن أن يحلم به.
لكن لم تكن هناك قطع غيار الشركة الصغيرة، أو نقود لشرائها، أو مكان لتجميع الكمبيوترات. فكيف يمكنها تلبية الطلب؟
أبل ضد أبل
كان ستيف جوبز وستيف وزنياك على حق فيما يتعلق بقلقهما من أن تسبب تسمية شركتهما أبل مشاكل مع شركة «البيتلز» صاحبة الاسم نفسه: «أبل كوربس».
كانا عديمَي الخبرة وساذجين بدرجة حالت دون أن يكلِّفا محاميًا بفحص المسألة رسميًّا. لكن قرارهما، في الحقيقة، أثار عداءً استمر طويلًا بين أكبر شركتين باسم أبل في العالم.
بمجرد أن بدأت شركة أبل للكمبيوتر تلفت الأنظار، قاضتها شركة «أبل كوربس». وفي تسوية تم التوصل إليها في ١٩٨١م، وافقت أبل للكمبيوتر على أن يقتصر عملها على الكمبيوترات تاركة الموسيقى لشركة «أبل كوربس».
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، رأى عضو «البيتلز» السابق، «جورج هاريسون»، أن كمبيوتر «ماكنتوش» يمكن استخدامه في تأليف الموسيقى، ويمكن أن يحتوي على أداة تسمح للموسيقيين ببرمجة الآلات. ورفعت شركة «أبل كوربس» قضيةً أخرى.
وبعد قضية استمر تداولها في المحكمة شهورًا، توصل الطرفان إلى تسوية جديدة، تدفع بمقتضاها أبل للكمبيوتر ٢٦٫٥ مليون دولار تقريبًا لحل القضية.
ولكن تأسيس متجر «الآيتونز» في ٢٠٠٣م فتح الجرح القديم مرة أخرى، وأدى إلى دعوى قضائية أخرى. ولكن الطرفان توصلا إلى اتفاق نهائي في ٢٠٠٧م، يعطي أبل التحكم في كل العلامات التجارية، التي يعود ترخيص بعضها إلى شركة «أبل كوربس».
ومع ذلك لم تتوفر موسيقى «البيتلز» على متجر «الآيتونز» حتى سنة ٢٠١٠م.
كان هذا الطريق، كما وصفته الكثير من القصص على مر السنوات، طويلًا ووعرًا.