أبل ٢
إن لم يكن ستيف جوبز يفكر تفكيرًا طموحًا بما يكفي، فمن المؤكد أن «مايك ماركولا» كان يفعل.
لما كان «ماركولا» سابقًا مديرًا للتسويق في شركة «إنتل»، لم يكن قد سبق له إدارة شركة بنفسه قط. لكن هذا الرجل الذي كان ذات يوم لاعب جمباز في المدرسة الثانوية كان مهندسًا حقيقيًّا يقدر طاقات الكمبيوترات المكتبية كأي شخص. أدرك مباشرة أن أبل ٢ يمكن أن يكون أكثر من مجرد لعبة للهواة وممارسي الألعاب، يمكن أن يكون أداةً مفيدة حقًّا، خصوصًا لمن يريدون متابعة وصفات الطعام أو الحسابات البنكية.
قال مخاطبًا جوبز ووزنياك: إنها بداية صناعة.
متوقعًا أن الشركة ستكون في خلال سنوات ضمن قائمة «فورتشن ٥٠٠»، القائمة المرموقة لأكبر الشركات الأمريكية، فأكمل قائلًا: وهذا لا يحدث إلا مرة كل عقد من الزمن.
ليحدث هذا، كان يحتاج إلى فريق مناسب، يشمل ستيف وزنياك، وستيف جوبز أيضًا. لكن وزنياك كان سعيدًا بعمله في «هيوليت باكارد»، وكانت زوجته الشابة تطمئن إلى الأمان الذي يوفره الراتب المنتظم، إضافة إلى أنه كان قد قرر قبل ذلك بوقتٍ طويل أنه لا يريد أبدًا أن يأمر الناس بما يجب أن يفعلوه. كان يفضل تصميم الحواسب وكتابة البرمجيات. قال: «لستُ شخصيةً إدارية.»
فكر في القرار لبضعة أيام وأخبر «ماركولا» بأنه سيبقى حيث هو.
لم يكن من عادة ستيف جوبز أن يتقبل رفض طلباته، ومن ثم بدأ حملة شعواء ليثني صديقه عن رأيه. جمع جوبز أصدقاء وزنياك ليتصلوا به ويضغطوا عليه، واتصل بشقيق وز، وذهب حتى إلى والدَي وزنياك يتوسل إليهما باكيًا ليساعداه. لمدة يومين، كان تلفون وز يرن بلا انقطاع.
أخيرًا نجحت حملة جوبز. أقنع صديقٌ قديم وزنياك بأنه يمكن أن يبني مستقبله بصفته مهندسًا في الشركة الجديدة من دون أن يصبح رئيسًا أو مديرًا.
في يناير ١٩٧٧م، تأسست رسميًّا شركة أبل للكمبيوتر، بمشاركة جوبز ووزنياك و«ماركولا» في الملكية بالتساوي، وحفظ جزء صغير من الملكية لآخرين. لإكمال فريقه أحضر «ماركولا» «مايك سكوت»، وهو صديق قديم وزميل سابق، ليتولى رئاسة الشركة، وحيث إن اسمه كان «مايك» أيضًا مثل «ماركولا»، فقد عرف باسم «سكوتي».
كانت مهمة سكوت تنظيم العمل غير المنظم، والسيطرة على شطحات جوبز. لكن منذ البداية، اصطدم سكوت، الحاد والمزاجي أحيانًا، بجوبز الانفعالي والفظ غالبًا.
بوصول سكوت، انتقلت أبل من الجراج إلى أول مكتب لها، وكان من مهامه الأولى وضع جدول رواتب مناسب. يتذكر «كريس إسبينوزا» — الذي كان لا يزال طالبًا في مدرسة «هومستيد» الثانوية في ذلك الوقت، وكان قد بدأ العمل في الجراج في عطلات الشتاء — «أن جوبز كان يدفع للناس من دفتر شيكات الشركة، ولم يكن ذلك بشكل منتظم.»
وهكذا في عيد القديس «باتريك»، حدد سكوت لكل شخص رقمًا وظيفيًّا لإعداد جدول الرواتب، واحتفظ لنفسه برقم ٧. وكان إسبينوزا، الذي لا يزال يعمل لأبل حتى يومنا هذا، رقم ٨، لأن الأرقام الأخرى وزعت في الوقت الذي كان يُنهي فيه دراسته في المدرسة.
أعطي وزنياك رقم ١ وجوبز رقم ٢، وهو قرار جعل جوبز يستشيط غضبًا. واجه سكوت وطالب برقم ١. اهتاج، لكن على عكس كثير ممن قابلهم جوبز عبر السنوات، لم يتراجع سكوت أمامه، ولكنه رضي بتسوية صغيرة؛ حيث وضع جوبز رقم صفر على شارته الوظيفية، ولكنه بقي رقم ٢ في جدول الرواتب.
وبينما انشغل وزنياك بالعمل في لوحة الدوائر الجديدة، ركز سكوت على التصنيع، واهتم «ماركولا» بالتسويق والمال، وتولى جوبز كل شيء آخر له علاقة بالمكتب وأبل ٢، واشتهر بالاهتمام الشديد بأدق التفاصيل؛ حين وصلت الآلة الكاتبة للمكتب، غضب لأنها زرقاء وليست بلون آخر يبدو محايدًا أكثر. حين أحضرت شركة التلفونات تلفونات بلونٍ غير مناسب، اهتاج حتى تم تغييرها. كما كان يريد مكاتب بيضاء، لا رمادية.
تعلقت أعظم متطلبات جوبز بالكمبيوتر نفسه. رفض أول تصميم للوحة دوائر مطبوعة لأن الخطوط لم تكن مستقيمة بشكل كافٍ، على الرغم من أن اللوحة لن تكون ظاهرة لمالكي الكمبيوتر. وُظف أخصائي لتصميم وصلات الكهرباء بحيث لا تحتاج إلى مروحة مزعجة للتبريد. وبينما كان كل صناع الكمبيوترات الآخرين يستخدمون هياكل خارجية من المعدن، قرر جوبز أن الهيكل الخارجي البلاستيك سيكون أكثر أناقة وجاذبية.
وبينما كان جوبز يعمل على تصوره للهيكل الخارجي، درس تصميم الأدوات المنزلية والأنظمة الصوتية في متجر «مايسيز». كان لديه العشرات من درجات البيج للاختيار من بينها، لكنه لم يستحسن شيئًا منها، وأراد ابتكار لون يخصه. قضى أسابيع يجادل في مدى استدارة حواف الهيكل الخارجي، دافعًا سكوت إلى حافة الجنون بتردده.
قالت مجلة «تايم» ذات يوم إن وزنياك كان: «رجلًا يمكنه رؤية قصيدة شعرية في دوائره الإلكترونية». وكان جوبز، في المقابل، يمكنه التطلع إلى صندوق بيج ويرى جمالًا فيه. تخيل كمبيوترًا جميلًا وأنيقًا بقدر ما هو مفيد، يمثل تلاقيًا بين التكنولوجيا والفن بما يؤدي إلى شيء مميز حقًّا. شكلت هذه الرؤية، بدرجات متفاوتة من النجاح، دافعًا له طوال بقية مساره العملي.
ولكن ظل إصراره على الكمال — كما كان يعرفه — صعبًا على من حوله. كان يريد أسعارًا أقل من كل الموردين، قائلًا لهم: «يستحسن أن تقدموا عرضًا جيدًا.»
وكان يقلل من شأن أعمال المبرمجين الشباب، من دون أن يفهم تمامًا ما يفعلونه في بعض الأحيان، وكان يدلي برأيه فيما يخص كل شيء. وكان هو وسكوت يصرخ بعضهما في وجه بعض كثيرًا جدًّا وعلى الملأ. ولم يكن جوبز يهدأ إلا بالسير كثيرًا حول موقف السيارات.
قال سكوت: «لا يستطيع جوبز أن يدير أي شيء. بعد أن تبدأ شيئًا، يسبب الكثير من العقبات. وهو يحب أن يحلق مثل الطائر الطنان بسرعة تسعين ميلًا في الساعة.»
وعلى الرغم من إصرار جوبز على الوصول بشكل الكمبيوتر إلى درجة الكمال، لم يكن يطبق المعيار ذاته على نفسه، وكان من بين عاداته الشاذة الحصول على تدليك مرتجل للقدمين؛ كان يجلس على خزان المرحاض واضعًا قدميه بداخل المرحاض نفسه، ثم يهيل ماءه ليتخلص من التوتر. ولم يكن جوبز يستحم بانتظام كما كان يعتقد أنه ليس في حاجة إلى ذلك بسبب أسلوبه الغذائي، مما جعل وجوده كريهًا بالنسبة إلى من حوله. حاول سكوت و«ماركولا» أن يجعلاه يعيد التفكير في الأمر. قال «ماركولا»: «كان علينا أن نخرجه من الباب حرفيًّا وأن نطلب منه أن يذهب ليستحم.» ومع ذلك استغرق الأمر بعض الوقت لتتحسن عاداته الشخصية السيئة.
أقام «الساحل الغربي» معرضه الأول للكمبيوتر في ربيع ١٩٧٧م، وانهمك موظفو أبل الأوائل في تجهيز الكمبيوتر الجديد. حين عادت الهياكل الخارجية الأولى بفقاعات صغيرة في البلاستيك، أمر جوبز بأن تصنفر ثم تدهن لتبدو جيدة.
هذه المرة، استأجرت أبل مكانًا في واجهة المعرض، وكانت تريد أن يبدو كل شيء في أفخم صورة. جهزت لافتة كبيرة بالشعار الملون الجديد لأبل: تفاحة مقضومة؛ إشارة جزئية إلى «بايت» (لعب على كلمة قضمة باللغة الإنجليزية) الكمبيوتر، وهي مقدار مخزون الكمبيوتر اللازم للاحتفاظ بحرف. عرضت أجهزة أبل ٢ الثلاثة، وهي أجهزة أبل الوحيدة التي كانت جاهزةً تمامًا. زار المعرض أكثر من ١٣ ألف شخص. ومن الصعب معرفة ما كان أكثر إثارة للإعجاب: شراء ستيف جوبز بدلة وارتداؤه لها لأول مرة في حياته، أم عودة أبل بطلبات بثلاثمائة جهاز بسعر ١٢٩٨ دولارًا للكمبيوتر.
بعد انقضاء الأشهر الأربعة الأولى من سنة ١٩٧٧م من دون أن تبيع الشركة شيئًا تقريبًا، باعت الشركة الصغيرة حواسب بقيمة ٧٧٤ ألف دولار بحلول نهاية سبتمبر، وحققت أرباحًا في السنة الأولى لها كشركة بقيمة ٤٢ ألف دولار تقريبًا.
لكنها لم تكن شركة بالمعنى المفهوم بعد. كانت لها نشرة دعائية لطيفة، عليها صورة تفاحة حمراء وشعار: «البساطة هي قمة الأناقة». كانت المكاتب مفتوحة بعضها على بعض، من دون موظف استقبال أو غرف اجتماعات، وكان الناس يهرعون من مكان إلى آخر. كانت نصف المساحة مفروشة بالسجاد، وكانت لعمال المبيعات والتسويق والمديرين. أما النصف الآخر فكان مفروشًا بالمشمع، وبه ستة مقاعد مختبرات طويلة، لعمال الهندسة والتصنيع.
لأنه لم يكن هناك شخص آخر للتحدث مع من يأتون لمعرفة المزيد عن الشركة ومنتجاتها، كان «كريس إسبينوزا» يأتي إلى المكتب يومي الثلاثاء والخميس بعد المدرسة ليعرض الكمبيوتر لكل من يريد أن يراه.
واصلت المبيعات النمو، خصوصًا وقد بدأ الناس خارج أبل يكتبون ويبيعون الألعاب والبرامج الأخرى على شرائط كاسيت، مما جعل الكمبيوتر أكثر فائدة. كان «ماركولا» قد أعد برنامجًا لضبط الحسابات المصرفية، وشجع وزنياك على التوصل لطريقة لتوصيل مشغل أقراص صغير يسمح بتحميل البرنامج على الكمبيوتر ليعمل أسرع. بحلول ربيع ١٩٧٨م، كان وزنياك قد اكتشف كيف يجعل أبل ٢ يستخدم مشغل أقراص جديدًا يستطيع قراءة البيانات من أقراص مرنة منبسطة رقيقة، يبلغ حجمها خمس بوصات وربعًا.
وصار من السهل المساهمة في برمجيات جديدة وبيعها واستخدامها. وتصاعدت مبيعات أبل لتصل إلى ٧٫٩ ملايين دولار بحلول نهاية سبتمبر ١٩٧٨م.
طلب «بنجامين روزن»، محلل البورصة في مؤسسة «مورجان ستانلي» المصرفية في نيويورك، من قسم التكنولوجيا أن يشتري له كمبيوتر أبل، لكنهم لم يصدقوا أنه قد يكون مفيدًا. يقول متذكرًا: «لم يستغرق الأمر إلا عرضًا واحدًا.» فتح «فيزي-كالك» وعرض على الفنيين صفوفًا وأعمدة من الأرقام المالية. غير أحدها وضغط على «إعادة الحساب»، فتغيرت كل الأرقام الأخرى في الورقة وتم تحديثها.
قال: «امتلأت الغرفة بعبارات الإعجاب.» وحصل على الكمبيوتر، ليصبح أحد أبرز الداعمين والمتحدثين عن الشركة الناشئة.
بينما كان جوبز يعمل ساعات طويلة للمحافظة على نمو أبل، واجه تحديًا من نوع مختلف في حياته الشخصية. استأجر هو وزميله القديم في الكلية «دانيل كوتكي» منزلًا أطلقا عليه اسم «ضواحي رانشو»، وانتقلت رفيقة جوبز «كريسان برينان» لتشغل غرفةً من المنزل، ووظيفةً في أبل. عادت العلاقة بينها وبين جوبز لبعض الوقت؛ حتى حملت برينان.
كانت برينان متأكدة أن جوبز هو الأب. أنكر ذلك، ولم تكن لديه رغبة في الزواج. أثناها عن عرض الطفل للتبني، لكنه لم يبالِ بالتحدث إليها عن أيٍّ من أوجه المسألة، بل وتجاهلها تمامًا. ولما كانت محبطة وغاضبة وغير مستقرة عاطفيًّا، تركت برينان وظيفتها وانتقلت إلى مزرعة «أول ون» في أوريجون التي كانت قد زارتها من قبل.
ولدت الطفلة هناك في ١٧ مايو١٩٧٨م. ذهب جوبز لزيارتها بعد ثلاثة أيام، واتفق مع أمها على تسمية الطفلة «ليزا نيكول برينان»، لكنه بعد ذلك لم يرغب في أن تكون له أي صلة ببرينان أو الطفلة.
مع أن نصيب جوبز من أبل بلغ ملايين الدولارات حينذاك، لم يكن يقدم مساعدةً مالية إلا على فترات متباعدة، وواصل إنكار أبوته للطفلة. وفي لحظةٍ ما، وقع وثيقة في المحكمة على أنه غير قادر جسديًّا على الإنجاب ,وفي أثناء ذلك شغلت برينان وظائف عديدة وعاشت على إعانة الرعاية الاجتماعية.
في سنة ١٩٧٩م، عند بدء ظهور اختبارات الحمض النووي «دي إن إيه» فاجأ جوبز برينان بالموافقة على حسم الأمر تمامًا. وجاءت نتيجة اختبار الأبوة لتؤكد احتمال أن يكون جوبز هو الأب بنسبة ٩٤٫٤١ في المائة، لكنه أصر أمام أصدقائه وزملائه في أبل — وحتى الصحفيين — على أن الأب، إحصائيًّا، يمكن أن يكون شخصًا آخر.
أخيرًا، رفعت مقاطعة سان ماتيو قضية على جوبز، وألزمته بدفع ٣٨٥ دولارًا شهريًّا للطفلة، وتسديد مبلغ ٥٨٥٦ دولارًا للمقاطعة نظير الرعاية الاجتماعية التي كانت قد دفعتها ﻟ «كريسان».
قال لاحقًا: «لم أستطع أن أتخيل نفسي أبًا وقتها، لذا لم أتقبل الأمر.» وفيما بعدُ ندم على سلوكه، قائلًا: «أتمنى لو كنت قد تعاملت مع الأمر بشكل مختلف.» بمرور الوقت، اشترى منزلًا ﻟ «كريسان»، ودفع مصاريف مدرسة «ليزا»، ودعمها ماليًّا. لكن الأمر استغرق وقتًا طويلًا ليتصرف فعليًّا كأب ﻟ «ليزا».
في لفتة غريبة للقدر، كان جوبز في الثالثة والعشرين حين وُلدت «ليزا»، وهو نفس سِن والدَيه الحقيقيين حين وُلد من دون زواج وعُرض للتبني، لكنه لم يعرف ذلك لسنوات. كان تركيزه منصبًّا وقتها على وليده الآخر: أبل، التي كانت على وشك أن تجعله أبًا فخورًا جدًّا.
حديث الكمبيوتر
لبناء كمبيوتره الجديد احتاج وزنياك إلى أكثر من معالج صغير. هذه بعض المكونات الأخرى الموجودة في أبل ٢، وحواسب أخرى كثيرة:
احتوى أول كمبيوتر أبل ٢ صنعه وزنياك، على ثمانية آلاف بايت من الذاكرة العشوائية الديناميكية. اليوم، يحتاج معظم مستخدمي الكمبيوتر من مليارين إلى أربعة مليارات بايت من الذاكرة لتعمل كمبيوتراتهم بسرعة ويسر.
كُتبت إحدى أوائل لغات «البيسيك» ﻟ «ألتير» على يد بعض طلاب «هارفارد»: «بيل جيتس» و«بول ألِن» و«مارتي دافيدوف»، بناءً على لغة «بيسيك» تستخدمها شركة «ديجيتال إيكويبمنت كوربوريشن»، استمر «جيتس» و«ألِن» فيما بعد ليؤسِّسا شركةً تسمَّى مايكروسوفت.
كتب وزنياك «البيسيك» لأبل بناءً على نسخة «هيوليت باكارد». بالضبط كما يتحدث الناس في مصر بشكلٍ مختلف عن الناس في السعودية، لم تكن نسختا «البيسيك» متماثلتَين. لكي يعمل برنامج مكتوب لأبل على كمبيوتر يشغل «البيسيك» التي كتبها «جيتس» و«ألن»، كان لا بد من حدوث شكل من أشكال الترجمة.