الخناقة على الطريقة المصرية
لا شك أن المصريين أعقل شعوب الأرض قاطبة، ولقد حيَّرني هذا الأمر طويلًا وكثيرًا، وخاصةً حين كنت أسافر وأختلط بكثير من شعوب الدنيا، ثُمَّ وأنا أدري — وحتى دون أن أدري — أبدًا أقارن بيننا وبينهم؛ فأجد لكل شخصية من شخصيات الشعوب نوعًا من جنونها الخاص أو غرابتها أو شذوذها، ثُمَّ أعود للقاهرة، وبعيونٍ جديدة أحاول أن أعثر لشعبنا أو لشخصيته على هفوة غرابة أو بادرة جنون من أي نوع، دون جدوى.
وحين أقول إننا أعقل شعوب الأرض، لا أعني بالطبع أننا كذلك لأننا أكثرها حكمةً أو علمًا أو تأدُّبًا، في الحقيقة أعني أننا أكثره تعقُّلًا. والفرق بين الحكمة والتعقُّل هو أن الحكمة تأتي بعد إعمالٍ عميقٍ للتفكير، ومقارنة بين الاحتمالات الكثيرة والحلول، ثُمَّ اختيار قائم على تفضيل الأحسن بالنسبة للشخص أو للشعب. أمَّا نحن هنا، فنحن نتعقَّل أوَّلًا وبادئ ذي بدء، بمعنى أننا بالتلقاء والسليقة نختار أقرب الحلول للسلامة وحفظ الذات والإفلات من الموقف، ولو كان هذا على حساب النتيجة في المدى الطويل.
قارن مثلًا بين خناقةٍ إنجليزية وخناقةٍ مصرية. تبدأ الخناقة الإنجليزية بخلاف بين صديقين أو عدوَّين هادئة، ثُمَّ تتصاعد إلى مستوياتها الدرامية العليا، ويحدث كل هذا دون ضجة أو زعيق، بل بكلمات تتصاعد في حدَّة معناها وليس في طريقة إلقائها حتى يبلغ الأمر حتمية أو ضرورة الالتحام، وهنا تجد الاثنين قد انتحيا ركنًا أو خرجا من المشرب، وفي منتهى الهدوء المجنون بدآ يصفِّيان الحساب جسديًّا متصارعَين أو متلاكمَين أو متلاحمَين، يكيل كل منهما للآخر ضرباتٍ هائلة في الصميم، ينالها الآخر ولا يتوجَّع لها إنما بكل العنف يتحيَّن الفرصة وينقضُّ على الآخر بضربةٍ أقسى وأوجع. المارة لا يقفون ولا يتفرَّجون؛ فهم يعرفون أن ما يدور مجرد عملية جسدية لتصفية حساب «أيديولوجي» بين اثنين من الناس لا شأن لهم بهما، بل من المستحسن أن تتم هذه التصفية دون شهود عيان، إذ حين يوجد شهود العيان تتعرق عملية التصفية ويتحول المتعاركان إلى «ممثلين» يضعان الجمهور في حسابها ويستشهدانه، وفي هذا نوع من «التظاهر» أي الخداع لا يليق بقضية لا تخص أحدًا بقدر ما تخص طرفيها، وبقدر ما تخص ما يكيله أحدهما للآخر من لكمات.
وهذا في الخناقة الإنجليزية الأنجلوساكسونية، يُصفِّي الخناق عضويًّا بعدما عجز الخناق «الأيديولوجي» عن أن يصفيها نفسيًّا وتناقشيًّا.
وهذا — في عرف المصريين — نوع من الجنون المقيت، فالخناقات حين تنشب بين خصمين، وتتركَّز فيهما فقط ويصفيانها معًا، تُعتبَر نوعًا من الجنون أو من الشذوذ. فالخناقة عند المصريين ليست نوعًا من الدراما الشخصية، ولكنها — إن آجلًا أو عاجلًا — لا بُدَّ أن تتحول إلى مسرحية، أي إلى محاكمة، أي إلى قضية يصبح فيها الجمهور عاملًا رئيسيًّا ومؤثِّرًا، كالقاضي سواءً بسواء. ويصبح فيها التأثير في الجمهور — أي في ذلك المحترم القاضي — مسألة ذات أهمية بالغة. ومن أجل هذا تنشأ الخناقات في مصر ليس لينتصر طرفٌ على آخر، وإنما تنشأ الخناقات بهدفٍ مسرحيٍّ محض، أي تنشأ الخناقات درامية منذ البداية، عاقلةً جِدًّا ومتزنة منذ البداية، وبهدف — منذ البداية — محدَّدٍ وواضح، ألا وهو: أي طرف يملك ناصية الحق؟ وأي طرف أحق من الطرف الآخر بأصوات «المحلفين»؟ وهكذا وهكذا. وبهذه الطريقة تنشأ الخناقة المصرية، لا بهدف أن ينتصر الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، وإنما بهدف أن «يحكم» الجمهور ويحدِّد مَن هو الطرف الأقوى ومن هو الأضعف؟ مَن صاحب الحق ومَن الكذاب؟ مَن هو الماكر الخبيث ومَن هو صاحب القضية الغلبان؟ ومِن أجل هذا تبدأ الخناقات المصرية جماهيرية منذ لحظة الصفر، درامية منذ بدأ التمثيل. كل طرف فيها يُوجِّه خطابه — ليس بالكلمات مباشرة لتهدَّ كيان العدو وتجعله يركع — وإنما بخطاباتٍ صاخبةٍ عاليةٍ موجَّهةٍ إلى الجمهور وإلى الإنسانية كي تُقنع الجميع أن الطرف المتشرِّف بالحديث هو الطرف المظلوم المُفترَى عليه الغلبان، وأن الطرف الآخر هو المخطئ الظالم المستحق أن يوقع عليه العقاب. لا يتساءل المصري المتخانق: من سيوقع هذا العقاب؟ إن وجد الإنصاف، وإنما المهم أن يُثبِت للعالم أنه مظلوم وأنه يستحق الإنصاف، وأنه لولا التعقُّل لارتكب القتل والضرب والجنايات. لهذا فلا أعتقد أني بحاجة إلى وصف خناقة مصرية؛ فالعرض دائمًا وأبدًا مستمر، والجمهور موجود يشهد ويتدخَّل ويمنع أن ينتصر أحد على أحد، يمنع القوة أن تكون هي الحكم، وصراع القوى أن يكون هو السبيل. إنه يتفرَّج على الخصمَين ويستمع للحُجج، وبمنتهى التعقُّل يتفحَّص، وفي الغالب يُصدِر حكمه. والأعجب أن الحكم لا يأتي أبدًا ضد أيٍّ منهما، إنما يملك جمهورنا طاقة التعقُّل الكافية بمنح كلٍّ منهما قدرًا من الحق وقدرًا من الباطل، ذلك القدر الكفيل بأن يُحِلَّ الصلح محلَّ الخصام، والوئام محلَّ الصراع، فإذا كان ثمة مظلوم في الموقف فإن الله سبحانه كفيل به وبإنصافه في الدار الأخرى، وإذا كان ثمة خطأ في الحكم ارتكبه القضاة للجمهور فإن يوم العدالة آتٍ لا ريب فيه.
وهذه مجرد مقارنة، مجرد مَثل؛ إذ تبقى الحقيقة التي لا شك فيها أننا أعقل أهل الأرض جميعًا
ولعل هذا هو سبب أن خناقاتنا السياسية والعسكرية على المستوى الوطني أو القومي أو العالمي تسير على نفس الوتيرة وعلى نفس النسق.
كل ما في الأمر أن الجمهور القاضي في العالم ليس أبدًا جمهورًا محايدًا، بل ولا هو كالجمهور المصري يتفحص القضية إحقاقًا للحق والعدل، إنه جمهور يؤمن بالحقيقة القائلة إن الغالب دائمًا هو صاحب الحق، أو صاحب الحق هو دائمًا صاحب القوة.
كم من مرات خاطبنا فيها ضمير العالم وكأن للعالم ضميرًا، والعالم له عيون، أمَّا ضميره فهو مع صاحب الحق فقط حين يناضل صاحب الحق من أجل حقه، أمَّا حين يتقاعس ويترك لهذا الجمهور القاضي وضميره أن يحصل على حقه فإنه لا يمتلك له إلا السخرية والصفير.
العالم لم يصبح معنا إلا بعد حرب أكتوبر.
ولن يصبح معنا إلا إذا شاهدنا دائمًا نناضل نضال المستميت لكي نحصل على حقوقنا، ونضال صاحب الحق والحصول على حقه هو الوسيلة الدائمة المثلى لإيقاظ «ضمير» العالم، فهو دائمًا نائم إلى أن توقظه ليست قسوة الظلم، وإنما قوة المظلوم في سحق ظالمه.