التصرف المصري أمام الخطر
كما توضع العينة تحت الميكروسكوب لفحصها، وضعت نفسي تمامًا في مكان سائق العربة التي اصطدمت بالقطار عند بنها؛ ذلك الحادث المروع الذي نتج عنه مقتل ثمانية عشر شخصًا غير عشرات الجرحى والمصابين، بينما نجا سائق العربة واختفى في حقل الذرة القريب حتى قَبض عليه البوليس.
أوقفتُ الزمن، تلك الثواني القليلة التي سبقت الحادث مباشرة، ثُمَّ رحتُ أُمرِّره على مهلٍ شديد في محاولةٍ جادةٍ مخلصة لمعرفة ما دار في عقل السائق بالضبط، وجعله — رغم أن أجراس المزلقان كانت تدقُّ والنور الأحمر موقد علامة أن قطارًا سيمرُّ حالًا — يقتحم الإشارة اقتحامًا ليصطدم بالقطار! بالضبط ماذا حدث؟ وليس من أجل هذا السائق أو هذا الحادث بالذات أريد أن أعرف الجواب، إنما من أجلنا كلنا، ومن أجل الحوادث الأكيدة المماثلة المقبلة، من أجل أن نعرف أنفسنا ونعرف كيف ولماذا نتصرف أمام الخطأ أو الخطر؟ أو بالأصح ما هو الموقف المصري من الخطر؟
هذا سائقٌ مدرَّب ما في ذلك شك؛ فرخصة قيادة سيارة نقل لا تُمنح إلا بصعوبةٍ شديدة وبامتحانٍ عسير وبعد فترة طويلة من العمل كسائق. ها هو ذا قادم على الطريق، وأمامه ومن بَعيدٍ كان يرى شريط السكة الحديد وهو يتقاطع مع الطريق الزراعي الذي يسلكه، بل حتى كان ممكنًا لو هو يقظ بدرجةٍ كافية أن يرى القطار قادمًا في الأفق من بعيد، ولكن لنَكُنْ عادلين ولنصلْ معه إلى اللحظة التي وصل فيها إلى «المزلقان» ووجد الأجراس تدقُّ والنور الأحمر يُطفأ ويوقَد علامة القطار القادم؛ الطبيعي تمامًا أن يوقف العربة حينذاك وينتظر مرور القطار، ثُمَّ يتأكد أن ليس هناك قطارٌ آخر قادم، ثُمَّ يَعبُر. هكذا يفعل الناس في أي مكان وزمان، وللإنصاف نقول إنه فكَّر في الوقوف أول الأمر ولكنه لم يفعل، و«ظنَّ» أن القطار ليس وشيك القدوم، بدليل أنه لا يراه؛ فضغط على البنزين واقتحم الإشارة. إن العربة تعلم الناس السرعة، هذا صحيح؛ فهي اختراع ولدته الحاجة إلى السرعة. وكل سائق في العالم يريد أن تنتهي رحلته بأسرع ما يمكن حتى ولو لم يكن وراءه عملٌ ملحٌّ عند نهايتها؛ هذه كلها أحاسيس إنسانية نشعر بها جميعًا، ومن المؤكد أن صراعًا صغيرًا نشب في عقل السائق بين أن يوقِف العربة كما تقضي القواعد وحكم الأمر الواقع، وبين أن يقتحم الإشارة رغم احتمال أن يصطدم بالقطار. احتمالٌ واهٍ، هذا صحيح، ولكنه موجود. ومن المؤكد أن الصراع حُسِم بسرعة لمصلحة مواصلة السير؛ هو عارف بالخطر إذن ولكنه يُنحِّي معرفته جانبًا ويمرُّ! من أين جاءته الثقة أن الخطر لن يدهمه؟ على أي شيء اعتمد أنه سينجو؟ لا يستطع هو نفسه لو سألتَه أن يجيبك، وأيضًا لا نستطيع نحن؛ فكلٌّ مِنَّا قد واجه موقفًا كهذا مرة، ولا بُدَّ أن كلًّا مِنَّا ولو لمرةٍ واحدة قد تصرَّف برعونة كما فعل السائق واقتحم الخطر، معتمدًا على أن شيئًا ما أو قوة ما ستحميه وتُنقذه! هذا الاعتماد اليقيني الغريب الذي يزوِّدنا بثقةٍ لا حدَّ لها، ويشبه تأكيد أننا حتمًا سننجو، هو المسئول الأول عن كل الكوارث التي تحيق بنا. فنحن نرى الخطر ماثلًا أمامنا واحتمالاته قوية، ومع ذلك نتعامى عنه ونُلغيه من وعينا ونغمض أعيننا عن أن ترى الخطر، وكأننا بمجرِّد التعامي عنه نلغيه من الحقيقة. والواقع، كل العالم المتقدِّم يدرس الوضع من جميع نواحيه، فإذا اشتمَّ رائحة خطر ما فإنه أبدًا لا يخاطر أو يغامر أو يتعامى عنه، ولكنه يحسب حسابه تمامًا ويأخذ حذره ويتفاداه، إلا نحن، ابتداءً من القرارات الكبرى كقرار حشد الجيش في سيناء عام ١٩٦٧ إلى أصغر قرار كقرار ذلك السائق أن يعبر شريط السكة الحديد اعتمادًا على إحساسٍ قدري أن شيئًا لن يحدث، وأنه من غير المعقول أن يؤدي الأمر إلى صدام مع القطار. مع أن غير المعقول هذا هو الأقرب إلى العقل وإلى الاحتمال، وهو الذي يحدث غالبًا وتكون نتيجته نكسة ٦٧ أو حادث التصادم عند بنها.
إن النبي مُحَمَّدًا عليه السلام يقول لصاحب الناقة: «اعقلها وتوكَّل.» أي اربطها أوَّلًا كي تتأكد أنها لن تتحرك ثُمَّ بعد هذا توكَّل على الله في أمر بقائها.
بمعنًى آخر، مفروض أننا إزاء الخطر ندرك أبعاده ونحذر منه ونتَّخذ كافة الاحتياطات اللازمة لحمايتنا أوَّلًا، ثُمَّ نُسلِّم أمرنا لله بعد ذلك، ولكننا في أغلب الأحيان لا نفعل هكذا، إنما «بفهلوةٍ» غريبة، باعتماد على ثقةٍ مجهولة أن شيئًا لن يمسَّنا، نعرض أنفسنا للخطر، ونستغرب بعد هذا إذا أُصِبنا وكأن تلك القوى المجهولة قد غدرت بنا وخانتنا. إنه في رأيي نوع من الهروب من مواجهة الواقع نفسه باعتبار أن الخطر جزء لا يتجزَّأ من الواقع. نحن نعيش نحلم بواقع من صُنعنا، وحتى لو واجهنا الخطر فنحن نتعامى عن كل ما حولنا من واقع.
وكم من آلام نتحملها نتيجة هذا الموقف، وكم من نصائح! ولكن الغريب أننا — بعدُ — لم نتعلَّم أن نرى الواقع، وأن نرى ما فيه — إن كان فيه — من مخاطر، ونحتاط لها، وأبدًا لا نتعامى عنها معتمدين على قوًى خرافيةٍ مجهولة ستحمينا وتُنقِذنا.