أرقام فلكية
كُنَّا نتحدث عن الثانوية العامة، فهذا موسمها، وكان شريكي في الحديث الصديق الدكتور أحمد سامح همام «أول دفعتنا في كلية الطب وأستاذ جراحة الأوعية الدموية بقصر العيني». والحقيقة فوجئت حين ذكر لي أن على أيام جده (وجدُّه كان من عائلة طيبة بالمنيا) كان النجاح في البكالوريا (ثانوية زمان) يعني أن يذهب عساكر البوليس ويأخذوا الناجح بالقوة إلى المديرية، ثُمَّ يُرحَّل إلى القاهرة تمهيدًا لإرساله في بعثة إلى الخارج فورًا ليُكمِل دراسته الجامعية؛ إذ لم تكن هناك جامعة في مصر. ذلك أن عدد الناجحين في بكالوريا ذلك الوقت لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليدين، وربما أقل؛ ولهذا كانت الحكومة ما تكاد تظهر النتيجة حتى تبادر «بالقبض» على الناجحين لإرسالهم فورًا في بعثات إلى الخارج. وكان الشاطر هو الذي يستطيع بالوساطات أو بالشفاعات أو بالرشوة أن يُفلِت من قبضة الحكومة فيفرج عنه ولا يرسل في بعثة، أو يُكمِل تعليمه الجامعي، أمَّا سيئ الحظ الذي لا حول له ولا قوة ولا وساطة له، فهو الذي يرسل رغمًا عنه إلى أوروبا ويعود حاملًا الليسانس أو ربما الدكتوراه!
وأذكر مرة أني قرأت في باب «الأهرام من ٧٠ سنة» أن عدد الناجحين في الشهادة الابتدائية آنذاك كان خمسين طالبًا في كل أنحاء القُطر المصري.
واليوم نجد أن عدد المتقدِّمين للثانوية العامة حوالي ١٨٢ ألف طالب، ينجح منهم ما لا يقل عن المائة ألف وأكثر. في الثانوية العامة ينجح فقط مائة ألف، وعدد المتقدمين للشهادة الابتدائية قد يناهز المليون، أي أننا في خمسة وسبعين عامًا تضاعف عدد تلامذتنا مائتي ألف مرة. ترى ماذا سيحدث في عام ٢٠٠٠ مثلًا؟
من خمسة وسبعين عامًا لم تكن المجتمعات تعرف التخطيط وتتنبأ بما ستصير عليه الزيادات، أمَّا اليوم فنحن نحيا في عصر التخطيط، فإذا لم نكن قد خططنا في الماضي لهذه الزيادات الفلكية في أعداد التلاميذ، فهل في نيتنا حقيقة أن نُخطِّط للحاضر وللمستقبل، وخاصة إذا عرفنا أن هذه الأعداد أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه؛ إذ إن نسبة الأمية عندنا زادت حتى أصبحت ٧٠٪ وهو رقمٌ مخيفٌ في حدِّ ذاته، ولا يدلُّ على تخطيط إلى الأمام وإنما يدل على تراجع إلى الخلف؛ فقد كانت النسبة أقل من هذا بكثير قبل عشر سنوات مثلًا؟
أعتقد أن مشاكل التعليم وما يحتاجه من إعداد وسائل للتربية، ومدرِّسين مؤهَّلين، ومدارس مناسبة، لا يكفي لحلِّه نشاط أو اجتماعات المجلس القومي للتعليم. أعتقد أن الأمر بحاجة إلى مؤتمرٍ جادٍّ كبيرٍ يبحث ويناقش ويحدِّد كيف نُعلِّم أولادنا اليوم وكيف سنُعلِّمهم غدًا وبعد غدٍ؛ مؤتمر يستمع إلى آراء الأطفال والتلاميذ؛ مؤتمرٍ جامعٍ شامل. أعتقد أن هذا قد أصبح واجبًا مُلحًّا وعاجلًا؛ فإني أرى أن طريقتنا في مواجهة هذه الأرقام الفلكية من زيادات الطلبة لم تتعدَّ كثيرًا طريقتنا في مواجهتها أيام كان عدد الناجحين في الثانوية العامة لا يتجاوز عدد أصابع اليدَين.