تعالَوْا إلى كلمة سواء
يُخيَّلُ إليَّ — والله أعلم — أنه سبحانه حباني بقدرٍ أكبر قليلًا من الحساسية الشعبية، أو بالضبط إدراك كُنه وطبيعة وحقيقة ما يريده شعبنا المصري، والرأي المصري. فالمزاج المصري ليس هو ما تسمعه من الناس في العلن مثلًا أو في جلسات المقاهي، أو حتى في القعدات الخاصة. الرأي المصري الحقيقي شيءٌ غويطٌ جِدًّا، من الصعب تمامًا الوصول إليه، من المستحيل تقريبًا الإمساك به. شيء دفين دفين وكأنه من أسرار الحياة أو الخلود، بل لعله فعلًا كذلك، وربما هو الذي أبقى شعبنا حيًّا ومتماسكًا لسبعة آلاف عام أو تزيد؛ قدرته الخارقة على إخفاء ما يريد، حتى يُحقِّق ما يريد.
فأحيانًا يقتل التحقيق أو يضيِّعه مجرد إعلان النية أو إمكان الوصول إليها، تجدهم يصفقون تصفيقًا راعدًا للمطربة أو الراقصة أو اللاعب أو الكاتب، فإذا انتحيتَ بأيِّهم جانبًا وسألته عن رأيه الحقيقي لأبدى وفي الحال رأيًا مخالفًا تمامًا. شيءٌ غريب! نحن نستطيع أن نفهم أن ينافق البعضُ شخصًا أو يتحمَّسوا له مجاملة، أمَّا هذا فماذا أسميه؟ نفاق للنفس مثلًا أو الوصول بالموقف الساخر من الحياة إلى الحدِّ الذي يجعل لك تجاه الشيء الواحد موقفَين، أحدهما هو الحقيقي الدَّفين، والآخر هو المزوَّر الذي تُبديه أمام الناس، ولكن المضحك أنك تُبديه أمام نفسك أيضًا.
المهم، شيء ما يجعلني أعتقد أن شعبنا بعدُ لم يندمج في مسألة الأحزاب هذه. أجزاء منه اندمجت هذا صحيح، أولئك الباحثون عن مستقبل أو حاضر سياسي، أولئك الطامحون للوصول إلى المناصب القيادية، وباختصار مَن لُعبتُهم السياسية. أمَّا جماهير الشعب بشكلٍ عريض، وحتى بمثقفيه ومتعلميه، فكما قلتُ لم تندمج بعدُ في الحكاية، لا تزال ترقب وترصد وتتفرج.
والموقف على أية حال ليس غريبًا على مصر والمصريين؛ فهو له جذوره التاريخية منذ أن كانت في مصر أحزاب، بل حتى قبل أن تكون في مصر أحزاب. ولكل بلد ظروفه التاريخية الخاصة التي نشأت في ظلِّها أحزابه. وأعتقد أن النموذج المثالي لنشأة ونمو الأحزاب كان في إنجلترا؛ فإنجلترا كانت بلدًا يحكمه مَلك يتوارث العرش عن أبيه وأجداده، وتأخذ الأسرة المالكة فيه شيئًا من القداسة وكأنها تستمدُّ قوَّتها من حقٍّ إلهي في الحكم «نفس فكرة الفراعنة حتى عن الملكية أو الملك». إلى أن بدأ يتكوَّن من خارج الأسرة المالكة إقطاعيون كبار يدينون بالولاء للملك، هذا صحيح، ولكنهم مجرَّد أناس «من الشعب» لا يمكن أن يتساوَوا مع أصحاب الدم الأزرق أو الحق الإلهي. إلى أن بدأ يحدث الصدام بين كرومويل «قائد البرلمان» والملك، ثُمَّ الحرب الأهلية لتثبيت حق الشعب ودفاعًا عن الماجناكارتا «أو العهد الأعظم» وقُتل الملك في هذه الحرب وتولَّى كرومويل وأتباعه حكم إنجلترا باسم الدستور هذه المرة، أي باسم الشعب. ولكن لأن أوروبا في ذلك الحين كانت في عصر ازدهار الملكية والإمبراطوريات؛ فقد تكاتفت الملوك وخاصة بعد وفاة كرومويل وأعادت الملَكية إلى إنجلترا.
ولكن هذه «الثورة» كان لها أثرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للناس؛ إذ قفزت بالتاريخ خطوات، وتحوَّل الإقطاع في إنجلترا إلى الرأسمالية تحوُّلًا سلميًّا، واستبعد «شكل» الحكم فأصبح الملك رمزًا للأمة كلها أو للدولة، يملك ولا يحكم، بينما بدأ الرأسماليون الذين سموا أنفسهم بالمحافظين يحكمون ويحاسبهم البرلمان. وفي نفس الوقت، بدأت تتكوَّن نقابات العمال دفاعًا عن حقوقهم تجاه خصومهم الرأسماليين، وبدأت النقابات تتجمَّع تحت راية حزب العمال، وأصبحوا يدخلون الانتخابات ويفوزون، ولكن لأن الطبيعة الإنجليزية محافظة في صميمها فلم يكن حزب العمال يقوم بتغييراتٍ جذرية في المجتمع لتحيله إلى مجتمعٍ اشتراكي مثلًا، بقي المحافظون والعمال يتبادلون الحكم تحت ظل الرأسمالية الإنجليزية لنظام الملكية كرمز للدولة.
هذه إحدى الطرق لنشأة الأحزاب، في مصر مثلًا حدث الآتي: حين جاء الاحتلال البريطاني إلى مصر، وبعد أن استولى على البلاد عسكريًّا واقتصاديًّا؛ بقي أمر الاستيلاء عليها سياسيًّا. وسياسيًّا كانت مصر جزءًا من الإمبراطورية العثمانية؛ ولهذا ظهر في مصر اتجاهان: اتجاه ينادي بالعودة للإمبراطورية العثمانية وطرد الإنجليز، واتجاه ينادي بالتعاون مع الإنجليز لبتر مصر من النفوذ العثماني؛ لتصبح «مصر للمصريين» أوَّلًا، تمهيدًا للكفاح لإخراج الإنجليز لتصبح مصر للمصريين حقيقة. وكان الممثل الخالد للاتجاه الأول هو مصطفى كامل، ثُمَّ من بعده محمد فريد، بينما كان الاتجاه الثاني يُمثله الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والشاب سعد زغلول. بمعنى أن نشأة الأحزاب في مصر كانت نشأةً سياسية وليست تعبيرًا عن أوضاعٍ اقتصادية، وحتى نشأ المارد الأكبر حزب الوفد كانت نشأته سياسية أيضًا؛ فقد قام ليقود الشعب بكل فئاته وطوائفه في ثورة ضد الإنجليز وغير مرتبطة باتجاهات الحزب الوطني نحو الارتباط بالتبعية العثمانية؛ ثورة «ضدهم جميعًا» الهدف منها تخليص مصر من النفوذ التركي ومن الوجود الإنجليزي ومن الامتيازات الأجنبية، ثورة اشترك فيها الإقطاعيون والرأسماليون والطبقة المتوسطة والمسلمون والأقباط، جنبًا إلى جنب تحت رايةٍ واحدة وهدفٍ واحد هو الاستقلال التام؛ أي الوجود المستقل لمصر حرة غير مرتبطة أو مقيدة.
ولقد لعب حزب الوفد دوره بنجاح منقطع النظير حتى حقق جزءًا كبيرًا من الاستقلال السياسي، ومن إلغاء للامتيازات الأجنبية، ومن إيجادٍ لكيان مصري لأول مرة منذ عصور بالغة القدم.
وطبعًا هذه الثورة السياسية صاحبتها ثورةٌ اقتصادية، وبدأ الاقتصاد المصري يُبنى، وأيضًا على نظام شبه شعبي؛ فلم تكن هناك رأسماليةٌ مصرية تستطيع وحدها أن تبني اقتصادًا، ولكن كان هناك إقطاع خلقه الخديو والإنجليز ليستطيعوا به حكم مصر.
وكان مفروضًا أن يستمر التطور الطبيعي، فيُبنى اقتصاد رأسمالي وطني، ويتكون حزب الرأسمالية الوطنية، وحزب مقابل للعمال، وحزب للإقطاعيين، وحزب مقابل للفلاحين.
غير أن هذا التطور الطبيعي لم يحدث نظرًا لوجود القضية الوطنية والمؤامرات الكثيرة لضرب الحركة الوطنية وتفتيتها، ليس فقط وحدة العمال والفلاحين من ناحية والإقطاع والرأسمالية من ناحية أخرى، ولكن تفتيت حتى الطبقة الإقطاعية والرأسمالية، فما بالك بأحزاب العمال والفلاحين؟
وكان أحد عناصر اللعبة إدخال حكاية الصراع الطبقي قبل الأوان، فلقد مُنع تمامًا قيام أحزاب للعمال، وطبعًا تمامًا تمامًا للفلاحين. واستُغلَّت الإقطاعية والرأسمالية المصرية التي كان من المفروض أن تكون على رأس الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، استُقطبت وفتُّتت تارة باسم الهيئة السعدية وتارة الأحرار الدستوريين وتارة باسم حزب الشعب وتارة بدكتاتورية الإقطاع المتعاون تمامًا مع الإنجليز «محمد محمود وشركاه».
أدرك الإنجليز بذكائهم الاستعماري الخارق أن بقاءهم في مصر مرهون بضرب القوى الوطنية بعضها في بعض، ووضع الإسفين الأعظم بين مَلكٍ وطني في ذلك الحين وحزب الأغلبية الأكبر «الوفد»، ثُمَّ بين الوفد وبقية الأحزاب المتقلبة عليه، ثُمَّ بين الطبقات الشعبية، وصارت المسألة «عكَّة» استغرقت من مصر قرابة الثلاثين عامًا من الصراع الرهيب «حول» السلطة، مع أنه كان من المفروض أن يتم خلال هذه الأعوام الثلاثين الصراع الرهيب «ضد» الاحتلال، وليس من أجل من يحكم ومن له الحق في الحكم.
وقامت ثورة ٥٢.
ولأعتبر من عندي أن ثورة ٥٢ بقضها وقضيضها وعلى بعضها حزب ثوري جديد أفرزته الطبقة المتوسطة ليُنهي هذا الصراع السخيف حول أحقِّية من يحكم من، ويقود الشعب كله «أحيانًا رغم أنفه» ضد الاستعمار الرابض في قلب مصر من ناحية، والمؤامرات المحاكة دائمًا ضد مصر، وكان مفروضًا في هذا الحزب الجديد أن يحول جهد المصريين من العراك إلى وحدة البنَّائين. فيبني الاقتصاد المصري ويدعمه تمامًا، وينتقل بالزراعة إلى القرن العشرين، وبواسطة ثورة ثقافية وحضارية شاملة لنقل المجتمع المصري الفلاحي والعمالي بالذات إلى الحد الأدنى اللازم لوجود الإنسان على سطح الأرض في هذا القرن.
ولكن الاستعمار الخبيث كان يرقب كل شيء ويعدُّ لكل شيء عدَّته، فما كاد يرى هذا «الحزب» الجديد وقد بدا أنه قد وحد الأمة حول أهدافٍ قليلة ولكنها خطيرة، وسيصنع بها لو تمَّت معجزات. ما كاد يرى هذا حتى أطلق سهمه المضاد وجرَّ مصر إلى حرب مع إسرائيل، وإلى تشتيت لجهودها في الكونجو وقضية المغرب والجزائر ونيجيريا واليمن والوحدة ومهزلتها، أي أنه نجح في تحويل كم الطاقة الهائلة الرابض ينتظر الانفجار لينقل مصر من عصر إلى عصر، نجح في تحويل دفته إلى الخارج حتى لم يَبقَ للحزب ليقف في الداخل إلا أقل القليل.
والثورات أيضًا حظوظ، ولست أعرف لماذا كان من حظ ثورتنا أن يكون على رأسها قائد لا يؤمن بالتنظيمات الجماهيرية، فحتى حزب الثورة لم يتكون! في حين كانت هناك عشرات الفرص لخلق حزبٍ ثوريٍّ جماهيري ديمقراطي اشتراكي عربي وحدوي يصبح أقوى أداة في يد الثورة المصرية، ليس فقط لتغيير مصر وإنما لتغيير العالم العربي ثُمَّ العربي الأفريقي الآسيوي من حولها.
حظنا كده.
حظنا أن حزب الثورة الحقيقي كان هو «دولة المخابرات»، فهم وحدهم الذين كانوا محلَّ ثقة الثورة، وهم وحدهم الذين كان يُختار من بينهم من يُعهد إليهم بأخطر المهام، حتى من بينهم لا بُدَّ كان يُختار معظم الوزراء والمحافظين ورؤساء مجالس الإدارات.
وهكذا تمخَّض هذا الحزب الذي جاء ليكنس أرض مصر من أحزاب أنهكها طول الصراع حول الحكم، وجاء ليقود الطبقة المتوسطة ومن حولها بقية الطبقات، تمخَّض هذا الحزب عن «شلَّة» تحكم مصر وتقرر شئون وتمنع مزاولة السياسة إلا على أفرادها ومن يثقون فيهم.
قرأتُ مرة مقالًا ظريفًا كتبه أحد المعلقين الأمريكيين الذين عاشوا في مصر فترة. فقال عن تركيب مصر السياسي في عصر الثورة إنها جاءت بقاموس ومصطلحاتٍ جديدة إلى دنيا السياسة في العالم. والغريب أن الرجل استقى معلوماته من صفحة الوفيات في جريدة الأهرام، فداخل كل نعي كان يعرف قرابة فلان الوزير لفلان رئيس مجلس إدارة كذا لفلان قائد سلاح كذا لفلان السفير في كذا، وهكذا. المصطلحات الجديدة التي أدخلها ذلك الحزب الغريب الجديد كانت مصطلحات تبدو مضحكة لأول وهلة، ولكنها كانت فعلًا الحقيقة المرة، فهناك «الشلَّة»، وهناك «الدفعة»، وهناك «القرابة القريبة والبعيدة».
في كل مجال من مجالات حياتنا كان يحكمها إمَّا شلَّة أو ممثل الدفعة أو قريب لهذا أو ذاك من القائمين على الحكم.
والخارطة السياسية لمصر تقول إنه منذ زمنٍ بعيد جِدًّا، منذ أول انتخابات أجرتها الثورة، منذ تعقيم مصر سياسيًّا واعتبار أي ماضٍ سياسيٍّ للشخص حتى لو كان وطنيًّا ونظيفًا وشريفًا لا يُحسَب له، وإنما يحسب عليه، منذ أول انتخابات جرت فإنها لم تَجرِ على أسس سياسية إنما على أسسٍ شخصية ذاتية أخلاقية محضة.
يعني نحن ننتخب الرجل الطيب، ليس مهمًّا أن يكون فاهمًا في السياسة أو غير فاهم، ليس مهمًّا أن يكون واعيًا بحيث يُدرِك ما يَصلح لبلادنا وما لا يصلح، المهم أن يكون «طيبًا والسلام».
وبهذا قضينا على السياسة ولم ننتخب لمجالس شعبنا قادة سياسيين، إنما انتخبنا في معظم الأحوال رجالًا طيبين أو قادرين على إنجاح أنفسهم بالمال أو بالنفوذ أو حتى بالتهديد.
ذلك لأن الثورة لم تسمح لنفسها أن تكون حزبًا له مبادئ محددة واضحة تدقِّق جِدًّا في اختيار أعضائه لأنها ثورة تحكم، وما أكثر الانتهازيين الذين يريدون الانضمام لأي تنظيم تصنعه ثورة تحكم. لم تسمح لنفسها أن تنشئ ذلك الحزب، وطبيعي جِدًّا أنها لم تسمح لأي قوًى غيرها بأن تنشئ أي أحزاب أخرى.
لهذا فالموقف الآن أحسن قليلًا.
واضح أن ثورة ١٥ مايو على أقل تقدير قد قررت أن تنشئ لنفسها حزب مصر العربي الاشتراكي، وأن تسمح لأقسامٍ أخرى من الرأي العام أن تنشئ أحزابًا قد تختلف قليلًا أو كثيرًا مع حزب مصر.
أقول إن الموقف أحسن، ولكنه ليس بالضرورة الموقف المثالي.
ولكن المشكلة أني أرى الموضوع من زاويةٍ أخرى تمامًا.
فالأحزاب ليست زينة، والديمقراطية ليست أيضًا زينة، الأحزاب كما قلنا تقوم لسد احتياجاتٍ سياسية أو اقتصادية حادة وملحة؛ إذن هي ضرورة وليست ترفًا.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان أوَّلًا هو: ما هي الضرورة الحادة الملحَّة في مصر الآن؟
الإجابة بسيطة، فهناك ضرورتان حادتان: القضية الوطنية، والمشكلة الاقتصادية.
القضية الوطنية تستلزم «الوحدة» حتى في البلاد العريقة في حزبيَّتها، مثل إنجلترا وفرنسا، حين قامت فيهما جبهة من الأحزاب لمواجهة الحرب العالمية الثانية.
والمشكلة الاقتصادية أيضًا تحبِّذ ضرورة الوحدة، وكما نشهد الآن في إيطاليا يتعاون الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب الشيوعي من أجل إنقاذ الاقتصاد الإيطالي من الانهيار التام.
نحن إذن لسنا في مرحلة التحزب، نحن في حالة تستلزم الوحدة قبل أي شيءٍ آخر.
ولكنها ليست الوحدة الديماجوجية التي كثيرًا ما نادينا بها وقرأناها شعاراتٍ رنَّانة وخطبًا عصماء، من تحالف لقوى الشعب العامل، إلى آخره.
الوحدة بمعناها الحقيقي، أي الوحدة بين قيادات الطبقات والهيئات والفئات وأصحاب الرأي.
الوحدة التي أساسها تنافس الجميع في البحث عن «حلٍّ» سواء لمشكلتنا الوطنية أو الاقتصادية.
وقد يرى البعض أن هذا يتعارض مع فكرة الديمقراطية الحزبية وحرية تكوين الأحزاب، والعكس هو الصحيح؛ فمصر، منذ أن نالت استقلالها وحتى قبل أن تناله، في حاجةٍ ماسة إلى أن يمثل كل فئة فيها أو طبقة قيادة ينضمُّ بعضها مع البعض، وتكوِّن تكتُّلًا وطنيًّا قويًّا ما دام الوضع يحتِّم التكتل الوطني لكي تمرَّ الأزمة، وبعد أن تمر يصبح أمامنا الوقت الطويل لكي نعود نتفرق ونختلف ونتخانق إلى ما شاء الله.
أجل، نحن في حاجة إلى أحزابٍ حقيقية تقود — وبالذات شبابنا — قيادة حقيقية بدلًا من تركهم نهبًا للهوس، وأكاد أقول لهم حق؛ فأين القيادة الشابة الحقيقية التي من الممكن أن تستقطب هذا الشباب المخلص في بحثه عن حلٍّ لمصر ومشكلاتها؟
ليست مشكلتي الآن أن يقوم حزب وفد تحت اسم جديد أو لا يقوم، أن يتكتل المستقلُّون ويكونوا حزبًا أو لا يتكتَّلون، مشكلتي مثل غيري أننا لا نريد أن نرقص على السلم. فحزب مصر والحزبان الآخران تكوَّنوا بطريقة غريبة، أعلن تكوينها أوَّلًا ثُمَّ بدءوا البحث عن أعضاء يصلحون لها، ثُمَّ بعد استكمال الأعضاء بدأنا نبحث لها عن برامج وأهداف.
ولهذا أنا لا أعتبر أن حزب ١٥ مايو أو ٢٣ يوليو الحقيقي قد تكوَّن بعدُ وأن مصر لا تزال في حاجةٍ ماسة لقيادة هذا الحزب.
في حاجةٍ ماسة إلى «الوحدة» في الهدف والوسيلة.
وكل ما حدث منذ ظهور فكرة تكوين الأحزاب إلى الآن هو خناقات بين حزب التجمع وحزب مصر وحزب الأحرار، وخطوةً واحدةً لم نتقدم بعدُ في طريق حل المشاكل، ليس كما تُحل الآن وإنما بناءً على برنامج سياسي اقتصادي حزبي لحزب مصر ما دام هو الذي يحكم. ما زلنا نقيم المشروعات كيفما اتفق أيضًا، وبالمرة ليس هناك برنامج علمي حزبي مدروس ومتفق عليه ويتبناه ويدافع عنه جميع أعضاء الحزب ويشرحونه للناس ويبشرون به، ما زالت حياتنا الحكومية التنفيذية في وادٍ وحياتنا الحزبية السياسية في وادٍ آخر وحياتنا التشريعية البرلمانية في وادٍ ثالث.
وأنا لا يهمني الأحزاب الناشئة التي تنشأ؛ فأن تصل هذه الأحزاب إلى الحكم مسألة مستبعَدة تمامًا خلال الأعوام الخمسة الحاسمة المقبلة على أقل تقدير.
لذلك فنحن في أمسِّ الحاجة — وما دام حزب مصر هو الذي يحكم — أن يُترجَم هذا الحزب إلى برنامج عمل وأهداف.
بل أكاد أقول: فلننسَ الطريقة التي تكوَّن بها حزب مصر.
ولنعُدْ نؤلفه على أسسٍ حقيقية جديدة.
لندْعُ إلى جمعيةٍ تأسيسية كثير من أعضائها من داخل حزب مصر هذا صحيح، ولكنها تضمُّ كل مفكر أو قادر على التفكير والقيادة في كافة مجالات حياتنا، بل وحتى لو كان عُضوًا في حزب آخر.
ولتنتهِ هذه الجمعية التأسيسية إلى برنامج عملٍ واضحٍ وصريح يمثل آمال مصر وحلولها لمشاكلها خلال السنوات العشر القادمة على الأقل.
وبناءً على هذا البرنامج فينتخب من بين أعضاء الهيئة التأسيسية لجنة قيد، تنظر في طلب الراغبين في الانضمام على أساس ارتباطهم أو قدراتهم على تنفيذ هذا البرنامج المتفق عليه، وعلى أساس قدرتهم السياسية أوَّلًا وليس على أساس طيبتهم أو رفقهم في معاملة ومجاملة الآخرين.
حتى إذا أحكمنا إنشاء هذا الحزب الذي سيمثل العمود الفقري السياسي لبلادنا، تتكون أحزاب أخرى على نفس هذا النسق، قد تختلف برامجها عن برامج حزب مصر، قد تختلف أفكارها، قد تختلف تكويناتها الاجتماعية والفكرية، ولكنها حتمًا ستمثل قيادة لمجموعة من الناس موجودة في مجتمعاتنا وقائمة.
وعلى أساس تحالف — أو تصارع — بين حزب مصر وهذه الأحزاب، تصارع ليس هدفه التنابذ أو حب الظهور وإنما هدفه الوصول إلى الحقيقة التي قد تكون تمامًا غير رأي حزب مصر أو غيره من الأحزاب.
باختصار: نحن، في مشكلتنا، وبالذات خلال السنوات الخمس القادمة في حاجة إلى كلمةٍ سواء بيننا، لسنا في حاجة إلى إجماع صوري، نحن في حاجة لنقاش واختلاف يؤدي بنا في الحقيقة إلى كلمةً سواء؛ فالصراع القائم الآن صراع من ورق وعلى ورق، بينما مشاكلنا حقيقية وعاجلة وفي حاجة إلى قيادة فعَّالة لرؤيتها حبذا لو كانت شابة ونشطة وواعية سياسيًّا.