لمن اختُرعت كلمة «الدمث»؟
هناك أناسٌ يموتون فتحزن عليهم لأنهم خسارة وطنية أو قومية، وهناك آخرون تحزن عليهم لأنهم كانوا يمثِّلون لك أهميةً خاصة، وذهابهم سيَضيرك أو يضرُّك، وهناك أناس تحزن عليهم شفقةً أو إشفاقًا لما سيجري لعائلاتهم من بعدهم، وهناك أناس لأنهم أصدقاؤك أو بعض معارفك أو عتبًا على الموت أنه اختطفهم قبل الأوان أو غيلة. غير أنه في النادر جِدًّا ما تحزن لوفاة إنسان، لا لأنه كان صديقًا عزيزًا فقط، ولا زميل عمل فقط، ولا كفؤًا فقط، وإنما فوق هذا كله قد تجمَّعت فيه وتركَّزت خصال هي في النهاية التي تجعل من الإنسان إنسانًا، ومن العنصر البشري عنصرًا ساميًا، أسمى ما في الكون الذي يجعله رغم كل موبقاته جديرًا حقًّا بلقب إنسان.
وأنا حزين على صديقي محمود عبد العزيز محمود حزنًا هزَّ أعماقي هزًّا، ولم يحدث لي من زمنٍ طويل ربما منذ أن مات أبي من عشرين عامًا؛ ذلك لأنه ليس حزنًا «عقليًّا»، ولكنه نابع من وجدان كان يرى في محمود عبد العزيز الإنسان، ليس الإنسان الكامل، فلا كامل سوى الله، ولكن الإنسان الأكمل مِنَّا جميعًا نحن الأحياء.
ثمانية عشر عامًا عملتها معه، أحيانًا باتصال عمل مباشر، وأحيانًا بحكم الوجود في مؤسسةٍ واحدة سواء أكانت «الجمهورية» أم «الأهرام». بل ومن الصدف الغريبة أن تكون علاقتي به خلال العامَين الأخيرَين علاقة عمل كاملة. وماذا أقول لك عن علاقات العمل وضرورة أن يحدث فيها غضب واختلاف وأحيانًا صدام ومقاطعة؟ وباختصار: عمري ما رأيت مشرفًا على عملٍ يومي إلا وهو يتمتع بقدرٍ كبير من الكُره، إمَّا من مرءوسيه المباشرين أو زملائه أو رؤسائه. هذا إنسانٌ نادر؛ ذلك أنه ليس معي فقط وإنما مع الجميع، وأقولها بلا أي مجاملة ولا حتى مجاملة صديق مات شهيد الواجب والمهنة، وإنما أقولها كحقيقة لا يستطيع أن ينكرها حتى أشد الناس كرهًا له، لو حدثت المعجزة ووجدت فعلًا من يكرهه. نسمة إنسان وسط جحيم القيظ البشري الذي نعيش فيه، كلما تراكمت متاعب الدنيا والعمل أحسَّ على الفور أني في حاجة لابتسامته، وفي حاجة للحديث معه، وأنا أعرف أني لا أتحدث مع إنسانٍ خالي البال أو لا يعاني من مشاكل، بالعكس أتحدث مع إنسانٍ تُحاصِره الهموم وتكاد تخنقه المشاكل، ومع هذا فهو ابتسامةٌ حانية لغيره، تقديرٌ مرهف ودقيق لظروف الآخر قبل ظروفه. دمث، و«دمث» كلمةٌ طالما استعملناها لنُقِرَّ بحقيقة أو للتمني أو للمجاملة. أعتقد أنه لو لم توجد كلمة دمث في اللغة العربية لأوجدها محمود كاملةً وبكل أبعادها بتصرفاته ومواقفه وأفعاله، لاخترعها بمجرد شخصيته اختراعًا.
آخر مرة رأيته فيها كان يوم الأحد في استراحة الرئيس بالمعمورة أثناء اللقاء مع الكُتَّاب ورجال الإعلام ونحن نتصافح. بابتسامته الودودة المصرية شدَّ على يدي وقال: موعدنا غدًا الاثنين لتُسلِّمني مفكرة الجمعة كما اتفقنا. وقلت: خلاص يا محمود. قال: لا! أريد، أرجوك أن تُحدِّد الموعد بالساعة والدقيقة وليس اليوم فقط. قلت: لا، إني مُتنازِل لك عن تحديد الساعة، حدِّدها أنت. قال: لقاؤنا إذن إن شاء الله سيكون في الثانية عشرة بالدقيقة والثانية. موافق؟
ولكنه سبحانه شاء أن يتمَّ اللقاء حقًّا، إنما بطريقة أخرى. ففي الثانية عشرة تمامًا وبالدقيقة والثانية كنتُ ألتقي بمحمود، كل ما في الأمر أن روحه كانت قد صعدت إلى السموات العُلى، وجسده كان محمولًا على أعناق الرجال. لقاء وأي لقاء! مضبوطًا في مواعيده وعهوده كما كان دائمًا، وكما هي عادتي أنا غير مضبوط في مواعيدي. ولكني هذه المرة كنت مضبوطًا تمامًا، بل جئت قبل الموعد بساعة، فقد كنت أعرف أنه آخر لقاء.
عزاء لنا جميعًا نحن العاملين في أشقِّ المهن وأكثرها متاعب، ومعظمها متاعب فيها ومن أبنائها لأبنائها، عزاء لنا في أجمل زهرة «أقسم إن هذا رأيٌ حقيقي وأبدًا ليس مجاملة لمحمود لأنه ذهب» كانت تعبق في صمت في صحافتنا، والمؤسف أنها كانت تعبق لنا فقط، المؤسف أن جمالها ورائحتها لم تكن تصل بطريقٍ مباشر إلى القراء والجمهور وإلا لبَكَوْا عليه بحرقة ومن قلوبهم وأكبادهم مثلما فعلنا نحن الذين عرفناه، وكانت معرفته تمثِّل لكلٍّ مِنَّا نسمةً رقيقةً عليلة في جحيم العلاقات الصحفية الخماسينية اللافحة التي تحيط بنا.
وإلى جنة الخلد أيها الشهيد، فقد مات لأنه كان يريد أن يسرع ليلحق بالعدد، وفي وقتٍ مبكِّر حتى يقدِّمه للقارئ كاملًا عامرًا في اليوم التالي؛ إذ هو الجندي المجهول وراء «الأهرام» تصلك حافلةً وأنت المستريح في فراشك لا تزال، أو خلف مكتبك تشرب قهوتك منسجمًا مرتاحًا. مات والموت حق، والموت مصيرنا جميعًا، ولكن أحيانًا يكون للموت لدغةٌ كقرصة «الكوبرا» صاعقة، وسامَّة، وبشعة الألم.
إلى اللقاء إذن يا محمود في يومٍ لن يحدِّده أحدٌ مِنَّا، ولكن إلهنا العظيم هو الذي سيتولَّى تحديده، لقاء لا فراق بعده؛ إذ أعتقد أن من مُتع الجنة أن يجمعك الله بكل من أحببتَ في دنياك، والجحيم أن يكتب عليك أن تكون مع من تكرهه حتى ولو كان في الجنة.