وعن السينما أيضًا
ونعود إلى السينما وصناعتها وماء نارها الكاوي. ممكن أن يقوم قطاعٌ خاص في السينما هذا صحيح، ولكنه لا يمكن أن يقوم على شكل دكاكين البقالة الصغيرة التي انتشرت في حقل الإنتاج السينمائي هذه الأيام. ثمانون فيلمًا في العام! ليه؟ هوليود بجلالة قدرها لا تنتج هذا العدد، مفروض أن يكون مقابل هذه الأفلام الثمانين ثمانمائة ألف عربة، وخمسمائة ألف آلة وأوتوبيس، وأكوام من الإنتاج الصناعي والزراعي الحقيقي لا حصر لها. فما بالك إذا كانت ثمانون فيلمًا فيها على الأقل سبعون، يضيِّع الفيلم الواحد منها كل أثر لأي كتاب أو ثقافة أو تعليم أو ضمير، أفلام تجأر بالشكوى والأنين، أفلام لا بطولة فيها ولا مثلٌ واحدٌ يُحتذى أو يرفع من قيمة الإنسان وقدره، أفلام إمَّا بطلها جبان يضحك بجبنه أو صديق يخدع صديقه أو فتاة يطاردها ذئاب البشر وهي مسكينةٌ غلبانة مجنيٌّ عليها يا عيني. وما هذا الكلام الفارغ؟ إن الفن هو ضابط الإيقاع للمجتمع، وإذا كان الهلس يسود أفلامنا فمن المحتم أن يمتدَّ إلى حياتنا يحيلها هلسًا في هلس، ولا مبالاة في لا مبالاة، يقتل الطموح ويقتل القيم. إنني أتلقى خطاباتٍ كثيرة من القراء المصريين الذين يعملون في بلادنا العربية، كيف تندى جباههم خجلًا وهم يرون مصر ونساءها وكيف تُصوَّر في أفلامنا. كتب قارئ يقول: أحسُّ بكرامتي وإنسانيتي تنزف، وأن شرفي كمصري مستباح، وبالذات لأبناء البلد الذي أعمل فيه. حرام عليكم.
وأنا أقول «لبتوع» السينما عندنا: ليس حرامًا عليكم فقط، ولكن أقول لكم بصراحة: أنتم تقدِّمون لشعبنا سمًّا زعافًا في سبيل الربح، ولا بُدَّ أن نقيم عليكم وصايةً شعبية أوَّلًا؛ فقد ثبت أن الرقابة الرسمية لا يمكن وحدها أن تقف أمام هذا الاكتساح الهلسي الرهيب، وإذا نحن تركنا إنساننا وإنسانتنا لهذا الهلس فالعوض على الله فينا كشعب وحتى كأمةٍ عربية؛ لأننا نصنع لهذه الأمة سينمتها وحلقاتها. أنتم تريدون الربح والجمهور، ولكم حق في هذا، ولكن الربح على طريقة دكاكين البقالة ربحٌ صغير، وهو الذي يدفعكم إلى الهلس كوسيلة لجذب المتفرِّج، والحل ليس مزيدًا من الهلس، الحل هو الاندماج معًا في شركاتٍ كبرى تحترم نفسها وتحترم ما تقدِّمه لمتفرجها وتربح أكثر حين تنفق على أفلامها أكثر.
وإذا لم يحدث هذا الاندماج فإنني — أنا الذي ضد تدخل الدولة في الفن — أطلب من الدولة أن تُصدِر قانونًا عاجلًا لتنظيم صناعة السينما بحيث لا يسمح لأي من هبَّ ودبَّ أن يقدِّم أي قصة وأي كلام وهات يا أفلام. إذا كُنَّا لا نسمح للطبيب أن يعالج مريضًا إلا بعد دراسة لا تقلُّ عن العشرين عامًا، فكيف نسمح لجاهل أن «يعلِّم» شعبًا كبيرًا قيمه ومبادئه و«يربِّي» أجياله؟ والكلمة هنا لا تنطبق على المنتجين فقط، وإنما — وهذا هو الأهمُّ — على كُتَّاب السيناريو والحوار والمخرجين. وأطالب في نفس الوقت أن تتكون من النوادي الثقافية واتحاد الأدباء ونقابة الصحفيين ونقابة السينمائيين جمعية «حماية المتفرج» فالمسألة أخطر بكثير من أن نتركها لعبث بعض العابثين باسم حماية صناعة السينما، فلتذهب السينما إلى الجحيم إذا كانت تريد أن تُذهبنا إلى الجحيم.