الجد واللعب
جاءني ابني (١٠ سنوات) وقال لي وفي وجهه جد خطير: بابا، أنا مش عايز أروح المدرسة.
قلت له: ولكنك لا تذهب إلى المدرسة فعلًا؛ فأنت الآن في إجازة.
قال: لا، مش عايز أروح خالص.
– يعني مش عايز تتعلم؟
– أيوه!
– أمال عايز تعمل إيه؟
– عايز أبقى لعيب كورة.
أخذت كلامه أول الأمر على أنه «كلام عيال»، أو رغبة من الرغبات التي تستبدُّ بنا في أحيان وتجعلنا نكره الدراسة والتعليم كُرْه العمى. ولكني وأنا ماضٍ في مناقشته، اكتشفتُ أنه قد فكَّر في المسألة طويلًا، ورأى أنه حتى لو طلع الأول في الدراسة والأول في الجامعة بعد التخرُّج، فلن يكون له ربع أو عشر حظ صالح سليم أو شحتة الإسماعيلي.
نظرت إلى الولد وسرحت … ما من شك أن مرحلة الطفولة هي مرحلة اللعب والنزق والبراءة واللامسئولية. إنها فترة الاستمتاع الأول بأنك كائنٌ وحيٌّ وسط مجتمعٍ كائنٍ وحيٍّ، هي الفترة التي تزوَّدنا بأجمل ذكريات العمر وأمتع لحظات السعادة، هي الفترة التي تذكِّرني بالخطاب الذي ألقاه نهرو مؤسس الهند الحديثة، ذلك الذي يحب الأطفال إلى درجةٍ غير معقولة. كان نهرو يلقاهم بترحاب، وفي إحدى خُطَبه قال لهم: أرجو أن تأخذوا وقتًا طويلًا جِدًّا لكي تكبروا. هذا الشاعر السياسي قد أدرك بسليقته أن الطفولة هي أجمل مراحل العمر، كل ما في الأمر أننا لا ندرك جمالها إلا متأخرين كثيرًا، حين نكون قد غادرناها إلى الأبد وأصبحنا «كبارًا».
والتسلح بالتعليم واجبٌ صحيح، ولكننا بالطريقة التي نعلِّم بها أطفالنا نخنق الطفولة فيهم خنقًا! فمن سن الرابعة أو الخامسة تتسلمهم المدرسة ويتسلمهم «الواجب» وما لا بُدَّ من عمله؛ حفظ الكلمات، تَعلُّم الكتابة والحساب، وتعلم اللغات والجغرافيا والإنشا، نُدخِل الطفل بالقهر في العجلة الجهنمية التي تلتهم عمرنا التهامًا ولا تتركنا إلا حطامًا، عجلة الحياة المسئولة بعلومها، بعملها، بالواجبات، بالخضوع الأعمى للناموس الاجتماعي. عجلة لا بُدَّ منها على أية حال ولكن ثمنها فادح. ثمن أغلاه قطعًا سنوات الطفولة حين نقدمها مبكِّرًا جِدًّا قربانًا للعلم وللمعرفة.
رحتُ أنظر إلى الولد غير مندهش كثيرًا لما قاله. كم تمنيتُ لحظتها لو استطاعت البشرية بكل عبقريتها أن تبتكر طريقة لتُعلِّم الطفل من خلال اللعب، وليس كما هو حادث الآن من إحلال التعليم محل اللعب، فاللعب هو «عمل» الأطفال العظيم، ولا يمكن أن يوجد رجلٌ سويٌّ لم يكن في طفولته «لاعبًا عظيمًا».
كان أمامي مهمةٌ شاقة؛ كيف أقنع ابن السنوات العشر بضرورة وحتمية المدرسة والدروس والمذاكرة والاجتهاد التي عليه أن يفضلها على متعته القصوى التي يحظى بها من لعب الكرة؟ وبالتأكيد لم أكن وحدي في هذه التجربة، بل هي تجربة كل أب وكل أم؛ تجربة علينا أن نقنع فيها هذه الكائنات الطازجة البريئة بضرورة وحتمية أن يتحمَّلوا عبء حياةٍ دَرَسنا فيها وضيَّعنا طفولتنا، واجتهدنا وضيعنا صبانا، وكافحنا وضيعنا شبابنا، وفي مقابل هذا العمر الطويل المفقود ماذا أخذنا؟
ومهما يكن ما ناله كل مِنَّا، أيساوي لحظة سعادةٍ حقيقية مثل سعادة الطفل حين يلعب الكرة ويحرز هدفًا؟
ألم يكن موقفي — وأنا أحاول إقناع الولد بأمر أنا لست شديد الاقتناع به — مضحكًا؟