موضة
بالشرف، إننا فعلًا قومٌ غرباء.
خذ مثلًا أزمة المواصلات. لقد قالت لي مرةً سائحةٌ ألمانية إنها لم ترَ في حياتها أبشع أو أفظع من منظر المصريين وهم محشورون في الأتوبيسات والقطارات بهذا الكمِّ وبهذا التلاحم الذي ربما نحن قد اعتدنا عليه ولم يعُدْ يدهشنا. ولكن إذا رأته العين الغريبة لأول وهلة فإنها لا بُدَّ تُصاب بالرعب، وهذا بالضبط ما حدث للسائحة الألمانية.
إننا نفكر في حل مشكلة المواصلات تفكيراتٍ غريبةً فعلًا، فنحن ندرس إمكان حلها عن طريق مترو الأنفاق مثلما فعلت لندن وغيرها، وغير مدركين أن مترو لندن استغرق بناؤه واستكماله حوالي نصف قرن من الزمان، وتكلَّف أيام كان الكيلومتر الواحد يتكلف عدة آلاف من الجنيهات؛ تكلف مليارات، فما العمل الآن والكيلو لا يقل الآن تكلفة عن خمسة ملايين جنيه؟
أو نفكر في حلِّها بالمونوريل الذي قد لا يعادل في تكلفته هذا المبلغ الباهظ، ولكن المشكلة أنه غير صالح إلا لخطٍّ «دوغري» مثله مثل مترو حلوان. غرباء لأننا لم نُفكِّر في أبسط وأهمِّ وأكثر الوسائل عملية لحل أزمة المواصلات. فنحن دائمًا نُفكِّر بالمرادفات الضخمة للحلول، المونوريل والمترو والقطار والعربات والتاكسيات … في حين أن أوروبا التي تصنع هذه الوسائل، وسيلتها المحلية الأولى هي الدراجة.
أوروبا للسفر البعيد تستعمل الطائرة أو الباخرة أو القطار، للويك إند أو للانتقال بين المدن تستعمل العربات، أمَّا للتنقل داخل المدينة فقد يستعملون الأوتوبيسات أو التاكسيات، ولكن الوسيلة الشعبية الأولى هي الدراجات.
بلد مثلًا من أغنى بلاد أوروبا مثل هولندا، الدراجة هي الوسيلة رقم واحد للاستعمال، بل إن الشوارع هناك مقسمة إلى ثلاثة شوارع؛ رصيف للمشاة، وشارع واسع لمرور العربات، وبينهما شارع مخصص للدراجات.
اليابان التي تعتبر ثاني بلاد العالم في صناعة السيارات، وللنكتة هي أيضًا بلاد المونوريل، الدراجة هي الوسيلة الأولى لانتقال الفرد بها بدلًا من الانتظار والتكدُّس والاختناق، ها هي ذي الدراجة، تلك التي استعاض بها الإنسان منذ قرن عن ساقَيه الطبيعيتين، ميعادها تحت أمرك، خط سيرها تحت أمرك، تُوقِفها أو تُحرِّكها أو تتلكَّأ بها أو تُسرِع وفق أمرك أيضًا، والمهم هنا أن سعرها — وخاصة إذا استوردناها أو صنعناها بكمياتٍ هائلة — سيكون تحت أمرك مهما كان دخلك بسيطًا أو متواضعًا.
حين قلتُ هذا لبعض الرجال والسيدات اعترضت السيدات بشدة، أبَى خيالهن أن يتصورن أنفسهن راكبات دراجات في الشارع، انبرى رجل وقال: بل الجو؛ إن جوَّنا حارٌّ ولا يمكن احتمال ركوب الدراجة فيه. ولو قُدِّر لهؤلاء جميعًا أن يذهبوا إلى بلاد جحيمية الجو مثل تايلاند أو سنغافورة، وهو يرى الناس جميعًا يركبون الدراجات، ولو قُدِّر للسيدة أن تقارن بين أن تتحمل اختناق نفسها وجسدها في أتوبيس سرديني الرائحة، سرديني المحتوى، أعتقد أن الدراجة وخاصة نصف الموتور يعتبر ركوبها جنة بالقياس إلى غيرها من المواصلات.
أمَّا حكاية الجو هذه فهي تجرُّنا إلى لُبِّ المشكلة، فالماكسي جيب مثلًا أو البنطلون المحزَّق، ليست أنسب الأزياء في جوٍّ مثل جوِّنا، ولكن السيدات يتحمَّلنه ويتحمَّلن ما هو أكثر منه فقط لأنه موضة. وكل ما ينقص الدراجة لتصبح الوسيلة الحاسمة السريعة لحل أزمة المواصلات التي بلغت الحلقوم أن تصبح موضة، وأن تركبها ميرفت أمين.