جمهورية حسن الإمام
لن أستغرب إذا صحوتُ ذات يوم أو بالضبط ذات ليلة فوجدت أن نساء مصر والبلاد العربية قد تحولن جميعًا إلى عوالم أو راقصات؛ ذلك أنه بينما مثقفو مصر الغلابة مشغولون بقضية اليمين والوسط واليسار، فالثقافة الحقيقية التي تنصبُّ في عقول وقلوب أغلبية الشعب المصري ليست سوى ثقافة «هز الوسط»؛ بحيث أصبح المثل الأعلى للمرأة عند البنت المصرية ليست هدى شعراوي أو مي أو صفية زغلول أو حتى فاتن حمامة، المثل الأعلى أصبح الراقصة — أو العالمة بمعنى أدقَّ.
وإذا اعتقد أحد أني أبالغ فليُرني فيلمًا أو مسرحية كُتبت عن نموذجٍ طيبٍ حيٍّ أو ميتٍ للمرأة المصرية، أمام هذا الزحف الهائل من الملاحم «البطولية» التي أغرقت وتُغرق السوق تمجيدًا وتخليدًا للعوالم والراقصات من شفيقة القبطية إلى زوبة الكلوباتية إلى أخيرًا بمبة كشَّر.
ما هي البطولات العظيمة التي قامت بها شفيقة أو زوبة أو بمبة وأمثالهن، ليستحققن هذا التكريم، ليدخلن التاريخ من أوسع أبوابه — السينما — تجسيدًا حيًّا لمعاناة ومأساة ومهزلة المرأة المصرية في كل تاريخها الطويل؟
إنني لم أستغرب كثيرًا حين رُحت أستمع لفتاةٍ عراقيةٍ صغيرة تحب الأفلام المصرية عن تصورها للقاهرة الحافلة بالكباريهات والراقصات والعوالم، ودِقَّة معلوماتها عن تفاصيل التفاصيل في قصة إدمان شفيقة القبطية للهيروين.
ما هذا أيها السادة، أو بالأصح، أيها السيد الأستاذ حسن الإمام؟
لقد ذكرتَ — على ما أعتقد في حديث تليفزيوني أو صحفي لا أذكر — أنك عشت فترة في شارع محمد علي، وأنك تأثرت تأثُّرًا كبيرًا بحياة العوالم والراقصات، وكنتَ تقول هذا تفسيرًا لانجذابك الشديد لصناعة أفلام بطلاتها عالمات. ولكن ما ذنبنا نحن الشعب المصري والعربي، ما ذنبنا أن يستحيل حُبُّ حسن الإمام للراقصات والعوالم إلى المادة الرئيسية للوجبة الثقافية المحدودة التي يتناولها المواطن المصري من السينما؟ فالسينما بالنسبة لجماهير الشعب العريضة ليست مجرد «فرجة» فقط، ولكنها تكاد تكون وسيلة الثقافة الوحيدة لهذه الجماهير. إن أكثر الكتب رواجًا وتوزيعًا، وأكثر الصحف والمجلات انتشارًا ليست سوى قطرة ضئيلة إذا قيست بجمهور السينما والتليفزيون الذي يُعد بالملايين. الملايين التي لا تقرأ ولا تعرف القراءة ولا تستعيد قيمها وفهمها للحياة إلا من خلال ما تراه عيونها في السينما أو في التليفزيون.
والمرأة المصرية المكتسحة البطلة في هاتين الوسيلتين، أو بالأصح في الأفلام المصرية، هي المعلمة أو العالمة أو الراقصة.
لقد ظللتُ أنظر لهذه القضية بلا قلقٍ كثير، ولكني فزعتُ حقًّا حين كنتُ في الأسبوع الماضي مدعوًّا لحضور «كَتْب كتاب»، وبعد انتهاء الإجراءات التقليدية جاءت راقصة، وأيضًا ليس هذا هو المهم، وإنما على دقَّات الطبلة نفسها دخلت إلى الساحة فتاةٌ صغيرة لا تتعدى السادسة من عمرها تشارك الراقصة في الرقص، تحمس الحاضرون للأمر باعتباره طرفة من الطرائف ولكن الأمر ما لبث أن تحوَّل إلى حدث وواقعة بهرت الجميع؛ فقد أخذت الطفلة تتلوَّى وتؤدِّي بجسدها حركاتٍ مقتبَسة طبعًا مما تشاهده من رقص، ولكنها مؤدَّاة بطريقةٍ جنسيةٍ مثيرة للغاية، والبنت الصغيرة لا تعي طبعًا ما تفعله بنفسها وبجسمها.
ها هي ذي الثقافة الرقصية التي تتعلَّمها بناتنا الصغيرات وفتياتنا، بحيث حين يكبرن قليلًا ويصبحن من جماهير السينما، يجدن البطلة «عالمة» والتجارة في هذا الجسد الذي منذ الصغر وهو يتلوَّى تلويات جسدية فاقعة، مسألة لا تدعو للدهشة أو للانزعاج، بالعكس تصبح مثلًا أعلى ومطلبًا.
وبهذا يتحول مجتمع كهذا إلى مدرسةٍ كبيرة لتخريج الجواري والعالمات والمومسات. فماذا يمنع هذا والمحيط كله والجو كله والبيئة كلها تدعو لهذا وتحرص عليه؟
وهكذا يتم للأستاذ حسن الإمام حلمه، وتتحوَّل مصر جميعًا إلى شارع محمد علي، ولا تعليق!