الذكاء المصري
ليسمحْ لي الدكتور عبد العزيز حجازي بعد خطابه الشامل في مجلس الأمة؛ أسأله عن نقطة حيرتني. فهو في فقرة يتحدَّث عن ضرورة تصدير ما يُسَمَّى بالرأسمال البشري، أي ضرورة تصدير القوى العاملة بعد إعدادها فنيًّا وتعليميًّا إعدادًا كافيًا. وفي نفس الفقرة — وهذا هو الغريب — يتحدَّث عن ضرورة استخدام الخبراء المصريين في كافة المجالات وإغرائهم بالمرتبات والإمكانيات وإتاحة الفرص لعملهم هنا. أليس في هاتين النقطتين تعارضٌ حاد؟ فإذا كان عندنا فائضٌ بشريٌّ قابلٌ للتصدير (ما أروع الإنسان المصري وهو يصبح فائضًا بشريًّا!) فما الداعي لاستيراد هذا الفائض بعد تصديره وبسعرٍ أعلى بكثير من سعر «السوق المحلية»؟ أم أن الخبرات التي يتحدث عنها الدكتور حجازي والتي يقترح التوسع في تصديرها هي الخبرات المتوافرة في سوق العمل المحلية، والتي لها نظائرُ مماثلةٌ هنا؟ والخبرات المصرية التي يقترح استيرادها هي خبراتٌ ناقصة ولا غنى عنها. فإذا كانت ناقصة ولا غنى عنها فعلًا، فكيف تمَّت عملية التصدير إذن وبموافقة الحكومة؟
في الحقيقة منذ أن سمعتُ من الدكتور عبد العزيز حجازي حديثه لأول مرة عن ضرورة تصدير فائض الخبرة البشرية إلى الخارج — وبالذات إلى البلاد العربية — وأنا أفكِّر في الموضوع تفكيرًا خطيرًا؛ فصحيح أننا نجني — كما ذكر السيد رئيس الوزراء — ما يقرب من المائة مليون جنيه عملة صعبة تدخل مصر عن طريق هؤلاء العاملين بالخارج، ولكن السؤال يظلُّ: ترى كم يخسر الإنتاج المصري في المدى الطويل نتيجة هذا النزيف «الذكائي» المستمر؟ فالواضح أن معظم ما نُصدِّره للخارج من خبرات هم أكفأ وأنشط العناصر؛ تلك التي تضيق بالمعوقات وما يُسَمَّى بالاختناقات (ولا ريب أن هذا اسم طريف) في مصر، فيَهِجُّون — ولا أقول يهاجرون — إلى الخارج، أي أنهم مرغمون على الهجرة وليس عن طواعية يفعلون؛ والنتيجة بالطبع هي أن يكثر الغباء في السوق المحلية ويقلَّ الذكاء. وحيث إن الإنتاج أوَّلًا وأخيرًا هو بشر، فلا بُدَّ أن إنتاج الأغبياء أقل كمًّا وأقل قيمة؛ ولهذا فبينما قد نكسب كل عام ١٠٠ مليون جنيه لا بُدَّ أننا نخسر في المدى الطويل آلافًا من الملايين من الجنيهات التي كان يمكن أن نحصل عليها هنا بتشغيل هؤلاء الأذكياء المصريين.
إن مشكلة العاملين في مصر لا يمكن في رأيي أن تُحَلَّ بتصدير فائض العمالة، بل تُحَلُّ بالسؤال البسيط: لماذا يوجد عندنا فائض عمالة، بينما بقية بلاد خلق الله تعاني من نقص العمالة؟ والجواب في رأيي ليس هو أننا فقراء أو ضعفاء الإمكانيات، الجواب هو أن نظام التشغيل عندنا نظامٌ فاسد، والدليل على فساده مثلًا أننا نُصدِّر الأذكياء مِنَّا ونستورد الكمبيوتر والعقول الإلكترونية التي لا تقوم إلا بجزء على ألف مما يستطيع أي إنسانٍ ذكيٍّ ومتعلم أن يقوم به. نظام التشغيل في الحكومة سيئ، وفي القطاع العام أكثر سوءًا، وفي القطاع الخاص هباب. لا نحن اقتبسنا النظام الاشتراكي بأكمله وبنظام تشغيله وتوكلنا على الله، ولا اقتبسنا النظام الرأسمالي بأكمله وتوكلنا على الله، وإنما حاولنا أن نخلق نظامًا يتراقص على الحافة بين الرأسمالية والاشتراكية؛ فلم نَجْنِ من أيٍّ منهما إلا مفاسد كلٍّ منهما. مفروض أن أي نظام مجتمعٍ ناجح يفرح بعدد خريجيه من الجامعة والمدارس المتوسطة؛ فهم «قوى إنتاج» جديدة تُضاف إلى قواه الموجودة أصلًا وتزيد من طاقته على الإنتاج، أمَّا غير المعقول فعلًا فهو أن يصبح الخريجون الجدد «عبئًا» على الإنتاج. إن الإنسان كما يقولون هو أثمن رأسمال، هو أثمن من الآلة على الأقل لأنه خالق الآلة وصانعها ومُشغِّلها، ولكن تحت ظروف التشغيل التي تمرُّ بها بلادنا أصبح الإنسان — سواء كان رجلًا أو امرأة — هو أرخص السلع المعروضة جميعًا، وما لم نغير فورًا وجذريًّا من طريقة أو نظام التشغيل عندنا، فسيظلُّ الإنسان الرأسمالي هذا يتناقص باستمرار، وسيظلُّ الغباء المصري يطرد الذكاء المصري إلى خارج الحدود، ومن فقرٍ نحن فيه ننتقل إلى فقرٍ أكثر.