الطفل الذي يلعب والطريق السريع
منذ بضعة أسابيع قرأت خبرًا في جرائدنا لا يزال التفكير فيه يُزعِجني إلى هذه اللحظة. الخبر يتعلَّق بمصرع طفلَين شقيقَين على الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية. ولا شك أن مصرع طفلَين شقيقَين في حادثٍ مسألةٌ يهتزُّ لها أي إنسان، وبالذات لو كنتَ مثلي أبًا لطفلين. ولكن ألمي الشديد للحادث هو الذي دفعني لتأمُّله! وأكثر من مرة أعدتُ قراءة الحادثة كما روتها الصحف، ودعونا نتأمل ما كُتب. يقول الخبر — نقلًا عن الجرائد — بينما كان الطفلان الشقيقان فلان وفلان «يلعبان» على «الطريق الزراعي» «السريع» في «رعاية» أمهما، فوجئا بعربةٍ قادمة بسرعة «مجنونة» بلغت «المائة» كيلومتر في الساعة دهمتهما وأدت إلى مصرعهما.
الخبر أسوقه منقولًا عن الصحف، ولكن الأقواس من عندي، ولقد وضعتها في محاولة لمعرفة العقلية التي صاغت الخبر، وبالتالي عقليتنا نحن في النظر إلى أمور العصر. الطرق الزراعية السريعة هي بمثابة الشرايين الملحَّة لحياةٍ اقتصادية تنشأ في هذا العصر، إنها ليست «موضة»، إنها احتياجٌ رئيسيٌّ من احتياجات أي اقتصاد. وكذلك العربة، إن الإنسان لم يخترع العربة إلا لحاجته إلى «السرعة»؛ إذ السرعة تعني استغلال الزمن، واستغلال الزمن يعني نقودًا. وفي طموح الإنسان من أجل أن يخرج من فقر القرون الوسطى إلى غنى القرن الحديث كان لا بُدَّ له أن يخرج من سرعة القرون الوسطى «الحمار والحصان» إلى سرعة العصر الحديث «السيارة والطائرة».
الطرق الزراعية السريعة إذن لم تنشأ إلا لتسير عليها العربات بسرعاتٍ «مجنونة» فعلًا. إن سرعة مائة كيلومتر تُعتَبر بطيئة بالقياس إلى السرعات التي أُنشئت من أجلها الطرق السريعة واختُرعت من أجلها العربات الحديثة.
أمَّا آخر ما فكَّر فيه العصر فهو أن ينشئ الطرق السريعة لكي يلعب عليها الأطفال، وخاصة إذا كان اللعب «في رعاية أُمِّهم!»
حسنٌ جِدًّا! لقد صُرع طفلان في عمر الزهور! وقد يقول البعض إن المسئول هو السائق «المجنون» الذي كان يسير بسرعةٍ «مجنونة» على الطريق السريع «المجنون». ولكنا لو استبدلنا بكلمة المجنون كلمة العصر في الجملة السابقة لاستقامت الجملة تمامًا مع منطق الواقع، ولوجدنا المسئول لا بُدَّ أن يكون إنسانًا آخر، ربما هو المحافظ أو الحُكم المحلي الذي لم يفكِّر في إنشاء أماكن يلهو فيها أبناء الريف مثلما يلعب زملاؤهم أبناء أعضاء النوادي في المدينة، أو ربما هي الأم التي حرمها الفقر من التعليم ومن إدراك طبيعة وخطورة السرعة في هذا العصر، وربما هو هذا الانقسام الخطير الذي نحيا فيه، شعبٌ نامٍ، في بداية استعانته بوسائل التحضر من الممكن أن نفقد عددًا من الضحايا من هذا السبيل. ولكن المشكلة في رأيي أعمق من هذا بكثير.
ولم أدرك مدى عمقها إلا حين عدتُ وجمعتْني الجلسات بمختلف الفئات والطبقات وسنوات العمر. والظاهرة التي حيَّرتني حقًّا هي أن الحديث مع الشبان والفتيان كان يقودهم دائمًا إلى سؤال هو: هل تؤمن بالأرواح؟ وما رأيك في الظواهر الخارقة التي يتحدَّثون عنها والتي تدل على وجود الأرواح؟
بل أكثر من هذا أذكر أني قرأتُ مرة خبرًا عن ظهور «عفاريت» في شقةٍ بشبرا تقذف السكان بالطوب، واستدعاء البوليس والنيابة للتحقيق في الأمر، وكيف أن العفاريت بلغ من جرأتها — بل صفاقتها — أن قذفت وكيل النيابة نفسه بالحجارة وأنه أثبت هذا في المحضر.
ورغم أني قرأتُ بعد بضعة أيام تكذيبًا للخبر، إلا أنني لم أُعلِّق على التكذيب أهمية، فهو لا شك قد صدر عن عقلية لا يزال بها بعض الحكمة، ولكن المشكلة هي في الغالبية التي آمنت وتؤمن بما جاء في الخبر.
وفي اللحظة هذه تتزاحم في رأسي آلاف الأفكار والخواطر والانطباعات، وأنا لا أريد الحديث في هذه اللحظة عن أوروبا ولا عن الحضارة؛ فمشكلتي الأولى ليس ما أتحدث به، ولكن إلى مَن أتحدث.
لكي أعرف إلى مَن أتحدث لا بُدَّ أن أعود إلى موقفنا من الحضارة الأوروبية، حيث وقفنا منها بعد ثورة ٢٣ يوليو موقف العداء؛ لأن أوروبا كدول وحكومات ونظامٍ رأسماليٍّ بشعٍ كانت قد وقفت مِنَّا موقف العداء؛ العداء الواضح الصريح الذي تركَّز في عدوان ٥٦، ثُمَّ كشف عن أنيابه في فخ ٦٧. وقد فعلنا هذا كضرورةٍ حتمية من ضرورات الدفاع عن النفس.
أجل، لقد وجدنا أنفسنا — ومنذ ظهور إسرائيل كقوةٍ عدوانية على المسرح العربي في حادثة الإغارة على غزة عام ٥٤ — في حالة دفاع قصوى عن النفس.
وأيضًا لأني أقتصر في حديثي على الجانب الفكري والحضاري، لن أتطرق إلى ما قمنا به في المجالات الأخرى من جيش وصناعة وإجراءاتٍ ثورية بكل ما حفلت به من تجارب وأخطاء، وما حفلت به من طليعية واقتحام لطريق لم يسبقنا له أحد، وكان بمثابة الريادة لعالمٍ ثالث يتطلع مثلنا إلى الدفاع عن النفس وحيز من الوجود تحت الشمس.
وفي حياة كل أمة تأتي فترة لا بُدَّ أن تنغلق فيها هذه الأمة على ذاتها؛ كي تنضج شخصيتها القومية ويتضح تفرُّدها وتعرف من هي وماذا لديها. هكذا فعلت روسيا بعد ثورة ١٧، وهكذا فعلت الصين بعد نجاح ثورتها. ولكن مجرد الانغلاق على الذات لا يكفي؛ إذ المهم هو ماذا نفعل بأنفسنا بعد الانغلاق على ذواتنا؟ ما موقفنا من ثقافتنا الوطنية؟ ما موقفنا من طرق تعليمنا؟
باختصار: أيُّ الأفكار تسود بعد قفل الأبواب؟
وإذا راجعنا ما حدث خلال عشرين عامًا من عمر الثورة المصرية الفتية، فإننا سنجد أشياءَ كثيرةً لا بُدَّ أن نعيد فيها النظر.
ذلك أن هناك قانونًا أساسيًّا من قوانين الوجود والبقاء: ما لم تتقدم إلى الأمام فإنك لا تتوقف، إنك دائمًا تعود إلى الخلف.
ولقد كانت ثورتنا تحمل في مكوناتها أهدافًا تقدميةً رائعةً.
ومن يراجع الخريطة السياسية للشرق الأوسط يجد أن الثورة حين قامت في ٢٣ يوليو كانت ليبيا وتونس والجزائر ومراكش في الغرب محتلَّة، وكانت الكويت وإمارات الخليج واليمن والعراق والسعودية والسودان إمَّا محتلة أو خاضعة لنفوذ أجنبي تمامًا، بل إن مصر نفسها كانت تحتلها القوات البريطانية.
الأهداف السياسية العظيمة التي حققتها ثورة يوليو، والثورة الاجتماعية التي قامت لأجلها وتحقق جزءٌ كبيرٌ منها، هذه كلها حقائق تخطف الأبصار.
ولقد كان من الواجب والمحتَّم لكي تكتمل الثورة أن يتحقق لها الركن الثالث المهم؛ أن تتحقق أيضًا الثورة الثقافية.
كان واجبنا بعد أن عادَيْنا الحضارة الغربية كل هذا العداء وقاطعناها وانغلقنا على أنفسنا، أن ننغلق لكي نحقِّق ثورةً ثقافيةً حقيقية بحيث ننقل الأفكار السائدة في مجتمعنا من حيث كانت: أقليةٌ مثقَّفة تتطلع بلهفةٍ شديدة إلى تقليد أوروبا، وأغلبية تحيا لا تزال على أفكار العصور الوسطى، إلى حيث تقف ثورتنا سياسيًّا واجتماعيًّا، إلى حيث القرن العشرون.
إن الثورة لا تقبل التجزئة أبدًا، ولا يمكن أن يكون الثوري ثوريًّا في فكره ومحافظًا في تصرُّفه ورجعيًّا في بيته؛ إذ معنى هذا أنه إمَّا أنه لا يؤمن بالثورة أصلًا وإمَّا أنه ثائر محدود الأفق. إن الثورة كالفن كائنٌ هشٌّ رقيق، ما أسهل — إن تركته هكذا مُعرَّضًا لعوامل الموات والتعرية — أن يموت! وما لم تتلبس الثورة جسدًا من التنظيم وقوةٍ ثقافية غير محدودة، فإنها لا يمكن أن تستحيل من جذوةٍ صغيرة إلى نارٍ مقدَّسة تعيد خلق الشعب وصياغته فكريًّا وحضاريًّا.
بمعنًى آخر: إن الشعوب في سيرها المستمر الحتمي تميل بطبعها إلى المحافظة على الموروث والمكتَسب، وما اعتادت عليه وأَلِفته. والثورة ليست إلا تغييرًا جذريًّا مفاجئًا وشاملًا في هذا السير الدءوب البطيء، فإذا تُركت الثورة بلا رعاية ثورية فمعنى هذا أن تبتلعها بعد حينٍ الأفكارُ السائدة بل والرجعية، وأن تنتقل بالمجتمع اقتصاديًّا وسياسيًّا خطوات إلى الأمام بينما أفكار الشعب ومبادئه ومعتقداته لم تتغير.
هكذا وجدنا أناسًا يلبسون صوفًا وحريرًا مستوردًا، وكرافتات سولكا، وعربات على آخر موديل، يُردِّدون: «لا أفكار مستوردة.» بمعنًى آخر هم يأخذون من أوروبا كل ما يُمتِّعهم شخصيًّا من وسائل العيش، أمَّا الأفكار الجديدة فإنهم يخافون منها.
وجدنا أناسًا يجعلون من الإسلام وسيلتنا كعرب إلى الثورة والتحضُّر؛ الإسلام ذلك الدين الذي جاء ثورة تقدم مفجرًا لطاقات العرب والمسلمين الخلَّاقة، طليعيًّا يقود تيار الحضارة والتحضر. إن القرآن الكريم في كثير من سوره وآياته أوامر عسكرية وثورية يومية تهدي المسلمين في حربهم ضد العدو، وجدناهم لا يسمحون إلا برواج كل ما يمكن تفسيره تفسيرًا رجعيًّا ومحافظًا وتقليديًّا.
كان مجتمعنا قد انتقل خطواتٍ كبيرةً جِدًّا في مجالات التصنيع والتعليم والخدمات بحيث استطاع أبناء الفلاحين والعمال أن يدخلوا المدارس والجامعات، وينشأ جيلٌ منهم يريد أن يحيا وأن يثور وأن يوجد وأن يتعلم أكثر وأحسن.
هذا الجيل ماذا كانت رسالتنا إليه؟ ماذا تكتب له الصحف؟ ماذا يسمع في الراديو ويرى في التليفزيون والسينما؟
إني لا أستغرب بعد هذا كله أن نجد بعض الصحف والناس أحيانًا تناقش مشكلة: هل هناك أرواح وعفاريت وظواهر خارقة تتدخل في حياة الناس؟
إني لا أريد أن أنقد موقفنا مثلما يفعل البعض لمجرد النقد، إني في الحقيقة أصدر في كلامي من نقطة بدء، هي نفس نقطة البدء التي صدرت عنها ثورتنا؛ الدفاع عن أنفسنا.
ولا أقول الدفاع لمجرد أن إسرائيل اعتدت علينا واحتلَّت أراضينا.
أمَّا الخطر الأكبر فهو فينا نحن وفي طريقتنا التي نواجه بها العدو، كياننا ليس فقط في السلاح الذي نواجه به العدو، ولكن في السلاح الإيماني والعقائدي، في الروح التي نواجه بها العدو.
الروح وليس الأرواح بالمعنى الذي أصبح شائعًا الآن ومتداولًا.
كيف نواجه؟ وبماذا نواجه العدو؟ هذه هي المشكلة.
إن العدو الإسرائيلي ليس سوى التحدي الأصغر الذي يواجهنا.
إنما التحدي الأكبر هو هذه الحضارة الصناعية الأوروبية الأمريكية اليابانية الهائلة التي تقف لنا بالمرصاد.
إن ما شاهدته في أوروبا الغربية وأمريكا واليابان من مصانع ومراكز بحوث واكتشافات وغنًى …
وما رأيته في المعسكر الاشتراكي من ثورة في التفكير والتكنولوجيا والتحضُّر بعد التخلص من كل ما خلَّف العصر الستاليني من جمود وتحفظ …
إننا لسنا وحدنا في هذه المشكلة وإنما معنا كل دول العالم الثالث التي ثارت؛ فحاصرت الرأسمالية العالمية ثورتها وضربتها، بل نكاد ننفرد دون دول العالم الثالث بأننا لا نزال واقفين لم نركع ولم نستسلم ولم نكفَّ عن قول لا.
والمحنة التي تمر بنا ليست من صنعنا وحدنا. إنها طريقة الغرب لضربنا في الصميم، إنها محاولة رهيبة لترويضنا؛ لترويض هذا الشعب المخيف الثائر الذي ظلَّ يهدر بالثورة من ١٨٨٢ إلى الآن، جيلًا وراء جيل، وكبوة وراءها كبوة، ولكنه ماضٍ في طريقه لا يرضخ ولا يكفُّ برغم كل النكبات.
لقد ثُرنا قبل كمبوديا وفيتنام، ثُرنا حتى قبل روسيا والصين وكوريا والهند، كُنَّا روادًا للثورات.
ورغم بعض الخيانات فتاريخنا الكفاحي ناصع البياض.
ولقد كانت ثورة ٢٣ يوليو بكل ما حمَّلناها من أمانيٍّ وأحلام، بكل ما آزرناها به من قوة وعزم وإصرار؛ محاولتنا الثانية الكبرى خلال نصف قرن واحد للخروج من زنازين العبودية إلى وديان الأحرار.
لقد خلقت الرأسمالية عقولها المفكِّرة وإنسانها المستقلَّ الذكي، ولقد فعلت هذا بما يمكن أن نسميه ثورتها الثقافية الحضارية. إن النظام البرلماني الليبرالي الإنجليزي مثلًا ليس من قبيل الأناقة الحضارية والوجاهة، إنه نظامٌ نابع أساسًا من احتياجات الرأسمالية الإنجليزية، ووسيلةٌ ذكية لإشعار العامل المستغَلِّ بأنه حرٌّ، وبأن له رأيًا، وبأن رأيه مُحترَم؛ وذلك للظفر منه بأقصى مجهود خلَّاق يخدم في النهاية مصالح السادة الرأسماليين.
ولقد خلقت الثورة الاشتراكية إنسانها الجديد؛ ذلك المؤمن بأن مصالحه الشخصية مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بمصلحة مجتمعه ككلٍّ، وأن الخير حين يعود يعود على الجميع، والخسارة حين تحلُّ تحلُّ بالجميع. حققت الاشتراكية بالثورة الثقافية الاشتراكية وجودًا حقيقيًّا لإنسانٍ جديد هو الذي يخترع الآن ويبتكر ويعمل، ونقل وينقل دولًا مثل بلغاريا والمجر وبولندا — ولا أقول الاتحاد السوفييتي والصين — من عصر المحراث إلى عصر الكمبيوتر في المزرعة التعاونية.
ونحن، حقيقة، قد أنجزنا الكثير في مجال إنشاء الصناعات وبناء القوات المسلحة والخدمات والتعليم.
ولكن …
هل غيَّرنا عقل هذا الإنسان الذي يبني ويصنع ويقوم بهذا كله؟
هل سلَّحناه بالوعي وعيون العصر والقدرة على فهم ما حدث له وما يمكن أن يحدث؟
هل قمنا بالركن الثالث الخطير لأي ثورة؟ هل قمنا فعلًا بثورةٍ ثقافيةٍ مصرية نقلت أفكارنا من حيث كُنَّا إلى حيث يجب أن نكون؟
إن المدفع لا يحارب وحده، الذي يحارب هو الإنسان.
والميكروسكوب لا يكتشف وحده، وراء الميكروسكوب عين العالم، ووراء العين عقلٌ علمي.
والشعب لا يكون شعبًا إذا لم يجمعه على الأقل هدفٌ واحد أو نقطةٌ واحدة يؤمن بها ويلتفُّ حولها ويموت ويضحِّي من أجلها.
إننا إمَّا أن نستمرَّ في التحوصل على أنفسنا والتقوقع والانغلاق، ونفعل مثلما فعل العلماء الملتفُّون بالشيخ الشرقاوي لدى قدوم جيش نابليون حين كانت مشكلتهم في مواجهة هذا الجيش هي إعراب كلمة «بونابرته» وكيف تُكتَب في الخطاب الذي يوجهونه له؟
وإمَّا أن ننفتح انفتاحًا كليًّا على العالم ونترك وعي غيرنا هو الذي يسود ويتحكم، والحضارة تدخل بلادنا من الغرب والشرق والشمال والجنوب «سداح مداح». باختصار نستسلم ونغيب نحن عن الوعي بشرقه وغربه، ونترك الأفكار والثقافة.
وإمَّا …
وإمَّا أن نختار الطريق الوحيد الجدير بالأحياء.