كاتب بلاد الغنى والضياع
كنتُ قد وصلتُ في نقاش مع آرثر ميللر إلى نقطةٍ دقيقة وحرجة في حياة كل كاتب. إن الكاتب أو الفنان — في نواحٍ كثيرةٍ منه — ظاهرةٌ فردية متمرِّدة. وفي أمريكا يسمُّون الحكومة والشركات الكبرى والكوربوريشنز، يسمُّونها «المؤسسة»، أو ذلك الأسمنت المسلَّح المبنية فوقه «الدولة» برجالها الكبار وشيوخها وأجهزتها وأنظمتها. والمؤسسة كانت شيئًا مرفوضًا تمامًا من الشباب بالذات، وكانوا يسمُّون من يعمل بها أو من «تحتويه» بأنه «خان» المبادئ، أية مبادئ؟ لا أحد يعرف بالضبط؛ فاليساريُّون قليلون جِدًّا، والشيوعيون أقل، ولكن «التمرُّد» كثير، وما حركة الهيبز والبيتلز، وإلى حدٍّ ما حركة التحرر النسائية — حتى التحرر من الرجل والاستغناء عنه بالمرة جنسيًّا أيضًا — كل هذا كان يمثل ظاهرة التمرد ضد المؤسسة، تلك التي بلغت أشدَّها في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، والآن آبت إلى نوع من الهدوء ربما سببه انفجار بركان تمرُّدي زنجي آخر. الآن زنوج أمريكا لم يعودوا هم هؤلاء الوادعون المستنجدون بالله وبالدعوات وبمارتن لوثر كنج والمسيحية في طيبتها وتسامحها ليردُّوا على قسوة البيض والكلوكس كلان والاحتقار الكامن لدى الرجل الأبيض. الآن عنفًا بعنفٍ أشدَّ يردون، بل أحيانًا بإجرامٍ رهيب يردُّون.
ولكن التمرد ضد «المؤسسة» — وإن كان قد آب إلى نوع من الاعتدال — لا يزال قائمًا موجودًا، وآرثر ميللر نشأ في ظل هذا التمرُّد، وكانت مسرحياته الأولى مسرحيات تمردٍ كبير، هو تمرد «الرجل العادي» ضد «المؤسسة»، وما تؤدي إليه المؤسسة الاجتماعية السياسية من مآسٍ حتى على المستوى الفردي. فماذا حدث لهذا «الذئب العجوز» الآن؟ تَهادَن؟ هل تولَّت المؤسسة — بما أفاضته عليه من مجد ومال وشهرة وقامة هائلة الطول في مجتمعه — عملية «تطويعه» أو على الأقل «تهجينه»؟
وعُدت إلى النقاش.
– مستر ميللر، تقول إن هناك حرية أكثر الآن في أمريكا، ولكن نفوذ المؤسسات — بالطبع يقصد «المؤسسة» — يتعاظم هو الآخر؛ وهذه هي المشكلة، أليس كذلك؟
ميللر: بالضبط هذه هي المشكلة؛ إن من الصعب تمامًا على المواطن الآن أن يكون مستقلًّا تمامًا عن هذه المؤسسات مثلما كان باستطاعته أن يفعل في السنين التي مضت. الآن هم يتحكَّمون أكثر، ولكن في أوجهٍ كثيرة قد تحرَّر أكثر.
قاطعتُه قائلًا وقد بدأتُ أحسُّ أنه صار ديبلوماسيًّا.
– بصراحة بالنسبة لعنصر الالتزام، أعتقد أنك لا تزال ملتزمًا، على الأقل بالنسبة للبشرية ككل، أو أنك لا تزال ملتزمًا بقضايا الشعب الأمريكي؟
ميللر: نعم.
– ولكنك تقول: إن الأعداء في الماضي كانوا واضحين جِدًّا، أمَّا الآن فمن الصعب تحديدهم.
ميللر: إن عندنا موجة من اليأس في الغرب. إن الكتابة لا معنى لها ولا فائدة، وكأن ليس هناك فائدة أو أمل. وأعتقد شخصيًّا أن هذا صحيح إلى حدٍّ ما، ولكني لا أستطيع قبوله؛ ولهذا فلا بُدَّ لي أن أفحص الإنسان لأجد أين تكمن قدرته على المقاومة — المقاومة الحيوية — وهذه معجزة. إن الجنس البشري لا يزال يصرُّ على أن يعيش، وغزل هذه المعجزة ومعرفتها مسألة هامَّة.
– لكي نعود إلى قضية المسرح، عندي إحساس أن المسرح في العالم يموت الآن، فهذه الآلات التي ذكرتها تلتهم المسرح من دراما وصورة وموسيقى، ولكنها في نفس الوقت تلتهم المسرح كروح وكجمهور حاضر وما أسميه أنا بلغتي تقتل «التمسرح».
ميللر: هذه زوجي إنجي، هذا يوسف إدريس، وهذا أدونيس. اجلسي يا إنجي.
إنجي: أنا فقط أردتُ أن أعرف.
ميللر: لماذا لا تجلسين؟ إنجي قضت وقتًا طويلًا في الشرق الأوسط. إنها تعمل كمصوِّرة صحفية.
– يسعدني جِدًّا أن أدعوكِ ومستر ميللر لزيارة مصر.
إنجي: أنا مستعدة للذهاب فورًا.
ميللر: كي نعود إلى النقطة التي أثرتُها، فإني أقول لك إني حين بدأت الكتابة للمسرح لم يكن هناك مسرح خارج نيويورك، وكان بالضبط مسرح بردواي المحترف التجاري، وكانت هناك روايات أكثر مما هو موجود الآن. وهكذا كان على الكاتب المبتدئ أن يبتدئ محترفًا مباشرةً. الآن هناك مسارح في كل مكان ولكن عدد المسرحيات أقل، غير أن هناك أماكن كثيرة لعرضها. هناك مسرحيات محترفين أقل، ولكن هناك مسارح هواة كثيرة في شيكاجو ولوس أنجلوس وسانت لويس.
– إني أتكلم عن المسرح في العالم في الحقيقة، فهناك عدد أقل من كتاب المسرح.
كان المسرح هو وسيلة التعبير في العشرينيات والثلاثينيات، ولكن هذه الآلات الجهنمية كما ذكرت قد استنفدت مواهب مسرحية «وتلفزتها» أو «سنمتها»، في الماضي كان هناك المسرح فقط.
ميللر: هذا هو الحادث فعلًا. ولكن بالنسبة لي شخصيًّا فإن استمراري كمسرحيٍّ راجعٌ إلى أني أحب المسرح بالدرجة الأولى، ولكن بالإضافة لهذا فإنه في النهاية أبسط وسائل التعبير. لا يوجد ماكينات؛ هناك الكاتب، والممثل، والجمهور، وهذا كل شيء. أعتقد أن هذا شيء لا بُدَّ من المحافظة عليه وهو مناسب جِدًّا لمجتمعات الطلبة والهواة الذين لا يملكون نقودًا لشراء آلات أو استديوهات. إن خبرتي أن المسرح حين يحتوي موضوعًا هامًّا يجذب جمهورًا كبيرًا جِدًّا.
– هذا يقودنا إلى مشكلة المسرح الطليعي والتجريبي. أتعتقد أن هذه التجارب الجديدة تقتل روح المسرح الحقيقي أم تنشطه؟
ميللر: الاثنان! أنا أكره أن أعطيك إجابةً بسيطة، ولكن لا توجد إجابةٌ بسيطة. أنا أعتقد أن الدراما العظيمة جاءت في الأجواء الديمقراطية العظمى في حياة الحضارة مثل الإغريق القديمة وعصر إليزابيث في إنجلترا؛ كان المسرح آنذاك لجميع الناس ولم يكن للمثقفين والمتعلمين فقط، لم يكن للأغنياء والبورجوازيين فقط، كان هناك الفلاح واللورد وكل الناس. والمسرح الطليعي مشكلته أنه يبدأ بفكرة لا تخاطب إلا «الخلاصة» فقط. وهذا شيء يُسيء لفنِّ المسرح. السبب أن الكاتب الفنان لا يصارع كثيرًا ليجعل فكرته المجرَّدة تلك ومشاعره المعقَّدة بسيطة إلى درجة يفهمها الناس أجمعون. إن أعظم مشاهد شكسبير في حقيقتها بسيطة إلى درجةٍ غريبة. إنها تعالج مشكلة إنسان هجر الآخر، أو إنسان يريد أن ينتقم من الآخر، أو شخص طموح، شخص خائف، شخص سعيد. في النهاية موقفٌ بسيط جِدًّا والناس بسطاء. وحين تصل بالطليعة إلى المراحل المجرَّدة في السلوك الإنساني تختل ولا يستطيع أحد أن يتعرف على الشخصية أو الموقف بسهولة، ويصبح حينئذٍ الموقف المسرحي لغزًا قد يكون مثيرًا لهؤلاء الشغوفين بحل الألغاز، ولكنه ليس مُثيرًا بالنسبة إلى الجمهور البسيط العام. إن دور الفنان ليس أن يُعقِّد الأشياء المعقَّدة، وهذا صعب، ولكنه يأخذ جُهدًا خارقًا وموهبةً فذَّةً وإيمانًا كبيرًا أيضًا بصراع الفنان مع نفسه لتجسيد القيم والأفكار المجرَّدة وتحويلها إلى الحقائق الإنسانية البسيطة.
– ولكنك كنتَ طليعيًّا بطريقتك الخاصة، فكيف تُفسِّر موقفك الآن من الطليعة؟
ميللر: أعتقد أن الطليعة هي أن تفهم هذه «الكارثة» الكبرى، الطليعية.
– وما رأيك في التكنيك المسرحي الذي استخدمته في مسرحيتك الجديدة «سقف الباب»؟ هل تعمدتَ تكنيكًا خاصًّا أم أنك تركتَ نفسك لسجيَّتها؟
ميللر: إن التكنيك بالنسبة إليَّ لا يأتي من المسرح أو النقاد، ولكنه يأتي من طبيعة «الجنة السرية» التي تحاول الوصول إليها في هذه المسرحية أو تلك؛ ولهذا فمسرحياتي مختلفة الشكل والتكنيك؛ لأن «الجنة السرية» في كلٍّ منها مختلفة. المسرحية الجديدة مثلًا «سقف الباب» مختلفة؛ فقد كنت أحاول فيها أن أعثر على هذا الصوت الخفي للجنَّة السرية الخاصة بها، وهذا يتطلب منك أحيانًا أن تكون تجريديًّا تمامًا، وأحيانًا أخرى يتطلَّب منك أن تكون واقعيًّا جِدًّا. ولماذا لا؟ خلال مائة عام من الآن إذا كان المسرح لا يزال قائمًا وموجودًا، فإنهم حين يمثلون مسرحية فإنهم سيفعلون هذا لأنها «ستتحدث» إليهم، حتى في ذلك العصر القادم البعيد. إن بعض مسرحياتي عمرها ٢٥ سنة، وهذا ربع قرن، أي زمن طويل، ومع هذا فهي لا تزال تُمثَّل، ربما الناس قد نسوا تمامًا أن «وفاة بائع متجول» قد كُتبت بطريقةٍ جديدة، ولكنهم فيما أعتقد يقدِّمونها لأنها لا تزال تقول لهم شيئًا. إنها لم تخترع جديدًا، فلست إديسون أو جراهام بل، ولكنها اخترعت شيئًا فيما أعتقد.
– ربما لما حوته من موضوعٍ جديد فيما أعتقد.
ميللر: ولكن التكنيك أيضًا كان جديدًا. ألستَ معي؟
– لماذا درج الكتاب الشبان على إهمال الالتزام تمامًا هنا؟ ماذا حدث؟
ميللر: لأن كل ما كانوا ملتزمين به قد «انفجر».
كل ما كانوا ملتزمين به قد دخلته المساومة بطريقة أو بأخرى. أنا أعتقد أن هذا ليس التزامًا أو عدم التزام. أعتقد أنه عدم فهم حقيقي لدورهم ككتاب.
– إذن يا عزيزي مستر ميللر، أنت توقع نفسك في تناقض الآن.
ميللر: ربما، على العموم الرؤية لا تبدو واضحة تمامًا. في الأدب الأمريكي الإنجليزي هناك انفصال بين الحياة السياسية والاقتصادية والفنية، وكأن لا شيء يمتُّ إلى الآخر؛ ولهذا حين يعالج الكتاب موقفًا سياسيًّا فهم يشكُّون في أنه لا يقول الحقيقة، مع أن الناس طول الوقت غارقون لآذانهم في السياسة والاقتصاد.
– ألا تعتقد أن هذا سببه أن الكتاب أنفسهم لم يقوموا بدورهم كما يجب؟ أي لم يعمقوا إحساس الناس بما فيه الكفاية إلى درجة أن يدركوا صلتهم بالأوضاع السياسية والاقتصادية والعلمية والتربوية؟ لم يقوموا بدور القيادة كما ينبغي؛ ولهذا لم يتجاوب الناس معهم بما فيه الكفاية.
ميللر: هذا يعتمد على أين تربَّى الكاتب. حين كنت ناشئًا كانت هناك أزمة أمريكية اقتصادية كبرى، وكان السؤال هو: هل تصبح أمريكا فاشية أم اشتراكية أم بين بين؟ وكان لا بُدَّ من الاختيار فورًا. ولكن الآن هذا التحديد لم يعد قاطعًا. لقد سار النظام بدون حاجة إلى اختبارات راديكالية. عندنا نسبة بطالة ١٥٪ هذا صحيح، ولكنهم هادئون.
– ألا تعتقد أنه لا تزال هناك مأساة أمريكية في حياة الولايات المتحدة الآن؟
ميللر: بالطبع.
– ما هي؟
ميللر: الضياع. ضياع الوقت، ضياع الناس، ضياع الحياة في القلق، ضياع العقاقير، ضياع القدرة … هذه مأساة. وأحيانًا تجد أفرادًا يدركون هذا، مدمنو العقاقير يُدرِكون هذا ولكنهم لا يستطيعون شيئًا.
– أتعتقد أن هذا نتيجة لدراما شخصية أو هو نتيجة لأوضاع عامة؟
ميللر: أعتقد أن هذا سببه أنه لا توجد أهداف عُليا موحَّدة للمجتمع الأمريكي. هناك مثلًا إحساس أنهم ضد الحرب وضد الكوارث الاقتصادية، ولكنهم ليسوا «مع» أهداف عليا محددة.
وكنت أريد أن أسأله كيف ولماذا تزوجته مارلين مونرو؟ ولكن زوجته كانت موجودة، وكان اليوم عيد ميلادها، ولم أشأ أو نشأ أن نكون قليلي الذوق. كل ما في الأمر أنني أحسستُ أن مارلين اختارت هذا الرجل بالذات لأنه يعطي الإحساس الغريب بالأب أو بالأخ الأكبر الفرح المثقف الذي يمكن الاعتماد عليه والثقة به، وأنه رجل. ولقد كانت مارلين مونرو امرأةً حقًّا.