عن كامل الشناوي
حين صدر ديوان «لا تكذبي» اتصل بي صديق العمر المرحوم كامل الشناوي وأخبرني أن لي نسخة عنده عليها إهداؤه، ورجاني أن أمرَّ عليه؛ لنشرب القهوة ونتحدث وآخذ الديوان. ونحن أحيانًا نتصرف بغرابة لا نعرف مصدرها؛ فديوان «لا تكذبي» لم يكن مجرد ديوان، ولكنه كان ثمرة لجهودٍ متصلةٍ طويلة بَذَلها كل أصدقاء كامل الشناوي ليحملوه على جمع شعره لتضمه دفتا كتاب. وكنت شخصيًّا شديد الحماس للفكرة، ما من مرة قابلتُ كامل الشناوي فيها إلا وذكَّرته بها، وما من مرة أوصلته إلى بيته قرب الفجر أو قرب الصباح إلا وطلبت منه — كرجاءٍ أخير — أن يفكِّر جديًّا في إصدار الديوان، ولم يكن يوافقني في بعض الأحيان إلا تخلُّصًا من إلحاحي؛ فقد كان يعارض دائمًا فكرة أن يصدر كتابًا أو يكون له كتاب، رغم أنه في حياته الأدبية والصحفية كتب أشعارًا ومقالاتٍ وأحاديثَ وخواطرَ لو جُمعت لكسب الأدب العربي أربعة أو خمسة كتب هي من خير ما كُتب في النثر أو الشعر العربي.
كان يعارض لأنه كان — من فرط تواضعه أو طموحه — يعتقد أن أعماله غير جديرة بوضعها في كتاب؛ فالكتاب في رأيه لم يكن مجرد أن تصدر كتابًا مثلما يفعل مئات محترفي وهواة إصدار الكتب. الكتاب في رأيه كان شيئًا مُقدَّسًا يذكرك بالكتب التي غيرت من مجرى التاريخ وصنعت تقدم الإنسان. الكتاب عنده كان مرادفًا للرسالة الكبرى، للاختراع الخطير، أو لاكتشاف قانون من قوانين العلم أو الحضارة.
باختصار كان يرى أن الكتاب هو الشيء الذي لا يمكن أن تظلَّ نفس الشخص بعد قراءته، إنما لا بُدَّ باستيعابه أن تتغير وتؤمن بشيء لم تكن مؤمنًا به أو تكفر بشيء كنتَ شديد التعلُّق به والإيمان. وكان يسأل: أتعتقد أن مجموعة أشعاري لو صدرت يمكن أن تكون ذلك الكتاب؟ وكنت أعارضه بقولي إن طموحه هذا شيءٌ جميل ولكنه ضد المنطق وضد الحياة، فالحياة أبدًا لا تتطور بالطفرة، إنما التطور يأتي بالتدريج الشديد، وحتى أصحاب الاكتشافات العلمية لا تأتي اكتشافاتهم أو قوانينهم طفرة. إن العالم مجرد إنسانٍ فذٍّ في طابورٍ طويل ساهم كل منتظم فيه بإضافةٍ صغيرة تمهد الطريق لمن يتلوه كي يضيف هو الآخر إضافةً أخرى صغيرة، وهكذا، وبتراكم هذه الإضافات ينشأ القانون وتتغير النظرة ويتطور الإنسان. وليس المطلوب من أي كتاب إلا أن يغير ليس إيمانك أو رأيك كله، وإنما جزءًا صغيرًا من الرأي أو الإيمان، تكفي أحيانًا نقطة واحدة تتغير في وجهة نظرك ليكون الكتاب قد أدَّى رسالته على الوجه الأكمل. ونشر أشعاره أو إنتاجه النثري في كتاب أو في كتب لا يزعم أحد أنه سيُغيِّر بين يوم وليلة من مفهوم الناس كليةً، وإنما يكفي أن يتيح لهم فرصة تذوق شعره أو استيعاب آرائه ومعايشة فلسفته، فكامل الشناوي كان إنسانًا متكاملًا، وظاهرة وإن كانت متعددة الجوانب إلا أن كل جانب يضيف إلى الآخر بحيث نجد أنفسنا في النهاية ليس أمام شخص وإنما في الحقيقة أمام موقف شناوي أصيل من الحياة. لا لم تكن له فلسفة عمر الخيام وإن حفلت بها روحه، ولم يكن له تشاؤم المعري وإن استعارها بعض الأحيان، ولا وجوديًّا يعيش اللحظة بلحظتها ولا مركسيًّا يؤمن بحتمية التطور إلى الأعلى والأحسن، كان مزيجًا غريبًا من هذا كله، بحيث حين تقرؤه تحسُّ أنه أكثر المتشائمين تفاؤلًا وأشد الخياميين والمعريين زهدًا في الحياة، الواقف من حتمية التطور إلى الأرقى والأحسن موقف الشاك المتشائم، ذلك المؤمن بالحياة إلى درجة اليأس الكامل منها.
نعود إلى «لا تكذبي»، فبرغم حماسي للديوان ولحصولي عليه في النهاية وبموافقته، إلا أني لم أذهب في اليوم التالي لآخذه كما اتفقنا. لا، ولا في اليوم الذي بعده، وظلت النسخة المهداة إليَّ والموضوعة في ظرفٍ مكتوب عليه اسمي بخط يده حتى فوجئت بابن أخيه الشاب فاروق الذي كان يقطن معه في أعوامه الأخيرة يحمل لي المظروف بعد شهر من الوفاة وقد وجده بين أوراقه. ولكم أن تتصوَّروا مبلغ فجيعتي وأنا أقرأ اسمي بخطه، ثُمَّ وأنا أفتح المظروف وأجد كلماته الرقيقة الحنونة الأنيقة موجَّهة إليَّ تحمل — إلى جانب ما كان يسبغه علينا دائمًا من ألقاب عطف وتشجيع — ذلك التعبير الذي احترتُ في تفسيره «إلى الواهب الموهوب.» لكُم أن تتصوروا مبلغ إحساسي به ويده الأبوية الأخوية الحبيبة تمتد من وراء القبر وعالم النهاية وتحمل إليَّ إهداءه كالتحية الحية الطازجة، وتحمل سؤال الطفل الكبير أمام الوجود الأصم المارد.
سؤال وكأنه به يقرأ من كتابٍ مفتوح، ويعرف أنه في أيام صدور ديوانه كانت حقيقة صحوة الموت، وصدقًا كانت غفوة الحياة، ولكنها الغفوة التي لا صحوة منها.
في ذكراه التي اقتربت ها أنا ذا أعود إلى مطالعة ديوانه، إلى ذلك الجزء الذي بقيَ وسيبقى حيًّا من كامل الشناوي، أعود وثمة خاطرٌ قويٌّ يلحُّ عليَّ ولا يهيب بي وحدي وإنما بكل الكامليين الشناويين، وما أكثرهم! أن نتيح الحياة لأكبر قدر من كامل الشناوي، ألَّا نجعله يموت مرتَين، ميتة ربه مرة وميتتنا نحن مرةً أخرى، نتكاسل عن جمع أعماله، ومعظمها يتشرف باحتوائه أي كتاب، ونصدرها لنجعله يعيش مرتين، مرة فينا، وفي كل مِنَّا جزء حي وخالد من كامل الشناوي، ومرة في كتبه كي نقرأها وتحياها الأجيال الحاضرة والقادمة. إن لكامل الشناوي في رقاب أصدقائه ديونًا لا تُعد، وألف يدٍ بيضاء له لا بد أنها تؤرق مئات الضمائر، فلنصنع شيئًا ليس لضمائرنا كي تستريح، ولا حتى لكامل الشناوي كي يخلد، وإنما للأدب العربي نفسه، للتاريخ الذي سيحاسبنا — لو ضيعنا آثاره — حسابًا عسيرًا.