الانفتاح إلى الداخل أيضًا
كانت السينما هي حدث الأسبوع الماضي دون شك، حدث ولا أقول حديثًا؛ فالحديث عن السينما في صحفنا ومجلاتنا لا ينقطع، بل هو — إذا أُضيفت الإذاعة والتليفزيون — يكاد يكون المادة الطاغية على كل حديث. بل جاء عليَّ وقت أحسست فيه شخصيًّا أن الهدف الثقافي العام لمجتمعنا أصبح مقرره الوحيد هو مادة السينما والتمثيل والإخراج والماكياج والديكور والمونتاج، لدرجة أني كنت أتابع برنامجًا هامًّا جِدًّا لا بُدَّ أن تتابعوه؛ إذ لا أعتقد أن أحدًا يلتفت إليه التفاتًا ملحوظًا. وهو برنامج «الغلط فين» الذي يُذاع يوم الجمعة. وأنا لا أتابعه لأنه برنامج طريف فقط، وإنما لأنه ترمومتر خطير جِدًّا للمستوى الثقافي العام، لا للشعب قاطبة، وإنما للمتعلِّمين من هذا الشعب طلبة وطالبات، معاهد وجامعات، ومراكز بحوث وإحصاءات. المهم أن الخطأ يحدث في كل شيء وأي شيء إلا في الأشياء المتعلقة بالفن. لا خطأ في اسم ممثل أو ممثلة أو فيلم، لا خطأ في أي تعبير سينمائي أو مسرحية. تقريبًا هي والأمثال الشعبية تكاد تكون المادة الثقافية التي يشترك، لا أقول الشعب كله، ولكن حتى المتعلمون في معرفة أدق تفاصيلها. و«الغلط فين!» والمسئول عن هذا مَن وفين؟ والسبب ماذا؟ وفيه أشياء ليست موضوعنا الآن. فموضوعنا وإن كان السينما إلا أنه ليس السينما، عناوين أفلام وأسماء نجوم ومواصفات تمثيل وإخراج. كان الحديث عن السينما حديثًا عنها كصناعة، هذا شيء بلا شك رائع وجميل، بل الأروع أنه حديث عنها باعتبار أنها مقدمة أو عينة ﻟ «سياسة» الانفتاح الاقتصادي. كانت المسألة إذن قضيةً وطنية سياسية من الدرجة الأولى، أو هكذا كان يجب تناولها. لكن ضايقني تمامًا أولئك الذين أخذوا الموضوع مأخذًا شخصيًّا وصنعوا من قضيةٍ هامة وخطيرة مظاهرة سباب ضد وزير الثقافة عبد المنعم الصاوي. بالضبط كما ضايقني تمامًا موقف مجلس الشعب من الأمر بحيث خرجت علينا الجرائد بمنشتات تقول: مجلس الشعب يناصر عبد المنعم الصاوي في موقفه من السينما، وكأن المسألة كانت خناقة بين عبد المنعم الصاوي من ناحية وبين آخرين.
أنا شخصيًّا حين عرفت أن الموضوع مهما نشرته الجرائد يتعلق بمستقبل السينما في مصر، وباعتبار السينما وسيلة الثقافة الأولى لشعبنا، وباعتباري أمُتُّ بدرجةٍ ما إلى هذه الثقافة، ذهبت فعلًا إلى مجلس الشعب لأحضر الاجتماع الذي عقدته لجنة الثقافة والفنون بالمجلس، والحقيقة ذهبتُ غير مدعوٍّ، ذهبتُ وفي ذهني أني فقط سأستمع إلى ما سوف يُثار من مناقشات خاصة بالسينما، وليس في ذهني مُطلَقًا أنها مناقشاتٌ خاصة بقضيةٍ خاصة، بل بواقعة اتهام خاص.
مستمعًا ذهبت، ومستمعًا أصغيت إلى البيان الذي أدلى به الوزير عبد المنعم الصاوي، فإذا به بيان يرد فيه على ما دار في اجتماع أعضاء غرفة صناعة السينما حول واقعة بعينها، وهي اعتزام هيئة السينما تكوين شركة بينها وبين مستثمر مشترك (سعودي أمريكي)، شركة ضخمة برأسمال قدره ١٦٠ مليون جنيه سيكون لهيئة السينما فيها ٥١٪ من الأسهم، وسيقوم المستثمر السعودي بدفع ٤٩٪ من رأس المال. أمَّا كيف ستقوم الهيئة بدفع هذه اﻟ ٥١٪ من الأسهم وهي تشكو من العجز في ميزانيتها وعدم قدرتها على الصرف على دور عرضها واستديوهاتها، فسيتم هذا بأن تبيع الهيئة للمستثمر أو بمعنًى أدق للشركة الجديدة المزمع تكوينها أربع دور عرض هي ميامي وديانا ومتربول وفريال في الإسكندرية واستديو الأهرام في الجيزة، قدرت أثمانها بأربعة ملايين من الجنيهات في مقابل أربعة ملايين أخرى من المال السائل يقوم المستثمر بدفعها. وبهذا تبدأ الشركة عملها بثمانية ملايين جنيه على أن يتم استكمال رأس المال الباقي (١٦٠ مليونًا) باستغلال هذه الأماكن الاستراتيجية في إقامة دور عرض واستصدار قانونٍ جديد يبيح إقامة عمارات فوق دور العرض (إذ القانون الحالي يحرِّم إقامة مبانٍ فوق دور العروض السينمائية والمسرحية) ومن الربح الضخم الناتج عن إقامة هذه العمائر يتم استكمال رأس مال الشركة وتبدأ في إقامة دور عرض سينمائية (٤٠٠) في بقية أنحاء القطر المصري.
وهنا قامت قيامة أكثر من جهة، أولها غرفة صناعة السينما (أي اتحاد المنتجين السينمائيين المصريين)؛ إذ إن هذه الشركة المموِّلة لن تقوم فقط بإنشاء دور العرض، وإنما سيكون لها الحق في إنتاج وتمويل الأفلام السينمائية والتليفزيونية. وحيث إن رأسمال أكبر منتج في الغرفة لا يتعدى نصف المليون جنيه، فكيف ستواجه هذه الأسماك ذلك الحوت الهائل الذي من المحتَّم أنه سيبتلع الجميع؟
ومن الجميل في قيامة غرفة صناعة السينما أنها ربما لأول مرة تذكرت أنها صناعة وطنية خطيرة، أنها تملك التحكم في توجيه الفكر لا في مصر وحدها ولكن في العالم العربي كله، وأن المنتجين هم أصحاب المسئولية الأولى في المحافظة على الفكر الوطني الإبداعي. وهذا الأمر طبعًا نكتة، فتسعون في المائة من إنتاج هؤلاء السادة لا فكر فيه على الإطلاق، أو إذا كان فيه فكر مناهض ورجعي وشلل لطاقات الإنسان المصري والعربي على القوة والإبداع، وأظن أن الصراخ الذي يأتينا دويه من المصريين المقيمين في البلاد العربية خير دليل أن أكثر المنتجين غير قوامين بالمرة على أمر الفكر المصري أو العربي، وأنهم بالدرجة الأولى تُجَّار وطنيون، هذا صحيح، ولكن يتاجرون في مادة خطرة هي القصة والبطل والممثل في السينما العربية، وفقط أدركوا مدى خطورة ما تصنعه أيديهم حين جاء منافسٌ أكبر، من المحتم أنه لن يكون أكثر حرصًا على الفكر العربي منهم، ولكن المؤكد أنه سيكون أسخى وأغنى في تصنيع بضاعة وتغليفها وتسويقها. ومع هذا فهم أيضًا رأسماليون وطنيون إن اعتبرناهم تُجَّار سينما، بمعنى أنهم بالتأكيد يتجاوبون في النهاية مع النقد ويراعون الحرمات بعض الشيء، وأناس «على قدِّنا» نستطيع أن نؤثر فيهم ويؤثروا فينا، ولكن الشركات الكبرى في هوليود ونيويورك وأوروبا تصل بثرائها ونفوذها إلى أنها تصبح فوق أي نقد، بل هي التي «تصنع» النقد، وهي التي «تفكر» للناس، وهي التي «تخلق» نمط الحياة والسلوك وتجعل من الجواسيس ورجال المخابرات «أبطالًا» يصبح المثل الأعلى لكل شاب أن يحذو حذوهم. وإذا كُنَّا نحن في القاهرة نشكو من «النماذج» السيئة التي يُقدِّمها كثيرٌ من منتجينا السينمائيون، ونحاول قدر الطاقة أن نستبدلها بنماذج أخرى للإنسان أروع وأقوى، فهناك تبلغ الشركات بقدرتها الفائقة على إخفاء السُّمِّ في منتجاتها حدودًا تصل إلى نخاع المتفرِّج دون أن يملك الناقد مهما نقد أن يحول بينه وبين الاستسلام الكامل المطلق لما يرى. هناك «المؤسسة» هي الأقدر والأبشع والأذكى والأخبث والأكثر قدرةً على التلوُّن والتنكُّر، بحيث تضع أنت الناقد نفسه وربما وأنت لا تدري تجد نفسك تصفِّق لعمل كان عملك أنت نفسك، ويسخر من قدرتك على الاكتشاف أنت نفسك.
•••
حسنٌ جِدًّا، قامت غرفت السينما — المشكورة — بدورها الهام في التخوف التام من هذا القادم الصناعي الجديد، على هيئة الدفاع التام عن «الفكر» الوطني، والإشفاق على المواطن المصري من السم الزعاف الذي من الممكن أن تنفثه صناعة قتَّالة كصناعة السينما أو بالأصح صناعة العقول؛ قامت مشكورة بالرفض (٩ ضد واحد) ثُمَّ قامت مشكورة بالتخوف، ثُمَّ قامت مشكورة بالموافقة (١٠ ضد لا شيء)، خافت على الفكر المصري وصرخت: احذروا الذئب القادم، ثُمَّ هكذا وبأية قدرة لا أعرف اكتشفت أن المسألة لا ذئب فيها، أو أننا كلنا ذئاب وأولاد ذئاب أو مصيرنا أن نصبح كذلك، وأن كل شيء تمام وشكرًا يا سيادة الوزير على اهتمامك بصناعة السينما، والسلام عليكم ورحمة الله. هكذا قالت الغرفة، ثُمَّ من بعدها اللجنة، ثُمَّ جاء المجلس الأعلى؛ مجلس الشعب ليضع إمضاءه، وليصبح كل شيء تمام التمام. فهل كل شيء تمام التمام؟
•••
إن السيناريو كما رأيته وعايشته ضعيفٌ جِدًّا، ولو استحال إلى فيلم فسيسقط سقوطًا بشعًا ويكون كارثة على منتجيه. وكما تفعل وزارة الثقافة نفسها — رحمةً بالمنتجين — فتراجع السيناريو وهو لا يزال حبرًا على ورق، وتجيزه أو ترفضه أو تعدله قبل أن يصرف المنتج عليه دم قلبه ثُمَّ تصادره الرقابة، فكذلك نريد أن نفعل بموضوع السينما.
وقبل أن يغلق ملف الموافقة ليفتح ملف التنفيذ، فهناك أشياء هامة جِدًّا لا بُدَّ من قولها.
فأوَّلًا أنا ضد كل ما قيل تجريحًا في شخص الوزير ونقيب الصحفيين السابق، والكاتب الذي تابعته وتابعه معي الآلاف منذ أن كان يكتب في «المصري» ويحيا حياة الكفاف في لندن ليتعرف على أوروبا في بلادها ويثقف نفسه بنفسه وطنيًّا صادق الوطنية.
إن سياسة الانفتاح أساسها الفكر والاقتصاد وحتى السياسة، إننا أخذنا بها لتقوية الاقتصاد المصري بحيث نغري المستثمر الأجنبي بأرباح من عندنا أكثر مما يجده في أي بلدٍ آخر أو مشابه، بمعنى أنها سياسة لتدعيم الاقتصاد وليست سياسة «التعليم» (أقصد جعله عالميًّا). الاقتصاد المصري بعدما مصَّرناه، ومعنى أننا مصَّرناه أننا امتلكنا أصوله، والانفتاح جئنا به ليجعل هذه الأصول تعمل بأقصى طاقتها ويربح منها الأجنبي بأكثر مما يربح من أي بلدٍ آخر. ولكن أبدًا ليس على حساب «بيع» الأصول، كما كان الخديوي إسماعيل يفعل، يبيع سندات قناة السويس وغيرها ليسدد ديون مصر، وكانت النتيجة صندوق الدين واحتلال مصر نفسها بعد هذا. وأعتقد أن القائمين على سياسة الانفتاح والقائمين على أمر هيئة الاستثمار يعرفون هذا جَيِّدًا، ولديهم بالفعل مشروعات جاهزة ووافرة الأرباح لمن يشاء أن يربح، ولكن لا أعتقد أبدًا أن مشروعًا كهذا توافق عليه هيئة الاستثمار؛ لسببٍ بسيط هو أنه لا استثمار فيه بالمرة. فنحن كأفراد مصريين نستطيع أن نقوم بمشاريع كهذه بمنتهى البساطة. ولنأخذ مثلًا بسيطًا، أن سينما ميامي والمسرح المجاور لها مساحتها أربعة آلاف متر مربع في قلب القاهرة التجارية، لو بعناها حتى كأرض فضاء للمواطنين المصريين العاديين وتواضعنا جِدًّا وجعلنا المتر هناك بخمسمائة جنيه، لكان ثمنها اثنين مليون جنيه ثمن أرض فضاء فقط، ولو أنشأنا شركة مساهمة مصرية لبناء عمارة فوق هذه الأرض نجعل من بدرومها ودورها الأول أربع دور عرض فوقها عشرون دورًا كل دور يحتوي على الأقل على عشر شقق أو ربما عشرين، لوجدنا في أيدينا في ظرف لا يزيد عن عامين المائة والستين مليون جنيه رأس مال الشركة المفروض أنها ستنتج وتطور وتبني صناعة السينما في مصر. إن لدينا في مصر مكاتبَ وشركاتٍ وأشخاصًا يستطيعون أن يدفعوا فورًا ما يزيد على المائة مليون جنيه ليحظى كل منهم بشقة في شارع طلعت حرب في قلب العاصمة، فلماذا نشرك الغريب في شيءٍ نستطيعه نحن بكل بساطة ويعود علينا ربحه كله، ونموُّل بهذا الربح دور عرض تدرُّ ربحًا رهيبًا علينا، ونمصِّر بها صناعة السينما فعلًا؛ تلك التي سيتحكم فيها الموزع اللبناني الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، وهو بحقٍ إمبراطور الصناعة، وعلى بابه يقف جميع نجومنا ومنتجينا وغرفة سينمتنا بجلالة قدرها؟ إن ٦٠٠ دار عرض كفيلة بتمويل الصناعة السينمائية المصرية تمويلًا ذاتيًّا، بحث لا تخضع لذوق، أو يُفرَض عليها مواصفات تجعل المصريين في الخارج والداخل يلعنون أنفسهم من أجلها.
وكل هذا من بناء دار سينما واحدة.
فما بالك بديانا وفريال في الإسكندرية، وأربعة أفدنة في قلب شارع الهرم اسمها ستوديو الهرم، وكل هذا لأن «المستثمر» سيدفع مقدمًا اثنين مليون جنيه؟ إن المثل العربي يقول: «ما يحتاجه المنزل يحرم على الجامع.» معناه بالعربي الفصيح أن ما تستطيع أن تفعله أنت وحدك وبمنتهى البساطة وتعود فائدته لك يصبح من الجريمة أن تعهد به إلى آخر.
إذا كانت هيئة السينما في حاجة لتطوير نفسها لتصل إلى ما لم تصل إليه هوليود، فعليها فقط أن تطرح عملية بناء ميامي على المواطنين في مصر، السهم ذو العشرة جنيهات يصبح بعد خمس سنوات ثمنه مائة جنيه. فلتطرح الهيئة الفكرة والأسهم ولْترَ كيف ستمطر عليها السماء ذهبًا وبدون حاجة إلى مستثمر وبدون حاجة إلى مليمٍ واحد من الخارج.
أمَّا الانفتاح، فلنتركه لمشاريع تحتاج إلى الخبرة والتكنولوجيا، تحتاج إلى ما ينقصنا وما لا نستطيعه، ولتربح من ورائه ما تشاء، فحلال عليها ما دامت في النهاية ستئول إلينا.
•••
إنها مجرد فكرة، ولكني متأكد — رغم أني لست اقتصاديًّا — من صحتها، فالاقتصاد أوَّلًا تفكير معقول، أمَّا غير المعقول فهو ما يحدث الآن تحت شعار الانفتاح وباسمه. إن الانفتاح هو من أشد حاجاتنا القومية ومن ضرورات حياتنا، وقد تجاوب معه شعبنا ومع واضعه ومخططه الرئيس السادات تجاوبًا فاق كل تقدير؛ ذلك أن الشعب فهمه كما فهم القائد على هذا النحو القومي الوطني العظيم. وليس بالضرورة أن يكون الانفتاح بالخارج فقط وإلى الخارج، فهناك انفتاح قد يكون أكبر، ذلك هو الانفتاح إلى الداخل، واستخراج المدخرات القومية وتوظيفها؛ إذ لو فعلنا هذا، ولو بدأنا بأن نعرف كيف نستغل نحن بلادنا ومصادرنا لانهالت علينا المشاريع من الخارج. ذلك أن رأس المال لا يستخدم نفسه لتقديم الصدقات، إنما هو يلهث وراء من يعرف كيف يفكر ويربح، وكيف بذكائه يستطيع أن ينتج ويدرَّ معه وعليه الأرباح. إن رأس المال الأجنبي لا يقدم نفسه إلا للناجح، أمَّا إذا قدمه للغبي أو الفاشل فلا بُدَّ أن يفعل هذا ليسرقه.
وأنا لا أعتقد أبدًا أننا أغبياء أو فاشلون.