الخطة الجهنمية الجديدة١
من جولة في شرقنا العربي عُدت … من عشرة أيام عُدت، وقد كان مفروضًا أن أكتب انطباعاتي فور عودتي، ولكني لم أشأ هذا، فقد كانت تشغلني مشكلةٌ أهم من الكتابة بكثير؛ مشكلة أننا رغم كوننا أمةً عربيةً واحدة تكون لها — مع اختلافات غير أساسية — نفس الشخصية، بل والملامح الجسدية في أحيان. رغم هذا إلا أننا منذ وعينا حتى بكياننا هذا الواحد لا نفهم بعضنا، واحتراسًا أقول إلا فيما ندر. أمَّا قانوننا العام السائد فهو أننا أبدًا لا نفهم! لغتنا عربية ومشتركة ولساننا واحد، والأفكار الشائعة في عالمنا العربي تكاد تكون نفس الأفكار، إلا أن اللغة واللسان وأدياننا الواحدة وأفكارنا العامة المطروحة كلها معلَّقة هناك في سمائنا الواحدة كالسحابة، بعيدة دائمًا عن أرض الواقع، بعيدة عن الإنسان.
ومن أعسر بلادنا العربية قدرًا على عدم الفهم، هي قلب هذه الأمة، مصر، يحبونها ويحبون شعبها، والقاهرة حلم المسافر إذا أراد السفر، ولكننا بالمرة غير مفهومين.
ولا أعتقد أن السبب في عدم الفهم هذا راجع إلى الشعوب العربية الأخرى، بل هو راجع في الأصل وفي الأساس إلى كل شعبٍ على حدة. وهكذا فأعتقد أننا في مصر المسئولون الأُوَل عن أنه لا المشرق العربي ولا المغرب العربي ولا أي مكان يفهمنا، بل أحيانًا يُخيَّلُ لي أننا أنفسنا لا نفهم أنفسنا حق الفهم.
هكذا قضيت الأيام العشرة الماضية أفكِّر في تلك المشكلة المحيرة.
ذلك أنها — في رأيي — ليست مشكلة سوء فهم، أو سوء علاقات ناتجة عن سوء فهم، ولكنها تشكل الآن قضية الحياة أو الموت، ليس فقط لنا كمصريين وإنما كمصريين وعراقيين وفلسطينيين ولبنانيين وسعوديين وليبيين ومغاربة وجزائريين وسودانيين … إلخ.
وسأقول حالًا لماذا هي قضية حياة أو موت.
وبالذات أقولها لهذا النفر القليل من مفكرينا ومثقفينا وبعض قياداتنا الشعبية التي أصبحت تنادي بالعودة إلى المصرية بمعناها المحلي القديم، و«سيبونا» من هؤلاء «العرب» الذين «ودُّونا في داهية» … إلى آخر هذه النغمة.
هؤلاء الناس يجدون آذانًا صاغيةً كثيرةً، خاصة والمثل واضح أمامنا وصريح. دُخنا نحن في صراعٍ مريرٍ طويل من أجل القومية العربية، وخُضنا ضد إسرائيل أربع حروب، ومات مِنَّا مئات الآلاف، وأنفقنا عشرات الآلاف من ملايين الجنيهات، وتهدَّمت مُدنُنا، بينما النتيجة أن بلاد البترول العربية استفادت حتى من حرب أكتوبر المجيدة وتضاعف سعر بترولها، أي دخْلها من عام ١٩٥٢ إلى الآن ربما أكثر من عشر مرات، بينما الدخل عندنا نحن كان ينخفض، وأزمات المأكل والملبس والمواصلات تشتدُّ.
ولكي أكون صادقًا لا بُدَّ أن أقول إن هذا المثل ليس افتراءً على الوقع، بالعكس هو مائة بالمائة صحيح. بفضل هذه المعارك الذهبية المتصلة أعتقد أن العالم العربي الآن انقسم إلى دولٍ غنية ودولٍ فقيرة، دول تزداد غنًى ودول تزداد فقرًا.
ولكن المغالطة في المثل واضحة أيضًا، فنحن لم نحارب أصلًا للدفاع عن موارد البترول وحراسته، إنها كانت حروبًا موجهة ضدنا نحن، ضد مصر بالذات، ضد قائدة هذه الأمة الروحية والثقافية والحضارية، ضد القمة النامية المخيفة في المنطقة.
ولم تكن مجرد حروبٍ عسكرية وسياسية وتآمرية، ولكنها كانت وبالأساس حروبًا ثقافيةً واقتصاديةً. إن كل خبراء البترول في العالم يجمعون على أن في الصحراء المصرية الغربية والشرقية حقول بترول هائلة الضخامة، فجيولوجيًّا من المستحيل أن يمتد عرق البترول من الجزائر إلى ليبيا وبالضبط يتوقف عند حدودنا المصرية، ويستمر توقفه حتى حدود مصر الشرقية ليبدأ في البحر الأحمر والسعودية إلى العراق وإيران. لا يمكن علميًّا هذا إلا إذا كانت الجيولوجيا قد تآمرت مع الاحتكارات البترولية من قديم الأزل. الصحيح أو الأكثر صحة أن تكون الاحتكارات البترولية هي التي تآمرت ضد الجيولوجيا المصرية بالذات.
التاريخ يعيد نفسه
والمؤامرة قديمة وقد أصبحت معروفة. منذ أيام الاحتلال البريطاني وفكرة البحث عن البترول في مصر أو اكتشافه فكرةٌ مرفوضة تمامًا؛ فالإنجليز لم يحتلوا مصر عبثًا، ولم يستخلصوها من قبضة نابليون ومن أنياب الإمبراطورية العثمانية عبثًا أيضًا، بل ولا حتى لموقعها الجغرافي أو قنال السويس أو هذا كله.
الإنجليز واحتكارات البترول أدركت من زمنٍ بعيد أن المنطقة العربية — أو ما اصطلحوا تضليلًا على تسميته بالشرق الأوسط — يرقد تحت أرضه أعظم كنز عرفته البشرية في كل تاريخها ما مضى وما سيأتي، واكتشفوا أيضًا أنه بينما يرقد تحت الأرض هذا الكنز الخرافي الذي يساوي في قيمته كل صناعة أوروبا وزراعتها ومناجمها، تحيا فوق هذه الأرض شعوب كانت متخلفة تعيش في القرن السادس عشر.
وبعد الحرب كانت أوروبا هي الهدف الثانوي لأمريكا القوية المنتصرة الغنية، أمَّا هدفها الأساسي فقد كان هو انتزاع هذا الكنز المهول من أنياب الاستعمار القديم. بريطانيا كانت وسيلتُها للاحتلال الجيوش، والقوة عندها في الأساطيل والسيطرة على المضايق والتجارة. اكتشف الأمريكان أن العصر الجديد القادم هو عصر البترول، وعلى هذا يجب اقتلاع النفوذ البريطاني والفرنسي من المنطقة، وبالتأميم مرة ثُمَّ بالتدويل مرة، ثُمَّ باحتكار التوزيع، ثُمَّ بالانقلابات والاضطرابات، نجحت أمريكا أخيرًا في إعادة الفرنسيين إلى فرنسا والإنجليز إلى جزيرتهم، وتقريبًا «ملكت» أمريكا أهم مصادر البترول في كل العالم العربي.
ولكن هذا وحده لم يكن يكفي.
فإذا كان المنافسون الأوروبيون قد ذهبوا، فالمنطقة قد تطورت بسرعة وتهدد بتطورٍ أسرع، وكان نجاح ثورة ٢٣ يوليو واكتساب حق تأميم الممتلكات الأجنبية لحساب شعوب المنطقة؛ كان هذا تهديدًا أخطر بكثير من تهديد المنافسين السابقين.
وكان على أمريكا أن تؤكد وجودها وتؤمِّنه تأمينًا مباشرًا بإقامة دولة ترسانة تقوم بدور رجل البوليس المُهاب.
وتأمينًا غير مباشر بضرب مصدر الخطر الأكبر: مصر.
وأمريكا تعرف تمامًا أن مصر ليست ثلث العالم العربي، ولكنها الثلث الذي يملك من الإمكانيات المادية والبشرية والثقافية والحضارية ما يمكن أن يقود العرب ليس فقط لتأميم بترولهم ولكن حتى ليحتكروا هم إنتاجه ويحتكروا نقله وتوزيعه؛ ويعود إلى الشرق العربي ذلك المركز الخطير الذي كان يشغله في عالم الأمس؛ دولة حضارية كبرى تتحكم حتى في الحضارة الأوروبية بشقَّيها، بل وفي أمريكا نفسها.
ثُمَّ بدأ الضرب الساخن
وحين يكتب تاريخ ثورة ٢٣ يوليو الحقيقي، والمحاولات المذهلة التي بُذلت ضدها، سيدركون إلى أي مدًى لعبت هذه الثورة دورًا أصيلًا وبطوليًّا.
ولما فشلت هذه المحاولات، أصبحت إسرائيل فتى أمريكا المُدلَّل، وانهالت عليها المساعدات والخبرات.
إذ كانت الخطة هي سحق الثورة المصرية والجيش المصري سحقًا لا تقوم بعده لمصر الثورة أو مصر القائدة قائمة.
ومن ناحيةٍ أخرى بدأت خطةٌ موازية لعزل مصر عن العالم العربي وإغراق عبد الناصر في خلافات عربية تحول بينه وبين أن يتفرغ لبناء مصر الجيش والصناعة والتفوق، ونجحت الخطتان نجاحًا باهرًا.
تقطعت تقريبًا كل علاقات مصر العربية.
وجاءت حرب ٦٧ التي انتهت في أقل من يوم، فقد كانت في حقيقتها حربًا لاغتيال عبد الناصر شخصيًّا، وقد كان. وعبد الناصر لم يمت عام ١٩٧٠؛ لقد مات لحظة ما عرف أن كل طيرانه ضاع وجيشه تفكَّك. وجيش مصر يعني رأي مصر، فلا رأي لبلد لا جيش له. وقد كان مطلوبًا من الحرب ليس فقط أن تقتل عبد الناصر كَمدًا، وإنما أن تعريه من البطولة الأسطورية التي تكوَّنت لديه عند الشعب العربي قاطبةً وحتى عند غيره من الشعوب.
ولكن الحسابات والخطط ولعبة الأمم والكمبيوتر نسيت شيئًا واحدًا؛ أن عبد الناصر ورفاقه قاموا بتنفيذ ثورة ٢٣ يوليو، ولكن الثورة كانت ثورة الشعب، وأن عبد الناصر لم يكن يُحارِب لأنه طاغية، ولكنه كان يُحارِب لأنه زعيم مصري في قلبه كل ما في قلب أي مصر، والشعوب لا تستسلم.
وقامت الشعوب كلها في مصر وفي كل مكان ترفض ما حدث، وتُثبِّت الثورة. ولقد ظن الاستعمار أن المشكلة انحلت بوفاة عبد الناصر، وأن مصر هدأت وانهدمت وأمامها عشرات السنين لترفع القامة وتعتدل.
وجاء السادات
ونفس القصة تكررت مع الرئيس أنور السادات:
ونفس المفاجأة حدثت حين رأوا أن هذا الرجل الذي يبدو بسيطًا لا يملؤه الاعتداد الزائد بالنفس أو الغرور ولا يحلم بإمبراطوريات، رأوه هكذا فجأة يأمر الجيش المصري بعبور القناة واستعادة سيناء، وفي ساعات بشعبه والجيش ينجح ويصنع ما لم يصنعه حاكمٌ مصري، يهاجم ويسحق ويطرد الأعداء كما فعل أحمس وتحتمس.
لقد نسوا أن عبد الناصر فعل ما فعل لأنه كان تلميذًا للحركة الوطنية المصرية وابنًا لهذا الشعب، ونسوا أيضًا أن السادات حين جاء وضرب مركز القوة الإسرائيلية لم يكن أيضًا مجرد قائد، كان تلميذًا لمصر الوطنية وابنًا بارًّا شديد الإحساس بشعبه شديد الثقة في قدراته.
وهكذا كان لا بُدَّ أن يوقف عند حدٍّ؛ وجندت أمريكا كل قواها العسكرية والتكنولوجية والبشرية لتنقذ إسرائيل.
ووجدت أمريكا أنها لا بُدَّ أن تغير سياستها في الشرق الأوسط.
وتحرَّكت قوًى كثيرة في المنطقة تحاول أن تعطي هذا التحول أكثر من حجمه، وتحرَّكت قوًى كثيرة محاولة عزل مصر عن المنطقة حتى لا تعود أبدًا إلى سابق حضورها وقيادتها.
يأكل شعب؟ معقول، يرتدي ثيابًا غير بالية؟ معقول، أمَّا أن ينتج فكرًا ويشعَّ وعيًا ويقود الحضارة العربية المترامية الأطراف، فهذا هو بالضبط غير المسموح به.
فلتزدهر الأفكار الجديدة التقدمية في بيروت، أمَّا أن يعود إلى مصر فكرها المتقدم الذي خلقت به نفوذها الحضاري والسياسي، فهذا مستحيل.
حتى الصحافة المصرية … لتبقَ في حالة مونولوج داخليٍّ محدود بحدود مصر ولا يتعداها، ولْيبقَ حجمها دائمًا أقل من حجم صحف بيروت. ففي بيروت تستطيع أي دولة أن تصدر صحيفة تنطق بأفكارها هي، أمَّا في مصر فقد فشلت كل التجارب لخلق صحافة غير ناطقة باسم شعبها ومثقفيه، ولتُكَلْ لمصر الاتهامات الاستسلامية لتنهار مكانتها القيادية، ليشتتْ كل مثقفيها وأذكيائها في أركان المعمورة؛ فثروة مصر الحقيقية كانت في خبراتها وذكائها؛ ولهذا لا بُدَّ أن تُستنزف طاقتها الخلَّاقة حتى لا تعود قادرة على الخلق أو الطموح. وأمامنا الواقع واضحًا لا لبس فيه! في كل أسبوع يصدر في بيروت بالذات كتابٌ هائل الأهمية، مترجَمًا كان أو مؤلَّفًا، أروني كتابًا مصريًّا هامًّا صدر خلال العام الماضي بأكمله.
لتُقتل الثقافة المصرية قتلًا وئيدًا بطيئًا، وليُخنق الكُتَّاب المعروفون فيها خنقًا بحبالٍ من حرير، لتستمر صحافتنا في انكماشها، ولتستمر الأزمات المعيشية قائمة؛ فالمطلوب أن تظل مصر محنية الظهر أمام عالمٍ عربي وإن كان قد ظل يكنُّ لها الاحترام الكبير، إلا أنه في النهاية سينفض يده منها ومن الأمل فيها، وكأننا قد أصبحنا رجل العالم العربي المريض، بل لتشدد النعرات الإقليمية لدى كل قُطر، وليصبح لكل قطر قاهرته الأعظم، الأعظم بكثير مما آلت إليه قاهرتنا.
إن الرجل لا يموت إلا حين يضعف قلبه ويعجز عن جعل جسده ذلك الكائن الحي الواحد المتحد.
ولقد جربوا ضرب القلب — مصر من الخارج.
فكان الجسد العربي يزداد التصاقًا به وفناءً.
الخطة الجهنمية هي أن يُجعل الجسم نفسه يتمرد على القلب، الجسم الذي كبر واغتنى وامتلأ بالمثقفين والدارسين، كيف يمكن أن تكون ثقافته هي ثقافة القاهرة.
وإذا هبط القلب، ذلك القلب المتجانس الكبير، فالإجهاز على الأطراف يصبح مسألةً مفروغًا منها.
خناقة النشالين
إنني أعتقد أن الاحتكارات الأجنبية كانت تغذي الصراع العربي-الإسرائيلي باستمرار حتى لا يكفَّ لحظة، وحتى يتيح لها نشل ذلك الكنز الأعظم، بينما الرأي العام العربي كله مشغول بقضية إسرائيل. إنه نفس تكتيك النشالين حين يفتعلون خناقة مع راكب الأتوبيس ليسرقوا حافظة نقوده.
ولو استطعنا نحن كعرب، ليس فقط أن نحارب إسرائيل، وإنما أيضًا نُفشل مؤامرات التفريق بيننا ونتعلم، وبما نملكه من علم وثورة وثروة ستنتهي القضية العربية-الإسرائيلية؛ فهي كاللص الذي يعيث في البيت فسادًا لأن الخناقة بين أفراده قائمة على قدم وساق. وحين نكف عن الزعيق والسباب ومحاولات قلب بعضنا البعض، ونتجه فقط بوجوهنا إلى ذلك اللص، فإنه لن يستطيع البقاء بيننا لحظة، إمَّا أن يقفز من النافذة في الحال أو يموت رعبًا.
ولكن كيف تنتهي الخلافات؟
إن النوايا الحسنة لا تُنهيها، ولا مجرد الإحساس بقوميتنا وعروبتنا ينهيها؛ فهناك مولد نشيط لها لا يتوقف. إننا نظن أن بعض الخلافات بين الحكام العرب تأتي اعتباطًا، ولكن هذا التصور ساذج للغاية، فلا شيء في هذا الشرق العربي كله يحدث اعتباطًا أبدًا؛ كلها خطط مدروسة وموضوع لها البدائل، ولكن المسألة الآن مركَّزة في مصر.
إنهم يريدون القضاء على مصر الملهمة والحضارة والقائدة. إن الرأي العام العربي تقوده عواصم أخرى بعد أن أسكتنا نحن خلال زمنٍ طويل مفكرينا، وجعلنا من صحفنا مونولوجات محفوظة لا تُثير عند القارئ المصري أو العربي أي ضرورة أو إحساس بالتفكير.
حتى السياسة المصرية لا نشرحها لأنفسنا ولا للعالم، وكأننا نعتبر أنها يكفي أن تكون سياستنا ليتبناها الناس دون نقاش.
الانفتاح الاقتصادي يفسَّر على أنه عملية تصفية للثورة.
اهتمام مصر بحل مشاكلها الداخلية يُفسَّر على أنه تمهيد لحل مصري-إسرائيلي منفرد.
وأعود إلى هؤلاء الذين يريدوننا أن ننغلق على أنفسنا ويكفينا عروبة، فإن هذه دعوة ضد مصر أوَّلًا! إنها مثل العالِم الذي يقضي عشرين عامًا ليكتشف الدواء، ثُمَّ في لحظة اكتشافه يكفر بالدواء والعلم معًا.
إن هذا الدور البطولي الذي لعبته مصر وأخرجت به الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، ودخلت حربًا دفاعًا عن سوريا ضد حشودٍ مزعومة على حدودها، هؤلاء الشهداء الذين ماتوا، هذا العدد المخيف من المصريين الذين يُعلِّمون العرب ويعالجونهم ويخطِّطون لهم وينشئون دولهم التي لم تنشأ بعد؛ هذا كله استثمار بشري مادي ومعنوي، هذا كله الضريبة التي يدفعها الأب في أعظم سني شبابه، الضريبة التي دفعتها مصر طوال ربع قرن أو تزيد، وحين آن أوان عائدها حين يكبر أبناؤه ويبدءون يردُّون له ما فعل ينفض يده منهم قائلًا: لستم مني ولستُ منكم. إنه عبث وهراء ودعوة تقتلنا قتلًا؛ فمصر بنفسها في حاجة الآن للعرب مثلما كان العرب في وقت ما في حاجة إليها، في حاجة لرءوس الأموال، في حاجة إلى توظيف أبنائها واستغلال ذكائهم، في حاجة إلى سوق لبضائعها، في حاجة أن تجعل من حلم ثورة ٢٣ و١٥ مايو حقيقة.
ورقة أكتوبر
إن ورقة أكتوبر مكتوبة لنا نحن المصريين، وأنا معها على طول الخط. فهي أحلامي في مصر العظمى، وأن سياسة الرئيس السادات العربية تلقى استحسانًا كبيرًا من معظم الحكومات العربية؛ فقد كبرت الحكومات العربية، بل ينبغي أن يكون انفتاحًا على العالم العربي أجمع ولا نقاطع أي دولة عربية، فما من كاتب أو مسئول تناقشتُ معه إلا وكان مقتنعًا أن الاستعمار يريد أن يعيد اللعبة القديمة في إقامة المحاور العربية.
إن اللعب في المنطقة قائم على قدم وساق، والهدف إحالة مصر إلى دولةٍ عربية من الدرجة الثانية، بينما مصر لا تزال هي مصر، هي كعبة الأمة. وليس ضروريًّا في هذه المرحلة بالذات أن يكون الانسجام السياسي على أشدِّه، فليكن لكل حاكم أو حكومة رأيه أو موقفه، وإنما الذي لا يجب أن يحدث أبدًا هو أن تبدأ السياسة بقطع العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية مثلما كان خطؤنا الأكبر أيام فكرة القومية العربية؛ لنضعْ سياسة اقتصادية ثابتة، لنعطِ فيها ونأخذ.
إننا كما نريد أن ننفتح على العالم أجمع، على أمريكا وعلى روسيا وعلى أفريقيا حتى، مهما اختلفت نظم الحكم في تلك البلاد ومهما كان رأينا فيها، من باب أَولى أن ننفتح على إخوتنا وأشقائنا وكلهم وبلا استثناء. إنها بلاد تغيرت ونشطت ودبت الدماء في عروقها، ولكنها دائمًا وأبدًا تنظر لنا باحترام، ودائمًا وأبدًا تعتقد أن القضاء على مصر هو قضاءٌ مؤجل عليها، وتريدنا أن نقف على أرجلنا ليس فقط لأننا قلبها وروحها، ولكن حتى لمصلحتها الذاتية، ودفاعًا عن نفسها هي.
عشرون عامًا ونحن نكافح عربيًّا، حتى ولو بطريقةٍ خاطئة أحيانًا. أعتقد أنه آن الأوان لنجني ثمار هذا الكفاح، ولتفشل المؤامرة التي تعدُّ ومنذ الآن لإحلال الصراع العربي-العربي، مكان الصراع العربي-الإسرائيلي، وهذه في رأيي خطة أذكى وأكثر تطورًا.
والخلافات «الأيديولوجية» هي رأس الرمح في إبقاء هذه الشعوب بعيدًا عن التفكير في أنها تملك هذا الكنز فعلًا، بينما شعوبها لا تزال من أفقر شعوب الأرض.
أهي صدفة؟
إننا في حاجة إلى ورقة أكتوبر أخرى نخاطب بها الرأي العام العربي ولا ندافع عن أنفسنا أو سياستنا، وإنما نشرح وجهة نظرنا، تلك التي لا يزال البعض لا يفهمها تمامًا.
وإذا كانت ورقة أكتوبر قد جاءت لتعيد للطموح المصري بعض ما فقده، فنحن في حاجةٍ أمس إلى خطوات أخرى إيجابية، في حاجة إلى وجوهٍ ثوريةٍ حقيقية تخاطب ثوار المنطقة الذين أصبحوا هم القوة الفعالة، في حاجة لنعيد للفكر المصري وللكاتب المصري وللصحيفة المصرية دورها الذي يتعاونون على خنقه. لسنا فقط في حاجة لانفتاح اقتصادي تحضر إلينا فيه الرساميل، ولكننا في حاجة لانفتاحٍ معاكس نُصدِّر فيه ثروتنا الحقيقية، مصر العلم والحضارة والقيادة والأفكار. ولا يمكن أن ننحصر هنا فقط في حل مشاكلنا العاجلة؛ فهي حتمًا لن نستطيع أن نحلها بالانغلاق عليها؛ إن حلها الأوحد هو بالانفتاح على عالمٍ عربي لم يفُتْ بعدُ الأوان لدورنا فيه، كل العالم العربي وكل الدول العربية وليس بعضها المنتقى فقط. ولو فات دورنا وتمت الخطة الجهنمية فسنكون نحن وليس المشرق أو المغرب أول الضحايا.
ومرةً أخرى أعود وأقول إني كتبت هذا عام ١٩٧٤.