حيرة الكاتب
ما كان أضناه من شعور! شعورك أن أبناء بلدك وقومك يقومون بالبطولات، يموتون، ينتصرون، يعبرون، يقاتلون الشيطان العدو، وأنت وفقط بأذنك تتابع أنباء ما يفعلون. قتال؟ أنت غير مقاتل وغير قادر على القتال. حضور للمعركة؟ والمعركة قد خططت ليحضرها ويعيشها المقاتلون فقط بلا شهود عيان أو حتى شهود عدسات تصوير.
ماذا تفعل وأنت تحارب باللاسلكي، وحتى ليس كمرسل، وإنما كمستقبلٍ سالب لا حول لك ولا قوة؟ ماذا تفعل وأنت لم تشهد ولم تعشْ ولم ترَ أعظم لحظات شعبك، لحظات أبدًا لن يكررها الزمن. فالجيش جيشك الرائع قد عبر القنال إلى الأبد، واجتاح إلى الأبد بارليف، ومنذ الآن وإلى آلاف السنين لن يكون هناك ذلك العبور الرائع الآخر، أو ذاك الاجتياح العظيم؟ ماذا تفعل إذا كنت مثلي قد قضيت صباك وطفولتك وشبابك تحلم بساعة الاشتباك المروِّع، ثُمَّ تجيء اللحظة ويدور الاشتباك وأنت غائب، ليتك غائب، ولكنك الغائب الحاضر، المقاتل العاجز أصواتًا وأمواجًا، الشهيد الحي الجريح مع كل مجروح بغير دماء، المنتصر مع المنتصرين بمجرد آهة إعجاب، ولوعة فرح. ماذا تفعل؟
تكتب؟!
وما قيمة، وما معنى، وماذا يمكن للكاتب لو جُنِّدَ له جبريل نفسه أن يفعل؟ في عنابر الجرحى، في الطرقات، حتى في المسرح القومي، كنت أصادف بعض من حملوا على أذرعهم أو أعينهم أو سيقانهم أوسمة ٦ أكتوبر، وكانوا جميعًا يقولون: لماذا لا تكتب؟ أنت بعدُ لم تكتب. نحن ننتظر أن تكتب. لقد عشتَ تكتب فلماذا والآن نحيا التاريخ المهول لا تكتب؟ وأجلس أمام أوراقي وفي يدي قلمي أريد أن أكتب، لا بُدَّ أن أكتب بالقلم، أقاتل مثلما قاتلوا بالمدفع، على الورق أَعبُر وأجتاح مثلما عبروا الماء والرمال. اندفعوا، أفعل مثلما فعلوا. غير معقول ألَّا أفعل مثلما فعلوا، غير معقول أن تكون الكلمة أقلَّ وقعًا من الطلقة، ولا الجمل أقل فاعلية من الغارة. العجز أحسه، العجز يشملني، عكس الإرادة العظمى التي بها انطلقوا يتسرَّب وهني كالعدو، يُحيل الحمى التي تجتاحني إلى كلمات؛ مجرد كلمات مثل غيرها من الكلمات، والشعور الهائل بالرغبة في التضحية وبذل الذات إلى شطرات، كأغانٍ لها شطرات تنشدها حناجر مطربين، وراء الميكروفون يُغنُّون، وشعراء خلف المناضد المنبسطة يشعرون. أي موقفٍ صعب يا إلهي! أيها الإله أعاني وكيف المخرج؟
إن للكلمة دورًا، هذا صحيح. ولكن دورها يأتي عادةً قبل المعارك، قبل «الفعل» فهي «فعل» ما قبل الفعل. إن دورها أن تجسِّد الأماني حقيقة، دورها أن تقرِّب المستحيل، دورها أن تحرِّض، أن تتغنَّى بالعمل المقبل، أن تجعله محطَّ الآمال والرجاء. كانت التقاليد عندنا في جيوشنا القديمة أن يخاطب القائد جنده قبل المعركة، وقد ذهبت بعض هذه الخطب من فرط ما فيها من بلاغة وصدق، مذهب القطع الفنية النادرة والأمثال. للكلمة دور في إعداد الشعوب لمعارك المقاومة ونفض الغاصب. للكلمة دور في إذكاء روح المقاومة حتى بعد بدء المقاومة. ولكن ماذا يمكن أن يكون للكلمة من دور، والعمل العظيم كله قد تمَّ ويتمُّ؟ إن أي تمجيد للتضحية، بعد عمل التضحية، شيء لا بُدَّ يدعو للإضحاك، أي تمجيد لروح القتال والقتال قد نشب وانتهى. شيء يأتي بعد أوانه كالفاكهة بعد الأوان لا لون لها ولا طعم ولا اشتياق. وأيضًا لا بُدَّ أن للكلمة دورًا أثناء المعارك والقتال، أقصد لا بُدَّ للكاتب من دور. ولكن هذا الدور لا يمكن أن يؤدَّى بالسماع أو بالراوية. إن الإنسان الكاتب لا يمكن أن ينفعل إلا إذا أحسَّ، وهو لا يحسُّ إلا إذا عاش التجربة نفسها، لا يمكن أن يُحسَّ بالخطر المرويِّ إحساسه بالخطر يحيط به هو، لا يمكن أن يُشيد بلحظة فداء إلا وقد ذاقها نفسه. ولقد كان الملوك والولاة يصطحبون الشعراء إلى معاركهم، بأنفسهم يعيشون ويعايشون ويشهدون؛ ليتولَّوا بعد ذلك الإنشاء والإنشاد والرواية. أمَّا أن أجلس إلى جوار بطل أو جريح يروي لي قصة دوره أو دور زملائه، فقد يُبهرني الحديث هذا صحيح، وقد أتتبَّعه بشغفٍ زائد، ولكني أفعل هذا بإحساس الشاهد أو ربما بإحساس القارئ الذي يلتهم القصة الرائعة ذلك الالتهام السلبي الممتع. ولنتصوَّر أن يحاول بعض الكتاب كتابة قصصٍ مستوحاة من قصص قرءوها أو سمعوها، لنتصور كم ستبدو مثل هذه القصة شاحبة شحوب الرواية الثانية المنقولة أو المقروءة أو المبنية على أساس مقروء!
إن التسجيل الحقيقي، أو بمعنًى أدق التسجيل الدرامي الفني لأحداث ٦ أكتوبر كان لا يمكن أن يأتي إلا لإنسان عاش المعركة، مقاتلًا كان بالبندقية، أو مقاتلًا كان بالقلم أو الكاميرا. وفي كل جيوش العالم وحتى أساطيله يوجد سلاح للتصوير السينمائي والتسجيلي. فأي معركة يخوضها هذا الجيش — أو حتى مناورة — هي جزء لا يتجزَّأ من تاريخ الجيش، وبالتالي الشعب وتراثه، وهي ملك لمن خاضوها وحضروها مثلما هي ملك لبقية الشعب الذي لم يحضر، بل ملك لأجياله القادمة ومستقبله الطويل.
وهكذا رحتُ أقرأ الأخبار المحمومة المتحمِّسة عن الزيارات للجبهة بغير نيران، وعن نوايا الكتَّاب العظيمة في تسجيل وكتابة بطولات ٦ أكتوبر أو حتى إضافة فصول عنها إلى قصصهم وأقلامهم، وأنا مذهولٌ حائر لهذه القدرة الهائلة على عمل أي شيء، وكأن الكتابة والفن مجرد كلام في كلام، وكأن الكتابة عن المعارك مسائل يمكن أن تُحَسَّ وتستعمل كالمراهم من الظاهر. في الحرب العالمية الأولى وفي الحرب الثانية، في حروب المقاومة في إسبانيا وفيتنام، في أي حرب قامت أو تقوم، كان الكُتَّاب هناك في المعركة في أعمق أعماقها وداخلها، بأنفسهم، بوجدانهم، بكل خلجة إحساس من أحاسيسهم، بكل أحاسيسهم، بكل ما يملكون من قدرة على الانفعال والشعور. موجودون ليس كمتفرجين حتى أو كمشاهدين، وإنما كمشاركين أساسيين في المعركة، سلاحهم الكلمة الطلقة، والانفعال المتفجِّر. موجودون قرونًا للاستشعار المقدَّس يملكها الشعب وبها يحسُّ وبها ينفعل وبها أيضًا يكون هو نفسه كجماهير عريضةٍ واسعة قد خاض المعركة وعاشها وتنفَّسها. ولم أُدهش أبدًا وأنا أقرأ في اتحادات الكتاب وتجمعاتها في موسكو ولندن وباريس قوائم بعشرات، بل أحيانًا بمئات، من الشعراء والكتاب والصحفيين ومصوِّري السينما استشهدوا وهم يؤدون واجبهم الفني الأعظم ضمن كتائب جيوشهم وقواتهم.
إن الكلمة، إن الفن، لا يمكن أن يكون له دور «الكومبارس»، وخاصة حين يجيء تمثيله بعد انتهاء الرواية، يبدو أن نظرتنا للفن وللثقافة عامة في حاجة إلى تغيير شامل عميق تُعيد له مكانته القيادية والريادية، وتحترم دوره سواء في معارك جيوشنا أو في معارك سلامنا وحضارتنا. فحرب الحرب، أو حرب السلام هي أوَّلًا وأساسًا ملك للشعب كله، لأجياله الحاضرة والقادمة، وحتى من مات من أجياله. إنها حياته، يحياها بالحرب حينًا وبالسلام. ونحن لسنا كائنات من حديد أو حجر، نحن بشر، وحين خلق الله البشر خلق لهم الفن ليكونوا بشرًا، ولتكون لحياتهم قيمةٌ أسمى ومعنًى أكبر من مجرد ملء البطون بالطعام وملء الأرض بالنسل.
أمَا من تغيير حقيقي يعيد لكلمتنا دورها، ولفنِّنا قيادته، وللثقافة والفكر أهميتها القصوى لشعب بالفنِّ عاش، وبالفن خلد وجوده وحضارته؟