الفصل الثالث
الأربعاء ٧ من سبتمبر
عندما استيقظت كاثي كانت متوترة، انتهت من إفطار الأطفال وإلباسهم ملابسهم، محاولة ألا تذكر أن زوجها لم يتصل بها في عصر اليوم السابق، كان قد وعدها بالاتصال، ونصحتها يوكو بألا تقلق؛ فالقلق حماقة، ولم ينقطع زيتون عن الاتصال يومًا كاملًا بعد، بل إن انتظامه في الاتصال بها إلى الآن كان أمرًا رائعًا، ووافقتها كاثي، ولكنها كانت تعرف أن القلق سيساورها حتى يتصل بها مرة أخرى.
وبعد أن أخذت يوكو أطفالها إلى المدرسة، ساعدت على توفير ما يشغل أطفال كاثي، بينما ظلت كاثي تذرع المكان جيئة وذهابًا حاملة تليفونها.
وفي التاسعة اتصل أحمد بها من إسبانيا.
وسألها: «هل اتصل عبد الرحمن اليوم بكِ؟»
– «لا. وأنت؟»
– «لم يتصل منذ الأمس.»
فسألته: «إذن فقد تكلمت معه؟»
– «نعم.»
– «اتصل بكَ ولم يتصل بي!»
– «كان يوشك أن يتصل بكِ. ولكنه وضع سماعة التليفون بسرعة. كان لدى باب المنزل زائر.»
وسألته كاثي: «من؟» وقد أحست بالهلع.
– «لا أعرف.»
وأدارت رقم تليفون المنزل بشارع كليبورن وظل الرنين يتردد عشر مرات قبل أن يتوقف.
كانت تحس أنها محطمة. وقالت في نفسها: «لا بد أن يتصل اليوم. سأقتله إن لم يتصل في الظهيرة.»
عندما بلغت الساعة العاشرة بتوقيت فينيكس، كانت الثانية عشرة بتوقيت نيو أورلينز. وانتظرت كاثي. ولم يرن التليفون في العاشرة، أو العاشرة والنصف، أو الحادية عشرة، أي الواحدة بتوقيت نيو أورلينز، وعندما انتصف النهار في فينيكس كانت تشعر بالخبل.
وطلبت رقم منزل کلیبورن من جديد. لم يرد أحد.
وحاولت يوكو أن تضع الأحداث في سياقها الصحيح. قالت: إن استمرار عمل التليفون في منزل كليبورن يمثل معجزة، ومن المحتمل أنه انهار وتعطل، وأكدت لها أن زيتون سوف يجد طريقة أخرى للاتصال ويتصل، فالمدينة غارقة، وعليها ألا تؤاخذه بهذه الشدة.
وهدأت كاثي الآن، ولكنها استمرت تذرع غرفة الجلوس رائحة غادية.
واصطحبت يوكو الأطفال إلى المركز التجاري. لم تكن تريد أن تترك كاثي وحدها، ولكن حركتها في الغرفة كانت تقلق الأطفال. كانت يوكو واثقة بأن زيتون سوف يتصل في غيابهم، فلمَ لا تتيح للأطفال فرصة الترويح عن أنفسهم؟ كانت في المركز التجاري قاعة للأغذية، وكان زخاري يحب مثل تلك القاعة المسقوفة، وكانوا يعتزمون العودة في الثالثة.
واتصلت كاثي بمنزل شارع كليبورن من جديد. لم يرد أحد.
واتصل بها والت: «هل سمعتِ شيئًا من زيتون؟»
ونفت كاثي ذلك.
وطلبت عدنان، قريب زيتون.
قالت له: «ما زلت أشعر بالخجل منك!» إذ إن كاثي اضطرت إلى إخباره في آخر مكالمة بينهما أن أختها رفضت السماح لعدنان وعبير بالبقاء في منزلها. كان الأمر مؤلمًا.
وقال عدنان: «لا تقلقي. نحن بخير.»
كان لا يزال في باتون روج مع عبير ووالديه، وبعد أن قضوا ليلتين في السيارة، عادوا إلى المسجد، وكانوا ينامون على الأرض طيلة الأسبوع الماضي.
وسألها: «كيف حال عبد الرحمن؟»
– «لم أسمع منه شيئًا. فهل سمعت أنت؟»
فقال عدنان إنه لم يسمع.
كانت كاثي وحدها تنشد التسرية فأدارت جهاز التليفزيون، وتحاشت نشرات الأخبار، فعثرت على برنامج المقابلات التليفزيونية الذي تقدمه المذيعة أوبرا وينفري. كانت تظن أن ما وجدته هو ذلك البرنامج، ولكنها أدركت أنه تحقيق إخباري يتضمن فقرات من برنامج اليوم السابق، وتستضيف فيه المذيعة المذكورة رئيس شرطة نيو أورلينز إدي كامباس، وعمدة المدينة ناجين.
كان كامباس ينعى المدى الذي وصلت إليه الجريمة في القبة الكبيرة، قال وهو يبكي: «كان لدينا أطفال هناك. أطفال صغار تعرضوا للاغتصاب.» وقال العمدة ناجين: «منذ ثلاثة أيام بدأنا توزيع الطعام بنظام الحصص، والناس يتقاتلون. وهذا في رأيي سبب انحدار الناس إلى هذه الحالة التي تكاد تكون حيوانية، أي افتقارهم إلى الموارد. کانوا محاصرين. ويستعد المرء لمشاهدة شيء ليس قطعًا مستعدًّا لمشاهدته. لدينا أناس ظلوا واقفين في القبة الكبيرة الملعونة خمسة أيام وهم يشاهدون جثث الموتى، والبلطجية وهم يقتلون الأشخاص، ويغتصبونهم. هذه هي المأساة. الناس يحاولون أن يتركوا لنا أطفالًا على شفا الموت.»
وأطفأت كاثي جهاز التليفزيون من جديد، وهذه المرة إلى الأبد. واتصلت بتليفون المنزل في شارع كليبورن، وظل الرنين يتردد ويتردد، وظلت تسير في الغرفة، ثم خرجت من المنزل إلى الحر الخانق في مدينة فينيكس، ثم عادت للدخول، واتصلت من جديد، وكان صوت الرنات يبدو أجوف، موحشًا.
•••
بلغت الساعة الرابعة ولم يتصل.
واتصلت بأحمد من جديد في إسبانيا. لم يكن زيتون قد اتصل به هو الآخر، وقد ظل يتصل بمنزل شارع كليبورن طول النهار، عبثًا.
وفي آخر ساعات العصر عاد الأطفال.
وسألت نديمة: «هل اتصل بابا؟»
وقالت كاثي: «لم يتصل إلى الآن، وما زلنا ننتظر.»
وظلت متماسكة ثواني معدودةً ثم انفجرت المشاعر في أعماقها. واستأذنت في الانصراف، وهرعت إلى غرفة الضيوف. لم تكن تريد أن تراها بناتها في تلك الحالة.
ودخلت يوكو عليها وجلست معها على السرير، قالت لها: «لم يمر سوى يوم واحد. يوم واحد في حياة رجل يعيش في مدينة بلا مَرَافق، ولسوف يتصل غدًا.» وتماسكت كاثي وقامت للصلاة جماعة مع يوكو، وقالت في نفسها إن يوكو على حق، لم يكن غير يوم واحد، وسوف يتصل طبعًا غدًا.
الخميس ٨ من سبتمبر
واستيقظت كاثي وهي تتوقع شيئًا أفضل، ربما لم يكن زوجها يدرك أنه نسي أن يتصل بها. ومن المحتمل أنه يقوم بإنقاذ عدد آخر من الناس والحيوانات والمنازل، وفي غمرة انهماكه انشغل عنها، وعلى أي حال، كانت كاثي تعتزم أن تتظاهر برباطة الجأش أمام الأطفال، فقامت بإعداد طعام الإفطار لهم، وتظاهرت بأنها تحتفظ برشدها، راضية بحالها، ولعبت بعض الألعاب مع زخاري، وأمضت الصباح في ألوان التسرية.
وكانت بين الحين والآخر تعيد الاتصال بتليفون منزل شارع كليبورن من تليفون يوكو، وكان الرنين يتواصل بلا نهاية.
وحلَّ وقت الظهيرة ومضى.
وعادت كاثي إلى فقدان رباطة جأشها.
قالت ليوكو: «لا بد أن أذهب إلى نيو أورلينز.»
وردت يوكو قائلة: «بل ليس ذلك ممكنًا.» وأمطرت كاثي بوابل الأسئلة الخاصة بإمكان الوصول والحصول على المؤن. كيف تدخل المدينة؟ هل تعتزم شراء سفينة، وتراوغ السلطات وتبحث عن زوجها وحدها حتى تجده؟ واستبعدت يوكو تلك الفكرة.
«لا نريد أن نضطر إلى القلق عليكِ أنتِ أيضًا.»
واتصل أحمد بكاثي، كانت نبراته محايدة في اليوم السابق، لكن النبرات اليوم يشوبها القلق، وهو ما أفقد كاثي أعصابها. قالت في نفسها إن كان أحمد الذي يشارك زوجها في طباعه — ويشارك الاثنان والدهما محمودًا في طبعه، وهو الذي استطاع الصمود يومين في البحر مربوطًا إلى برميل — يشعر بأن الموقف الحالي عصيب، فإن ردود أفعال كاثي لم تكن على المستوى المتوقع.
وقال أحمد إنه سوف يحاول الاتصال بمحطة التليفزيون التي أجرت المقابلة مع زيتون. وسوف يتصل بجميع الهيئات التي تبحث عن الأشخاص المفقودين في نيو أورلينز، ويتصل بخفر السواحل. واتفق الاثنان على معاودة الاتصال حالما يصل أحدهما أي أنباء.
التاريخ: الخميس ٨ من سبتمبر ٢٠٠٥، الساعة:
٠٢٠٠ + ٠٤ : ٠٨ : ١٩
إلى:
[email protected]
الموضوع:
Ref.AMER-6G2TNL
السادة الأعزاء
وبدأت أسرة زيتون تتصل تليفونيًّا في العصر من سوريا. كان أول اتصال من فايزة، وهي معلمة بالمدرسة الثانوية في جبلة، وتتكلم الإنجليزية بطلاقة.
«هل سمعتم شيئًا من عبد الرحمن؟»
وقالت لها كاثي إنه لم يتصل بها منذ يومين.
ومرت فترة صمت طويل في التليفون.
«لم يتصل عبد الرحمن بكِ قط؟»
وأوضحت كاثي أن الاتصالات التليفونية كانت مقطوعة، ومن المحتمل أن زوجها كان يحاول وحسب العثور على تليفون يعمل. ولم تتقبل فايزة ذلك بسهولة.
«قولي مرة أخرى، ألم تسمعي شيئًا من عبد الرحمن؟»
كانت كاثي تحب أسرة زيتون في سوريا، ولكنها لم تكن في حاجة إلى هذا العبء الإضافي. فالتمست لنفسها الأعذار وأنهت المكالمة.
ولم تحاول كاثي الجلوس إلى مائدة العشاء، بل ظلت تسير في الغرف ولا يفارق التليفون يدها. واستعرضت في ذهنها كل الاحتمالات؛ من كانت تعرفهم، وما يستطيعون أن يفعلوه لمساعدتها. وتذكرت أنها لم تكن تعرف أحدًا قط في المدينة. كان الموقف يؤدي إلى الشلل، بدا لها مستحيلًا أن توجد مدينة كاملة معزولة عن أي اتصالات أو سبل اتصال في عام ٢٠٠٥، وفي الولايات المتحدة.
وفي وقت لاحق كانت تمر بجوار إحدى غرف نوم الأطفال؛ ظانة أنهم ناموا، حين سمعت عائشة تتحدث مع أحد أطفال يوكو.
قالت عائشة: «منزلنا تغمره المياه بعمق عشر أقدام!»
وحبست كاثي أنفاسها لدى الباب.
«ولا نستطيع العثور على أبي.»
ودخلت كاثي الحمَّام وغطت وجهها بفوطة وصرخت. وأحست بجسدها يتشنج لكنها حاولت ألا تصدر أي صوت.
الجمعة ٩ من سبتمبر
لم يكن أمام كاثي سوى أن تكذب، لم تلجأ في حياتها قط إلى الكذب الصريح على أطفالها، ولكن ذلك يبدو الآن لازمًا، وإلا انفلتت أعصابهم جميعًا. كانت تعتزم إلحاقهم بالمدرسة يوم الإثنين، وإذا كان لأطفالها أن يتسلحوا بالقوة اللازمة لمواجهة هذا الموقف فلا بد أن يعتقدوا أن والدهم بصحة جيدة وعلى اتصال بهم. وهكذا أثناء الإفطار عندما سألتها عائشة إن كانت قد سمعت من أبيها، لم تتردد كاثي.
قالت: «نعم. اتصل بي ليلة أمس.»
وسألتها نديمة: «على أي تليفون؟» لم يكن الأطفال قد سمعوا أي رنين.
وقالت كاثي: «تليفون يوكو. أدركته من أول رنة.»
وقالت نديمة: «هو في المنزل إذن؟»
وأومأت كاثي. وعلى الرغم من ذكاء الأطفال وتشككهم في كل شيء، فإنهم صدقوها، وخصوصًا نديمة وزخاري. وسواء كانا يحسَّان الكذبة أو لا، فقد كانا يريدان تصديقها، وكان إدراك موقف صفية وعائشة أصعب، ولكن كاثي كانت قد نجحت مؤقتًا في تهدئة مخاوف أطفالها، ولم يعد عليها سوى مكابدة قلقها ومخاوفها الشخصية.
وبمجرد انتهاء الإفطار رن جرس التليفون، فوثبت كاثي إليه.
كانت عائشة، إحدى أخوات زيتون الأخرى. كانت تعمل مديرة لمدرسة ابتدائية في جبلة، وتتحدث الإنجليزية كذلك.
وسألت: «أين عبد الرحمن؟»
وأجابت كاثي في هدوء: «في نيو أورلينز.»
وأوضحت عائشة أنه لم يتصل بأحد منذ عدة أيام، وقالت إنه اتصل عدة مرات بعد العاصفة، ثم توقف تمامًا، وإنها تتصل نيابة عن جميع أشقائه، وإنها قلقة عليه.
وقالت كاثي: «إنه بخير.»
وسألتها عائشة: «كيف عرفتِ ذلك؟»
ولم تحر كاثي جوابًا.
وفتحت كاثي الإنترنت، ومن فورها غمرتها الأنباء المفزعة من المدينة، كان المسئولون يقولون إن عدد الموتى في نيو أورلينز وما حولها قد بلغ ١١٨. ولكن العمدة ناجين يقول إن تقديراته تشير إلى احتمال ارتفاع الرقم النهائي إلى عشرة آلاف، وفتحت بريدها الإلكتروني. لم يرسل زوجها خطابًا بالإيميل قط في حياته، ولكنها لم تكن تستبعد ذلك. وجدت إيميل من أحمد أخي زيتون، كان قد وصل إلى بريدها الإلكتروني عن طريق هيئة مساعدة أخرى، كان يقول:
من: الربان زيتون
التاريخ: الجمعة ٩ من سبتمبر ٢٠٠٥ الساعة ٠٢٠٠
+ ٠٥ : ۱۲ : ۲٢
إلى:
@arcno.org
(محذوف الاسم)
الموضوع: البحث عن أخي، عبد الرحمن
زيتون
السادة الأعزاء
أرجوكم، لو سمحتم، لو كان ممكنًا أن أعرف منكم أخبار الذين أُرغموا على ترك منازلهم في نيو أورلينز يوم الثلاثاء الماضي ٦ من سبتمبر، أين هم الآن؟
أود أن أعرف أي أنباء عن أخي الذي انقطعت الاتصالات به منذ الثلاثاء الموافق ٦ من سبتمبر بعد الساعة ٣٠ : ١٤ أثناء وجوده في المنزل رقم ٥٠١٠ شارع س. كليبورن ٧٠١٢٥–٤٩٤١ نيو أورلينز، وكان يستخدم قاربًا صغيرًا، في الانتقال إلى المنزل رقم ٤٦٤٩ شارع دارْت حيث يقيم.
التفاصيل الخاصة بأخي:
الاسم: عبد الرحمن زيتون.
السن: ٤٧ سنة.
العنوان: ٤٦٤٩ شارع دارْت، نيو أورلينز، ۷٠١٢٥–٢٧١٦ لوس أنجلوس.
منذ ذلك الوقت وإلى الآن لم نتلقَّ أي أخبار عنه.
أرجو التعطف وبذل قصارى جهدكم لمساعدتنا.
وعندما حلَّ وقت الظهر في نيو أورلينز، اتصلت كاثي بالمنزل في شارع س. كليبورن، وتركت التليفون يرن، راجية أن يتوقف، بعد أن يقاطعه صوت زوجها، واستمرت تتصل طوال اليوم، ولكن الرنين لم تكن له نهاية.
واتصل والت وروب، وأخبرتهما كاثي أنها لم تتلقَّ أي اتصال من زيتون، وسألت والت إن كان يعرف أي شخص يمكنه مد يد العون. كان يبدو أن والت يعرف الجميع، وكان دائمًا ما يأتي بالحل، فقال إنه سيتصل بأحد أصدقائه الذي كان يعمل مأمورًا في شرطة الولايات المتحدة، وكان يعرف أنه في مكان قريب من المدينة؛ فربما استطاع دخول المدينة والوصول إلى المنزل في شارع كليبورن.
وعندما وضعت كاثي الأطفال في الفراش للرقاد في تلك الليلة أرغمت نفسها على أن ينطق وجهها بالثقة. سألوها إن كان منزلهم قد غمرته المياه، فأقرت كاثي بذلك وبأن المنزل أصابته بعض الأضرار، ولكن والدهم لحسن حظهم، مقاول، وسوف يتمكن بسرعة من إصلاح أي أضرار.
وأضافت: «وعندي مفاجأة! سوف تحصلون جميعًا على أثاث جديد في غرف النوم!»
السبت ١٠ من سبتمبر
واتصل والت، قال إنه تكلم مع صديقه مأمور الشرطة الفيدرالي، وإن المأمور سار بسيارته نحو المنزل في شارع دارْت، لكنه لم يستطع الاقتراب؛ بسبب ارتفاع الماء أكثر مما كان يتوقع.
وقال والت إنه سوف يتصل بصديق يعرفه لديه طائرة عمودية. ولم يكن قد أوضح من التفاصيل ما يتجاوز ذلك — أين تذهب الطائرة أو كيف يبحثون عن زيتون — لكنه قال إنه سوف يجري المزيد من الاتصالات ويعود إلى الاتصال بكاثي قريبًا.
وعلى نحو ما فعلت في اليوم السابق، عندما حان وقت الظهيرة في نيو أورلينز اتصلت بالمنزل في شارع كليبورن، ومرة أخرى استمر الرنين بلا نهاية.
واتصلت أسرة زيتون.
كان الصوت يقول: «كاثي، أين عبد الرحمن؟!» كانت المتحدثة لوسي، إحدى بنات إخوته. كان جميع أبناء إخوته وأخواته وبناتهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ويتولون مهام الترجمة لسائر الأسرة.
وقالت كاثي: «لا أعرف!»
واتصلت قريبة أخرى.
وقالت بإصرار: «لا بد أن تذهبي للبحث عنه.»
وطيلة الصباح استمر إخوة زيتون وأخواته يتصلون من اللاذقية، ومن المملكة العربية السعودية. كانوا يستفسرون إن كانت كاثي قد تلقَّت أي اتصال منه، ولماذا لم تذهب إلى مدينة نيو أورلينز للبحث عنه؟ ألم تشاهد التليفزيون؟
وقالت لهم إنها لم تكن تشاهده؛ لأنها لم تعد تستطيع الاحتمال.
وزودوها بالأخبار؛ لقد وقعت أحداث نهب وسلب، واغتصاب، وقتل، والمدينة في حالة فوضى عارمة، وكرروا تأكيد العمدة ناجين بأن المدينة قد تدهورت إلى «حالة حيوانية». وبهذا الأسلوب استطاعت مشاهدة الصورة التي رسمتها أجهزة الإعلام للمدينة، التي تشبه سرداب المفاجآت في مدينة الملاهي عن طريق أقارب زوجها من مسافة تبلغ نصف طول العالم. وقالت في نفسها: يعلم الله أي انحراف عن الواقع تقوم به أجهزة الإعلام لتضخيم الحالة هناك.
كان أقاربها يقولون: لقد أحضر المسئولون خمسة وعشرين ألفًا من حقائب الجثث إلى المنطقة، وتساءلوا: كيف يمكنك أن تعيشي في بلد كهذا؟ عليك أن تعودي إلى هنا؛ فسوريا آمن وأسلم.
لم تستطع كاثي أن تصمد للأسئلة وللضغوط. كانت تشعر بالقهر والعجز وترتعد. وهكذا أنهت المكالمة بأشد ما تستطيعه من التأدب.
وذهبت إلى الحمَّام، ولأول مرة منذ أيام تطلعت إلى وجهها. كانت حول عينيها حلقات زرقاء، فخلعت حجابها وزفرت زفرة سريعة. شعرها! لم يكن فيه سوى عشر شعرات بيضاء قبل هذا كله. وقد بدا الآن شريط من الشعر الأبيض صاعدًا من جبينها، بحجم يدها.
ومنعت يوكو كاثي أن ترد على التليفون عندما كان أحد من سوريا يتصل بها. وكانت يوكو تتلقى الاتصالات وتقول لأهلها إن كاثي كانت تفعل كل ما في طوقها، كل ما يستطيعه بنو البشر.
وقامت يوكو مع زوجها أحمد باصطحاب كاثي والأطفال إلى مبنى المحاربين التذكاري؛ حيث كان الصليب الأحمر قد أنشأ ملجأً ووحدة معونة لأهالي نيو أورلينز. وكانت عدة وكالات للبحث عن المفقودين قد بدأت في جمع المعلومات ومحاولة مساعدة أفراد الأسر على الاتصال بالذين انفصلوا عنهم من ذويهم، فأحضرت كاثي صورة فوتوغرافية لزيتون وكل ذرة من المعلومات استطاعت العثور عليها عنه.
وفي صالة الألعاب الرياضية كان المشهد كئيبًا، كان المكان غاصًّا بالعشرات من أهالي نيو أورلينز، وكان منظرهم يوحي بأنهم فروا من المدينة في ذلك اليوم نفسه. كانت الجراح تُعالَج، والأسر تنام على سُرُر أطفال، وأكوام الملابس في كل مكان. وتعلقت بنات كاثي بها.
وسجل الصليب الأحمر عشرات المعلومات، وسجل بالكمبيوتر الصورة التي أحضرتها كاثي، كان العاملون فيه يُبدون الكفاءة، ويغدقون الحنان، وقالوا لكاثي إنهم استطاعوا تحديد أماكن وجود الآلاف، وإن هؤلاء منتشرون في طول البلاد وعرضها، وإن كل قصة كانت أغرب من سابقتها، وقالوا لكاثي ألَّا تقلق، وإن النظام يعود باطراد كل يوم في كل مكان.
وغادرت كاثي المكان وقد تجدد الأمل في صدرها إلى حد ما. لربما كان قد جُرح. ربما كان في مستشفى في مكان لا تعرفه، تحت تأثير مخدر قوي. ربما عثر عليه في مكان ما، غائبًا عن الوعي، ولا يحمل ما يثبت هويته، لن يمضي وقت طويل حتى ينظر الأطباء والممرضات في قاعدة بيانات المفقودين فيعثروا عليه.
ولكن ذهن الأطفال غدا مشوشًا. هل كان والدهم سالمًا أو لا؟ كانت المؤشرات متضاربة؛ إذ قالت لهم أمهم إنه كان بخير، سالمًا في قاربه، لكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا أبلغت عنه الصليب الأحمر؟ ولماذا أُدرج اسمه في سجلات المفقودين؟ ولماذا ذُكرت الشرطة وخفر السواحل؟ حاولت كاثي أن تحميهم من كل هذا، فاستحال إخفاء الأمر. لم تكن تشعر بالقوة الكافية، بل كانت تشعر بأنها كيان واهن مليء بالثقوب.
وعندما عادوا إلى المنزل اتصلت من جديد بالمنزل في شارع كليبورن. واستمر التليفون يرن دون توقف، كانت تقول لنفسها حتى الآن إن التليفون ربما كان معطلًا، لكنها اليوم اتصلت بشركة التليفونات، فقالوا لها: لو لم يكن التليفون يعمل على الإطلاق لسمعت صوتًا يشبه الإشارة إلى أن الخط مشغول، صوتًا معينًا يشير إلى تعطل الخطوط، ولكن الرنين استمر، وكان الرنين يعني أن التليفون يعمل، ولكن لم يكن هناك أحد للرد عليه.
•••
كانت عائشة أشد الأطفال تأثرًا، وكانت فيما تبدو تتأرجح بين القلق والاستسلام القدري، كانت ضيقة الصدر، لا تستطيع التركيز، وكانت تنزوي وتبكي وحدها.
وفي تلك الليلة، بعد أن خلد الأطفال الآخرون إلى النوم، جلست كاثي خلف عائشة على سريرها، فتناولت شعرها الأسود الغزير بإحدى يديها وجعلت تمشطه باليد الأخرى. وكانت قد فعلت ذلك من قبل مع نديمة لتهدئتها قبل النوم، وكانت والدة يوكو تفعل ذلك نفسه مع كاثي بعد كل حمَّام، كان ذلك مريحًا للأعصاب وفرصة للتفكير عند الأم والبنت معًا، وفي هذه الحالة كانت كاثي تدندن بنغمة أغنية لا تستطيع حتى أن تذكر اسمها، وكانت عائشة جالسة في توتر، ولكن في تقبل للموقف. كانت كاثي واثقة بأن هذا من شأنه أن يريحها من القلق، وأن ينتهي باستلقاء عائشة من جديد في حجر كاثي راضية، وقد غلبها النعاس.
وسألتها عائشة: «هل اتصل بكِ؟»
– «لا يا حبيبتي، لم يتصل بعد.»
– «هل مات؟»
– «لا يا حبيبتي! لم يمت.»
– «هل غرق؟»
– «لا.»
– «هل وجدوا جثته؟»
– «حبيبتي. اسكتي.»
ولكن بعد أن مرت بالفرشاة عدة مرات في شعر عائشة، شهقت كاثي شهقة سريعة. كان شعر عائشة قد تلبد في الفرشاة التي امتلأت به.
واغرورقت عينا عائشة بالدموع، وصرخت كاثي.
وقالت كاثي في نفسها: «لا يوجد أسوأ من هذا! محال أن يوجد ما هو أسوأ.»
الأحد ۱۱ من سبتمبر
مرت ستة أيام منذ أن تكلمت كاثي مع زيتون. لم تعد قادرة على تفسير غيابه، لم يكن للأمر معنًى، كان رجال المعونة قد «استولوا» على المدينة، والحرس الوطني في كل مكان، والمسئولون يصرون على أن المدنية قد خلت تقريبًا من أهلها.
واستعرضت الاحتمالات كلها في ذهنها من جديد. لو كان لا يزال في قاربه يتنقل في أرجاء نيو أورلينز لعاود الاتصال بها من المنزل في شارع كليبورن. ولو كان ذلك التليفون قد تعطل لكان قد نجح — بعد كل هذا الوقت — في العثور على تليفون آخر يعمل. أو كان قد قابل أحد الجنود وطلب منه المساعدة في الاتصال بكاثي. واستبعدت تمامًا إمكان وجوده في المدينة وعجزه عن الاتصال بها.
وكان ذلك يعني أنه ترك المدينة. ربما كان قد نقص ما لديه من ماء وطعام. ربما كان قد قبل عرضًا بالجلاء عن المدينة قدمته إحدى الطائرات العمودية أو زوارق الإنقاذ، لكنه لو كان قد غادر المدينة، لكان قد وصل إلى أحد الملاجئ، ولاتصل بها منه من فوره.
كانت قد سمعت بنبأ العثور على جثث طافية لم يظهر لأصحابها أهل، واكتُشف وجودها مصادفة في الماء، وقالت لنفسها: «ربما مات. ربما رحل زوجك.» كانت تعرف بوقوع جرائم قتل، لم تكن تصدق في الواقع ما يُروى عن المجازر الطليقة، ولكنها كانت تعرف أن بعض جرائم القتل قد وقعت، وقالت في نفسها: «ربما كانت حادثة سطو. ربما اقتحم أحدهم أحد العقارات التي نملكها، وكان فيها، وتصدى لقتالهم ثم …»
من المحال أن يكون قد غرق، ومن المحال أن يكون قد راح ضحية أي كارثة أخرى؛ إذ كانت تعرف زوجها من خير المعرفة، لم تكن تستطيع أن تتصور أي حادثة «تلتهمه»، كان أشد ذكاءً وأشد حذرًا من أن يسمح بذلك، وحتى لو كان قد تعرض لحادثة ما، فقد كان متين البنيان، شديد الاحتمال، كان الأرجح في هذه الحالة أن يصمد وأن ينشد العون.
وعندما حل وقت الظهيرة في نيو أورلينز اتصلت كاثي بمنزل شارع كليبورن، وتركت التليفون يرن، وقد شعرت بالحاجة إلى سماع صوت زوجها، ولكن الرنين استمر بلا نهاية.
كان عليها أن تنظر في مسألة التأمين على الحياة، وفي وسائل إعالة نفسها وأطفالها الأربعة. هل تتمكن من إدارة العمل بنفسها؟ لن تستطيع، بطبيعة الحال. فهل تقوم إذن بما يشبه الإدارة؟ سيكون عليها أن تبيع العقارات المؤجرة، أو ربما استطاعت إدارة هذه العقارات بنفسها. أسئلة بالغة الكثرة. لا، سوف تبيع شركة الطلاء والمقاولات وتحتفظ بالمساكن المؤجرة، أو ربما باعت بعض تلك المباني؛ حتى يقتصر العدد على ما تستطيع أن تديره بنفسها. هل عليها أن تبقى في نيو أورلينز أو تنقل الأسرة إلى باتون روج؟ إلى فينيكس؟ إذا انتقلت فلا بد أن يكون ذلك إلى فينيكس.
وإلى متى عليها أن تنتظر قبل أن تفترض وقوع أسوأ ما تتوقع؟ أسبوع، أسبوعان، ثلاثة؟
عادت إلى الإنترنت فوجدت «إيميل» آخر من أحمد، كان هذا قد أُرسل إلى محطة التليفزيون التي أذاعت المقابلة القصيرة مع زيتون، وكان أحمد قد اكتشف وهو في مكتبه في إسبانيا اسم المحطة واسم أحد منتجي البرنامج، كان الإيميل يقول:
من: الربان زيتون
التاريخ: الأحد ۱۱ من سبتمبر ۲۰۰٥ الساعة ۰۲۰۰
+ ۳٤ : ۰۱ : ۰۲
إلي:
@wafb.com
(الاسم محذوف)
الموضوع: المناطق المتضررة من الإعصار في نيو
أورلينز
السادة الأعزاء
وفق ما علمت من بعض الأصدقاء في باتون روج، كنتم قد أجريتم مقابلة مع أخي يوم ٥ من سبتمبر.
ومنذ ذلك الوقت إلى هذه اللحظة ونحن لا نستطيع الاتصال به. أرجوكم هل تسمحون وتتكرمون بإعطائي أي معلومات عن اليوم والموعد الذي قابلتموه فيه؟ تُرى هل لديكم أي معلومات أخرى؟
ووجدت كاثي موقعًا على الإنترنت به صور حديثة التقطت من الجو لمدينة نيو أورلينز. وظلت تبحث حتى وصلت إلى الضاحية التي تقيم فيها، وكبَّرت الصورة حتى رأت ما تبقى من منزلها والحي الذي يوجد فيه. كانت قذارة المياه أشد مما تتخيل. بدا لها كأنما كانت المدينة كلها مغمورة بالزيت والقار.
اتصلت بكل رقم لكل شخص تعرفه، وربما لم يكن قد غادر نيو أورلينز. لا شيء.
وحاول أحمد ويوكو التسرية عنها.
قال أحمد: «إنه من المدرسة القديمة.» وأضاف أنه من الطبيعي لرجل مثل زيتون، يتمتع بقوة الشكيمة والاستقلال، أن ينقطع الاتصال به بضعة أيام. «لم تعد الطبيعة تجود برجال مثله.»
وحرصت يوكو على إبعاد كاثي عن التليفزيونات ونشرات الأخبار، ومع ذلك فقد كانت كاثي تلتقط شذرات منها في السيارة. فعلى راديو سيارتها الأوديسية سمعت الرئيس بوش يلقي خطابه الأسبوعي في الإذاعة، كان الرئيس يُشَبِّهُ العاصفة بأحداث ۱۱ من سبتمبر والحرب على الإرهاب. قال «إن أمريكا تواجه كارثة أخرى أحدثت الدمار وفقدان الأرواح.» وأضاف قائلًا: «ولسوف تتغلب أمريكا على هذه المحنة، ولسوف تضيف قوة إلى قوتنا.»
الإثنين ۱۲ من سبتمبر
حان الوقت لذهاب البنات إلى المدرسة. كن قد انقطعن عنها أسبوعين تقريبًا، ومهما تكن صعوبة بداية الدراسة في منتصف سبتمبر، كان لا بد من اتباع ما يشبه العادة المنتظمة.
وأجرت كاثي مكالماتها، كانت أقرب مدرسة عامة هي مدرسة الدكتور هوارد ك. كونلي الإلزامية. قيل لكاثي: «أحضريهن من فورك.» أما زخاري الذي كان في مرحلة الدراسة الثانوية، فسوف يكون إلحاقه بالمدرسة أصعب.
كانت الفتيات متوترات، لم يكنْ يسعدهن دخول مدرسة جديدة؛ حيث لا يعرفن أحدًا ويوصمن بأنهن لاجئات، لمَ لا ينتظرن حتى يعدن إلى نيو أورلينز؟ ماذا عساهن أن يدرسن؟ لسوف تختلف الكتب والمقررات الدراسية. وما الغاية من ذلك؟ قالت كاثي إن والدهن يريد إلحاقهن بالمدرسة، وذلك يكفي.
وقام أحمد ويوكو بشراء ما تحتاج إليه الفتيات من المعدات المدرسية، كالدوسيهات والكراسات والأقلام الحبر والأقلام الرصاص، وحقائب ماركة بوكيمون وهالو كيتي؛ لحمل كل ذلك فيها، وأشاع هذا بعض الراحة في نفوس الفتيات، ولكن عندما أوصلتهن كاثي إلى المدرسة، وتركتهن جميعًا في مكتب مدير مدرسة كونلي، شعرت بالانهيار. لم تكن قادرة على النظر إلى عائشة والتي كانت عيناها السوداوان المغرورقتان تنطقان بكل شيء، بكل قلق تشاركها كاثي فيه؛ أي إن هذه كانت أول أيام حياتهن الجديدة معًا، في فينيكس، وفي غيبة والدهن.
وأثناء عودتها بالسيارة من المدرسة، أصغت كاثي إلى الأنباء في الراديو. كان عدد الموتى رسميًّا في نيو أورلينز قد وصل إلى ۲٧٩. كان يبدو أن الرقم يزداد مائة كل يوم، والبحث عن الجثث كان في بدايته وحسب.
هل كان عليها أن تتخذ الاستعدادات اللازمة للجنازة؟ لقد انقضت الآن سبعة أيام. إلامَ تستطيع تبرير غيابه؟ لقد حضر الرئيس بوش مرتين أو ثلاثًا إلى نيو أورلينز حتى الآن. فإذا كان الرئيس يستطيع الحضور إلى ميدان جاكسون لعقد مؤتمر صحفي، فإن زوجها، إن كان في قيد الحياة، يستطيع العثور على تليفون والاتصال بها.
الثلاثاء ۱۳ من سبتمبر
وبوجود الأطفال في المدرسة نهارًا، أحست كاثي بتسارع انهيار روحها المعنوية؛ إذ أتيح لها قضاء المزيد من الوقت لكي تقلقه، والمزيد من الوقت لتخطيط حياتها التعيسة الجديدة.
كانت تتصل بالمنزل في شارع كليبورن كل ساعة، وتتصل بزيتون على تليفونه الخلوي، آملة أن يكون قد وجد وسيلة لشحن البطارية.
وقفز عدد الموتى إلى ٤۲۳.
عثرت على رقم تليفون صاحبة تود جامبينو واتصلت بها. كانت في مسيسيبي، ولم تتلقَّ أي اتصال من تود منذ أسبوع، كان لهذا معنًى، ربما حدث شيء ما لكليهما؟ كانت هذه أخبارًا طيبة. لا بد أن تكون كذلك، واتفقت المرأتان على مداومة الاتصال.
ومن إسبانيا، كان أحمد يتصل بكاثي كل يوم. قال إنه اتصل بخفر السواحل والبحرية، وكتب إلى السفارة السورية في واشنطن، ولم يأته شيء من أي أحد، وجعل يفحص مواعيد الطائرات الذاهبة إلى نيو أورلينز. ما الضرر في أن يتولى البحث عن أخيه ميدانيًّا؟ كان قلقًا لأن أشقاءه كانوا يتوقعون منه الذهاب، ما دام الوحيد الذي تتاح له فرصة دخول الولايات المتحدة، وأما الحصول على تأشيرة دخول من سوريا فكان ميئُوسًا منه، واستبعدت زوجته الفكرة، ولكن الفكرة ظلت تنخر في عظامه.
الأربعاء ۱٤ من سبتمبر
أصبح عدد الموتى ٦٤٨، ويتصاعد.
وكانت كاثي تسأل الصليب الأحمر كل يوم. وسرعان ما سجلت اسم زيتون في ست هيئات مختصة بالبحث عن المفقودين، وأصبحت صورته في كل مكان.
•••
ذهبت البنات إلى المدرسة وعُدن إلى المنزل وشاهدن التليفزيون، كن يجدن تسرية مؤقتة مع أطفال يوكو وأحمد، ولكن عيونهن كانت تبدو جوفاء؛ إذ كن يحاولن رسم مسار حياتهن من دون والدهن. هل كن يردن الانتقال إلى فينيكس؟ هل تكون له جنازة؟ متى يعلمن حقيقة ما حدث؟
وفي غمار الأفكار التي تشتد حُلْكتُها على امتداد ساعات لا تحصى عادت كاثي لتخيل مكان إقامتها في المستقبل. تُراها تعيش في أريزونا؟ لا بد لها في هذه الحالة أن تجد منزلًا بالقرب من منزل يوكو، ولا بد أن يصبح أحمد صورة للوالد، ولكن كاثي كانت قد اعتمدت من قبل اعتمادًا شديد الوطأة على يوكو وأحمد، ولم تستطع أن تتصور تحميلهما عبء الأسرة كلها بصفة مستمرة.
وخطرت ببالها صورة أسرة زيتون في سوريا؛ صورة شبكة تكافل متينة، نسيج شاسع متماسك الخيوط من العلاقات الأسرية. كانت قد اصطحبت الأطفال، هي وزيتون، إلى هناك في عام ۲۰۰۳ في زيارة لمدة أسبوعين، وكان البلد يختلف عن كل ما توقعت. كان أول ما شدَّ انتباهها سقوط الثلج. الثلج في دمشق! واستقلوا الأتوبيس إلى جبلة في الشمال، وعلى طول الطريق صُعقت مما شاهدت، وأقرت فيما بعد أنها كانت لديها صورة قديمة بالية لسوريا. كانت تتوقع مشاهدة الصحارى والحمير وعربات اليد، لا أن تشاهد هذا العدد الكبير من المدن الزاخرة بالحركة والأجناس المختلفة، وهذا العدد الكبير من محال بيع السيارات المرسيدس والبي إم دبليو مصطفة على الطريق الرئيس المتجه شمالًا، وهذا العدد الكبير من النساء اللاتي يلبسن ملابس ضيقة، عاريات الشعر، ولكنها شاهدت آثارًا لحياة أقل حداثة من تلك أيضًا، مثل من يبيعون السردين والكرنب على جانبي الطريق، وبعض المنازل المبنية من الآجُرِّ والطين.
وأثناء السفر شمالًا إلى جبلة سرعان ما التقى الطريق بالشريط الساحلي، فإذا بهم يسافرون إلى منطقة ساحلية جميلة، تطل التلال فيها على البحر، وتقوم المساجد فوق الطريق جنبًا إلى جنب مع الكنائس، وعشرات منها، كانت تفترض أن سوريا ليس فيها غير المسلمين، لكنها كانت مخطئة، في هذا، وفي كثير من غير هذا. وأحبت شعورها بالدهشة حين تبينت أن سوريا في جوهرها بلد من بلدان البحر المتوسط، ترتبط بالبحر، وتحب الأطعمة والأفكار الجديدة، ويتجلى فيها تأثير اليونان وإيطاليا وثقافات كثيرة. وكانت كاثي تلتهم ذلك كله: الخضراوات والأسماك الطازجة، واللبن الزبادي، ولحم الضأن. كان لحم الضأن هنا أفضل مما ذاقته في أي مكان آخر، وكانت تأكله كلما سنحت لها الفرصة.
وفي بلدة جبلة الجميلة على ساحل البحر شاهدت المنازل التي بناها أجداد زيتون، والنصب التذكاري المقام لأخيه محمد. وكانت أسرتها قد أقامت عند قُصَي، أخي عبد الرحمن، وهو رجل اجتماعي يحب الحياة بصورة رائعة، وكان لا يزال يقيم في منزل طفولته. كان المنزل عتيقًا ساحرًا على الساحل، يتميز بالسقوف العالية والنوافذ المفتوحة دائمًا أمام نسمات البحر. كانت تجد أفراد الأسرة الكبيرة في كل مكان على مسيرة خطوات، في عدد كبير من الأقارب، وتاريخ حافل عريق. وبينما كان زيتون منطلقًا في أرجاء البلدة يعيد ربط ما انقطع من صلات مع أصدقائه القدامى، كانت كاثي قد قضت ساعة العصر في الطهي مع فايزة، أخت زيتون، وأخطأت في استخدام غاز البروبين وكادت أن تتسبب في احتراق المطبخ. كان الحادث مخيفًا آنذاك، لكنه أثار كثيرًا من التندُّر والتفكُّه في الأيام التالية.
كان أهل زوجها كرامًا صالحين، وقد تلقَّى كل منهم تعليمًا عاليًا، ويتميزون بالصراحة والأريحية، ولا تتوقف الضحكات الغامرة في منزل كل منهم. هل كان من المحال أن تصطحب كاثي الأطفال وتذهب للعيش معهم هناك في جبلة؟ كانت الفكرة تمثل تغييرًا جذريًّا في حياتها، ولكنها كانت تضمن لها الراحة في ذلك المكان حيث تحتضنها الأسرة، وحيث يحيط بالأطفال كثيرون من الأقارب، وربما خفف ذلك من لوعة فقدان أبيهم.
كان اكتئاب أسرة زيتون في سوريا وتقبلها لفقدان عبد الرحمن في تزايد مطرد. كان عدد الجثث التي عُثر عليها كبيرًا إلى حد بعيد؛ إذ كان يبلغ سبعمائة في نيو أورلينز، وقال إخوته إنه لا بد أن يكون واحدًا من هؤلاء، قطعًا، ومن الحمق الظن بغير ذلك. ولم يكونوا يريدون الآن سوى الاطمئنان بمعرفة أسلوب وفاته. كانوا يريدون الجثة لتغسيلها ودفنها.
السبت ۱٧من سبتمبر
كانت يوكو قد منعت كاثي من مشاهدة التليفزيون أو استخدام الإنترنت، ولكن كاثي لم تستطع المقاومة، جعلت تبحث عن اسم زوجها، بحثت عن عنوان شركتهما. وبحثت في أي مكان يكون قد عثر عليه فيه.
لم تعثر على أي شيء خاص به، بل وجدت أشياء أخرى مرعبة. ففي كل مكان في الإنترنت كانت تجد أنباءً عن العنف وأدلة على المبالغة فيها، ففي إحدى الصفحات تقرأ عن مئات حالات القتل العمد، وظهور التماسيح في المياه، وعصابات الرجال المنهمكين في السلب والنهب. وفي صفحة أخرى تقرأ نفيًا لتعرض الأطفال للاغتصاب، أو نفي وقوع جرائم القتل المتعمد في القبة الكبيرة، أو وفاة أحد في مركز المؤتمرات، لم تكن تبدو نهاية لضروب الخوف والتشويش، والتصورات العنصرية، ونشر الشائعات.
لم يكن أحد يجادل في أن المدينة وقعت في هوة الفوضى، ولكن الجدال أصبح يدور حول مصدر تلك الفوضى. هل كان المصدر هو السكان أم الذين أُرسلوا لإحلال النظام؟ ودار عقل كاثي في ذهول وهي تقرأ عن التركيز غير المسبوق على المسلحين رجالًا ونساءً في المدينة.
قرأت أولًا عن المرتزقة؛ إذ سارع رجال الأعمال الأغنياء، والشركات ذات الثراء، بمجرد انتهاء العاصفة باستدعاء شركات الأمن الخاصة من شتى أرجاء العالم، فقام ما لا يقل عن خمس منظمات مختلفة بإرسال الجنود المأجورين إلى المدينة، بما في ذلك المرتزقة الإسرائيليون من شركة اسمها «الشركة الدولية لإطلاق النار بالغريزة»، وتسارعت أنفاس كاثي، رجال العصابات الإسرائيليون في نيو أورلينز؟ وأدركت أن ذلك كان ما حدث، كان زوجها عربيًّا، وكانت فرقة إسرائيلية شبه عسكرية على الأرض في المدينة، وهكذا استنتجت ما هو منطقي.
وجنود منظمة بلاكووتر. كانت شركة بلاكووتر الأمريكية شركة الأمن الخاصة التي يعمل فيها الجنود السابقون في الجيش الأمريكي وغيره، قد أرسلت مئات الأفراد إلى المنطقة. كانوا موجودين بصفة رسمية؛ إذ استأجرتهم مصلحة الأمن الداخلي للمساعدة في الحفاظ على النظام، كانوا يصلون مرتدين ملابس الميدان الكاملة، وكان بعضهم يحمل شارات نواب حكمدار الشرطة في ولاية لويزيانا.
وتسلطت صور جميع الأسلحة النارية على تفكير كاثي، كان أخوها في الحرس الوطني، وكانت تعلم ضروب الأسلحة التي يحملونها، وبدأت تجري العمليات الحسابية، لو كان كل رجل من مرتزقي بلاكووتر يحمل ما لا يقل عن سلاحين ناريين، فإن معنى ذلك مئات المسدسات المحمولة على الجنبين، من عيار ٩ ملليمترات، من طراز هيكلر وكوخ، إلى جانب مئات من البنادق من طراز إم-۱٦ورشاشات من طراز إم-٤.
وأحست كأنما عثرت مصادفة على إجابة عن تساؤلها عن اختفاء زوجها، لم يكن أي تفسير آخر مقبولًا، كان ذلك يبدو أقرب الأشياء إلى المنطق، لا بد أن أحد هؤلاء المرتزقة الذين لا يسألهم أحد عما يفعلون قد أطلق النار على زيتون فقتله، والسلطات الآن تتكتم الأمر، ولهذا لم تسمع شيئًا، لا بد أن العملية كلها متكتم عليها.
أضف إلى ذلك وجود كثير من الجنود الأمريكيين، لا بد أنهم سيطروا على الموقف، وفي حدود ما استطاعت أن تحدس، كان في نيو أورلينز ما لا يقل عن عشرين ألف جندي من الحرس الوطني، إلى جانب الذين يصلون في كل يوم، لكنها عادت للتفكير في الأسلحة النارية، لو كان مع كل واحد من هؤلاء بندقية واحدة من طراز إم-١٦ الهجومي، فلا بد أن بالمدينة نحو عشرين ألف بندقية آلية. ذلك أكثر مما ينبغي. وإذا كانت الحاكمة بلانكو على حق حين قالت إن هؤلاء قد أقبلوا مباشرة من أفغانستان والعراق، فلن يبشر ذلك بأي خير لزوجها.
وبحثت في مواقع أخرى على الإنترنت، وتعمقت، كان عدد جنود الجيش في منطقة نيو أورلينز يبلغ ٥٧٥٠، وما يقرب من ألف رجل من رجال شرطة الولاية، وكثيرون من بينهم من فرق مكافحة الشغب المسلحة للاشتباك مع الناس داخل المدن، كما مُنح أربعمائة من مفتشي الجمارك ورجال حماية الحدود سلطة الضبطية القضائية فأصبحوا نوابًا عن مأموري الشرطة المحلية. وكان من بين هؤلاء أكثر من مائة رجل من الوحدات التكتيكية لورديات الحدود، وكانوا في العادة مسلحين بأجهزة قذف القنابل اليدوية، وبنادق الخرطوش، وكباش دك الأسوار، والبنادق الهجومية، كما كانت في المنطقة أربع من فرق الأمن والسلامة البحرية، وهي الوحدات التكتيكية الجديدة التي شكلتها مصلحة الأمن الداخلي في إطار الحرب على الإرهاب، وكل من هذه الوحدات مزود بالبنادق من طراز إم-١٦، وبنادق الخرطوش، وقنابل يدوية من عيار ٠٫٤٥، إلى جانب خمسمائة من العملاء الخصوصيين لمكتب التحقيقات الفيدرالي، وفريق من شرطة العمليات الخاصة الفيدرالية، والقناصين. كانوا قد قرروا إرسال القناصين إلى المدينة لإطلاق النار على مرتكبي النهب المسلحين. وأجرت كاثي عملية الجمع الحسابية، وانتهت إلى وجود ما لا يقل عن ثمانية وعشرين ألف سلاح ناري في نيو أورلينز. وذلك هو الحد الأدنى الذي يحسب عدد البنادق والمسدسات وبنادق الخرطوش.
لم تستطع مواصلة النظر، فأطفأت الكمبيوتر، وجعلت تمشي في الغرفة، واستلقت على السرير وهي تحدق في الحائط، ونهضت وذهبت إلى الحمَّام لتتأمل الشريط الجديد من الشعر الأبيض فوق رأسها.
ثم عادت فأدارت الكمبيوتر بحثًا عن زوجها. كانت غاضبة كل الغضب منه، من عناده. لو أنه ركب معهم السيارة وحسب! لِمَ لمْ يخضع للمنطق نفسه الذي أدركه مئات الآلاف من الناس؟ كان لا بد أن يختلف؛ كان لا بد أن يفعل المزيد؛ كان لا بد أن يفعل شيئًا آخر.
ووجدت الإيميل الذي أرسله أحمد إلى هيئات البحث عن المفقودين، أصبحت الصور التي أرفقها هي صور زوجها الوحيدة التي بقيت لها، أو الصور الوحيدة التي كانت لديها في فينيكس على أي حال. كانت قد التُقطت قبل عام واحد، في مالقة. كان قد ذهب أفراد الأسرة جميعًا إلى مالقة وأُخذت الصورة على الشاطئ بالقرب من منزل أحمد، وعندما شاهدت كاثي ذلك الشاطئ لم تستطع أن تفكر إلا في النزهة، تلك النزهة الجنونية التي أصرَّ زوجها على قيامهما بها. ولو كانت ذاكرتها تحمل ما يرمز إلى ذلك الرجل، فإنها ذكرى ذلك اليوم.
•••
كانت الأسرة قد أمضت عدة أيام في مالقة عندما شعر الأطفال الأكبر سنًّا بالراحة في منزل أحمد وأنطونيا، وأسعدهم البقاء في المنزل في الصباح، وكان زيتون يريد أن يصحب كاثي وصفية للتريض على الشاطئ، وقضاء بعض الوقت على انفراد، وأما زخاري ونديمة وعائشة، فكانوا يتسامرون مع لطفي وليلى، ويلهون في حمام السباحة خلف المنزل، ولم يكادوا يلحظون مغادرة والديهم مع صفية.
وسار زيتون مع كاثي على الشاطئ، وزيتون يحمل صفية، وقطعا نحو ميل على رمال الشاطئ، والماء بارد وهادئ، وكانت كاثي تشعر برضًى لم تشعر به منذ سنوات، كانت النزهة تبدو عطلة حقيقية، وزوجها يبدو فعلًا هادئ البال، مثل الفرد السوي الذي يقضي عطلة فعلية، كانت مشاهدته على هذه الحال، ماشيًا على الشاطئ دون أي سبب حقيقي، لمجرد الإحساس بالمياه بين أصابع قدمه، قد كشفت لها عن جانب منه نادرًا ما كانت تراه.
ولكن ذلك لم يدم طويلًا؛ إذ ما كادت تلحظ طمأنينته وإحساسه بالفراغ، حتى رأته يركز بصيرته على شيء ما في الأفق.
وسألها: «ترين ذلك؟»
وهزت رأسها، لم تكن تريد أن تبصر ما أبصر.
«تلك الصخرة. هل ترينها؟»
كان قد لاحظ وجود تكوين صخري صغير في الأفق، داخل في البحر بعد عدة أميال على امتداد الساحل، وحبست كاثي أنفاسها؛ خوفًا من أي أفكار قد تتشكل في ذهنه.
قال لها: «فلنذهب إليها!» وقد أشرق وجهه وبرقت عيناه.
لم تكن كاثي تريد أن تقصد مكانًا معينًا بل أن تتنزه. كانت تريد نزهة تجلس بعدها على الشاطئ، وتلعب مع ابنتها، ثم تعود إلى منزل أحمد. كانت تريد عطلة، ألَّا تفعل شيئًا، بل أن تلهو وتلعب.
قال: «هيا بنا! الجو صحو وليست الصخرة بعيدة.»
سارا تجاه الصخرة، كانت المياه ممتعة، والشمس حانية، ولكنهما لم يكونا قد اقتربا اقترابًا ملموسًا بعد السير ثلاثين دقيقة. كما مرَّا بلسان منخفض ممتد في البحر يفصل قسمًا من الشاطئ عن القسم التالي. بدا لها ذلك خير موقع يبدآن عنده العودة، واقترحت كاثي ذلك، لكن زيتون استبعده دون مناقشة.
قال: «لقد اقتربنا كثيرًا!»
لم يكونا قد اقتربا كثيرًا، لكنها اقتفت آثار زوجها وهو يصعد الصخر، حاملًا صفية بإحدى يديه، ثم يهبط من حافة النتوء الوعر إلى القسم التالي من الشاطئ.
وقال عندما هبطا إلى الرمال المبللة: «أرأيت؟ لقد اقتربنا كثيرًا!»
وواصلا المسير، بعد أن نقل صفية إلى كتفيه، وسارا ميلًا آخر؛ وإذ بالشاطئ يعترضه نتوء صخري آخر، فصعدا فوقه أيضًا، وعندما هبطا إلى الأرض المنبسطة لم تكن الصخرة عند الأفق تبدو أقرب مما كانت عند بداية السير، ولكن زيتون لم يقلق.
كانا قد قضيا ساعتين في هذه المسيرة عندما اعترض الشاطئ لسانٌ أرضي أطول، وكان ضخمًا، أتاح للناس أن يقيموا فوقه المنازل والحوانيت. كان عليهما أن يصعدا درجًا خلال طرق هذه البلدة الصغيرة، وأصرت كاثي على التوقف لشرب الماء أو تناول المثلجات، فشربت كفايتها، ولكنهما لم يتوقفا طويلًا؛ إذ سرعان ما استأنف المسير، ولم يكن لديها خيار إلا أن تتبعه، وهرولا هابطَين على الدرج إلى الجانب الآخر لمواصلة السير على الشاطئ، ولم يخفض زيتون من سرعته قط، ولم يكن يبدو أنه يتفصد عرقًا.
قال: «لقد اقتربنا كثيرًا!» مشيرًا إلى الصخرة عند الأفق، وهي التي لم تكن تبدو أقرب مما كانت.
وقالت: «الواجب أن نعود، ما الغاية؟»
وقال: «لا لا يا كاثي! لا يمكن أن نرجع حتى نلمسها.» وكانت تعرف أنه سوف يصر على أن تفعل ما يفعل. كان دائمًا يريد مصاحبة أسرته له فيما ينشد.
لم يكن يبدو على زيتون أي من علامات الإرهاق، بل كان ينقل صفية من ذراع إلى ذراع، وقد غلبها النعاس، ويواصل السير.
كانا قد صارا لمدة أربع ساعات كاملة، وصعدا فمرَّا من خلال ثلاث بلدات بنيت على التلال ثم هبطا، وقطعا مسافة خمسة عشر ميلًا على الشاطئ قبل اقترابهما أخيرًا من الصخرة إلى الحد الذي يتيح لهما لمسها.
لم يكن منظرها باهرًا، بل كانت مجرد جلمود صخري ناتئ في البحر. وعندما وصلا أخيرًا إليها ضحكت كاثي، وضحك زيتون أيضًا، وبرقت عينا كاثي، وابتسم زيتون لها ابتسامة شقاوة طفولية، كان يعرف أن ما يفعلانه عبث.
قال: «هيا يا كاثي! فلنلمس الصخرة!»
فسارا إليها وصعدا بسرعة إلى قمتها، وجلسا هناك عدة دقائق يستريحان، وهما يشاهدان الأمواج تتكسر على الصخور تحتهما. وعلى الرغم مما كانت تشعر به كاثي من سخف الجهد المبذول وهما في الطريق إليها، فقد أحست كاثي الآن بالسعادة. كانت قد تزوجت رجلًا صلب الإرادة، وقد يكون أحيانًا عنيدًا إلى حد يثير الضحك. وقد يدفعها أحيانًا إيمانه بالقدر إلى الحيرة ونفاد الصبر. كانت تعرف أنه إذا عقد العزم على تحقيق شيء ما، ولو كان فكرة مجنونة، مثل لمس صخرة ما تبعد عنه أميالًا كثيرة، فلن يستريح حتى يحققه، كان أمرًا يُذهب العقل، بل غريبًا، ولكنها كانت تقول في نفسها إنه يمنح زواجهما نطاقًا ملحميًّا معينًا، وكانت تعرف أنه من البلاهة التفكير بهذا الأسلوب، ولكنهما يقومان برحلة معًا تبدو لعينها أحيانًا ذات جلال، فلقد نشأت وترعرعت في بيت صغير في باتون روج، مع تسعة أشقاء، وأصبح لها الآن، مع زوجها أربعة أطفال ينعمون بحياتهم، وزارت إسبانيا وسوريا، وتستطيع فيما يبدو تحقيق أي الأهداف التي يحلمان بها.
وقال من جديد: «هيا! المسيها!»
كانا يجلسان فوقها، لكنها لم تكن «رسميًّا» قد لمستها.
فلمستها وابتسم وأمسك بيدها.
وسألها: «أليست لطيفة الملمس؟!»
وبعد ذلك غدت هذه فكاهة بينهما، فكلما بدا لكاثي أن أمرًا ما عسير، وكانت على شفا اليأس، كان زيتون يقول: «المسي الصخرة يا كاثي! المسي الصخرة!»
فيضحكان، وعندها تجد القوة اللازمة للاستمرار، وكانت تعتمد في ذلك، إلى حد ما، على منطق غريب إذ تسأل نفسها: أليس اليأس أشد عبثًا؟ أليس الاستمرار أقل عبثًا من الفشل، من النكوص؟
الإثنين ١٩ من سبتمبر
استيقظت كاثي وهي تشعر بأنها حققت نوعًا جديدًا من السكينة، كانت تحس أنها قوية، وأنها على استعداد للشروع في التخطيط، كانت تشعر بأنها ظلت مشلولة على مدى أسبوعين في انتظار خبر عن زوجها، ولكن ذلك كان حمقًا، وأحست بالحاجة إلى أن تعود إلى بيتها، إلى المنزل في شارع دارْت، وداهمتها ثقة مفاجئة بأنها سوف تجد زوجها هناك. كانت أسرته في سوريا على حق، لم يكن ثمة أخطر من تلك العصابات الجوالة، كان ذلك أعقل ما قيل، فعندما خلت المدينة من سكانها ازداد السلب والنهب وقاحة، على الأرجح، واجتاح أحياءً أخرى في الضواحي، لا بد أن اللصوص أتوا إلى المنزل في شارع دارْت، ولم يكونوا يتوقعون وجود أحد فيه فقتلوا زوجها.
كانت تحتاج إلى العودة إلى نيو أورلينز، واستئجار زورق من نوع ما، كي تعود إلى المنزل في شارع دارْت، كانت تحتاج إلى رؤيته، في أي مكان كان، كانت تحتاج إلى أن تعثر عليه وتدفنه، كانت تريد أن ينتهي كل ذلك.
كانت تشعر طيلة الصباح بأمن من نوع جديد، كانت تقول في نفسها: إن الوقت حان للجد، للتوقف عن الأمل، وللشروع في العمل استعدادًا لأي شيء يأتي به المستقبل.
•••
وعند الظهيرة سمعت كاثي أن إعصارًا آخر، وكان يدعى «ريتا» هذه المرة، يتجه إلى نيو أورلينز. وهكذا ألغى العمدة ناجين الخطط التي كان قد وضعها لإعادة فتح المدينة، وكانت العاصفة قد رُصد مسارها فوق الخليج وتتجاوز سرعة الرياح فيها ١٥٠ ميلًا في الساعة، وكان المتوقع وصولها يوم ٢١ من سبتمبر. وقالت كاثي في نفسها إنها حتى لو تمكنت من الوصول إلى مقربة من نيو أورلينز فسوف تردها الرياح على أعقابها.
ودخلت نديمة غرفة الجلوس.
وسألت: «أينبغي أن نصلي؟»
وكادت كاثي أن تقول: لا — فلم تفعل غير الصلاة — لكنها لم ترد أن تخيِّب رجاء ابنتها.
فقالت: «قطعًا. هيا بنا.»
وأقامتا الصلاة على أرضية غرفة الجلوس، وبعدها قبَّلت جبين نديمة، واحتضنتها، وقالت في نفسها: «سوف أعتمد كثيرًا عليكِ. مسكينة يا نديمة! فأنتِ لا تعرفين.»
ثم رن تليفون كاثي الخلوي، فالتقطته وقالت: «مرحبًا.»
وسألها صوت رجل: «هل هذه مدام زيتون؟» كان يبدو متوترًا، وأخطأ في نطق اسم «زيتون»، وشعرت كاثي بالهلع لكنها تمكنت من أن تقول: نعم.
وقال الرجل: «شاهدت زوجك!»
وجلست كاثي، كانت صورة جثة زيتون طافية في المياه القذرة …
وقال الصوت: «إنه بخير، وهو في السجن، أنا أعمل بالتبشير. كنت في «هنت»، السجن الموجود في سانت جابريل. وهو هناك. وأعطاني رقم تليفونك.»
وسألته كاثي عشرة أسئلة مرة واحدة.
«آسف، ذلك كل ما أعرفه. لا أستطيع أن أخبركِ بأي شيء آخر.»
وسألته كيف يمكنها الوصول إلى زيتون، وإذا كان يلقى الرعاية اللازمة.
«اسمعي! لا أستطيع أن أحادثك بعد هذا. وإلا واجهت المتاعب. إنه بخير، وهو هناك. هذا كل شيء. لا بد أن أذهب.»
وقطع المكالمة.