تأسيس ٢
وهكذا؛ وبعد أن تمكَّن العبريُّون من تهويد تراث المنطقة، وجعلوا
جماعتهم وأسلافهم قطبَ الدائرة في كتابهم، فنسبوا بطولات الملاحم
القديمة إلى آبائهم الأوائل أحيانًا، وأدرجوا الأبطال في الميثولوجيا
القديمة للمنطقة ضِمن النسل العبراني أحيانًا أخرى، أو غالبًا ما كانوا
يختارون البطل — أيًّا كان جنسه — ثم يصوغون له شجرة نسبٍ تولده من
أسلافهم، فكان أن تلاقحت على صفحات الكتاب ثقافات شتى، أولدت هجينًا
تعشَّقت فيه رواسب شعوب المنطقة، ولَعِب فيها اليهود دور البطولة
المطلقة.
ولعلَّه من نافلة القول، وتكرار المعروف، أن هذا الكتاب لا يُعَد
بحالٍ مصداقًا لما اصطلح على تسميته ﺑ «كلمة الله الثابتة»، ولدينا،
وبين أيدينا، في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة سنة
١٩٦٠م إقرار واضح يقول: «ما من عالِم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى
ذاته كتب كل التوراة منذ الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي
كتبه عديدون بعده، بل يجب القول:
إن ازديادًا تدريجيًّا حدث، سبَّبته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»
ومعلوم أيضًا، أن الباحثين التوراتيين، قد اختلفوا فيما بينهم، حول
ضبط جمع مادة هذا الكتاب وتوقيتها، وأنه لم يُكتَب بيد مؤلفٍ واحدٍ في
عصرٍ واحدٍ لجمهور واحد، بل قام بهذه المهمة مؤلفون كثيرون، في عصور
متباينة، لجماهير تتباين مزيجًا ومزاجًا، حتى امتدت هذه التفانين إلى
أكثر من ألف عام، وقدَّر البعض تاريخ الانتهاء منها حوالي ٤٤٠ق.م،
١ وربما في تقدير آخر، حتى القرن الأول قبل الميلاد.
٢
ولعل أشهر المدارس البحثية في التوراة، وهي مدرسة «فلهاوزن
WILLHAWSEN»، التي أكدت أن تصانيف
التوراة قد بدأ جمعها بعد عهد موسى بقرون، وأن الجُمَّاع والمصنفين
كانوا مختلفين مزاجًا ومَشْربًا، ودلَّلت على ذلك بأدلة هامة، لعل
أخطرها ولا يقبل جدلًا، أن اسم الإله وطبيعته وعلاقته باليهود، يختلف
ما بين سفر وآخر، إضافة إلى تكرار القصص في الأسفار، مما يشير إلى أن
المصنفين لم يلتقوا معًا، ليصفُّوا ما بينهم من خلافات حادة في
التفاصيل، هذا مع فروق واضحة وعميقة إلى حد التنافر التام في اللغة
والأسلوب بين هذه الأسفار.
٣ أما النسخة العربية، فتؤكد على غلافها أنه «قد تُرجِم عن
اللغات الأصلية، وهي العبرانية (أصلًا الكنعانية)، واللغة الكلدانية
(وما تحمله من تراث رافدي طويل)، واللغة اليونانية (وما حملته من علوم
جامعة الإسكندرية وتراثها المصري العريق).»
وقد ساعد اليهود على الإحاطة بشكلٍ واسعٍ بتراث المنطقة وتحميله
للتوراة، أن هناك ظروفًا أدت إلى ارتحالهم في مناسبات مختلفة إلى
الرافدين وإلى مصر، مما أدى إلى زيادات وتراكمات اصطبغت مع كل ارتحال
بلون جديد، مما أدى بباحث متحيز لليهود مثل «إيغار لسنر» إلى الاعتراف
باحتواء التوراة على متنافرات عديمة الاتساق والتمازج، وقوله: «إن
تابوت العهد، يعود بنا إلى مساكن آلهة
النيل المتنقلة، وآثار السحر ترجع بنا إلى
مصر، كلما تذكرنا قصة الطوفان والأرقام
الغامضة
ببابل، ويصير الإله البابلي
جلجامش نمرودًا، وتصبح ثيران
آشور المجنحة كروبيم العبريين، كما أن أسطورة الجنة، وشخصية
الشيطان أهريمان وعالَم الملائكة ورؤساء الملائكة، تعيد إلى أذهاننا
بلاد
الفرس، ونتعرَّف على البعل في
إله
الفينيقيين والكنعانيين في أسماء
إشبعل ومربعل. لقد كان الفلسطينيون الذين يُحتمَل أنهم وفدوا أصلًا من
كريت، ينظرون إلى اليمامة أصلًا كإله، أما السمكة التي عُبِدَت في
عسقلان، فتظهر في قصة يونان.
٤
وكلام «لسنر» هنا كلام شديد العمومية والتسطيح، إلا أنه يشير إلى
المعنى المقصود، ويؤكد وراثة اليهود، أو سلبهم، تراث الآخرين بشكل فاضح
وضَحَ لدى «لسنر»، وهو المعروف بتحزُّبه لبني إسرائيل. إلا أن هناك
دراسات أخرى أكثر علمية وتدقيقًا وتوثيقًا، قدمها جلَّة من العلماء
الأجلاء، لعل أهمها وأنشرها وأحوزها للثقة، دراسات المصرولوجي «جيمس
هنري برستد J. H. BREASTED» حول تأثير
الحضارة المصرية وثقافتها القديمة في التراث التوراتي، ودراسات عالِم
الآثاريات السومرية، «صموئيل نوح كريمر S. N.
KRAMER» أحد أعلام أركيولوجيا الرافدين، حول تأثير
السومريين المباشر، وغير المباشر — عن طريق بابل وآشور — في
التوراة».
ويقول «برستد»: «إن الكنعانيين، الذين كانوا يسكنون هذه البلاد قبل
العبرانيين، كانوا قد اجتازوا مرحلة النمو المتحضر، تبلغ
أكثر من ألف سنة، حينما غزا العبرانيون
البلاد، وقد عرفنا من النقوش التاريخية، البابلية والمصرية القديمة،
وكذلك من الحفائر الآثارية، شيئًا كثيرًا عن المدن الفلسطينية الراقية
النامية، السابقة لعهد العبرانيين، كما كان للثقافة البابلية … أثر هام
خالد في فلسطين الكنعانية. وعن طريق الكنعانيين، بوجه خاص، وصل أثر
البابليين في الفن والأدب والدين إلى العبرانيين، يضاف إلى ذلك أن هذا
الإقليم كان، منذ زمن بعيد، واقعًا تحت نفوذ الحضارة المصرية القديمة؛
فقد بدأ المصريون يبسطون سيطرتهم على الساحل الفينيقي قبل أن يطأ
العبرانيون فلسطين
بأكثر من ألفي سنة، إذ اقتحمت الجيوش المصرية فلسطين قبل سنة ٢٥٠٠ق.م. ولما فتح
المصريون آسيا الغربية، ووصلوا في فتحهم إلى نهر الفرات في
خلال القرن السادس عشر ق.م، بقيت فلسطين
مستعمرة في أيديهم
أكثر من أربعة قرون. والواقع أنهم حكموا فلسطين
مدة
قرنين بعد دخول العبرانيين فيها،
وبذلك بلغت المدنية الكنعانية مرتبة سامية في القرون التي احتلتها
فيها مصر، فلما غزاها العبرانيون، كانت قد اصطبغت
مرارًا وتكرارًا بالعناصر المصرية.»
٥
وغاية ما يريده «برستد» هنا، بوضوح، هو القول: إنَّ العناصر الثقافية
الكنعانية، حتى التي أثرت في اليهود الغزاة، تعود بدورها إلى أصول
مصرية ورافدية، لذلك يستطرد «وكان من نتائج ذلك، أن العبرانيين حينما
غزوا فلسطين، صاروا على اتصال مباشر بتلك الحضارة الكنعانية المركبة،
التي أُنشئ معظمها من العناصر البابلية والمصرية القديمة معًا. أما من
الناحية الثقافية، فإنها كما أوضحنا كانت داخلة ضمن الإقليم التجاري
الذي طالما كانت المعاملات البابلية تسيطر عليه، كما كانت في الوقت
نفسه تقع مباشرة في ظل صرح المدنية المصرية العظيمة.»
٦
ومن ثَمَّ قام «برستد» بعقد مقارنات عديدة وهامة، بين ما عثر عليه من
نصوص مصرية، وبين النصوص التوراتية، كان أهم نتائجها: أن حكمة الملك
المصري الأهناسي المعروفة ﺑ «نصائح إلى مري كارع
MARE
KA RA» قد وجدت طريقها إلى سفر صموئيل وسفر الأمثال،
٧ كما أثَّر تصور المصريين لمفهوم العدالة تأثيرًا لا يقبل
شكًّا في سفر ملاخي وهو يقول: «إليكم يا من تخافون اسمي، تشرق شمس
العدالة بالشفاء في أجنحتها» (ملاخي، ص٤)، ويعقِّب بأن العدالة في
المفهوم المصري مثَّلتها الإلهة «ماعت» بنت «رع» الشمس، وأن شمس
العدالة وصفتها التوراة بأن لها أجنحة، ولم يوجد في أي تصور عبري صورة
لإلههم يهوه تمثله بأجنحة، ولم يوجد ذلك إلا في النقوش المصرية وحدها.
٨
ثم يؤكد أن اليهود — لا شك — كانوا على عِلم بأنشودة إخناتون العظيمة
لإله الشمس، بعد أن قارنها بسِفر المزامير، وكذلك كانوا على علمٍ بحكم
الحكيم المصري «آمن موبي AMEN MU BE»،
بعد أن عقد بينها وبين أسفار أرميا والمزامير والأمثال مقابلة نصيَّة
كادت تكون حرفية، استغرقت حوالي خمس وثلاثين صفحة من القطع الكبير. هذا
ناهيك عن العدد الكثيف والجمِّ الغفير مما قدمه «برستد» اكتفينا منه
بهذه اللمحات، مع الإحالة إلى المصدر لمن ابتغى المزيد.
أما عالِم السومريات «كريمر» فقد قدم جهدًا مشابهًا في مقارنات مدهشة
حقًّا ما بين التراث السومري وبين التوراة، حتى كاد يجزم أن كل آراء
السومريين في الكون والدين قد انتقلت بتفاصيلها إلى التوراة، وذلك عبر
البابليين الذين سبق وورثوا التراث السومري وشذَّبوه وقدموه إلى
الدنيا، ويمكن الرجوع في ذلك تفصيلًا إلى أهم كُتبه المترجَمة، وهي:
«السومريون: تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم»،
٩ الأساطير السومرية،
١٠ «من ألواح سومر».
١١
أما نحن، فما نقصده — حقيقةً — ونُصرُّ عليه، هو أن هذه المآثر التي
جمعها علماء أجلاء وقارنوها (وعدُّوها قد دخلت التوراة بالصدفة، أو
بالتأثُّر الطبيعي لجماعة بلا حضارة بالحضارات الكبرى في مصر
والرافدين) لم تدخل التوراة بالصدفة وحدها، ولا بالتأثُّر المنطقي الذي
يصبُّ الأعلى في الأسفل، إنما ما نراه، ونحاول إيضاحه في هذه الدراسة،
هو وجود العمْد والقصد من أهل التوراة، ليس مجرد الفائدة العلمية
والحضارية، إنما لتحقيق أغراض ومقاصد عظمى، ستتضح في حينه.