تأسيس ٣
إذن؛ فقد تسلل بنو عابر إلى الممالك الكنعانية تدريجًا وعلى دفعات، ويتضح ذلك في قصة التوراة عن هبوط النبي إبراهيم ضيفًا على مملكة شاليم، التي كانت قائمة قبل زمنه بزمان، وكان يحكمها كاهن ملك هو «ملكي صادق»، أو «الملك صادق»، مما يشير إلى أن ممالك كنعان كانت تعيش مرحلة المُشترك المعبدي حتى هذا الوقت.
وقد ظل هؤلاء الأغراب من العبريين يعيشون زمنًا طويلًا على هامش الحياة الكنعانية المستقرة، وتكلموا لغة أهل البلاد «الكنعانية»، وعبدوا الآلهة الكنعانية، لكن الفرصة الحقيقية للسيطرة الكاملة على الأرض، أو التحول على الأقل إلى مواطنين من الدرجة الأولى، لم تُتَح لهم طوال هذه الحقبة، وظلُّوا مجرد عصابات مأجورة لملوك كنعان، حتى جدَّ جديدٌ تَمثَّل في جَدْبٍ حلَّ بأرض كنعان، دفع بالعصابات العبرية إلى هبوط أرض مصر يستجْدون القوت، في عهد النبي «يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»، برفقة أبنائه المعروفين بالأسباط، وعلى رأسهم النبي «يوسف»، حيث نالوا هناك — فيما تزعُم التوراة — حظوظًا عظيمة، انتهت بهم وزراء لخزانة المصريين (؟!)، برغم أنه لم يوجد نصٌّ مصري واحد — فيما اكتُشِف حتى الآن — يشير إلى هذا المعنى، وقد حصلوا على هذه الرتبة بعد صداقة عقدها «يوسف» النبي مع الفرعون المصري، عندما أبهرته قدرة يوسف على تفسير الأحلام والتبصير وقراءة الطالع، إلا أنه ما إن انقضى زمن الفرعون الحلوم، حتى ضاق بهم حلم الفرعون الجديد، وقلب حظوظهم رأسًا على عقِب، فأمر باستخدامهم كعمالة رخيصة في الأعمال الشاقة، ودخل بنو عابر عهد مذلة مريرة تستشعر مرارتها في كل سِفر من أسفار التوراة، مصحوبة باللعنات المرتجاة استنزالًا على المصريين من رب العالمين. ومرة أخرى تحين الفرصة لبني عابر، فتطرأ في مصر الفتنُ الداخلية، التي تشغلها وتصرفها عن القبيلة الهامشية، وعن شئون إمبراطوريتها في الخارج، مما يخفف من هيمنتها بعض الشيء على مستعمراتها الآسيوية، في وقتٍ انشغل فيه أهل الرافدين في صراعات انقسمت فيها البلاد على نفسها، مما يعطي الضوء الأخضر لبني عابر للهروب من مصر إلى كنعان مرة أخرى. وفي رحلة الخروج أو الهروب، وفي ضوء انشغال اليد العليا عنهم بشواغلها الخاصة في الداخل، يسجِّل اليهود في توراتهم أبشع صور الوحشية، فيأتون على كل ما يقابلهم في الطريق ذبحًا وتحريقًا، ولم يسلم من أذاهم لا الإنسان ولا الحيوان، ولا حتى نبات الأرض، بعد أن قررته لهم الشريعة الربَّانية وأباحته بإباحية مطلقة. وأسفر الرب العبراني آنذاك عن هويته بوضوحٍ، فأعلن أنه من الآن «الرَّبُّ رَجُلُ الْحَرْبِ» (خروج، ١٥: ٣)، وأن رائحة دخان المحروقات أحبُّ المشهِّيات إلى نفسه الملتاثة «وَقُودُ رَائِحَةِ سرُورٍ لِلرَّبِّ» (متكررات في سفر اللاويين، إصحاح: ١، ٩، ١٣، ١٧ … إلخ). ولم يكتفِ بذلك، بل قرر أن يمارس لذة الذبح والإحراق، فترك عرشه السماوي وهبط يتخبط كرهًا وفظاظة ليمارس رغباته «وَأَجْعَلُ مَسْكَنِي فِي وَسَطِكُمْ، وَأَكُونُ لَكُمْ إِلهًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْبًا» (لاويين، ٢٦: ١١)، وأخذ ينفث أوامره المتكررة:
-
وأحْرقوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّار (عدد، ٣١: ١٠).
-
اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَكُلَّ امْرَأَةٍ (عدد، ٣١: ١٧).
-
أحْرقُوا حَتَّى بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ للنَّارِ (تثنية، ١٢: ٣١).
-
فَضَرْبًا تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَتَحْرِقُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ، تَجْمَعُ كُلَّ أَمْتِعَتِهَا إِلَى وَسَطِ سَاحَتِهَا، وَتُحْرِقُ بِالنَّارِ الْمَدِينَةَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهَا كَامِلَةً لِلرَّبِّ إِلهِكَ (تثنية، ١٣: ١٥، ١٦).
أما شريعة الحرب، وفق الخطة المُثلى، التي كتبها رب اليهود بإصبعه على الألواح، والتي نفذها «يشوع» خليفة موسى على القيادة، بدقة وإخلاص تحسده عليهما الضواري من كواسر الوحش، فهي مرصودة في أوامر الرب وتوجيهاته:
وكان من طبائع الأمور أن تستقر أمور مصر الداخلية، وتخرج تُلملم شتات مستعمراتها الخارجية، وأن تهدأ آشور وتتماسك بابل، ليبدأ هؤلاء وأولئك يبسطون حمايتهم على المنطقة، وإن اتفقت الأغراض السياسية لكليهما على أن تظل دولة سليمان بن داود على حالها، كحائل بين الدول العظمى، لكن مع تناوب السيادة عليها حسب الفرص المتاحة. ولا يجد بنو عابر من يحرقونه ليكون رائحة سرور للرب، فيحرقون بعضهم بعضًا، وتنقسم مملكة سليمان مملكتين: السامرة في الشمال، ويهوذا في الجنوب، ويكتشف المصريون أن طبع بني عابر اللئيم غلَّاب، فيجرد الفرعون شيشنق عليهم حملة تجرِّدهم مما يستر عوراتهم، ليأتي الآشوريون، ومن بعدهم البابليون، ليستاقوهم أسرى وسبايا على شاطئ الفرات، ليعيشوا هناك في الأسر زمانًا.
وتتغير الأحوال، وتجدُّ تغيرات عالمية جديدة مع بروز القوة الفارسية الطالعة، فيتحالف المأسورون في بابل مع «قورش» عظيم الفرس، ويسرِّبون له أخبار بابل أولًا بأول، حتى يفتحوا له أبوابها، فيرد صنيعهم بأحسن منه، ويعيدهم على دفعات إلى فلسطين، ويسمح لهم بإعادة بناء الهيكل السليماني، ويقيمون دولة خاضعة للفرس، لكن الأحداث تتلاحق على صفحة المنطقة، مع قوة الإغريق الصاعدة، فيصطدم الإسكندر المقدوني بالفرس، ويحتل فلسطين لتصبح مستعمرة يونانية، ثم تقع بعد موته في قرعة قواده الرومان، لتتحول إلى مستعمرة رومانية، ويثور اليهود ثورات متكررة ضد الرومان، فيأتي القائد «طيطس» ليكسب في التاريخ شرف إنهاء الوجود اليهودي هناك، ويُدمر الهيكل، ويُشتت أصحابه، ليبدأ عصر الشتات لليهودي التائه، لكن ليكون ذلك بداية بعثٍ جديدٍ، واحتلال عالمي للعقول وتهويدها، مع ظهور المسيحية وانتشارها، إضافة إلى فرصة أخرى حانت في مكان بعيد في عمق البوادي، مع ظهور الدعوة الإسلامية، وهو ما سنلمسه لمسًا رفيقًا إبان استمرارنا في بحثنا هذا.