ميثولوجيا الخلق والتكوين
… وشقَّها كما تُشق الصَّدَفة إلى قسمين وثبت
نصفًا جعله سقف سماء …
والأسفل ثبَّته في الأرض، خلق منه الأرض.
من ملحمة الخلق البابلية (إينوما إيليش)
تقول قصة الخلق التوراتية إن الرب العبراني، بعد أن قضى على فوضى
الماء أو الغمر البدائي الذي كان أول موجودات الوجود، وكان محيطًا
أزليًّا مظلمًا، مثَّلته التوراة في وحشٍ خرافي عظيم أسمته «لوياثان»
هو التنين ذو الرءوس المتعددة، قام الرب بشقِّه نصفين، صنع منهما
السماء والأرض، وقد استغرقت هذه العملية التصنيعية ستة من الأيام،
استراح بعدها الإله من عناء عمله على عرشه، في اليوم السابع. وإليكَ
النصوص:
-
أَنْتَ شَقَقْتَ الْبَحْرَ بِقُوَّتِكَ، كَسَرْتَ رُءوسَ التَّنَانِين عَلَى
الْمِيَاهِ، أَنْتَ رَضَضْتَ رُءوسَ
لِوِيَاثَان (مزمور ٧٤).
-
اسْتَيْقِظِي، الْبسي قُوَّةً يَا ذِرَاعَ الرَّبِّ،
أَلَسْتِ أَنْتِ الْقَاطِعَةَ رَهَبَ، الطَّاعِنَةَ
التِّنِّينَ، أَلَسْتِ أَنْتِ
الْمُنَشِّفَةَ الْبَحْرَ، مِيَاهَ الْغَمْرِ
الْعَظِيمِ (أشعياء، ٥١: ٩، ١٠).
-
فِي ذلِكَ الوقتِ ستقتل
لَوِيَاثَانَ، الْحَيَّةَ الْهَارِبَةَ، لَوِيَاثَانَ
الْحَيَّةَ الملتوية، وَيَقْتُلُ التِّنِّينَ الَّذِي
فِي الْبَحْرِ (أشعياء، ٢٧: ١).
-
وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى
وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ
اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ، …
وَقَالَ اللهُ: لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ.
وَلْيَكُنْ فَاصِلًا بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ، فَعَمِلَ
اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي
تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ.
وَكَانَ كَذلِكَ، وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً
(تكوين، ١: ٢–٨).
ثم بعد ذلك، تخيَّر الرب التوراتي مكانًا على يابسة الأرض، أسمته
التوراة «جنة عدن»، وقد اتَّسم الإله بصفة الخُلد لأنه كان يتعاطى في
هذه الجنة من شجرة الحياة التي تمنح الحياة الأبدية، كما اتَّسم
بالمعرفة، لأنه كان يتغذى من شجرة أخرى هناك، هي شجرة المعرفة. ويومًا
قرر الرب خلقَ الإنسان المدعو «آدم»، ثم خلق له من ضلعه أنيسًا هو
«حواء» زوجته، ووضعهما معًا في الجنة، لكنه حرَّم عليهما ثمرة شجرة
المعرفة، ففضَّل أن يكون ربَّ جاهلين لا رب عارفين. وتشرح التوراة
القول:
ثُمَّ كَانَ ضَبَابٌ يَطْلَعُ مِنَ الأَرْضِ، وَيَسْقِي كُلَّ وَجْهِ
الأَرْضِ، وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ،
وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا
حَيَّةً، وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا،
وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ، وَأَنْبَتَ الرَّبُّ مِنَ
الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ،
وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي
وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ
مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ … وَأَخَذَ الرَّبُّ
الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا
وَيَحْفَظَهَا، وَأَوْصَى الرَّبُّ آدَمَ قَائِلًا: مِنْ جَمِيعِ
شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلا تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ
مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ، وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: لَيْسَ جَيِّدًا
أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ …
فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ
وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا، وَبَنَى
الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً،
وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ، فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ
عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي، هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا
مِنِ امْرِئ أُخِذَتْ … وكَانَتِ الْحَيَّةُ أَحْيَلَ جَمِيعِ
حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الإِلهُ،
فَقَالَتْ لِلْمَرْأَةِ: أَحَقًّا قَالَ اللهُ لا تَأْكُلا مِنْ كُلِّ
شَجَرِ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلْحَيَّةِ: مِنْ ثَمَرِ
شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ
الْجَنَّةِ، فَقَالَ اللهُ: لا تَأْكُلا مِنْهُ وَلا تَمَسَّاهُ
لِئَلَّا تَمُوتَا، فَقَالَتِ الحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: لَنْ تَمُوتَا!
بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ
أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
… وَدَعَا آدَمُ اسْمَ امْرَأَتِهِ «حَوَّاءَ» لأنَّهَا أُمُّ كُلِّ
حَيٍّ» (تكوين، إصحاحات: ٢، ٣).
وهكذا، وبرغم محاولة الرب إيهام الزوجين أن ثمرة المعرفة ثمرة سامة
وقاتلة، فقد فضَّل الزوجان العلم بالشيء على الجهل به، فغضب الرب
لفضولهما المعرفي، وخشي أن يدفعهما الفضول إلى ما هو أكثر ترويعًا،
وربما يأكلان من ثمرة الخلد فيكسبان الألوهية، مما قد يؤدي إلى منافسة
غير مضمونة النتائج، ومن هنا:
وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: هُوَ ذَا الإنْسَانُ صَارَ كَوَاحِدٍ
مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ
يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا، وَيَأْكُلُ
وَيَحْيَا إِلى الأَبَدِ، فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ
عَدْنٍ لِيَعْمر الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا، فَطَرَدَ
الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ،
وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاة
(؟!) (تكوين، ٣: ٢٣، ٢٤).
وقد كان المظنون، حتى عهد قريب، أن الكاتب التوراتي هو الناظم الأولي
لميثولوجيا الخلق بهذا الشكل، الذي اكتسب ثباتًا عجيبًا، وانتقل إلى
ديانات أخرى مع بعض التهذيب هنا والتشذيب هناك، حتى بدأت الكشوف
الأركيولوجية المعاصرة في آثاريات المنطقة تأتي بثمارها، وتم فك رموز
الكتابة الهيروغليفية المصرية، والمسمارية والرافدية، والأوغاريتية
الكنعانية، مما أثبت أن هذه الملحمة ليست إلا تهجينًا مستهجنًا لمجموعة
من الملاحم القديمة، التي عرفها بنو عابر مبكرين، وأعادوا صياغتها في
توراتهم، بينما اندثرت تلك الحضارات القديمة، ونُسِي تراثها، حتى أعاد
الزمان سيرته، وبدأ نفض غبار الأيام الغبراء عنها.
وبرغم عدم تناسق الدراما التوراتية في التكوين، وتنافرها بعضها مع
بعض، ومع أبسط البداهات العقلية، كنتيجة لسلب التراث دون إدراك لمرامي
تركيباته الأصلية، ولنزعه من سياقه البيئي اجتماعيًّا وجغرافيًّا
وزمانيًّا، فإن العودة إلى الأصول الأولى لمنابته، تضع بين أيدينا
الأسس الحقيقية، والظروف التي بنى عليها الأقدمون تصوراتهم الكونية،
كناتج طبيعي لمشاهدات الإنسان وتراكم خبرات تفاعله البيئي، ومحاولته
تفسير ما يجري من جدل بين عناصر الطبيعة، ودوره ككائن متميز في هذا
الجدل. ولنعد معًا إلى البداية نستطلع أحوال هذا الإنسان في ضوء ما
سنطرحه من تصورات.
في مناطق الخصب، التي بدأ الأقدمون يستقرون فيها، بدأ صراع إنساني
رفيع القدرات، بين الإنسان والطبيعة، من أجل أن يثبِّت أقدامه في
مقرِّها، رافضًا التراجع إلى طور البداية والبداوة، تطلعًا إلى حياة
أقدر على تحدي مزاج الطبيعة المتقلب، وتحديها المستمر لهذا الكائن الذي
نشأ من رحمها، ويحاول السيطرة عليها وكبح جماحها لصالح وجوده
واستمراره.
وفي مناطق الخصب تنتاب الطبيعة تقلباتها المزاجية، ما بين جذب يزهق
الأرواح جوعًا، ويقضي بجفافه على الزرع والضرع، وبين إفراطٍ في السخاء
فتدمِّر الفيضانات جهود سنين مضنية وشاقة من عمل الإنسان الدءوب. أما
الآفة الكبرى، والوحش الجبار، فكان ماء البحر الذي يداوم محاولاته في
عدم ترك اليابس، واستمرار طغيانه على دلتا الأنهار، مما أدخل الإنسان
المزارع في ملحمة رائعة البطولة مع هذا الوحش، ذي الأمواج المتطاولة
بألسنتها من الماء المالح، تلفح زرعته وتُربته كل حين، وكان على كل
منهما: الإنسان، والبحر، أن يثبت قدرته أكثر من الآخر على التمسك
بالطمي الذي كانت تلقيه الأنهار في دلتاها. وكثيرًا ما أطلَّ البحر
بأعاصيره رءوسًا وألسنةً تنهش من الفلاح زرعه، وتشيع في مستقراته الويل
والدمار. ولعلَّ أروع هذه الملاحم بطولة ما سجله المصريون وهم يضمُّون
إلى اليابس مزيدًا، يومًا وراء يوم، ويدفعون البحر إلى الوراء خلف
حدوده، حتى تمكَّنت الدلتا من قوامها العظيم، وهو الأمر ذاته الذي جدَّ
السومريون لتحقيقه في العراق القديم.
ومن هنا كان البحر دائمًا رمزًا للفوضى والدمار والظلام، وأنه كي
يُقيم الفلاح يابسًا لزرعه وقراه، فلا بد أن يفرضه على شواطئ البحر
فرضًا، أو ينتزعه من البحر بجبروته، ومن هنا نفهم لماذا تصور الإنسان
بداية الكون بحرًا أزليًّا فوضويًّا معربدًا، ولماذا تصوروه وحشًا
متعدد الرءوس، لا تقوم الحياة المستقرة واليابسة، بوجه خاص، دون التغلب
عليه وقهره. ولذلك تصور العقل، وهو في بدئه يحاول الفهم والتفسير، أن
البحر هو الأساس في الكوزموسية، ورمز للشر والظلام، بينما أصبح اليابس
بطميه، الذي تأتي به الأنهار، رمزًا للخير والضياء، أما الشمس التي
كانت تساعد على مزيد من التجفيف وزيادة المساحات المنزرعة، فقد أصبحت
أعظم الآلهة طرًّا في جميع البلدان الزراعية، والوديان النهرية، بلا
استثناء.
ومن هنا فقد تصوَّر المصريون الأقدمون، وهم بسبيل الفهم، إنشاء
علاقات جدلية مع الطبيعة. إن الكون بدأ غمرًا ويمًّا هائلًا مظلمًا،
أطلقوا عليه اسم «نون»، وأنَّ من «نون» خرج إله الشمس «رع» بقدرته
وحده، لينشر الضياء والحرارة على الأرض، من أجل ظهور اليابس، وتكوُّن
التربة الصالحة للزراعة. وعليه فإن «رع» قبل الخلق كان في الأزلية
والبدء على سطح «نون»، أو ما جاء في الرواية التوراتية يقول:
«وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ
ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ»، وأن
التعبير «يرفُّ» يستدعي معنى الطيران على وجه المياه. والإله الذي عرفه
الشرق القديم، في المصورات طائرًا، هو «رع» المصري، الذي كان يُمثَّل
دائمًا في شكل قرص الشمس مجنحًا، وهو الذي خرج من الغمر الأول «نون»،
وهو الذي أنجب إله الهواء «شو» الذي فتق الأرض قسمين عظيمين، بعد أن
كانتا رتقًا، ورفع القسم الأعلى سماءً أصبحت هي الإلهة «نوت»،
١ ثم تزوجت السماء والأرض، أو تفاعلت ظواهرهما فأنجبا أول
البشر على الأرض، لإتمام المهمة بزيادة المساحة المنزرعة زرعًا
وتفليحًا، تسجيلًا للوعي بدور ومهمة كل من الطبيعة والإنسان في تحقيق
الغرض الأسمى. وفي قصة أخرى روى المصريون أن وحشًا أول، رمزوا له
بالاسم «حاتمور»، أو «هاتور»، أو بالقلب اللغوي «هاروت»، وكانت إلهة
أنثى، قد انطلقت تُدمر بلا تمييز، وتدخَّل «رع» الشمس لإنقاذ البشرية،
وتغلَّب عليها بعد ملحمة بطولية كبرى. ولا ريب أن الشمس هنا كانت تقوم
بدورها المعروف ضد ماء البحر الطاغي على اليابس، وهو ما ردَّدته
التوراة بوضوحٍ، لكن بعد أن نسبت دور البطولة للرب العبري الذي قضى على
البحر البدائي، ونشف البحر «أَلَسْتِ أَنْتِ الْمُنَشِّفَةَ الْبَحْرَ،
مِيَاهَ الْغَمْرِ الأُولى» (أشعياء، ٥١: ١٠).
وكما أشرنا، فقد تكررت الملحمة البطولية بين الإنسان والبحر، في دلتا
دجلة والفرات على رأس الخليج العربي، وسجَّلها السومريون، ومن بعدهم
البابليون، ليؤكدوا أنهم عرفوا علاقة ظواهر الطبيعة بعضها ببعض،
وأدركوا دور الإنسان فيها، فهذا الإله «نمو
NAMU» ويُعبَّر عنه بالمقطع الصوري
الذي يصوِّر البحر، يوصف بأنه المحيط الأول الذي
أنجب السماء والأرض،
٢ ثم تنجب السماء والأرض إله الهواء «إنليل»، الذي تكفَّل
بمهام هامة، أولاها خلق الفأس أداة العمل الزراعي،
٣ حتى إن خلْق الفأس، تلك الأداة البسيطة، قد أُعطي أهمية
كبرى تليق بمقامه آنذاك، فأفردت له ملحمة كاملة مقدسة، تتحدث في الوقت
ذاته قائلة:
الرب الذي يملك حقًّا، هو الذي أظهر للعيان
الرب الذي لا يتبدَّل في أحكامه؛ إنليل
الرب الذي يجلب البذور إلى الأرض ليزرعها
تولى برعايته فصلَ السماء عن الأرض
تولى برعايته فصل الأرض عن السماء.
٤
وفي ملحمة أخرى لم يُعرف عنوانها الأصلي، واصطلح على تسميتها
KAR4-METHOS وردت أبيات
تقول:
عندما فُصِلت السماء عن الأرض
بعدما كانتا متصلتين
… وبعدما نظمت الآلهة الجداول والقنوات
وثبتت شواطئ دجلة والفرات
وفي جنة الآلهة السومرية المعروفة باسم «دلمون
DILMON»، جاء الابن الإلهي «آنكي»،
ويعني اسمه «إله الأرض»، وبالتحديد «اليابس المنزرع»، ممثلًا لبداية
البشرية على الأرض، لكنه أُصيب بمرض في ضلعه، بعد أن أكل من ثمار
حرَّمتها عليه الآلهة «ننهور ساج NIN
HURSAG»، فخلقت الآلهة إلهة أنثى تحمل اسم «نن تي
NIN TI» لعلاج وتمريض «آنكي»،
والضلع بالسومرية يُنطَق «تي TI»، لذلك
سميت الآلهة الممرضة «نن تي»، و«نن» تعني سيدة، فهي إذن «سيدة
الضلع».
ويعقِّب الآثاريُّ «كريمر» على ذلك بما يوعز لنا بحل أحجية خلق حواء
من ضلع آدم التي وردت في التوراة حتى يكاد يقنعنا أن التوراة قد أخذت
الأصل السومري بشكلٍ شائه، بعد مرور زمان نُسي معه هذا الأصل العتيد،
ولم يبق سوى سيدة الضلع أو السيدة الضلع، فخال كُتَّاب التوراة أن
الأنثى الأولى مخلوقة من ضلع الإنسان الأول، وسقط كاتب هذا الجزء من
التوراة في الشرك السومري، ففسَّر حواء التي تدل على الأنثى الأولى في
اللغات السامية جميعًا، بأنها مأخوذة من «تلك السيدة التي تحيي، أو
تسبِّب الحياة، أو أم كل حيٍّ»، وهو ما تعنيه أيضًا الكلمة السومرية
«تي»؛ لأن «تي» تدل على الضلع عندما تكون اسمًا، لكنها عندما تكون
فعلًا فهي تعني «أحيا»، أو (جعله يحيا)!
٦
أما الخَتم الذي عُثِر عليه مؤخرًا في آثار سومر، ففيه فصل الخطاب،
لأنه يمثِّل ذَكرًا وأنثى يجلسان متقابلين بينهما نخلة، وخلف الأنثى
تدلَّت حية، رأسها بجوار رأس الأنثى، بينما تمد هذه الأنثى يدها في شكل
دعوة للذكر الجالس قبالتها، ليتناول من ثمار النخلة، ولنتذكر الارتباط
اللغوي بين الحية والحياة، وبين الحية وحيا الأنثى، أو فرجها كمفرز
للمواليد والحياة، وبين التسمية حواء «التي تحيي»، أما ما لا يغيب على
فَطِن فهو الحية المصرية المقدسة على تيجان الفراعنة تمنحهم الحياة
وطول العمر.
ثم تكتشف أروع الملاحم البابلية، لتقطع ما بقي من شكٍّ بيقينها، تلك
التي أصبحت من أشهر المآثر الدينية في الدوائر العلمية إلى اليوم،
والمعروفة باسم «إينوما إيليش
ENUMA
ELISH»، أو «في العلى عندما»، وتحدثنا عن بحر أول
فوضوي، ترمز له إلهة أنثى شريرة مرعبة تُدعى «تيامات
TIAMAT»، يتطوع إله الدولة
البابلية «مردوخ
MARDOK» لمنازلتها
وتخليص البشر من نوباتها الهستيرية، فيقضي عليها، ثم يشطر جسدها المائي
شطرين، يصنع منهما السماء والأرض.
٧ أو كما في النص:
شَقَّها كما تُشَقُّ الدفة قسمين،
وثبَّت نصفًا جعله سقف سماء.
٨
شطر جسدها شطرين:
أعلاهما ثبَّته في السماء،
خلق منه السماء.
والأسفل ثبَّته في الأرض،
(ولنلحظ أن الأقدمين قد وضعوا بذلك تفسيرًا مريحًا لظاهرة سقوط الماء
من الأعلى، في هيئة مطر، بحسبان السماء أحد قسمي البحر الأول!)
ثم توضح «الإينوما إيليش» أن الإله «مردوخ» كان هو صاحب فلسفة الخلق
بالكلمة «وللمصداقية كان الإله فتاح المصري، صاحب فلسفة مدينة منف هو الأسبق»
١٠ وقد قررت الملحمة البابلية ذلك منسوبًا إلى رب المملكة
البابلية، بعد أن تطور الشكل المجتمعي في الرافدين من مشتركات مدينية
إلى مملكة مركزية يحكمها حاكم فرد لا تُرَدُّ كلمته، وحتى تكون كلمة
الملك نافذة لا تقبل الإرجاء، فقد صيغت الملحمة تُعبِّر عن هذا المعنى
الرئاسي الجديد في عالم السماء، كما هو في عالم الأرض، بحسبان الملك
ممثِّلًا — جسديًّا — لمردوخ على عرش بابل.
وفي أنقاض مدينة «أوغاريت» الكنعانية القديمة، (تل شمرا حاليًّا)، تم
العثور على ثروة لا تُقدَّر بثمن من المدونات الكنعانية، التي ألقت
ضوءًا مباشرًا على أصل ميثولوجيا الخلق التوراتية، وكان أهم ما ورد
فيها تطابق الأحداث، حتى اسم أبي البشر «آدم» بلفظه ورسمه، وهو كما ورد
«أب آدم ويقرب»، أي «ويقترب أبو البشر»،
١١ ومن النصوص التي وُجدَت متماسكة بعض الشيء، ذلك النص الذي
تطابقه الرواية التوراتية رسمًا ونطقًا ومعنى، حول قضاء الإله على
اليمِّ أو الغمر، أو البحر الأول ممثَّلًا في تنين هو بالاسم ذاته:
«لوياثان»، مما يثير الدهشة لشدة التطابق، انظر النص الكنعاني
يقول:
فِي ذلِكَ الْيَوْمِ،
يُعَاقِبُ الرَّبُّ بِسَيْفِهِ الْقَاسِي الْعَظِيمِ، الشَّدِيدِ
لَوِيَاثَانَ،
ويضَعُ نهاية للحية الملتوية الهاربة،
شالياط ذات الرءوس السبع.
١٢
ونص آخر يقول:
ألستِ أنتِ التي محقت يَّم؟
ألستِ أنتِ التي أفنت التنين؟
وسحق الحية
أما العجيب في أمر هذه القصة كلها، التي تعود إلى مفاهيم شعوب
زارعيها، تُعبِّر عن مشكلات المزارع وهمومه، ووضِعَت لتفسر ظواهر ترتبط
تمامًا بعلاقة البحر بالطمي بالنهر بالخصب بالفلاح نفسه؛ العجيب أن
تنتقل — بقضِّها وقضيضها — إلى التوراة، كتاب شعب رعوي بدوي لا علاقة
له بكل هذا، ويحلُّ فيها الرب العبراني محل كل آلهة المنطقة الزراعية،
ليقوم بكافة الأدوار، في مختلف ملاحم قصص البطولة بين المزارع والبحر،
دونما مبرر منطقي واحد، سوى استيلاء الرب التوراتي على تراث المنطقة،
الذي أصبح تراثًا مقدسًا، ينحشر داخل كتاب مقدس، ولا شك أن الكاتب
التوراتي كان يعلم أن الجميع سيقبلها، في مصر أو كنعان أو الرافدين،
لأنها إنما تردِّد تراثهم هم، ومفاهيمهم هم، وذكرياتهم هم، أيام كانت
الأنهار تحفر في الرمل طريقًا لها، ولا يوجد من أرض تصلح للزراعة إلا
في الدلتا حيث يفرش النهر طميه، فيهاجمه البحر، لكن التوراة ألبسته
ثوبًا جديدًا، وبطولة جديدة، وشعبًا يختص بشئون الإله البطل الجديد، هو
الشعب العبري.
إلى هنا والخطورة محدودة فيما حدث، لكن الإضافات التي لحقت هذا
التراث، وعشَّقها الكاتب التوراتي في قصة الخلق القديمة، تشير إلى
المنحى الخطير، والسم المدسوس في العسل، الذي التهمه الجميع شاكرين
حامدين. أما الغلُّ اليهودي والحقد البدوي على المزارع، فينضح واضحًا
ويفصح عن نفسه فيما أردف بالروايات الأصلية، ممثَّلًا في صراع بين
الراعي والمزارِع، يجسد الأهداف المطلوبة داخل عقل المنطقة وروحها
وقلبها المطمئن بالإيمان، فتروي التوراة ما لم يقله الأصل البابلي
والكنعاني، أو تعكس الوضع الذي كان في أصل الرواية المصرية، حول أول
بشر على الأرض، فبينما نجد أول البشر في مصر «أوزيريس» رمزًا للأرض
المنزرعة، إلهًا للخير، وأخاه «ست» رمز البوادي والبداوة إلهًا للشر،
تقول رواية التوراة:
إن أبا البشر «آدم»، قد أنجب أخوين هما «هابيل» و«قايين»، «وَكَانَ
هَابِيلُ رَاعِيًا لِلْغَنَمِ،
وَكَانَ قَايِينُ عَامِلًا فِي
الأَرْضِ، وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ أَنَّ
قَايِينَ قَدَّمَ مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ قُرْبَانًا لِلربِّ،
وَقَدَّمَ هَابِيلُ أَيْضًا مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ وَمِنْ
سِمَانِهَا، فَنَظَرَ الربُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ، وَلكِنْ
إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ، فَاغْتَاظَ قَايِينُ
جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ … وَحَدَثَ إِذْ كَانَا فِي الْحَقْلِ أَنَّ
قَايِينَ قَامَ عَلَى هَابِيلَ أَخِيهِ وَقَتَلَهُ» (تكوين، ٤:
٢–٨).
وهكذا وضح أن الرب قد ميَّز الراعي على المزارِع، أو «العبراني» على
«المصري، والكنعاني، والرافدي» منذ بداية الخليقة، دونما سبب واضح سوى
أن الفلاح اجتهد، وعرق، وزرع، وحصد، وقدم ثومه، وبصله، وكرَّاثه،
قربانًا مرويًّا بعرق جهده البطولي، فآذى أنف الرب الذي كان يتوق إلى
رائحة اللحم المحروق كبابًا، ويلح دائمًا في طلبه، وهو ما قدَّمه له
الراعي لتهدأ نفسه وتستريح. والسبب الأوضح أن قايين فلاح من أهل الخصب
والزرع، ومن ثَمَّ كان لا بد من إبراز الشر الكامن فيه، مقابل طيبة
الراعي السمِح الذكي، الذي لم يبذل جهدًا، إنما اكتفى بالاسترخاء إلى
جوار قطعانه وهي تتلاقح، ثم أخذ من منتوجها قربانًا، فيقتل المزارِع
الشرير أخاه الراعي الطيب غيرةً وحسدًا، ولا يبقى للمزارع ميزة بكل
جهوده وحضارته ومنشآته وتراثه وبطولاته، إزاء التفضيل الرباني لهابيل
العبراني، وما عليه إلا أن يترك الأرض وتاريخه فيها للراعي الطيب، وما
شاء الله قدَّر.