ميثولوجيا الطوفان
إن طوفانًا سيهلك مراكز العبادة
وتهلك ذرية البشر …
إن هذا هو القرار الذي أصدره
الآلهة في مجمعهم
قم فابنِ فلكًا.
تقول التوراة:
… فَقَالَ اللهُ لنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ
أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ … اصْنَعْ
لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبٍ … فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ
الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ، … كُلُّ مَا فِي الأَرْضِ
يَمُوتُ، وَلكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ
وَبَنُوكَ وَامْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ، ومِنْ كُلِّ حَيٍّ،
… مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ
اثْنَينِ … تَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى … وَكَانَ
الطُّوفَانُ … وَتَكَاثَرَتِ الْمِيَاهُ وَرَفَعَتِ الْفُلْكَ،
فَتَغَطَّتْ جَمِيعُ الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ … فَمَاتَ كُلُّ ذِي
جَسَدٍ … وَتَعَاظَمَتِ الْمِيَاهُ عَلَى الأَرْضِ مِائَةً وَخَمْسِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا!
وَأَجَازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ،
وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ …
وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ … عَلَى جِبَالِ
أَرَارَاطَ … وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا
فَتَحَ طَاقَةَ الْفُلْكِ … وَأَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ
مُتَرَدِّدًا … ثُمَّ أَرْسَلَ الْحَمَامَةَ … فَلَمْ تَجِدِ
الْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا … فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ
أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَادَ فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مِنَ الْفُلْكِ …
فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا بورَقَة
زَيْتُونٍ خَضْرَاء فِي فَمِهَا، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ
قَلَّتْ عَن الأَرْضِ، فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَلَمْ تَعُدْ تَرْجعُ إِلَيْهِ، … فَخَرَجَ
نُوحٌ وَبَنُوهُ وَامْرَأَتُهُ وَنِسَاءُ بَنِيهِ مَعَهُ وَكُل
الْحَيَوَانَاتِ، وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا
للربِّ، وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ
الطَّاهِرَةِ، وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ،
فَتَنَسَّمَ الربُّ رَائِحَةَ الرِّضَا (كباب مرة
أخرى؟!)، وَقَالَ الربُّ فِي قَلْبِهِ: لا أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ
أَيضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ … وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ
مَعهُ قَائِلًا: وَهَا أَنَا مُقِيمٌ هذه علامة
مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ … وَضَعْتُ
قَوْسِي فِي السَّحَابِ، فتكون علامة مِيثَاقِي الَّذِي
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ، فلا تَكُونُ
أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِي جَسَدٍ … وَعَاشَ
نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلاثَ مِائَة وَخَمْسِينَ سَنَةً، وكَانَتْ
كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً» (تكوين،
الإصحاحات ٦–٩).
هذا ما جاء بالكتاب العبري المقدس حول قصة الطوفان، وكان مظنونًا
أنها بدورها إبداع خاص بالمؤلف التوراتي، حتى تمَّ حل رموز اللوح
الحادي عشر من ملحمة «جلجامش» البابلية، مما دفع بالآثاري «كريمر»، بعد
ذلك بربع قرن، تقريبًا، إلى الإعلان بثقة تامة: «أن قصة الطوفان التي
دوَّنها كُتَّاب التوراة العبرانيون لم تكن أصيلة، وإنما هي من
المبتكرات السومرية، التي اقتبسها البابليون، ووضعوها في صيغة الطوفان البابلي.»
٢
وباستقراء الثلث الأسفل من لوح سومري ذي ستة حقول (نشره آرنو بوبل
سنة ١٩١٤م)، نطالع أنه بعد فترة قصيرة من خلق العالم، اكتشفت الآلهة
السومرية أن الإنسان لم يحقق الغاية من خلْقِه، وأنه أفسد في الأرض
وسفك الدماء، لذلك قررت إفناء الحياة على الأرض وغسْلها بماء الطوفان.
هذا، بينما يؤكد الباحث العراقي «فاضل عبد الواحد»: «أن الطوفان
يُعتبَر من الظواهر الطبيعية المألوفة في وادي الرافدين، فمنذ قديم
الأزمان حتى تاريخنا المعاصر، ما زالت مياه دجلة والفرات وروافدهما،
تغمر مساحات واسعة كل عام تقريبًا، خاصة في الجزء الجنوبي من القطر،
وأن هذه الظاهرة الطبيعية المروعة، التي لم يستطع الإنسان في وادي
الرافدين السيطرة عليها بوسائله المتوفرة آنذاك، كانت في نظر الفرد —
مثل غيرها من الظواهر الطبيعية الأخرى — سرًّا من أسرار الآلهة،
وسلاحًا من أسلحتها، ولهذا فقد احتل الطوفان حيزًا مهمًّا في معتقدات
سكان وادي الرافدين وتآليفهم، ولنا أن نفترض أن واحدًا من تلك
الفيضانات العظيمة في بلاد سومر بقي صداه في ذاكرة الأجيال لشدة هوله،
وبسبب ما لحق بالناس والبلاد من دمار، بحيث اتخذ منه المؤرخون القدامى
نقطة لتأريخ الحوادث.»
٣
أما ما يؤكد فرضية الباحث العراقي، بشدة، فهو أن التنقيبات الآثارية
التي كشفت الطبقات السفلى للمدن السومرية القديمة، قد أظهرت تحتها طبقة
من الطمي يتراوح سُمكها ما بين نصف المتر والثلاثة أمتار،
٤ مما يشير إلى حدوث الفيضان الكبير بدليلٍ آركيولوجي واضح
البيان.
أما ألواح سومر فتطالعنا: أن الملك الورِع التقي «زيوسودرا
ZIUSUDRA»، الذي كان يؤدي النذور
بانتظامٍ لكُهَّان الآلهة، اختارته الآلهة لتخبره بقرار إفناء الحياة
الأرضية بالطوفان، ونصحته ببناء فلك عظيم يجمع له من كل كائنات الأرض،
من كل زوجين اثنين، وهو ما يوضح لنا أن السومريين قد تصوروا فيضانهم
حدثًا كونيًّا عمَّ الأرض بأسرها، فسجَّلوه بهذا المعنى، وتمضي القصة
في تصوير هول الفيضان وجبروته، إلى أن يهدأ وترسو السفينة، ويطلِق
«زيوسودرا» حيواناته، فتكافئه الآلهة بالخلود الألفي في
«دلمون».
وتأتي الدولة البابلية، فتتناول الملحمة وتعيد سردها، لكن البطل هذه
المرة يحمل اسم «أوتنابشتيم
UTNABESHTEM»، الذي ناداه الإله
قائلًا:
أوتنابشتيم، يا رجل شوربياك …
اهدم الدار، وابنِ سفينة،
دع أملاكك، وأنقذ حياتك.
ارحل بها، وخذ بذرة كل حي.
ويُنفِّذ العبد الصالح أوامر ربه، ويروي قائلًا: «… وأكملتُ السفينة
في اليوم السابع، وحَمَّلْتُها بكل صنوف الأحياء، واستمرت أعاصير
الطوفان ستة أيام وست ليالٍ، واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب،
وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت، وعزَّ عليها أن تجد مكانًا
ظاهرًا تحطُّ عليه، وأرسلت سنونو فذهب وعاد ولم يجد موضعًا ظاهرًا
يحطُّ عليه، فأرسلت غرابًا فذهب ورأى الماء يتناقص، فأكل وعبَّ ودار
ولم يعُد، وحينذاك واجهت الجهات الأربع، وضحيت، وسكبت قربانًا فوق قمة الجبل.»
٥
وعقَّب الإله «إنليل» على الطوفان بقوله: «لقد حمل المذنب ذنبَه،
والآثم إثمه، أمهِله كي لا يفنى، ولا تهمله كي لا يفسد.»
٦ وهكذا كان غرض «إنليل» هو تطهير الأرض من القتلة وسفاكي
الدماء، فسَفَكَ هو دماء البشر والحيوان، ومزَّقهم شرَّ ممزق دون
تمييزٍ بين صالحٍ وطالحٍ، لكن «إنليل» وباقي الآلهة، ندموا على ما
ألحقوه بالإنسان من ويلٍ، وعندها قامت الإلهة «عشتار» بتعليق عِقدها
الثمين الملون في باحة السماء، ليصبح قوس قزح، رمزًا لميثاقٍ مع البشر
بعدم تكرار الطوفان، وعقَّبت بالقول: «كما أنني لا أنسى عِقد اللازورد
الذي كان يزيِّن عنقي، فإنني لن أنسى هذه الأيام قط، سأذكرها دومًا.»
٧
الأمر واضح، فقد سجَّل الكاتب التوراتي الملحمة الرافدية بكل
دقائقها، ولكن إذا كان الرافديون قد سجلوها تَذكِيرًا بحدثٍ يتعلَّق
بطبيعة بيئتهم ونسقهم الفكري، فإن الكاتب التوراتي، وهو لا علاقة له
بالأمر، يتناول الملحمة ليحقق منها أغراضًا أخرى، فينسب الأمر كله للرب
العبراني، ثم ينسب بطولة الملحمة للرجل الذي نسبوا إليه النسل الميمون،
«نوح»، لأن من نوح سيأتي بنو عابر، ثم يضيف الكاتب التوراتي ما لم يكن
في الأصل الرافدي، بما يصادق على رؤيتنا بشكلٍ وضَّاء، تلك الرؤية التي
تزعم أن بني عابر قد استلبوا التراث وحشَوْه بما يلزم، ثم أعادوا
تصديره إلينا مرة أخرى، ملحقًا بما يحقق الأغراض المرصودة.
فهذا نوح يهبط من سفينته ومعه أولاده الثلاثة «سام، وحام، ويافث»،
ومن نسلهم تأتي شعوب الأرض. وحسب التصنيف التوراتي، فإن سام سيخلف ذرية
من أهل البوادي الرعاة، الذين سينسلون بني عابر — الشعب المبارك — أما
حام فسينجب ولدين ينسلان شعبين، الأول هو «مصرايم» أبو المصريين، وأهل
السودان وكل سود البشرة حتى الكوشيين الأحباش، والثاني هو «كنعان» أبو
الكنعانيين سكان فلسطين (تكوين، ١٠)، ولعلَّ من الواضح أن الرجل، وهو
يكتب، قد اتخذ لجده البعيد اسمًا من جَذر الرفعة والسمو «سام»، وحطَّ
بأهل وادي النيل وفلسطين في طين الأرض وحمئها «حام»، فهو من جذر الحمو
والحمأ، وربما ربط الكاتب بين الحمو واسوداد الطين واسوداد البشرة، كما
أن الحمأ هو طين الأرض الحارة الخصبة.
وتصل الإضافات التوراتية إلى هدفها حين تقول:
وابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وَغَرَسَ كَرْمًا، وَشَرِبَ مِنَ
الْخَمْرِ فَسَكرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ، فَأَبْصَرَ
حَامٌ أَبُو كَنْعَان عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ
خَارِجًا، فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ، وَوَضَعَاهُ
عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا
عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ
يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ
مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ،
فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ
الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ»، وَقَالَ:
«مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ
عَبْدًا لَهُمْ» (تكوين، ٩: ٢٠–٢٢).
وهكذا، ومرة أخرى، تحيق اللعنة بكنعان الفلاح، لعنة أبدية، مع قرار
سماوي ونبوءة مقدسة، تؤكد أن كنعان سيكون عبدًا لذرية الراعي سام أبي
العبريين، دونما ذنب جناه، سوى أن أباه وليس هو، أبصر عورة نوح، بل إن
نوحًا نفسه لم يصب بداء الثمل من السُّكر، إلا عندما «ابتدأ يكون
فلاحًا»!
والمغزى أوضح من الحاجة للشرح أو التعليق، فأرض كنعان هي المطمع
والمشتهى، لأن مصر والرافدين أكبر من الطموح، ومع ذلك لم يكن هناك بأس
من طرح الفكرة ابتدائيًّا، فمن يعلم؟ فيقول الرب لإبراهيم: «لِنَسْلِكَ
أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ
الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ» (تكوين، ١٥: ١٨).
أما النجاح الحقيقي الذي حققته مثل هذه الإضافات المصدَّرة إلينا مع
تراثنا، فهو أنها وجدت طريقها إلى كتب التراث الإسلامية، مع ملحقات
وزيادات أخرى، وأحيانًا مجاملات لطيفة لبني إسرائيل، بحسبانهم محلًّا
لاحتكار النبوَّات السابقة، كما أن صحيح الإسلام يضع من شروط الإيمان
شرط الإيمان بالنبوَّات التي سبقت الرسالة الإسلامية، خاصةً أن الآيات
القرآنية قد أعادت التاريخ كله دورة كاملة، وأكدت أن كل الأنبياء
السابقين في بني إسرائيل إنما كانوا مسلمين، ومن هنا، ومع قلة التفاصيل
في العموميات القرآنية، لم يجد كتبة التراث والأخبار حرجًا أو بأسًا من
الرجوع إلى المنمنمات الدقيقة لتاريخ هؤلاء الأنبياء المسلمين، في كتاب
اليهود المقدس، حتى أصبح منهلًا لا ينضب للمشتغلين بعلوم التراث، ولا
غضاضة في الأمر مع إعلان النبي أنه هو ذاته إنما فرع من هذه الشجرة
المباركة، عبر إسماعيل بن إبراهيم، أهم أرومات العبريين وأنشرهم ذكرًا.
هذا مع التصريح الواضح في الحديث النبوي (عن البخاري) «بلِّغوا عني ولو
آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج …» وهو الحديث الذي استندت إليه
طبقة كُتَّاب السِّير والتاريخ المسلمين، وعلى رأسهم ابن كثير الذي
أورد الحديث في مقدمته، معلنًا أنه سيجعل من روايات أهل الكتاب مصدرًا
لا غنى عنه، ويعقِّب على حديث النبي بالقول: «فهو محمول على
الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما
يكذِّبها، فيجوز روايتها للاعتبار.»
٨
وإعمالًا لذلك، قام «النيسابوري الثعلبي» يصب جام غضبه على «حام»
المزارِع، فيقول «راويًا عن قتادة منسوبًا إلى النبي: فأصاب حام امرأته
في السفينة، فدعا نوح ربه، قال:
فتغيرت نطفته
فجاء بالسودان»،
٩ فالأسود هنا أدنى درجة من الأبيض، سر سواده مضمر بالحديث،
وربما كان ذلك سر أن العبيد يغلبهم السواد، ثم يضيف عن عطاء الحديث
«ودعا نوح على حام ألَّا يعدو شعر ولده آذانهم،
وحيثما كان ولده يكونون عبيدًا لولد سام،
١٠ ثم يزيد مجاملًا مؤكدًا لأهل التوراة فضلهم، فيقول: «ولما
حضرته الوفاة (يقصد نوحًا) أوصى إلى ابنه سام،
وجعله ولي عهده.»
١١
أما زعيم طبقة كتَّاب السِّير ابن كثير، وهو — زيادة في النكاية — من
أبناء فلسطين، ومن مواليد بلدة «شركوين»، وعاش حياته في «مجدل» وتُوفي
بها، فيجعل كنعان هو الابن الكافر من بني نوح، والذي قال: سآوي إلى جبل
يعصمني من الماء،
١٢ ويكرر الثعلبي قائلًا: «إن حامًا واقع امرأته في السفينة،
فدعا عليه نوح أن تُشوَّه خلقة نطفته، فوُلِد له ولد أسود هو كنعان …
وقيل بل رأى أباه نائمًا وقد بدت عورته، فلم يسترها وسترها أخواه،
فلهذا دعا عليه أن تُغيَّر نطفته
وأن يكون
أولاده عبيدًا لإخوته.»
١٣
أما المسعودي فأسعده أن يردد «ودعا على ولده حام، لأمرٍ كان منه مع
أبيه قد اشتهر، فقال
ملعون حام، عبد
العبيد يكون لإخوته، ثم قال
مبارك
سام.»
١٤ أما نعمة الله الجزائري فينعم على سام بمزيدٍ من النياشين
والتبريكات، فيقول في قصص الأنبياء: «عن أبي عبد الله أن جبريل أتى
نوحًا فقال له: يا نوح إنه قد انقضت نبوَّتك واستكملت أيامك، فانظر
الاسم الأكبر وميراث العلم فادفعها إلى ابنك سام …
فدفع عليه السلام آثار النبوة إلى ابنه سام، فأمَّا
حام ويافث فلم يكن عندهما علم ينتفعان به»
١٥ وسبب ذلك مسلمات مصدقة، صَدَّق بها «الصدوق القمي» في
كتابه «علل الشرائع» وهو يقول: «إن نوحًا كان يومًا في السفينة نائمًا،
فهبَّت ريح فكشفت عورته، فضحك حام ويافث، فزجرهما سام ونهاهما عن
الضحك، وكان كلما غطى سام شيئًا تكشفه الريح، كشفه حام ويافث، فانتبه
نوح فرآهم يضحكون فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان، فرفع نوح يديه إلى
السماء يدعو ويقول:
اللهم غيِّر ماء صلب حام حتى
لا يولد له إلا السودان … وجميع البيض سواهم من سام، وقال نوح عليه السلام لحام ويافث: جعلت ذريتكما خولًا أي
خَدَمًا لذرية سام إلى يوم القيامة.»
١٦
والأمثلة على ذلك كثيرة، ولن تجد كتابًا تراثيًّا واحدًا يخلو من ذكر
القصة التوراتية الملغومة، مع إضافات وشروحات اجتهادية لإنصاف سام على
حام أو لإنصاف الراعي على المزارِع، أو أهل البادية على أهل الوديان
الخصبة، ومن هنا نفهم لماذا أصبح كل الفراعين في نظر أحفادهم المسلمين
كفارًا ملاعين، ولماذا يترحم الفلسطيني اليوم على طالوت أو «شائول»
الإسرائيلي، ويلعن جده جالوت أو «جوليات» الذي استُشهد وهو يدافع عن
أرضه، وما على الاثنين مسح عرق الحياء عن الجبين، من أفاعيل الأجداد
الملاعين، مع بني عابر الطيبين. وإذا كان ابن كثير قد صبَّ نقمته على
جده كنعان، فلا غرابة إذا وجدنا العُرف في القرية المصرية يستمد أصوله
من كتب التراث الإسلامية فيجعل من ينتحلون اسم «العرب»، ويعدون أنفسهم
من أصل رعوي (من جزيرة العرب) أصحاب حق مشروع في السيادة والسلب والنهب
دون استهجان، بينما يصبح الانتساب للفلاحين سبة وعارًا وضعفًا ومذلة
وهوانًا، مما جعل أصحاب الأصول المصرية القحة يتنافسون في استكشاف أصول
بدوية عربية لأروماتهم، مما يسجل النتيجة الواضحة للجولة بين الراعي
والمزارِع، أو بين أبناء حام وأبناء سام، على المستوى الديني، ثم
بالتبعية على المستوى الاجتماعي والنفسي، بل السياسي، وهو أمر لا
مندوحة من الاعتراف به، ولا عزاء للفلاحين.