ميثولوجيا المسيح الملك
إنهم يقولون عنك يا أوزيريس:
ولو أنك ترحل إلا أنك تستيقظ ثانية.
ولو أنك تموت، إلا أنك تُبعث مرة أخرى،
قف، انهض، إن إيزيس تحبك!
(متون الأهرام)
وكل ما أسلفناه من نصوص توراتية، يضمُّه كتاب مقدس واحد مع الأناجيل
المسيحية، يؤمن به المسيحيون كمقدس واحد على ذات الدرجة من القدسية،
تأسيسًا على قول المسيح: «لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ
النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ
لأُكَمِّلَ» (متَّى، ٥: ١٧)، مقررًا بذلك أنه جاء مصدقًا للتوراة وسيرة
الأنبياء اليهود فيها، وأنه إنما متمم فقط، وهو أمر كان له دوره الخطير
في دخول الإسرائيليات كعمد أساسية للإيمان المسيحي، حتى إن المسيح نفسه
لم يتعرض، لا بالشرح ولا التعليق، حول قصص الخلق، أو الطوفان، أو غيرها
من قصص التوراة، بحسبانها مقررات صادقة مُسلَّمًا بها، وطلب من
المؤمنين الرجوع إليها في التوراة، لذلك ظلَّت الأناجيل جميعًا قصة
حياة وموت وقيام المسيح، ومعنى الخطيئة والفداء وما ارتبط بها من عقائد
وطقوس، وقد كانت بدورها تراثًا من الثقافة
القديمة للمنطقة، ظل حيًّا وقائمًا إلى زمن المسيح، حتى
وقع في يد اليهود فاقتنصوه، وانهالوا عليه تهويدًا، حتى صار تراثًا
لبيت داود (ولا نعلم لماذا يبحث المسيحيون في التراث اليهودي، أو
المهوَّد، عن النبوءات بقدوم المسيح، ويربطون التوراة بالإنجيل لما
فيها من هذه النبوءات، بينما كان عليهم أن يبحثوا عن ذلك في المصادر
الأصيلة في تراث المنطقة، والتي انتهت وصبَّت جميعًا عند المسيح؟ أو
لماذا التقليد ولدينا الأصل؟ أو لماذا المهوَّد ولدينا الوطني الأصيل؟
بينما الأمور كلها تسير وفق نظام تطوري جميل المنطق، صادق المقدمات
والنتائج بذاته يتسق مع ظروف المنطقة وبيئتها، وجدل الإنسان مع الطبيعة
فيها، بعيدًا عن بني عابر وأساليبهم في العبور إلى العقول؟).
ويبدو أن واقع الأمر قد سبَّب إرباكًا شديدًا للمهتمين بالبحث الجاد،
بين المسيحيين الشرقيين، لارتباطهم من جانبٍ بوطنهم وما يلزم عن هذا
الارتباط من معانٍ تستلزمها الوطنية، وارتباطهم من جانبٍ آخر بمقدس
مفروض عليهم فرضًا في العهد القديم، ويناقض تمامًا هذه الوطنية ومصالح
الوطن ومعنى المواطنة الحقة. فهذا المرحوم الصديق أنيس فاخوري ينشغل
بالقضية زمنًا إلى أن يهديني ما وصل إليه منشورًا في كتاب، حاول فيه
نزْع ما لحق بالعقل المسيحي من تهويد، بعد أن وضع يده على نقطة التقينا
عندها، وهي بنص كلامه: «عندما نستغرب، نحن في الشرق الأوسط أو في
العالم العربي، كيف أن الغرب المسيحي لا يأبه لحقِّنا، بل يدعم حق
عدونا المغتصِب، وعندما نبحث عن أسباب ذلك الدعم وننسبه فقط إلى قوة
اليهود المالية والاقتصادية والإعلامية المُسيطرة في العالم الغربي،
نكون قد وضعنا أيدينا على نصف الجواب الصحيح، أما النصف الآخر الذي ما
زلنا نجهله أو نتجاهله، فهو كامن في
أن الذهن
الغربي المسيحي قد تهوَّد منذ أكثر من ثمانين سنة،
وتبنَّى مطالب الصهيونية وكأنها أمل كل
مسيحي.»
١
وهكذا عبَّر الرجل عن معايشته أرقًا ظل مهمومًا به إلى يوم وفاته، ما
بين إيمانه وبين وطنيته الصادقة، وما يتعرض له هذا الوطن، في ضوء ما
رسمته المقدسات في العقل بما يناقض تمامًا مصالح هذا الوطن، لكن
الأستاذ فاخوري كان مؤمنًا ويرفض التخلي عن هذا الإيمان، لذلك حاول
باستمرار أن يرجع هذا التهويد إلى العصر الراهن مع ظهور الدعوة
الصهيونية، برغم إشارات في كتابه تتحدث عن أسباب تبني الغرب المسيحي
لمطالب الصهاينة، وما أسماه دون تصريح، ﺑ
«…
الوشائج الدينية الغامضة القائمة بين المسيحية واليهودية، والعلاقة غير الواضحة تمامًا، ما بين العهد القديم والعهد
الجديد في الكتاب المقدس للكنيسة المسيحية، وهي الأمور التي جعل منها
التضليل اليهودي ركائز دينية وأدبية قوية، متأصلة في ذهن الغرب
المسيحي، لذلك نرى أن
الكيان الإسرائيلي الديني
السياسي كان قائمًا في ذهن الغرب المسيحي، لمدة طويلة،
سبقت إعلان الأمم المتحدة قرارها بالتقسيم سنة ١٩٤٧م، تمهيدًا لقيام
إسرائيل في السنة التالية.»
٢ وما أشار إليه من أسباب ساعدت على هذا التهويد «… بواسطة
اليهود المتنصِّرين الذين اندسوا
بين المسيحيين عبر السنين، وأخذوا يغذونهم بالتفاسير والنظرات
والتعاليم المُضللة … الذي
سهَّل اختلاط الأمر
على المسيحيين»،
٣ لكن دون أن يشير بالطبع إلى أن كل تلاميذ المسيح بلا
استثناء إنما كانوا يهودًا، وهم حواريُّوه، وكتبة أناجيله، ورسله إلى
العالمين! واكتفى بالتنبيه إلى ما أسماه الوشائج الدينية الغامضة
(بغموض) بين الكتابيْن والديانتين، وهو الأمر الذي نراه غير غامض، ولم
يعد يحتمل مجاملات أو محاذير، بل هو الأمر الذي كتب للمبادئ اليهودية
النصر الحقيقي على نصف عقل العالم اليوم.
ودونما علاقة خاصة بقضيتنا وروافدها السياسية والتاريخية، ودونما
رابطة مواطنة أو وطنية، يكتشف بعض المسيحيين في الغرب تناقض العهدين
القديم والجديد، ويؤسِّسون مذهب الثيوزوفيرية والأزوتيرية السرية
الجديد، يحاولون فيه تخليص المسيح الروحاني والمسيحية العالمية من
المفاهيم الناموسية المؤسَّسة على عمد توراتية، مما يصل بهم إلى رفض
العهد القديم، بأنبيائه ومفاهيمه وشرائعه، ويلجئون إلى تفسير الأناجيل
وما لحقها من مفاهيم ناموسية يهودية تفسيرًا جديدًا لا علاقة له
بالقديم، يقوم على التأويل والترميز، إبقاءً لإيمان روحي بالمسيح،
ورفضًا لإيمان ناموسي بالشرع واللامعقول، وهو ما نجده في مؤلفات واحد
من المبشِّرين بهذا المذهب من العرب (ندرة اليازيج)، الذي وضح أنه وجد
خلاصه الروحي، وحِسَّه الوطني معًا في هذا المذهب، فيُصرح دون مواربة
ولا وجل بالقول: «يُخطئ المسيحيون إذ يبقون على الصلة بين المسيحية
واليهودية، فقد استغل اليهود نقطة الضعف هذه
منذ
بداية عصر التبشير المسيحي، أنهم تغلغلوا بين
المسيحيين، وأرادوا أن يجمعوا بين ما لا يُجمَع إطلاقًا، وقد حذَّر
بولس وغيره من المؤمنين وأنذرهم كي لا يستمعوا إلى أكاذيبهم، وظلَّت
المسيحية قرونًا عديدة تخضع لهذه الأقاويل، وتقترن
باليهودية المسيحية، هذه البدعة التي
تقوض المسيحية وتعيد لليهودية كيانها، وإذا لم تعمل المسيحية على تخليص ذاتها من اليهودية، فإن
كلام بولس وتحذيراته تظل صحيحة إلى الأبد.»
٤
وهكذا فإن يازجي، ممثِّلًا للثيوزوفيرية، يطلب شطب التوراة من تاريخ
المسيحية ومقدساتها، وقد عمد إلى ذلك بطول كتابين بين أيدينا،
٥ عامًدا إبان ذلك إلى إبراز الفروق الجوهرية بين إله موسى
التوراتي المرعب الدراكولي، وبين إله المحبة والسلام مسيح الأناجيل.
لكن يازجي يؤكد، بذلك، على جانب واحد من صورة مسيح الأناجيل، وهو
الجانب المتأثر بثقافة المنطقة، وتتضح صبغته الزراعية واضحة في المسيح
الروحاني السماوي، وصاحب الملكوت الأخروي، مهمِلًا في الصورة ذاتها
المسيح الممسوح بالصبغة البدوية والفكر اليهودي، والتي صبغته بصورة ابن
داود صاحب الملكوت الأرضي لإسرائيل، وما كان ممكنًا له كمؤمن المطالبة
برفض آخر لجزء من الأناجيل، نظرًا للتعشق التام بين الصبغتين من المقدس
المسيحي الإنجيلي، مما اضطره إلى اللجوء إلى التفسيرات الرمزية
والتأويلية للجانب المطبوع بوجهة النظر الإسرائيلية من المسيح كملك
لليهود من نسل داود، فجاء مبتسرًا ومتكلفًا وغير مقنع، لا للمؤمن
المسيحي ولا للباحث المحايد الموضوعي، ولا لغير المؤمنين بالمسيحية،
بينما الأمر الواضح لدينا هو ما أوضحناه، أن المسيح الإنجيلي قد جمع
ثقافتين متنافرتين تمامًا وجذريًّا، تم دمجهما في عصر الدمج
الإمبراطوري إبان السيطرة الرومانية وفي العصر الهلليني بالتحديد؛
ثقافة الراعي وثقافة المزارِع، أو والراسب اليهودي، والتراث الوطني
للمنطقة، ذلك التراث الذي تمثَّل إبان ظهور المسيح وقبله، في مجموعة
ديانات الفداء الزراعية، التي تدين جميعًا في كثير من تفاصيلها إلى أهم
العقائد المصرية القديمة، هي عقيدة الثالوث الأوزيري (أوزيريس الأب
OSIRIS، إيزيس الأم
ISIS، حوريس الابن
HORUS)، والتي سبق وأفردنا لها
كتابًا خاصًّا صدر عن دار الفكر مؤخرًا بعنوان: «أوزيريس وعقيدة الخلود
في مصر القديمة». وهي عقيدة تحتاج منا وقفة حية متعجلة، بما يتفق
والمساحة المتاحة في هذا العدد. وإضافة إلى هذا العرض السريع يمكن
الاستعانة بالكتاب المشار إليه، مع أربعة بحوث سبق وفصَّلنا فيها القول
عن ديانات الخصب الفدائية، ورصدنا بياناتها في الهامش.
٦
وبالعودة إلى العصر الهلليني الروماني، نجد أنه قد انتشر على صفحة
الخصب، شرقي المتوسط، مجموعة من العقائد المتشابهة، تأسست على نتاج
الخبرات القديمة للمزارع مع الطبيعة، وكوَّنت مجموعة من المفاهيم عن
آلهة للخير وأخرى للشر، وعبدت عادةً ثالوثًا إلهيًّا مَثَّل فيه دور
الأب، الإله المختص بالخصب ريًّا ومياهًا طامية، وتصوروه إذا كان نهرًا
في البلاد التي تعتمد في ريها على الأنهار، أو في السماء الممطرة في
البلاد التي تعتمد على الأمطار، كإله ذَكر يخصب الأرض دومًا بلقاحه
المائي، لذلك تصوروا الأرض إلهة أنثى، تعطي مولودها زرعًا، هو بدوره
«الزرع» إلهًا يقوم بتمثيله الإله الابن في الثالوث المقدس للعائلة
الإلهية، وغالبًا ما اندمج الأب في الابن بحيث أصبحا أُقنومًا واحدًا،
يمثِّله إله واحد، هو إله الماء، وفي الوقت ذاته إله النبات.
وكما يموت الزرع ويجف ثم يعود إلى الحياة، فقد تصوروا إله الخصب تجري
أموره على الوتيرة ذاتها، فهو قد مات ثم قام في صيرورة خالدة أبدًا،
فموته مؤقت وخلوده هو الحقيقة المطلقة، وهي تصورات تتسق وتفكير الإنسان
آنذاك، وتعبِّر بصورة شعرية دينية عن علاقة الإنسان بالزرع الذي تتوقف
عليه حياته واستقراره المجتمعي، لذلك كان لا بد من العمل الجاد في
الأرض لمساعدة هذا الإله المحب العطوف على العودة إلى الحياة مرة أخرى،
فأضفت على العمل في الأرض صبغة القداسة، وربطت المواطنة والعمل
بالإيمان، بحيث يُعَدُّ أي إهمال في حق الأرض ورب الزرع كُفرًا مبينًا
(ولم يزل العُرف في مصر يعتبر تفريط المزارِع في الأرض الزراعية
بالذات، دون غيرها، سبَّة وعارًا لا يمحوانه أية محاولات تكفير بديلة)،
وهكذا كانت العقيدة القديمة ضامنة للمجتمع سلامته واستمراره مترابطًا،
كناتج لارتباط المستقر بالأرض، ما دامت تعطي، وهي لا تعطي إلا بالعمل،
وبالإيمان بها وبهذا العمل.
وقد دخلت عقائد الفداء مختلفة المواطِن الخصيبة، بتطورات وتغيرات
حذفت منها وأضافت، كناتج طبيعي للجدل الاجتماعي وما يفرزه من تغيرات
على مستوى النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وراعٍ طبقي حاضر
دومًا في هذا الجدل، حتى بلغت كمال نضجها في انضوائها تحت راية الإله
المصري «أوزير» رب الثالوث المصري، ورمز النيل والغلَّة في آن واحد، بل
اندمجت فيه تمامًا، وذلك في العصر الهلليني الروماني، الذي اصطلح
المؤرخون على تسميته بما أسماه لسان حال الجماهير آنذاك: عصر الآلام،
كناتج لسيطرة السلطان العسكري الروماني. وواضح لدينا أن هذا الانضواء
قد بدأ تفاعلًا ثوريًّا اندمجت فيه مختلف ديانات الفداء في منظومة
واحدة، تحت راية أوزير المصري، كقيادة لشكلٍ أيديولوجي موحد في مواجهة
القمع الروماني، بعد أن أُتيحت لهذا الإله مجموعة من العوامل جعلت منه
قيادة روحية وأيديولوجيا ثورية، كما أدت إلى انتشار عالمي لعقيدته مع
زوجته إيزي وابنه حور، حتى فرض وجوده على إيمان الرومان أنفسهم فعبدوه
مع أسرته باسم «سيرابيس SIRAPIS»،
وبينما كانت جامعة الإسكندرية مركز الإشعاع الفكري والعقدي آنها، تواصل
تصديره مع كل طالب علم، مصحوبًا بكثير من الإضافات التفسيرية
والفلسفية.
وقد انتهينا في كتابنا المذكور إلى أن عبادة أوزير في مصر القديمة قد
ترافقت مع ثورة عظمى ضد النبلاء والملكية والدين الرسمي القائم، وذلك
قرب نهاية الدولة القديمة، وكانت هذه الديانة بمثابة الأيديولوجيا التي
حددت للثورة طريقها وأهدافها، بعد أن جمعنا لذلك عددًا من القرائن
والبراهين، انتهت إلى حسبانه الإله الذي رمز لانتصار العدل على الظلم،
وأن موته في أسطورته، على يد الظالمين، وما عاناه من آلام أثناء ذلك
تعبيرًا — ومشاركة — عن آلام الجماهير، ثم موته، ثم قيامته من الموت،
إعلام عن عودة الوعي، أو عودة الجماهير إلى الصحو، كما كان ابنه الإلهي
«حور» وهو يقود الجيوش ضد الملك الشرير الظالم «ست»، لهيبًا يؤجج صدور
الجماهير ويشعلها حماسة، ومن هنا كان الإيمان بأوزير يعني ضرورة
القيامة والثورة والتجدد الدائم، كالزرع المتجدد دومًا، الذي يكافح تحت
التربة بعد الموت الظاهري، للعود إلى الحياة مرة أخرى. فأوزير قد
تعذَّب ومات شهيدًا من أجل المتألمين، ومشاركة لهم في الآلام. وقد ساعد
على انتشار هذه العقيدة في بقاع الإمبراطورية الرومانية دور الإلهة
«إيزي»، التي مثَّلت الوفاء بأجلى معانيه لزوجها الثائر، ورفضت أي
استسلام للقدر الذي قرره رب الدولة «رع» على زوجها بالموت، وقامت تجمع
أشلاءه بعد مقتله، من أجل القيامة المجيدة، ومثَّلت دور الأنثى
الثائرة، التي تقوم بدورها من أجل إقامة العدل، ودور الزوجة المخلصة
الوفية، لكنها الحرة، والتي يحرِّر حبُّها من يؤمن بها ويحبها، ومن هنا
وجدت لها من الإناث عابدات مخلصات في كل صقع، في ضوء مقررات الاستعباد
الروماني للمرأة، التي أصبحت في عصر الآلام مجرد متاع رخيص مبتذل، مع
وعد بعالم آخر بلا ألم ولا ظلم قرب عُش أوزير، لأن أوزير لم يستشهد إلا
عن قصدٍ منه ورغبة، لكي يثبت أن من يموت يقوم، ومن يعاني الآلام لا بد
أن يُعوَّض عنها عالمًا سعيدًا خالدًا، ومن هنا قرر أن يكسر حاجز الخوف
عن الجماهير، فهبط من مجده السماوي، ومات، وقام في اليوم الثالث، وصعد
إلى السماء، بعد أن التقى بروحه بحبيبته إيزي وهي بعد عذراء، بلا
ملامسة جسدية، فأنجبت منه «حور»، وعليه كان الإيمان بأوزير هو بمثابة
بنوة له، لأنه التقاء أرواح، ويصبح المؤمنون به أبناء له، يدخل الإيمان
إلى قلوبهم مصحوبًا بصفته الإلهية، فيخلدون مثله في عالمه الآخر، لذلك
كان الإيمان بأوزير وبموته وقيامته، سبيلًا إلى قيامة أخرى للمؤمنين في
عالمه السعيد، ومن يموت شهيدًا فسوف يقوم. ولا عجب إذا وجدنا هذا الإله
يفعل فعله الأيديولوجي في عقر الدولة الرومانية، فتتخذ ثورة العمال في
عصر الآلام من الديانة المصرية أيديولوجيا دافعة للثورة.
٧ برغم كل محاولات الحكام المتتالية لتفريغ هذه الأيديولوجيا
من مضمونها الثوري، سواء في مصر أو خارجها. ومع الإجهاض المتتابع من
الأجهزة الحاكمة للثورات التي كان دافعها ومحركها الأيديولوجيا
الأوزيرية، وعلى مر السنين، بدأت تتكون لدى الجماهير قناعات أن النجاح
الأعظم للثورة الكبرى على الظلم إنما يتحقق بعودته مرة أخرى من السماء
ليخلِّص الناس من الآلام، بخاصة في عصر الآلام. ومن هنا بدأ الانتظار
للمخلِّص أوزير، وبدأت الشائعات المعبرة عن رغبة الجماهير تتحول إلى
لون قدسي يؤكد: إن أوزير قبْل صعوده إلى السماء أكد أنه سوف يعود مرة
أخرى ليقيم دولة للعدل ومملكة المساواة والإخاء.
وكان تفريغ هذه الأيديولوجيا من محتواها الثوري مهمة أولى وأساسية
جابهت الإمبراطورية في البداية، بحيث لا يبقى منها سوى جانبها السلبي
المتمثل في انتظار عودة المخلص بهدوء، أو الخلاص الروحي بانتظار الموت
ليذهب المؤمن إلى عالم العدل السماوي، ليعيش هناك إلى جوار «أوزيريس»،
أو سيرابيس (التسمية الرومانية للإله المصري). وجاء التحقيق ببساطة في
اعتناق الطبقات الراقية، والمترفة، والمثقفة، ورجال الجيش، لهذه
العقيدة، بعد أن كانوا يشكِّلون تيارًا تابعًا للمدرسة الفلسفية
الرواقية، تلك الفلسفة التي اتضح فيها التدخل المباشر عندما تحوَّلت من
فلسفة مادية إلى فلسفة روحية، لتقوم بدورها التخلفي الرجعي فتمتزج
بالعقيدة الأوزيرية، وتشكلان فلسفة إشراقية صوفية، تفي بالغرض الأمثل
للمؤسسة العسكرية الحاكمة، كي يُعطى ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ومن
هنا دخلت على الأوزيرية مصطلحات فلسفية لا تعني الجماهير في قليل أو
كثير، أو ربما لم تكن مفهومة لهم أصلًا، بينما انتشر بينهم منها (مع
دور الكُهَّان وما يمثِّلونه من قيمة للإنسان العادي) فقط الجانب
الإشراقي المتمثل في انتظار الموت خلاصًا. أما الطبقة المثقفة فقد
انتشرت بينها هذه العقيدة والفلسفة انتشارًا هائلًا، بعد أن تم إفراغها
من الطبقة صاحبة المصلحة في الجانب التثويري، لتصبح العقيدة الجديدة
ترفًا روحيًّا لأناس أوجعهم الشبع، يبحثون عن كل الغرابة ويذهبون وراء
الأغراب، في بلاد الشرق والاستشراق.
وبعد أن انتهت المدرسة الرواقية المسيَّسة من إنجاز المهمة الموكَّلة
إليها، تحولت فلسفة الكلمة
LOGOS التي
كانت تعني من قبل قانون الوجود، إلى أن تصبح هي سر الوجود، أي أصبحت
فلسفة حلولية تنادي بالوحدة العالمية (تحت راية الإمبراطورية بالطبع)،
وبالإخاء الإنساني، فقادت الحركة الروحية بزعامة «بوسيديونيوس»،
٨ وبعد أن تحولت جامعة الإسكندرية إلى مرتع فلسفي للرواقيين،
دمجت الكلمة
LOGOS بالابن الإلهي
«حور»، استنادًا إلى تماثيله التي تُصوِّره واضعًا سبابته على فمه،
علامة على أنه الكلمة.
٩ ولما كان «حور» ممثِّلًا لأبيه على الأرض، فقد أصبح
الأباطرة الرومان كذلك هم المخلِّصون الحقيقيون لرعاياهم، مثل «نيرون»،
الذي ارتفع بعد موته جسدًا حيًّا إلى السماء، بقَسم مغلَّظ من «نوميرو
أتيكس»، ومن يشك في «نوميرو»؟
١٠ ومثل «أوغسطس» الذي قررت لائحة مجلس الشيوخ بشأنه أنه كان
صورة تجسدية للإله على الأرض، وقام الفيلسوف «سنكا» يعطيه لقب المخلِّص،
١١ حتى أصبحت ديانة أوزير بعد فلسفتها رواقيًّا ديانة
البطالمة الرسمية.
١٢ ومعروف أن الإمبراطور هادريان كان أهم المتحمسين لجعلها
ديانة رسمية للإمبراطورية،
١٣ ومن ثمَّ قرر الآثاري «أدولف إرمان» أن هذه العبادة انتشرت
في كل الأرجاء، لأنها كانت «… تقدم لأتباعها عزاءً أخيرًا في كافة
المصائب، وكانت تمنحهم الإيمان بحياة أخرى أفضل، يقضونها في مملكة أوزيريس»،
١٤ حتى إن الكلمة الرواقية تحوَّلت إلى ضلع مقدس في الثالوث،
وأصبحت معبودًا انتشر في حوض المتوسط يعزي المسحوقين ويرفِّه عن
المترفين، بعد أن صارت فيما يقول أرنولد توينبي «… العقل الخلاق
السرمدي، الذي عرف فيه المفكرون الهللينيون الحقيقة المطلقة الكامنة
وراء مظاهر الكون.»
١٥ ولم تكن الكلمة سوى الأب ممثَّلًا في الابن، والابن كان
حور، وأصبح هو الإمبراطور.
ونتيجة لكل هذا التسارع استطاع الآثاري أرمان أن يؤكد، أنه لم يعد «…
في الإمبراطورية الرومانية الواسعة الأرجاء، مقاطعة واحدة لا تُعبَد
فيها الآلهة المصرية، حتى استطاع ترتوليان أن يقول: إن الأرض بأسرها
تعقد الإيمان اليوم باسم سيرابيس.»
١٦ أما ما أكده عباس العقاد، فهو أن أكثر هذه المقاطعات
تأثرًا بهذا المذهب هي بلاد الجليل، حيث وُلد السيد المسيح،
١٧ مما حدا باليهود الناموسيين أو المتمسكين بحرفية التوراة،
إلى طرح مثلٍ سار على ألسنتهم يقول: «إنه لا خير يأتي من الجليل.»
١٨
المهم أن العقيدة الأوزيرية قد استقطبت كل الأساطير الأخرى مثل تلك
التي كانت تُنسب إلى «… السحرة الذين يجففون البحيرات بكلمة ينطقون
بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز إلى أماكنها، أو يحيون الموتى»،
١٩ ومن هنا استولى أوزير على كل «قصص الشفاء»،
٢٠ وابتلع «أوزير»، الإله الإيراني «ميثهرا»، وأصبح بدلًا منه
صاحب «العشاء الرباني المصنوع على هيئة الصليب»
٢١ وأصبح بدلًا من الإله «ديونزيوس» «صاحب القلب المقدس وابن
الإله الأوحد، الذي قتله البشر فحملوا إثم خطيئة عالمية، لا يغفرها إلا
الإخلاص، بالإيمان به، وبالتعميد، وبتعاطي جرعات من النبيذ تمثِّل روح
ابن العذراء»، فتسري فيه الروح الخالدة، وأصبح هو المخلص المنتظَر
٢٢ عند الجماهير المطحونة، بعد أن ابتلع عقيدة «البوذيستافي»،
وأصبح هو وبدلًا منه «… إله الابن … منقذًا ضحى بنفسه، وراعيًا أمينًا
للقطيع البشري الضال».
٢٣ وتحت الاحتلال الروماني، قام اليهود بعدة ثورات فاشلة،
فقسَّمهم الفشل فِرقًا، لعل أشهرها: الصدوقية والفريسية. وبرغم الفشل
أمام جيوش الرومان التي بلغت حدَّ الاكتمال، فقد ظل الصدوقيون مخلصين
لتوراة موسى وقصص الأنبياء السوالف، بل ازدادوا سلفية وتمسكًا بحرفية
التقليد، إضافة لكونهم كانوا هم كهنة الهيكل وسدنته، مما حدا بهم على
رفض منطق العصر وتغيرات الزمن، فظلوا يحلمون بمملكة داود الغابرة، ثم
تصوروا أن هذه المملكة لا بد أن تقوم مرة أخرى على يد واحدٍ من نسل
داود ضمانًا لنقاء الدم الملكي، وهذا الشخص الملك موجود، ولكنه مفقود
ضائع بين بيوت إسرائيل، وفي حال إعلانه عن نفسه سيقود شعبه بقوة
السلاح، ليجتاح قلاع الرومان ويُطبق شريعة موسى. ومن هنا قاموا يفسرون
بعض الآيات القديمة بمنهج التأويل، على أنها نبوءات بظهور هذا الملك
العظيم عندما تشتد المحنة بالشعب، وسيأتي جبارًا مثل شائول، مقاتلًا
مثل داود، حكيمًا مثل سليمان. وفعلًا بدأ العصر يرهص بالنبوءة
الصدوقية، ينتظر يهوديًّا يعلن أنه حفيد داود، وعندئذٍ سوف يمسح
الصدوقيون بالزيت المقدس مسيحًا، حسب الشرعة التوراتية لصحة التتويج
الملكي.
هذا، بينما كانت مقاطعة الجليل في وادٍ آخر، يموج بفلسفة الإسكندرية
وفلسفتها الرواقية وعقيدتها الأوزيرية، بحيث رفض أهلها منطق الصدوقيين،
بعد أن انكسرت الثورات على رماح الرومان واحدة إثر أخرى، وأصبحت
القناعة أنه لا يقدر على الرومان إلا الرب، ولم يعد مُجديًا إلا أن
يهبط الرب بنفسه كما هبط لموسى من قبل، ولكن في صورة روحانية بروح قدس
تحل في بذرة بشرية في أحشاء عذراء تنجبه أو تنجب منه ابنًا هو المخلِّص
الموعود. وسيكون هو الكلمة والقانون، فكلمة الله نافذة، فلا يحارب ولا
يقود جيوشًا، إنما يتكلم بالسلام، ويقيم دولة المحبة التي أرادها
فلاسفة الرواقية.
وحدث أن ظهر، في الجليل، وفي قرية من أعمالها هي «الناصرة»، من أعلن
أنه قد توافرت فيه المواصفات المطلوبة في المسيح المنتظَر، وهو ما
سجلته الأناجيل كما سنرى:
يستهل الإنجيلي «يوحنا» — وهو أحد تلامذة المدرسة الرواقية — إنجيله
بقوله: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَة، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ،
وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ» (١:١) وأن «الكَلِمَة صَارَ جَسَدًا
وَحَلَّ بَيْنَنَا» (١: ١٤). أما
كيف حدث ذلك، فهو ما يشرحه الإنجيلي لوقا في إنجيله بالقول «أُرسل
جبريل الملاك من عند الله إلى مدينة في الجليل، اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجلٍ
من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم، فدخل عليها
الملاك وقال: «… هَا أَنْتِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا، هذَا
يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الله يُدْعَى … الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ
مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (١: ٢٦–٣٥). ومن هنا لم يراود «بولس
الرسول» أي شك وهو ينادي ورجع الصدى منه يردد في أرجاء المتوسط:
«إنه إلهي يسوع المسيح» (الرسالة
إلى رومية، ١: ١٨)، ««إنه ربنا يسوع
المسيح» (الرسالة إلى فيلبي، ٤: ٢٣). أما بطرس الرسول فقد أخذ على
عاتقه نفي أي علاقة للمسيح «ابن الله» بأي أبناء آلهة آخرين في تراث
المنطقة، فقام يؤكد القول: «إننا لم نتبع خرافات مصطنَعة، إذ عرفناكم
بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، لأنه
أخذ من الله كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسني:
«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا
سُرِرْتُ بِهِ، وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ
مُقْبِلًا مِنَ السَّمَاءِ، إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ
الْمُقَدَّسِ» (رسالة بطرس الثانية، ١: ١٦–١٨). وإعمالًا لذلك أكد
يوحنا أن «… الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (٦: ٦٩). أما سبب مجيئه
عند بولس فهو أن «اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ
بَعْدُ خُطَاةٌ، مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا، وقَدْ صُولِحْنَا مَعَ
اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ» (الرسالة إلى رومية، ٥: ٨). وأنه قد «مَاتَ
مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا … وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ» (الرسالة الأولى لكورنثوس، ١٥: ٣-٤). وأن من
يؤمن بذلك فإن يوحنا يؤكد له أنه سيصبح ابنًا للمسيح خالدًا مثله، «…
كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا
أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (١: ١٢)، وأكد ذات
المعنى بولس بقوله: «اللهُ نَفْسُهُ أَبُونَا وَرَبُّنَا» (الرسالة إلى
تسالونيكي، ٣: ١١)، وسبب هذه الأبوة عند بطرس هو الحصول على الطبيعة
الإلهية الخالدة، أو كما قال: «… لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ
الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (الرسالة الثانية، ١: ٣-٤). وهو ما أوضحه
بالقول: «والذي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (الرسالة
الثانية، ٣: ٣٥).
ومع هذا الاعتقاد الجازم في ألوهية المسيح، أو بنوَّته للإله، وأنه
وُلِد من عذراء، وأنه هبط فداء للبشر وتخليدًا للمؤمنين في عالم آخر
عوضًا عن عالم الآلام الدنيوي، فقد تلازم مع هذا الاعتقاد اعتقاد آخر
عجيب، فهذا لوقا بعد تأكيده عن المسيح «هذَا يَكُونُ عَظِيمًا،
وَابْنَ الْعَلِيِّ الله
يُدْعَى»، يردف القول مباشرةً «وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ
الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،
وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى
الأَبَدِ»(١: ٣٢-٣٣) ثم لا يني يردد أنه «هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ»(٢٣: ٢)، وينادي
«تبارك الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ
الرَّبِّ» (١٩: ٣٨).
أما الإنجيلي متَّى، فيرصد المسيح، آخر النسل في شجرة نسب بيت الملك
داود، ليهبط بهذه الشجرة من الفروع إلى الأغصان حتى يصل إلى «…
يُوسُفَ رَجُل مَرْيَمَ الَّتِي
وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ» (١: ١٦)، ولتأكيد
أنه حفيد داود الملك، وأنه الملك المنتظَر للجلوس على عرش إسرائيل، فإن
مرقس يقول: «مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ، مُبَارَكَةٌ هي
مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ» (مرقس، ١١: ٩-١٠). ثم هذا يوحنا يحكي أن
«فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا الَّذِي
كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاء: يَسُوعَ بنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ» (٥:
٤٥-٤٦). لذلك اضطر بولس لمحاولة شرح توفيقي يقول عن
المسيح: «هو فعلًا الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ عَنِ
ابْنِهِ، الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ
دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ
الْقَدَاسَةِ، بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (الرسالة إلى
رومية).