التفكير الحوسبي
عقلية معينة
تتسم معظم العلوم في العصر الحديث — ولنقل بعد الحرب العالمية الثانية — بقدرٍ عالٍ من التخصص، بل الحصرية، بحيث يظل فهمُها المتعمق قاصرًا بدرجة كبيرة على المتخصصين في المجال، ونقصد بهم أوساطَ الممارسين لتلك العلوم. انظر على سبيل المثال إلى الفيزياء الحديثة المعنية بالجسيمات الأساسية. يُكشف عن تأثيرات تلك العلوم لعموم الناس في أفضل الأحوال وعندما يكون ذلك مناسبًا من خلال عواقبها وآثارها التكنولوجية.
لكن يوجد بعض العلوم التي تمس خيال غير المتخصصين بفعل الطبيعة الجذابة لأفكارها المحورية. ومن الأمثلة على ذلك في مجال العلوم الطبيعية نظرية التطور. فقد امتدَّت أذرع تأثير تلك النظرية إلى علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد وحتى علم الكمبيوتر، وهي مجالات فكرية لا علاقة لها بالجينات أو الانتقاء الطبيعي.
ومن بين العلوم الاصطناعية، يُظهِر علم الكمبيوتر سمةً مشابهة لذلك. وأنا لا أشير إلى الأدوات التكنولوجية الواسعة الانتشار التي غزت العالم الاجتماعي. بل أشير إلى ظهور «عقلية» معينة.
عبَّر أحد رواد الذكاء الاصطناعي، وهو سيمور بابيرت، عن هذه العقلية — أو على الأقل بشائر ظهورها — بأسلوب حماسي وبليغ في كتاب من تأليفه بعنوان «العواصف الذهنية» (١٩٨٠). أعلن بابيرت أن هدفه من هذا الكتاب أن يناقش ويذكر كيف أن الكمبيوتر يمكن أن يوفِّر للإنسان طرقًا جديدة للتعلم والتفكير، ليس باعتباره أداةً عملية ومفيدة فحسب، بل بطرق جوهرية ومفاهيمية أكثر. وستتيح هذه التأثيرات أنماطًا للتفكير حتى عندما لا يكون الشخص المفكِّر على اتصال مباشر مع الجهاز المادي. وفي رأي بابيرت، يبشر الكمبيوتر بأنه سيكون بمثابة «ناقل محتمل للأفكار العظيمة وبذور التغيير الثقافي». وقد وعد بأن يتناول كتابه كيف يمكن للكمبيوتر أن يساعد البشرَ مساعدةً مثمرة في تجاوز الحدود التقليدية التي تفصِل بين المعرفة الموضوعية والمعرفة الذاتية، وبين الإنسانيات والعلوم.
ما تناوله بابيرت كان رؤية — ربما كانت مثالية — تجاوزت التأثيرَ المادي البحت لأجهزة الكمبيوتر والحوسبة في شئون العالم. وقد ظهرت هذه الرؤية الأخيرة منذ بدايات الحوسبة التلقائية التي نشأت في عصر تشارلز بابيج وآدا كونتيسة لوفليس في أواسط القرن التاسع عشر. بل إن رؤية بابيرت كانت تلقينًا لعقليةٍ ستوجِّه وتشكِّل وتؤثِّر في طرق تفكير الشخص في أوجه العالم وإدراكه واستجابته لها — سواء عالَم المرء الداخلي أو العالَم الخارجي — التي تبدو للوهلة الأولى أنها لا علاقة لها بالحوسبة، ربما من حيث القياس أو الاستعارة أو الخيال.
وبعد ما يزيد على ربع قرن من صدور كتاب بابيرت، منحت عالِمة الكمبيوتر جانيت وينج اسمًا لهذه العقلية وهو «التفكير الحوسبي». لكن ربما كانت رؤية وينج واقعيةً أكثر من رؤية بابيرت. ففي عام ٢٠٠٨، كتبت تقول إن التفكير الحوسبي ينطوي على مناهجَ لأنشطة مثل حل المسائل والتصميم وإدراك السلوك الذكي الذي يعتمد على المفاهيم الأساسية للحوسبة. لكن لا يمكن أن يكون التفكير الحوسبي جزيرةً قائمةً بذاتها. ففي مجال حل المسائل، سيكون أقرب إلى التفكير الرياضي؛ وفي مجال التصميم، سيتشارك سمات مع العقلية الهندسية؛ وفي فهم الأنظمة الذكية (بما فيها العقل بالطبع)، فقد يجد أرضًا مشتركة مع التفكير العلمي.
ومثل بابيرت، فصلت وينج بين عقلية التفكير الحوسبي عن الكمبيوتر المادي ذاته؛ أي إن المرء بإمكانه التفكير حوسبيًّا من دون وجود الكمبيوتر.
قد يكون هناك تفسيراتٌ أدق، ولكن هذه التفسيرات من حيث التفاعل والتنفيذ/المحاكاة كافية لتوضيح النطاق العام للتفكير الحوسبي.
التفكير الحوسبي باعتباره مهاراتٍ ذهنية
أوضحُ تأثيرٍ يمكن أن تحدِثه الحوسبة في الإنسان هو أن تكون مصدرًا للمهارات الذهنية؛ أي تكون مجموعة من أدوات التحليل وحل المسائل التي يمكن أن يطبِّقها الإنسان في سياق حياته بغض النظر عن وجود أجهزة الكمبيوتر الفعلية من عدمه. هذا ما كانت تقصده جانيت وينج. تحديدًا، إنها اتخذت التجريد باعتباره «الجوهر» — الأساس — للتفكير الحوسبي. لكن بما أن التجريد دون شك مفهوم حوسبي أساسي (كما رأينا بين صفحات هذا الكتاب)، فإن علم الكمبيوتر يقدِّم الكثير من الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن يستوعبها الإنسان ويدمجها في مجموعة أدوات التفكير لديه. أقصد بذلك الطرق الاستدلالية، سواء الضعيفة أو القوية؛ وفكرة الوصول لحلٍّ مُرضٍ بدلًا من التحسين باعتباره غايةً واقعية لعملية اتخاذ القرار؛ والتفكير بطريقة خوارزمية وفهم متى يكون هذا المسار مناسبًا لحل المسألة، وهل هو مناسب أم لا؛ وشروط ومعمارية المعالجة المتوازية باعتبارها وسيلةً للتعامل مع المساعي المتعددة المهام؛ وأسلوب حل المسائل بطريقة «تنازلية» (بحيث نبدأ بالهدف والحالة الأولية للمسألة، ثم نقسم الهدف إلى أهداف فرعية أبسط، ونقسم الأهداف الفرعية إلى المزيد من الأهداف الفرعية الأبسط، وهكذا دواليك)، أو بطريقة «تصاعدية» (بحيث نبدأ بالهدف وأدنى لبنات بنائه في المستوى، ثم ننشئ حلًّا بتنظيم لبنات البناء لصناعةِ لبناتِ بناءٍ أكبرَ، وهكذا). لكن المهم هو أن اكتساب أدوات التفكير هذه يتطلب مستوًى معينًا من إتقان مفاهيم علم الكمبيوتر. ومن وجهة نظر وينج، ينطوي هذا على إدخال التفكير الحوسبي ضمن المناهج التعليمية منذ المراحل الأولى.
لكن التفكير الحوسبي ينطوي على ما هو أكثر من المهارات التحليلية وتلك الخاصة بحل المسائل. فهو يشمل طريقةً «للتخيل»، عن طريق رؤية التشابهات وصياغة الاستعارات. هذا المزيج من المهارات التقنية والخيال هو ما كان يفكِّر فيه بابيرت — على ما أعتقد — والذي يوفِّر الثراء الكامل لعقلية التفكير الحوسبي. سنتناول الآن بعضَ مجالات البحث الفكري والعلمي التي أثبتت هذه العقلية فاعليتها فيها.
التفكير في العقل بطريقة حوسبية
أحد أقوى مظاهر هذه العقلية بالتأكيد — وإن كان مثيرًا للجدل — هو التفكير في التفكير: بمعنى تأثير علم الكمبيوتر في علم النفس المعرفي. بطرح سؤال تورنج الشهير — هل بإمكان أجهزة الكمبيوتر التفكير (الذي هو أساس الذكاء الاصطناعي)؟ — بنحو عكسي، يدرُس علماء علم النفس المعرفي السؤال التالي: هل التفكير عملية حوسبية؟
الدماغ الحوسبي
يعود تاريخ تمثيل أو نمذجة البنية العصبية للدماغ باعتبارها نظامًا حوسبيًّا، وكذلك اعتبار الأدوات الحوسبية شبكاتٍ من الكيانات ذات مستوى تجريدٍ عالٍ وتشبه الخلايا العصبية إلى العمل الرائد لعالِم الرياضيات وران بيتس وعالِم الفسيولوجيا العصبية وارن مكولوك، والعالِم النابض بالحيوية جون فون نيومان في أربعينيات القرن العشرين. وعلى مدار الستين سنة التالية، تطوَّر نموذج علمي يسمى «الترابطية». في هذا النهج، يعبَّر عن عقلية التفكير الحوسبي على نحوٍ أكثر تحديدًا من خلال تصميم شبكات ذات درجة ترابط عالية فيما بينها (ومن هنا ظهر مصطلح «الترابطية») تتكوَّن من عناصر حوسبية بسيطة للغاية تعمل جميعها لنمذجة سلوك العمليات الأساسية للدماغ، التي هي عبارة عن لبنات بناء في عمليات معرفية ذات مستوًى أعلى (مثل رصد الدلائل أو التعرُّف على الأنماط في العمليات البصرية). وتقع المعماريات الترابطية للدماغ عند مستوى تجريد أقل من المعماريات المعرفية القائمة على معالجة الرموز التي ذكرناها في القسم السابق.
ظهور العلوم المعرفية
معماريات العقل المعرفية القائمة على معالجة الرموز ونماذج الدماغ الترابطية، هما من الطرق التي أثَّرت بها الأدوات الحوسبية ومبادئ علم الكمبيوتر في تشكيل وظهور مجال العلوم المعرفية المتعدد التخصصات والجديد نسبيًّا. وقد وجب التنويه إلى أن علماء العلوم المعرفية لم يتخذوا كلهم — مثل عالِم النفس جيروم برونر — الحوسبة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في المعرفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن فكرة فهْم أنشطة مثل التفكير والتذكر، والتخطيط وحل المشكلات واتخاذ القرار والإدراك، وصياغة المفاهيم والفهم عن طريق إنشاء نماذج حوسبية ووضع فرضيات قائمة على الحوسبة تُعدُّ فكرة فاتنة؛ ولا سيما أن رؤية علم الكمبيوتر باعتباره علمَ المعالجة التلقائية للرموز شكَّلت «حافزًا» قويًّا في ظهور العلوم المعرفية نفسها. ويقوم جوهر تأريخ مارجريت بودن للعلوم المعرفية — المذكور في القسم السابق — على تطوير الحوسبة التلقائية.
فهم الإبداع البشري
الموضوع الجذاب للإبداع — بدايةً من النوع الاستثنائي والأصيل تاريخيًّا وحتى الصنف الشخصي اليومي — موضوعٌ متشعب استقطب اهتمامًا مهنيًّا من علماء النفس والمحللين النفسيين والفلاسفة والتربويين وعلماء الجمال والمنظرين الفنيين ومنظري التصميم والمؤرخين الفكريين وكتَّاب السير الذاتية؛ فضلًا عن المبدعين أنفسهم الأكثر استبطانًا لذواتهم (العلماء والمخترعين والشعراء والكُتاب والموسيقيين والفنانين وغيرهم). إن نطاق مناهج الإبداع ونماذجه ونظرياته كبيرٌ للغاية، ومن أهم الأسباب في ذلك التعريفات العديدة له.
لكن على الأقل لجأت جماعةٌ واحدة من الباحثين في الإبداع إلى التفكير الحوسبي باعتباره «طريقة عمل». اقترح هؤلاء نظرياتٍ ونماذجَ حوسبية لعملية الإبداع تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مبادئ الحوسبة الاستدلالية، وعلى تمثيل المعرفة في صورة بنيات رمزية معقَّدة (تسمَّى مخططات)، وتعتمد كذلك على مبادئ التجريد. هنا أيضًا نجد التأثير الدامغ للتفكير الحوسبي؛ حيث مهَّد أرضًا مشتركة لتحليل الإبداع العلمي والتكنولوجي والفني والأدبي والموسيقي: أي، تزاوج العديد من الثقافات كما كان بابيرت يأمُل.
على سبيل المثال، طبَّق الباحث الأدبي مارك تورنر المبادئَ الحوسبية على مسألة فهم عملية التأليف الأدبي، تمامًا كما سعى فيلسوف العلم وعالِم العلوم المعرفية بول ثايجارد إلى تفسير الثورات العلمية باستخدام النماذج الحوسبية، وصاغ مؤلِّف الكتاب الذي بين أيديكم — الذي هو عالِم كمبيوتر وباحث في مجال الإبداع — تفسيرًا حوسبيًّا لتصميم وابتكار الأفكار والأدوات التكنولوجية في العلوم الاصطناعية. لقد كانت عقلية التفكير الحوسبي بمثابة الغراء الذي يربط بين هذه الثقافات الفكرية والإبداعية المختلفة في ثقافة واحدة. وفي العديد من هذه الدراسات الحوسبية الخاصة بالإبداع، قدَّم علم الكمبيوتر دقةً في التفكير للتعبير عن المفاهيم المتعلقة بالإبداع التي كانت غائبة من قبل.
لنضرب مثالًا، اعتبر الكاتب آرثر كيستلر في كتابه البالغ الأهمية «عمليةَ الإبداع» (١٩٦٤) عملية تسمَّى «الارتباط الثنائي» بمنزلة آليةٍ تتأثَّر بها الأعمال الإبداعية. يقصد كيستلر بمصطلح الارتباط الثنائي الجمع بين مفهومين غير مترابطين أو أكثر ودمجهما، ما يؤدي إلى منتجٍ أصلي. ومع ذلك، ظلَّت الطريقةُ الدقيقة التي يحدُث بها الارتباط الثنائي مبهمة. وقد قدَّم التفكير الحوسبي لبعض الباحثين في مجال الإبداع (مثل مارك تورنر وهذا الكاتب) تفسيراتٍ لارتباطات ثنائية معينة باللغة الدقيقة لعلم الكمبيوتر.
فهم المعالجة الجزيئية للمعلومات
لقد اكتشف جيمس واتسون، وفرانسيس كريك، بنيةَ جزيء الحمض النووي عام ١٩٥٣. وعلى إثر ذلك، بدأ علم الأحياء الجزيئي. ومن بين ما يهتم به هذا العلم فهْم واكتشاف آليات كآليات تضاعف الحمض النووي ونسخ جزء من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي، وترجمة الحمض النووي الريبوزي إلى بروتين — وهذه من العمليات البيولوجية الأساسية. ومن هنا، دخلت إلى الوعي الأحيائي فكرةُ تصوير الجزيئات بأنها ناقلات معلومات. فبدأ منظِّرو علم الأحياء المتأثرون بالأفكار الحوسبية في نمذجة العمليات الوراثية من منظورٍ حوسبي (والذي أدَّى مصادفةً إلى ابتكار خوارزميات بناءً على مفاهيمَ وراثية). ومن ثَم شكَّل التفكير الحوسبي ما كان يسمَّى «معالجة المعلومات الأحيائية» أو ما يُسمى باللغة المعاصرة «المعلوماتية الأحيائية».