(١) المعرفة والإيمان والقدرة
ولقد ارتبطت قضية المعرفة — وهي أساس البحث في العقل — منذ نشأة الفرق
الكلامية — بقضية الإيمان، وذلك على يد المرجئة. وانقسم المرجئة — كما سبقت
الإشارة — إلى جبرية على رأسهم جهم بن صفوان (ت۱۲۸ﻫ)، وإلى قَدَرية وعلى
رأسهم غيلان الدمشقي (ت٩٩ﻫ). وإذا كانوا جميعًا قد اتَّفقوا على تحديد
الإيمان بأنَّه معرفة الله، «وزعموا أنَّ الكفر بالله هو الجهل به»
٦ كما يُحْكَى عن جهم، فمن الطبيعي أن يختلفوا حول قدرة الإنسان
على المعرفة بناءً على اختلافهم في الجبر والاختيار. وإذا كان جهم قد ذهب
إلى إنكار أي قدرة للإنسان على الفعل وذلك حتَّى تثبت القدرة الله وحده
سعيًا منه إلى إقامة مبدأ التوحيد ونفي مشابهة الله للبشر، فإنَّ غيلان
الدمشقي مُتَّسقًا مع مبدئه في القدر ذهب إلى «أنَّ الإيمان بالله هو
المعرفة الثانية.»
٧ ومن حقنا أن نستنتج أنَّ المعرفة الثانية هي المعرفة الناتجة
عن النظر؛ وذلك للتفرقة بينها وبين المعرفة الأولى التي يجدها الإنسان في
نفسه دون نظر أو استدلال، وهو ما يُطْلَق عليه في اصطلاح المتكلمين التالين
المعرفة الضرورية. ومعنى ذلك أنَّ معرفة الله — عند غيلان — تُعدُّ نتيجةً
لفعل إنساني هو النظر، وهو فعل يقع تحت مقدور الإنسان وبحسب إرادته.
ويُمكننا — بناءً على ذلك — أن نلمح في هذه المرحلة الباكرة ارتباط قضية
المعرفة — بالإيمان من جانب، وارتباطها بالقدرة الإنسانية وحرية الاختيار
من جانب آخر.
وظلَّ هذا الارتباط بين المعرفة والقدرة والإيمان قائمًا عند
أبي الهذيل، حتَّى اشترط لقدرة الإنسان على الشيء «أن يكون عارفًا لكيفيته،
وما لا يُعرف كيفيته لا يُقدَر عليه فهو يقول: جائز أن يُقدِر الله عباده
على الحركات والسكون والأصوات والآلام وسائر ما يعرفون كيفيته، فأمَّا
الأعراض التي لا يعرفون كيفيتها كالألوان والطعوم والأراييح والحياة والموت
والعجز والقدرة، فليس يجوز أن يوصف الباري بالقدرة على أن يقدرهم على شيء
من ذلك.»
٨ وهذه التفرقة بين ما يقدر الإنسان عليه وما لا يقدر ترتد إلى
المعرفة الإنسانية. وقدرة الإنسان نفسها هي قدرة من فعل الله القادر على كل
شيء. وواضح أنَّ أبا الهذيل — هنا — كان يُفرِّق بين قدرة الله وقدرة
الإنسان، ويبدو أنَّه كان يحاول رفع التناقض الذي ظلَّ قائمًا بين القول
بقدرة الإنسان على الفعل، وبين الإيمان بقدرة الله الشاملة وإرادته
النافذة، ذلك الإيمان الذي يُعدُّ أساس التوحيد المطلق عند أتقياء
المسلمين. ولكن أبا الهذيل يظل — رغم ذلك — معترفًا بأنَّ المعرفة فعل
إنساني، وأنَّ القدرة — التي يمنحها الله للإنسان — تتعلَّق بهذه المعرفة.
ومن شأن هذا التصوُّر أن يؤدِّي — من جديد — إلى ما حاول أبو الهذيل الهرب
منه، بمعنى أنَّه يؤدِّي إلى ربط القدرة الإلهية الممنوحة للعبد بفعل من
أفعال العبد هو المعرفة. وللخروج من هذا المأزق يُضطر أبو الهذيل إلى القول
بأنَّ «المعارف ضربان: أحدهما باضطرار، وهو معرفة الله عزَّ وجل؛ ومعرفة
الدليل الداعي إلى معرفته، وما بعدهما من العلوم الواقعة عن الحواس أو
القياس فهو علم اختيار واكتساب.»
٩ وهو بذلك يقف موقفًا وسطًا بين جبرية جهم في المعرفة،
واختيارية غيلان الدمشقي. ولكن جبريته في معرفة الله عن طريق اعتبارها
معرفةً ضرورية يُعدُّ أمرًا غريبًا، ولكنَّه من جانب آخر يكشف عن ذلك
التصادم بين أهم مبدءَين من مبادئ المعتزلة، وهما «العدل» و«التوحيد»؛
«فبينا كان من شأن إثبات الوحدانية الإلهية أن يفضي آخر الأمر إلى الإقرار
بسلطة الله المطلقة على الكون، كان فحوى قولهم إنَّ الإنسان خالق أفعاله هو
الحد من هذه السلطة.»
١٠
وتزداد هذه المشكلة حِدةً عند كلٍّ من النظَّام (ت٢٣٠ﻫ) والجاحظ
(ت٢٥٥ﻫ)، فقد أراد النظَّام أن ينفي عن الله القدرة على الظلم والكذب وسائر
القبائح، وغالى في ذلك حتَّى أخضع الفعل الإلهي لقانون أخلاقي صارم جعله
يقترب من أن يكون سبحانه مجبورًا في أفعاله غير مُخيَّر. والغاية التي كان
يسعى لها النظَّام من إخضاع الفعل الإلهي للقانون الأخلاقي هي نفي مشابهته
للبشر الذين يقع منهم الظلم، ذلك «أنَّ الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم
ذي آفة … فالواصف لله بالقدرة عليهما قد وصفه بأنَّه جسم ذو آفة؛ لأنَّ
القادر على شيء غير مُحال وقوعه منه، فلو وقعا منه لدلَّ وقوعهما منه على
أنَّه جسم ذو آفة.»
١١ غير أنَّ نفي قدرة الله على فعل من الأفعال كان من شأنه أن
يُخلَّ بمبدأ التوحيد الذي يسعى النظَّام لتأكيده؛ ولذلك كان على النظَّام
أن يؤكِّد خيرية الله المطلقة في مواجهة الإنسان الذي يتأتَّى منه الخير
والشر. وليس من المستبعد — في هذه الحالة — أن يكون النظَّام قد تأثَّر في
أفكاره تلك بالأفكار المانوية التي قام بجهد كبير في مجادلة معتنقيها
ومحاولة نفي قولهم بالأثنينية التي تُفسِّر وجود الشر والخير في العالم
تفسيرًا يُسلِّم بصدورهما عن قوتَين متعارضتَين.
وكان من الطبيعي أن يخضع تأثُّر النظَّام بهذه الأفكار لاتجاهات الفكر
الديني الاعتزالي، وأن يوظف لخدمة مقولاته الأساسية وهي العدل والتوحيد.
وما دام قد ذهب إلى توحيد الفعل الإلهي الذي لا يمكن إلا أن يتصف بصفة
الخيرية المطلقة، فقد كان من الطبيعي أن يوحِّد الفعل الحيواني، فذهب إلى
أنَّ «أفعال الحيوان كلها من جنس واحد، وهي كلها حركة وسكون، والسكون عنده
حركة اعتماد، والعلوم والإرادات عنده من جملة الحركات، وهي الأعراض،
والأعراض كلها عنده جنس واحد، وهي كلها حركات.»
١٢ فالفعل الإنساني — متضمِّنًا العلوم والإرادات — جنس واحد يرجع
كله إلى الحركة والسكون. والسكون عند النظَّام هو حركة الاعتماد، فهو نوع
من الحركة أيضًا. وإذا كانت الأعراض عند النظَّام كلها حركات، فإنَّ
الإنسان لا يقدر بذلك إلا على الأعراض، وذلك على عكس الله الذي يقدر على
الأعراض والجواهر معًا، وبذلك تتميَّز قدرة الله على قدرة الإنسان وتعلو
عليها.
غير أنَّ الفعل الإنساني — الحركة — ينقسم إلى فعل مباشر، وهو ما يفعله
الإنسان في نفسه، وفعل متولِّد، وهو ما يتجاوز نطاق ذاته؛ وذلك كأن يلقي
الإنسان بحجر في ماء راكد، فيتحرَّك الماء بحركة الحجر؛ فحركة الحجر تُعدُّ
فعلًا مباشرًا للإنسان، أمَّا حركة الماء فهي فعل متولِّد عن حركة الحجر.
ولقد كان النقاش حول الفعل المتولِّد ومدى مسئولية الإنسان عنه امتدادًا
للبحث في مسئولية الإنسان عن فعله نتيجةً لتأكيد المعتزلة على قدرة الإنسان
على الفعل. ولقد كان رأي أبي الهذيل العلَّاف — كما أشرنا — أنَّ ما يعرف
الإنسان كيفيته من الأفعال هو ما يقدر عليه، ويُعد — بالتالي — مسئولًا
عنه، سواء كان فعلًا مباشرًا أو متولدًا. أمَّا النظَّام فقد ذهب إلى أنَّ
الفعل المتولد ليس فعلًا للإنسان على الحقيقة، وإنَّما هو «فعل الله جلَّ
وعزَّ بإيجاب الخِلقة، بمعنى أنَّه تعالى طبع الحجر طبعًا وخلقه خلقًا إذا
دفعتَه ذهب.»
١٣ وليست فكرة الطبع هذه عند النظَّام إلا محاولةً لتأكيد القدرة
الإلهية الشاملة التي قد يُقلِّل منها إخضاع الفعل الإلهي للقانون
الأخلاقي. ولكن القدرة الإلهية هنا تُعبِّر عن نفسها من خلال قوانين طبيعية
من صنعها وغير مفروضة عليها من الخارج. ويُصبح الإنسان نفسه — بكل قدرته
على الفعل — جزءًا من هذا القانون؛ وبذلك ينتفي التعارض ويزول اعتراض
المعترضين.
والإدراك — أول مراتب المعرفة — يتولَّد عن حركة الحواس؛ فإدراك
المرئيات يتولَّد عن فتح العين وتوجُّهها تجاه المرئي. وهو بهذا الفهم
يُعدُّ جزءًا من الأفعال المتولِّدة التي تقع عن الطبع الذي خلقه الله،
«وكان أبو إسحاق النظَّام يقول في الإدراك خاصةً أنَّ الله سبحانه يفعله
بإيجاب خلقه وبحواس.»
١٤ وعلى ذلك يمنع النظَّام أن يقول قائل «إنَّما رأيتك لأني
التفت. وهو إنَّما رآه لطبع في البصر الدرَّاك»
١٥ الذي يتولَّد عنه الرؤية أو الإدراك. وإذا كان الإدراك يُعدُّ
فعلًا لله لأنَّه فعل مُتولد، فإنَّ المعرفة بأكملها — وهي متولِّدة عن
النظر — فعل الله أيضًا بإيجاب حركة القلب، وذلك تأسيسًا على تعريف
النظَّام للعلم بأنَّه «حركة من حركات القلب.»
١٦ ولقد بلغ من سيطرة فكرة الطبع على ذهن النظَّام أن جعلها مدخله
لإثبات وجود الله، وذلك على أساس أنَّ اجتماع الضدَّين دليل على أن ثمَّ من
قهرهما على غير طبعهما: «وجدت الحر مضادًّا للبرد، ووجدت الضدَّين لا
يجتمعان في موضع واحد من ذات أنفسهما، فعلمت بوجودهما مجتمعَين أنَّ لهما
جامعًا جمعهما وقاهرًا قهرهما على خلاف شأنهما. وما جرى عليه القهر والمنع
فضعيف، وضعفه ونفوذ تدبير قاهره فيه دليل على حدوثه وعلى أنَّ له مُحدِثًا
أحدثه ومُختَرِعًا اخترعه لا يُشبهه؛ لأنَّ حكم ما أشبهه حكمه في دلالته
على الحدث، وهو الله رب العالمين.»
١٧ وهذا كله يؤكِّد ارتباط قضية المعرفة والبحث فيها بقضايا العدل
والتوحيد أساس الفكر الاعتزالي.
لا يختلف الجاحظ عن أستاذه كثيرًا في منحاه الفكري العام، وفي موقفه من
قضية المعرفة والقدرة والطبع أيضًا. يتميَّز الإنسان — عند الجاحظ — عن
غيره من الكائنات الحيوانية بقدرته واستطاعته على الفعل والاختيار.
ويترتَّب على القدرة والاستطاعة وجود العقل: «إنَّ الفرق الذي بين الإنسان
والبهيمة، والإنسان والسبع والحشرة، والذي صيَّر الإنسان إلى استحقاق قول
الله عزَّ وجل:
وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ليس هو الصورة، وأنَّه خُلِق
من نطفة وأنَّ أباه خُلِق من تراب، ولا أنَّه يمشي على رجلَيه، ويتناول
حوائجه بيدَيه؛ لأنَّ هذه الخصال كلها مجموعة في البُلْه والمجانين،
والأطفال والمنقوصين. والفرق إنَّما هو الاستطاعة والتمكين. وفي وجود
الاستطاعة وجود العقل والمعرفة، وليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة.»
١٨ فالعقل تابع من توابع الاستطاعة، والمعرفة نتيجة لها، بمعنى
أنَّ انعدام القدرة والاستطاعة يلغي فاعلية العقل ويهدم أساس المعرفة، وعلى
ذلك تُعدُّ الاستطاعة أساسًا لوجود العقل الذي يترتَّب على وجوده وجود
المعرفة.
غير أنَّ الجاحظ يربط المعرفة والعقل بالحاجة الإنسانية وضروراتها؛ فهو
يحكي على لسان أحد الحكماء: «وقيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ قال: ساعة
وُلدت. فلمَّا رأى إنكارهم لكلامه قال: أمَّا أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت
الأكل حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أُعطيت. يقول هذه مقادير
حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته إذا منعها وإذا أُعطيها، فلا حاجة به في ذلك
الوقت إلى أكثر من ذلك العقل.»
١٩ ومعنى ذلك أنَّ حاجات الطفل الحيوية الطبيعية هي التي تُحدِّد
له معارفه، التي أطلق عليها الجاحظ اسم العقل، وهو الإحساس بما يُريد
ويحتاج.
ينتقل الجاحظ بعد ذلك من حالة الطفل، أو الإنسان منفردًا، إلى الجماعة،
فيرى «أنَّ حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في
جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم.»
٢٠ وإذا كان الطفل لا يحتاج من العقل — أو المعرفة — إلا بمقدار
حاجاته الحيوية، فإنَّ الجماعة البشرية — والاجتماع في طبائع الناس — لها
بالضرورة احتياجاتها الجديدة، التي تتطلَّب وسائل جديدةً تُعين الإنسان على
المعرفة وإدراك عالمَيه الطبيعي والإنساني معًا، ثمَّ بعد ذلك معرفة عالم
الغيب ومعرفة الله الذي سخَّر له كل ما في العالم من جماد ونبات وحيوان،
ليستعين به في حياته أولًا، وليستدل به ثانيًا. وبذلك كله تُصبح المعرفة
بمعناها العام، ضرورةً للاجتماع البشري. وتترقَّى المعرفة — تبعًا لذلك —
من التمييز بين الضار والنافع — وهذه هي المرحلة الدنيا للوجود الإنساني —
حتَّى تصل إلى المعرفة التي تؤدِّي إلى السعادة، وبذلك يترقَّى الإنسان «من
معرفة الحواس إلى معرفة العقول، ومن معرفة الرَّوِيَّة من غاية إلى غاية،
حتَّى لا يرضى من العلم والعمل إلا بما أدَّاه إلى الثواب الدائم، ونجَّاه
من العقاب الدائم.»
٢١
بهذا الربط بين المعرفة والحاجة الإنسانية، كان من الطبيعي أن يعتبر
الجاحظ المعرفة ضرورةً من ضرورات الوجود البشري. ولمَّا كانت فكرة الصلاح
والأصلح — وهي الفكرة التي وضع النظَّام أساسها الفلسفي — تقتضي أن يفعل
الله ما فيه خير البشر ونفعهم وصلاحهم، كان من الطبيعي القول بأنَّ المعرفة
فعل الله. غير أنَّ إسناد المعرفة لله من شأنه أن يُخلَّ بمبدأ القدرة
الإنسانية التي اعتبرها الجاحظ أساس وجود العقل والمعرفة؛ ولذلك يحل الجاحظ
هذا التعارض باللجوء لفكرة «الطبائع» التي لجأ إليها أستاذه، ومن ثمَّ يذهب
إلى أنَّ «المعارف كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد.
وليس للعبد كسبٌ سوى الإرادة، وتحصل أفعاله منه طباعًا.»
٢٢ ويؤكِّد القاضي عبد الجبَّار ما يرويه البغدادي والشهرستاني عن
الجاحظ وغيره من المعتزلة من اعتبار كل أفعال الإنسان من فعل الله وإن وقع
من الإنسان بطبعه باستثناء الإرادة التي يعدونها هي الفعل الإنساني الذي
تترتَّب عليه مسئولية الإنسان عن فعله، ومن ثمَّ استحقاقه للثواب والعقاب.
يقول «ومنهم من قال إنَّ الإنسان إنَّما يفعل الإرادة فقط دون ما عداه، وهو
قول ثمامة والجاحظ، واختلفوا فيما سوى الإرادة، فقال أبو عثمان الجاحظ
إنَّه يقع من الإنسان بطبعه، وإنَّه ليس باختيار له.»
٢٣ ويترتَّب على القول بضرورية المعرفة وربطها بقانون الطبائع عند
الجاحظ وغيره من المعتزلة نوع من الجبرية في الإيمان تؤدِّي إلى القول
بأنَّ الكافر ليس قادرًا على الإيمان لأنَّه مِمَّا لا يحتمله طبعه الذي هو
من خلق الله فيه. ولكن الجاحظ يُحاول إنكار هذه النتيجة وذلك عن طريق القول
بأنَّ الكافر قد وقعت له المعرفة الضرورية بالله وصفاته، ولكنَّه كفر
بعناده وإنكاره وإصراره على هذا العناد والإنكار: «والكُفَّار عنده ما بين
مُعاند وعارف قد استغرقه حبه لمذهبه.»
٢٤
وننتهي من كل ذلك إلى أنَّ قضية المعرفة ارتبطت في أصولها الكلامية
بقضية الإيمان من جانب، والقدرة الإنسانية من جانب آخر. ومن السهل أن
نرُدَّ كل محاولات العلَّاف والنظَّام والجاحظ لرفع التناقض بين القول
بقدرة الإنسان والقول بضرورة المعرفة إلى رغبتهم في رفع التناقض بين
«العدل» و«التوحيد»، ذلك التناقض الذي كان يطرحه خصوم المعتزلة دائمًا في
وجوههم لدرجة اتهامهم بالشِّرك لأنَّهم يجعلون مع الله خالقًا آخر هو
الإنسان. غير أنَّه من الصعب على الباحث تقويم جهود المعتزلة في هذه
القضية، والحكم عليها سلبًا أو إيجابًا، فذلك أمر يخرج عن نطاق البحث، كما
أنَّه يخرج عن حدود إمكانيات الباحث وأدواته. والذي يُهمنا هو محاولة
استجلاء رأيهم في طبيعة النشاط العقلي وصولًا إلى المعرفة لنرى حدود هذا
النشاط ومجالاته.
(٢) مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند الحارث المُحاسبي والباقلاني
يُعدُّ كتاب «العقل» للحارث المحاسبي (ت٢٤٣ﻫ) أول مؤلَّف — فيما نعلم —
يتناول تعريف العقل ويُعيِّن حدود نشاطه. ويُعدُّ الحارث المحاسبي نفسه أول
من تكلَّم في إثبات الصفات، وإليه يُنْسَب أكثر متكلِّمي الصفاتية
٢٥ وهو ينتسب إلى المدرسة الكُلابية التي تزعَّمها عبد الله
الكُلابي (ت٢٤٠ﻫ) والتي يعدُّها الأشاعرة أساس مدرستهم: «وعلى كتب الحارث
بن أسد في الكلام والفقه والحديث معوَّل متكلِّمي أصحابنا وفقهائهم وصوفيتهم.»
٢٦ ويؤمن رجال هذه المدرسة «أنَّه لا خالق إلا الله، وأنَّ سيئات
العباد يخلقها الله، وأنَّ أعمال العباد يخلقها الله عزَّ وجل، وأنَّ
العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئًا.»
٢٧ ولقد حاول الأشاعرة
— ورائدهم تربَّى في أحضان المعتزلة — التخفيف من هذه الصياغة الجبرية
لمبدأ التوحيد، فذهبوا إلى أنَّ الفعل الإنساني مخلوق لله ويُكتسب من جهة
العبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنةً للفعل؛ «فهي منه خلْق
وللعباد كسب.»
٢٨
في إطار هذه النظرة للقدرة الإنسانية، وهي نظرة تظل — رغم مقولة الكسب
الأشعرية — أقرب إلى الجبر منها إلى الحرية، يُصبح مفهوم العقل أنَّه
«غريزة جعلها الله في الممتَحَنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة.»
٢٩ وهو «غريزة يُولد العبد بها ثمَّ يزيد فيه معنًى بعد معنًى
بالمعرفة بالأسباب الدَّالة على المعقول.»
٣٠ والتفرقة بين الغريزة التي يُولد العبد بها، وبين المعرفة التي
تسبِّب زيادة العقل تفترض بالضرورة أنَّ العقل — الذي هو الغريزة — أساس
ووسيلة للمعرفة. والمعرفة نفسها تنشأ عن استخدام العقل؛ وذلك عن طريق النظر
في الأدلة. ومعنى ذلك أنَّ ثمَّ ثلاث مراحل للمعرفة الكاملة؛ «المرحلة
الأولى» هي الغريزة الفطرية التي «وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه لم
يطَّلع عليها العباد بعضهم من بعض ولا اطَّلعوا عليها من أنفسهم برويَّة،
ولا بحس ولا ذوق، ولا طعم. وإنَّما عرَّفهم الله إيَّاها بالعقل منه.»
٣١ أي إنَّها غريزة لا يمكن التعرُّف عليها إلا بالعقل نفسه؛ فهي
غريزة غير مرئية أو محسوسة أو ملموسة. أمَّا «المرحلة الثانية» فهي مرحلة
الاستدلال والنظر. ويُقسِّم الحارث المحاسبي الأدلة إلى نوعَين؛ «عیان
ظاهر، أو خبر قاهر. والعقل مُضمَّن بالدليل، والدليل مُضمَّن بالعقل.
والعقل هو المستدِل، والعِيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله. ومحال كَوْن
الفرع مع عدم الأصل، وكَوْن الاستدلال مع عدم الدليل؛ فالعِيان شاهد يدلُّ
على الغيب، والخبر يدلُّ على صدق، فمن تناول الفرع قَبْل إحكام الأصل سُفِّه.»
٣٢
والفرع هنا هو الاستدلال، والأصل هو الأدلة. وتقسيم الأدلة إلى هذَين
النوعَين؛ العيان والخبر، واعتبار العقل هو المستدِل يُعبِّر عن إيمان
بفاعلية العقل وقدرته على الوصول إلى المعرفة عن طريق النظر في الأدلة. غير
أنَّنا يجب ألَّا ننسى أنَّ العقل غريزة من خلق الله، وكذلك علينا ألَّا
ننسى أنَّ الأدلة هي التي أقامها الله أمام أعين المكلَّفين لينظروا فيها
ويستدلوا؛ فالعيان هو الأدلة المادية القائمة في العالم والتي تدلُّ على
إحكام الصنعة ووجود الخالق والمبدع والمخترع. والخبر — على مستوى المعرفة
الدينية — هو خطاب الله للبشر على ألسنة رسله.
و«المرحلة الثالثة» بعد مرحلة الاستدلال والنظر هي مرحلة المعرفة أو
كمال العقل. ويتفاوت البشر في هذه المرحلة، بناءً على تفاوتهم في القدرة
على النظر والاستدلال. وفي هذا الصدد يُقسِّم الحارث المحاسبي الناس على
أربع فرق؛ «فرقة عقلت عن الله تعالى عِظَم قدره وقدرته وما وعد وتوعَّد،
فأطاعت وخشعت. وفرقة عقلت البيان ثمَّ جحدت كِبرًا وعنادًا لطلب الدنيا.»
٣٣ «وفرقة طغت، وأعجبت، وقلَّدت، فعميت عن الحق أن تتبيَّنه ثمَّ
تقرِّبه، ثمَّ تجحده كِبرًا وطلب دنيا بعد عقلها للبيان، فظنَّت أنَّها على
حق ودين، وهي على باطل وشر وضلال. وفرقة رابعة عقلت قَدْر الله عزَّ وجلَّ
في تدبيره وتفرُّده بالصنع، وعرفت قَدْر الإيمان في النجاة بالتمسُّك به،
وقدر العقاب في ضرره في مجانبة الإيمان، فلم يجحدوا كِبرًا ولا أنفةً ولا
طلب دنيا لعقلها أنَّ عاجل الدنيا يفنى، وعذاب الآخرة لا يفنى. فأقرَّت
وآمنت، ولم تعقل عظيم قدر الله في هيبته، وجلاله، وعظيم قدر ثوابه وعقابه
في إتيان معاصيه، والقيام بفرائضه، فعصت، وضيَّعت، وغفلت، ونسيت، إلا
أنَّها علمت عظيم قدر الإيمان في النجاة، وعظيم ضرر الكفر، قد عقلته عن
الله تعالى فهي قائمة به، دائمة عليه.»
٣٤ ورغم أنَّ الفارق بين هذه الفرق الأربع يكمن في السلوك العملي
المُترتِّب على المعرفة، فإنَّ الحارث يعتبره فارقًا في الفهم والمعرفة
والعقل. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أنَّ الحارث صوفي يُعطي للعمل
والسلوك الديني والمجاهدة الروحية دورًا خطيرًا في الحكم على البشر، ومن
ثمَّ لا يفصل بين المعرفة والسلوك العملي، ويعتبر التهاون في العمل نقصًا
في المعرفة الحقة كما يفهمها المتصوِّفة. ويكاد الحارث يقترب مِمَّا قاله
الجاحظ من أنَّ المعرفة حاصلة لكل البشر لولا أنَّهم جحدوا وعاندوا طلبًا
للدنيا، أو تقليدًا وجريًا وراء ما ألفوه. والفارق بينه وبين الجاحظ أنَّه
يرى أنَّ الله «قد يخص بالتنبيه والتوفيق من يشاء من عباده، ويختص بجواره
من أحب من خلقه.»
٣٥ وبالتالي يَرُد التهاون في العمل والكفر وكل معاصي الإنسان إلى
إرادة الله الشاملة.
يُعدُّ الباقلاني (ت٤٠٣ﻫ) أول مُتكلِّم أفرد في مؤلَّفاته مُقدِّمات
أسهب فيها في الحديث عن المعرفة ووسائلها وشروطها. وإذا كان الباقلاني
يُعدُّ من مؤصِّلي الفكر الأشعري، فإنَّه ليس مجرَّد مواصلٍ لحمل تراث
الأشاعرة المتقدِّمين عليه، بل قد تمَّ على يدَيه توضيح بعض النقط وتحديد
بعض المفهومات مِمَّا أدَّى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى
تقريبه من رأي المعتزلة.»
٣٦ والنقطة التي تُهمنا في هذا المجال هي تعديله لمذهب الأشعري في
الكسب والقدرة الحادثة للعبد؛ فقد ذهب الأشعري إلى أنَّ الفعل مُكتسَب
للعبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنةً للفعل، ولم يجعل لهذه
القدرة الحادثة أي فعالية في الفعل نفسه، «غير أنَّ الله تعالى أجرى سنته
بأن يُحقِّق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعل الحاصل إذا
أراده العبد وتجرَّد له، ويُسمَّى هذا الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من الله
تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد؛ حصولًا تحت القدرة الحادثة.»
٣٧ وقد ذهب الباقلاني — متأثرًا في ذلك بالمعتزلة — إلى إثبات
تأثير للقدرة الحادثة في حال الفعل، بمعنى أنَّ الحركة التي يأتيها الإنسان
هي فعل لله يكتسبه العبد بالقدرة الحادثة، ولكن هذه القدرة الحادثة هي التي
تؤثِّر في حال الحركة فتجعلها قيامًا أو قعودًا أو صلاة أو سجودًا. وبكلمات
أخرى فإنَّ تحويل الحركة المخلوقة لله والمكتسبة من العبد إلى طاعة أو إلى
معصية، والحركة تحتمل الأمرَين، أمر من فعل العبد بهذه القدرة الحادثة،
«وتلك الجهة هي المُتعيِّنة لأن تكون مقابلةً بالثواب والعقاب. فإنَّ
الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثوابًا وعقابًا، خصوصًا على أصل
المعتزلة، فإنَّ جهة الحسن والقبح هي التي تُقَابَل بالجزاء. والحسن والقبح
صفتان ذاتيتان وراء الوجود؛ فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح.»
٣٨ وهكذا انتهى الباقلاني إلى تحميل الإنسان مسئولية قبح الفعل
وحسنه، ونفى ذلك عن الله نفيًا تامًّا، وبذلك نجح في سد الثغرة التي كانت
قائمةً بين «العدل» و«التوحيد» وأخضع كل ما يحدث في العالم لقدرة الله
وإرادته الشاملة.
وإذا كانت مقدمات الباقلاني عن المعرفة في كتبه تُعدُّ أول مقدمات
وافية تصلنا عن هذا الموضوع، فمن المؤكَّد أنَّه تأثَّر فيها خطى المعتزلة
وآراءهم، تلك الآراء التي لم تصلنا متكاملة، وإن بقيت منها شذرات حاولنا —
قدر الإمكان — أن نتعرَّف عليها فيما سبق.
يُعرِّف الباقلاني العلم بأنَّه «معرفة المعلوم على ما هو به.»
٣٩ ويُقسِّمه إلى نوعَين؛ «فعلم قديم، وهو علم الله عزَّ وجلَّ،
وليس بعلم ضرورة ولا استدلال. وعلم مُحْدَث، وهو كل ما يعلم به المخلوقون
من الملائكة والجن والإنس وغيرهم من الحيوان.»
٤٠ وينقسم علم المخلوقين إلى قسمَين؛ «فقسم منها علم ضرورة،
والثاني منها علم نظر واستدلال.»
٤١
أمَّا العلم الضروري فهو «علم يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يُمكنه معه
الخروج عنه ولا الانفكاك منه، ولا يتهيَّأ له الشك في متعلَّقه ولا
الارتياب به.»
٤٢ وهذه العلوم الضرورية «تقع للخلق من ستة طرق؛ فمنها درك الحواس
الخمس وهي؛ حاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحاسة الذوق، وحاسة الشم، وحاسة
اللمس. وكل مُدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم، ولون وكون، وكلام، وصوت،
ورائحة، وطعم، وحرارة، وبرودة، ولين، وخشونة، وصلابة، ورخاوة، فالعلم به
يقع ضرورة. والطريق السادس هو العلم المبتدأ في النفس لا عن درك ببعض
الحواس، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من
اللذَّة والألم، والغمَّ والفرح، والقدرة، والعجز، والصحة، والسقم. والعلم
بأنَّ الضدَّين لا يجتمعان، وأنَّ الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق
وكل معلوم بأوائل العقول.»
٤٣ ومن الواضح أنَّ هذا العلم الضروري هو علم المحسوسات أو
الإدراك الناتج عن استخدام الحواس الخمسة. والمعرفة الحسية عند الباقلاني
معرفة ضرورية لا يُمكن الشك فيها أو الارتياب بمتعلَّقها. ويُضاف إلى هذه
الحواس الخمسة ما يُطلِق عليه الباقلاني «أوائل العقول» التي «تخترع في
النفس ابتداءً من غير أن تكون موجودةً ببعض هذه الحواس.»
٤٤ ويبدو أنَّ الباقلاني بذلك يُساوي بين المعرفة الحسية والمعرفة
البديهية — أوائل العقول — ولا يُعلِّق ثانيتهما بأولاهما. بل هو يؤكِّد
هذا الانفصال الكامل بينهما بقوله: «فكل هذه العلوم الواقعة لنا بالمعلومات
التي وصفناها توجد مخترعةً في النفس، وُجدت هذه الحواس وما يوجد بها من
الإدراكات أو لم توجد.»
٤٥ وليس من المُستبعد أن تكون هذه العلوم الضرورية بجانبَيها
الحسي والبديهي من خلق الله، ولا قدرة للإنسان عليها أصلًا؛ فهي مِمَّا
يجده الإنسان في نفسه دون إرادة لها أو قصد إليها.» وحقيقة وصفه بذلك في
اللغة أنَّه مِمَّا أُكره العالم به على وجوده؛ لأنَّ الاضطرار في اللغة هو
الحمل والإكراه، وهو الإلجاء.»
٤٦
وعلى العكس من ذلك، العلم النظري فهو «علم يقع عقيب استدلال وتفكُّر في
حال المنظور فيه أو تذكُّر لِمَا نُظِر فيه، فكل ما احتاج من العلوم إلى
تقدُّم الفكر والرويَّة وتأمُّل حال المعلوم، فهو الموصوف بقولنا علم نظري.
وقد يجعل مكان هذه الألفاظ أن نقول: العلم النظري هو ما بُنِي على علم الحس
والضرورة، أو على ما بُنِي العلم بصحته عليهما. ومعنى قولنا في هذا العلم
أنَّه كسبي أنَّه مِمَّا وُجِد بالعالم، وله عليه قدرة محدَثة.»
٤٧ فالعلم النظري بذلك مُباين للعلم الضروري من جميع الوجوه؛ فهو
— أولًا — علم استدلالي يقع بعد نظر وتفكُّر في حال المنظور فيه. وهو — من
هذه الزاوية — مُباين للعلم الضروري؛ لأنَّ «من حكمه جواز الرجوع عنه والشك
في متعلَّقه.»
٤٨ والعلم النظري — ثانيًا — مُباين للعلم الضروري في أنَّه
مِمَّا يقدر عليه العالم بالقدرة الحادثة؛ فهو علم من فعل العبد ويقع تحت
قدرته؛ ولذلك يُسمَّى علمًا كسبيًّا. والعلم النظري — ثالثًا — ليس علمًا
مبتدأً كالعلم الضروري، بل هو علم يُبنى على علم الحس والضرورة، بمعنى
أنَّه لا يُمكن أن يوجد أو يُتوصَّل إليه إلا بعد وجود العلم الضروري
بجانبَيه الحسي والبديهي اللذَين يُعدَّان مقدماتٍ ضروريةً له.
وثمَّ مرحلة وسطى بين العلم الضروري والعلم النظري لا بد من اجتيازها،
ألَا وهي مرحلة النظر والاستدلال. ويُعرِّف الباقلاني الاستدلال بأنَّه «هو
نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس.»
٤٩ ويُعرَّف الدليل بأنَّه «هو ما أمكن أن يُتوصَّل بصحيح النظر
فيه إلى معرفة ما لا يُعلَم باضطرار. وهو على ثلاثة أضرب؛ «عقلي» له تعلُّق
بمدلوله، نحو دلالة الفعل على فاعله، وما يجب كونه عليه من صفاته نحو
حياته، وعلمه، وقدرته، وإرادته. و«سمعي» شرعي دال من طريق النطق بعد
المواضعة، ومن جهة معنًى مستخرج من النطق. و«لغوي» دال من جهة المواطأة
والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ.»
٥٠
والذي يهمنا الإشارة إليه هنا هو وضع اللغة بين أنواع الدلالة، واعتبار
وجه دلالتها هو المواطأة والمواضعة على معاني الكلام. وتفصيل ذلك — كما يرى
الباقلاني — أنَّه «قد يُستدل بتوقيف أهل اللغة لنا على أنَّه لا نار إلا
حارة ملتهبة، ولا إنسان إلا ما كانت له هذه البنية على أن كل من خبَّرنا من
الصادقين بأنَّه رأى نارًا أو إنسانًا، وهو من أهل لغتنا، يقصد إلى إفهامنا
أنَّه ما شاهد إلا مثل ما سُمِّي بحضرتنا نارًا أو إنسانًا، لا نحمل بعض
ذلك على بعض، لكن بموجب الاسم، وموضوع اللغة، ووجوب استعمال الكلام على ما
استعملوه ووضعه حيث وضعوه.»
٥١
ومن حقِّنا أن نتساءل — والحالة هذه — عن الفارق بين الدلالة اللغوية
والدلالة السمعية الشرعية، إذا كان كلاهما يدل من جهة المواطأة والمواضعة.
وبالرغم من أنَّ الباقلاني يعتبر الدلالة السمعية «فرعًا لأدلة العقول وقضاياها»،
٥٢ فإنَّه — من جانب آخر — يرى أنَّه «قد يُستدل أيضًا على بعض
القضايا العقلية وعلى الأحكام الشرعية بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة
والقياس الشرعي المنتزَع من الأصول المنطوق بها.»
٥٣ وهو بذلك يختلف — كأشعري — عن المعتزلة الذين يفصلون — بحسم —
بين الدلالة العقلية، والدلالة الشرعية، ويعتبرون النوع الأول أصلًا للثاني
كما سنتعرَّض لذلك فيما بعد. والباقلاني — خلافًا للقاضي عبد الجبَّار
مثلًا — يسلك في تقرير قضايا مؤلفاته مسلك الأشاعرة، الذين يبدءون بالأدلة
الشرعية من آيات القرآن والأحاديث النبوية، والأخبار والآثار الواردة عن
الصحابة والتابعين، ثمَّ ينتهي بالأدلة العقلية التي تؤكِّد هذه القضايا.
وهذا المسلك يتسق مع إعلاء الأشاعرة من شأن الوحي وتقديمهم إيَّاه على
العقل. ويُقرِّر الباقلاني هذا المبدأ بقوله: «إنَّ طُرُق البيان عن الأدلة
التي يُدرَك بها الحق والباطل خمسة أوجه؛ (١) كتاب الله عزَّ وجلَّ و(۲)
سنة رسوله
ﷺ و(٣) إجماع الأمة و(٤) ما استُخْرِجَ من هذه النصوص
وبُنِي عليها بطريق القياس والاجتهاد و(٥) حجج العقول.»
٥٤
وإذا كان الباقلاني لم يتعرَّض لتحديد ماهية العقل ومراحله المختلفة،
فإنَّ تقسيمه للعلوم إلى ضرورية ونظرية يُنبئ عن تصوُّر ما لطبيعة النشاط
العقلي وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة. ومن المؤكَّد أنَّ الباقلاني وغيره من
متكلِّمي القرن الرابع لم يكونوا بعيدين عن المباحث الفلسفية التي تأثَّرت
خُطى أرسطو في التفرقة بين مراحل النشاط العقلي في كتابه «في النفس»،
ابتداءً من الإدراك الحسي وانتهاءً إلى العقل الفعَّال مرورًا بالحس
المشترك. غير أنَّ المُتكلِّمين ركَّزوا نشاطهم العلمي في البحث عن مظاهر
النشاط العقلي دون البحث في ماهيته. وإذا كان الفلاسفة قد تأثَّروا خُطى
الإسكندر الأفروديسي — أحد شُرَّاح أرسطو — في التمييز بين ثلاثة أنواع من
العقول هي «العقل الهيولاني، والعقل بالمَلَكَة، والعقل الفعَّال»،
٥٥ فإنَّ العقل الهيولاني ليس إلا الغريزة التي وهبها الله
للممتحنين كما أشار إليها الحارث المحاسبي، وبعبارة الخوارزمي: «هو القوة
في الإنسان، وهي في النفس بمنزلة القوة الناظرة في العين.»
٥٦ أو «هو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، وهو قوة محضة خالية
عن الفعل كما للأطفال، وإنَّما نُسب إلى الهيولى الأولى الخالية في حد
ذاتها عن الصور كلها.»
٥٧ وأمَّا العقل بالمَلَكَة فهو يُساوي عند الباقلاني ما أطلق
عليه العلم الضروري، و«هو علم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.»
٥٨ وأخيرًا فإنَّ العقل الفعَّال — أو المستفاد — هو ما أطلق عليه
الباقلاني العلم النظري، و«هو أن تصير النظريات مخزونةً عند قوة العاقلة
بتكرار الاكتساب، بحيث يحصل لها مَلَكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جدید»
٥٩ ومن المُلاحظ أنَّ الباقلاني لم يُشِر إلى «العقل الهيولاني»
أو إلى الغريزة التي تُعدُّ مقدمةً لتلقي العلوم الضرورية بجانبَيها الحسي
والبديهي، واكتفى بالحديث عن أقسام العلوم وقسَّمها إلى علم إلهي قديم ليس
بعلم ضرورة أو استدلال، وعلم المخلوقين المُحْدَث بقسمَيه الضروري والنظري.
وهذه القسمة تكشف عن المنطلق الذي حدَّد للمتكلمين دروبهم الخاصة في البحث
في قضية العقل والمعرفة، فلم تنفصل هذه القضية — كما سبقت الإشارة — عن
قضايا التوحيد والعدل. وهي مرتبطة عند الباقلاني بقضية العلم الإلهي
والتفرقة بينه وبين العلم البشري. ويبدو تأثُّر الباقلاني في هذه المشكلة
واضحًا بأبي هاشم الجُبَّائي (ت۳۳۰ﻫ) الذي ذهب إلى أنَّ الله «عالم لذاته،
بمعنى أنَّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتًا موجودًا، وإنَّما تُعلم
الصفة على الذات لا بانفرادها.»
٦٠ أي إنَّه يُثبت العلم صفةً وراء الذات وليست مُنفصلةً عنها أو
مُغايرةً لها. وهو في هذه النقطة يختلف عن أبي الهذيل العلَّاف الذي اعتبر
أنَّ «علمه ذاته»
٦١ ولم يثبت العلم صفةً أو حالًا وراء الذات. يقول الباقلاني
مُتَّفقًا مع أبي هاشم: «الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نُسمِّيه صفة،
خصوصًا إذا أثبت حالةً أوجبت تلك الصفات.»
٦٢
وتأثَّر الباقلاني بأبي هاشم في مسألة العلم، وتأثُّره — الذي أشرنا
إليه سابقًا — بالمعتزلة عمومًا في مسألة القدرة الحادثة ودورها في تحديد
حالة الفعل، يكشفان عن التقارب الفكري بين المعتزلة والأشاعرة، وهو تقارب
يُعدُّ ثمرةً للحوار المتصل والجدل المستمر بين متكلِّمي الفريقَين. ولقد
كان من ثمرة هذا التقارب ما نجده من تطابق كبير بين أفكار الباقلاني في
المعرفة والعلم وأفكار القاضي عبد الجبَّار (ت٤١٥ﻫ) الذي انتهج أيضًا —
فيما يروي الشهرستاني — «طريقة أبي هاشم»
٦٣ يؤكِّد ذلك كثرة روايات القاضي عن أبي علي الجبَّائي (ت٣٠٢ﻫ)
وأبي هاشم اللذَين يعدُّهما أساتذته المباشرين، وينقل عنهما دائمًا، ويكتفي
— في أحيان قليلة — بمناقشتهما ومحاولة التوفيق بين رأيَيهما. وتكاد آراء
القاضي في العلم والمعرفة أن تكون هي آراء الجبَّائيين مع خلافات يسيرة في
مسائل فرعية لا يُعتدُّ بها، الأمر الذي يجعلنا نفترض — دون مغالاة — أنَّ
كُلًّا من الباقلاني والقاضي عبد الجبَّار أخذا من معين واحد جُلَّ
أفكارهما في هذه القضية. ولا يجب أن ننسى أيضًا أنَّ أبا الحسن الأشعري كان
تلميذًا مباشرًا لأبي علي الجبَّائي، غير أنَّ ذلك لا يجب أن ينسينا الفروق
الأساسية بين المعتزلة والأشاعرة.
(٣) مفهوم العقل ومراحل المعرفة عند المعتزلة
والفارق الأساسي بينهما يكمن في دَور العقل وهل هو سابق على الشرع أم
تابع له، ولقد ذهب الأشاعرة إلى أسبقية الشرع على العقل كما رأينا عند
الباقلاني، وذلك على عكس المعتزلة الذين أعطَوا للعقل دورًا أوليًّا
وسابقًا على الشرع، وجعلوا الدليل السمعي تابعًا للدليل العقلي ومُترتِّبًا
عليه؛ أي إنَّهم جعلوا الدليل العقلي أصلًا، والدليل الشرعي فرعًا على
الدليل العقلي، حتَّى ذهب القاضي إلى أنَّ «كلامه تعالى لا يدلُّ على
العقليات، من التوحيد والعدل؛ لأنَّ العلم بصحة كونه دلالة، مفتقر إلى ما
تقدَّم بذلك، فلو دلَّ عليه لوجب كونه دالًّا على أصله، ومن حقِّ الفرع
ألَّا يدلَّ على الأصل؛ لأنَّ ذلك يتناقض.»
٦٤ ويرتدُّ هذا الفصل بين الدليل العقلي والدليل الشرعي، وتقرير
أسبقية الأول على الثاني إلى الجبَّائيين أبي علي وأبي هاشم اللذَين اتفقا
— فيما يروي الشهرستاني — «على أنَّ المعرفة وشكر المُنعِم ومعرفة الحسن
والقبح واجبات عقلية، وأثبتا شريعةً عقلية، وردَّا الشريعة النبوية إلى
مقدَّرات الأحكام ومؤقتات الطاعات التي لا يتطرَّق إليها عقل، ولا يهتدي
إليها فكر.»
٦٥ بمعنى أنَّ العقل يستطيع أن يصل إلى كليات الأحكام المتصلة
بالله وصفاته من التوحيد والعدل ووجوب شكره، كما أنَّه يُمكن أن يعرف
الحُسن والقبح على الجملة. وتختصُّ الشريعة بأنَّها تكشف له عن الطرائق
التي يستطيع عن طريقها أن يُؤدِّي هذه الواجبات العقلية. تختصُّ الشريعة
بأن تُعرِّف العقل مقادير الطاعات — كالصلاة والصوم والزكاة — ومواقيتها،
وهي أمور لا يستطيع العقل أن يعرفها، وإن عرف — على الجملة دون التفصيل —
وجوب رد الوديعة وشكر المنعِم.
غير أنَّ القول بأسبقية الدليل العقلي على الدليل الشرعي، واعتبار
الأول أصلًا، والثاني فرعًا، لا يعني وجود التعارض بينهما؛ فهما متفقان
ومتطابقان؛ إذ «ليس في القرآن إلا ما يُوافق طريقة العقل، ولو جعل ذلك
دلالةً على أنَّه من عند الله، من حيث لا يوجد في أدلته إلا ما يُسلَّم على
طريقة العقول ويوافقها، إمَّا على جهة الحقيقة، أو على المجاز لكان أقرب.»
٦٦ غاية الأمر أنَّ المعتزلة — لأسباب كثيرة بيَّناها في أول هذا
الفصل — حاولوا الاحتكام إلى العقل وحده واعتبروه أساسًا لفهم الشريعة،
واعتبروا الشريعة مؤكِّدةً لِمَا في العقول ومتفقةً معه، دون أن تكون هي
وحدها الدليل على وحدانية الله وعدله وسائر الأحكام العقلية: «إنَّ سائر ما
ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكِّدًا لِمَا في العقول. فأمَّا أن
يكون دليلًا بنفسه يُمكن الاستدلال به ابتداءً فمُحال.»
٦٧
ولكي يؤكِّد المعتزلة هذا الاتفاق بين العقل والنقل، كان عليهم تحديد
ماهية العقل والتعرُّف على طبيعة الوسائل التي يمكنه عن طريقها الوصول إلى
المعرفة اليقينية، ثمَّ تحديد طبيعة الأفكار التي يستطيع العقل — بمفرده —
الوصول إليها.
وتتحدَّد ماهية العقل عند المعتزلة بناءً على تحديدهم لطبيعة وظيفته
وحاجة الإنسان الضرورية له. فإذا كان الله قد خلق الإنسان لا لعلة إلا لنفعه،
٦٨ ثمَّ جعل التكليف وسيلته إلى هذا النفع، فمن الطبيعي أن
يُزوِّده بكل الوسائل التي تُعينه على أداء ما كلَّفه به. وكما زوَّده
بالقدرة التي يستطيع بها مزاولة الفعل أو الامتناع عنه، فقد زوَّده أيضًا
بالقدرة على معرفة ما كلَّفه به وتمييزه، وذلك حتَّى يتأتَّى منه الفعل على
وجه الاختيار الناتج عن العلم بأحواله. وهذا الاختيار القائم على المعرفة
والعلم هو مناط الثواب والعقاب والمسئولية. وهكذا يُصبح العقل ضرورةً من
ضرورات التكليف الإلهي للبشر، وهو ضرورة بحكم مسئولية الإنسان وقدرته على
الفعل: «اعلم أنَّ المُكلَّف كما يحتاج أن يكون مُمكَّنًا من إحداث الفعل
بالقدرة والآلات ليصحَّ منه أداء ما كُلِّف، فكذلك يحتاج إلى أن يكون
عالمًا بما كُلِّف وصفاته، والفصل بينه وبين غيره، ليصح أن يقصد إلى
إحداثه، وليصح أن يعلم أنَّه قد أدَّى ما كُلِّف.»
٦٩ وهذه المعرفة تحتاج للقوة المميِّزة بين الأشياء والأفعال.
وخلافًا لِمَا ذهب إليه العلَّاف والنظَّام من ضرورية هذه المعرفة، التي
ترد الإنسان إلى حالة الجبر وتنفي عنه الاختيار، ذهب القاضي عبد الجبَّار
إلى ضرورة أن تكون المعرفة من فعل الإنسان. والوسيلة التي يتوصَّل بها
الإنسان إلى المعرفة هي العقل، ومن ثمَّ فلا بد من أن يُزوِّد الله الإنسان
بالعقل ليُمكِّنه من أداء ما كُلِّف به على الوجه الذي تتحدَّد به مسئوليته
عن الفعل: «وإنْ كان العلم بذلك الشيء مِمَّا لا يكون إلا ضروريًا فلا بد
من أن يخلقه — تعالى — فيه. وإنْ صحَّ كونه مكتسبًا، حسن من القديم — تعالى
— أن يُمكِّنه منه ليصح أن يعلم ويؤدِّي ما علَّمه، على الوجه الذي كُلف.»
٧٠
العقل — إذن — ضروري للمُكلَّف حتَّى يستطيع أداء ما كلَّفه الله به.
والمعرفة التي يحتاج إليها المُكلَّف تنقسم إلى ضرورية، ومكتسبة. والمعارف
الضرورية لا بد أن يخلقها الله في العبد، كما أنَّه يحسن أن يُمكِّنه من
العلوم المكتسبة. ولمَّا كانت العلوم الضرورية مُقدِّمةً للعلوم المكتسبة
وتمهيدًا لها، لم يفصل القاضي عبد الجبَّار بين العلوم الضرورية والعقل.
وعرَّف العقل بِناءً على ذلك بأنَّه «عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة، متى
حصلت في المُكلَّف صحَّ منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كُلِّف.»
٧١ ويرفض القاضي أن يُسمِّي العقل جوهرًا أو آلة أو حاسة أو قدرة
إلا على سبيل التشبيه والتوسُّع؛ وذلك لأنَّ الجواهر والآلات والحواس
والقدرة مِمَّا تقع فيها الزيادة والنقصان. وهذا الحرص على عدم الفصل بين
العقل والعلوم الضرورية عند المعتزلة يُعبِّر عن إيمانهم بتساوي البشر في
هذه العلوم الضرورية؛ أي تساويهم فيما وهبهم الله من عقل. ومن هذه العلوم
الضرورية ضرورة العلم بالمدركات، فلا بد للإنسان «من أن يكون عالِمًا بما
يدركه، ويعلم من حاله أنَّه لو أدركه غيره لعلمه إذا لم يكن هناك لَبس.»
٧٢ ووجه الضرورة في هذا أنَّ الإنسان «لو لم يحصل عالمًا بالمدرك
لم يصح أن يعرف أحوال المدركات، ولَمَّا تمَّ منه استدلال على إثبات
الأعراض وحدوث الأجسام وصفات الفاعل ولا على العدل بأسره؛ فالحاجة إليه في
التكليف ماسة.»
٧٣ والقاضي بذلك يُحدِّد الغاية من التكليف ومن المعرفة معًا، وهي
معرفة الله — المُكلِّف — ومعرفة صفاته من التوحيد والعدل للتوصُّل من وراء
ذلك إلى معرفة التكليف وأدائه. وبناءً على هذه الغاية تتحدَّد طبيعة العقل؛
أي العلوم الضرورية التي لا بد للمُكلَّف من معرفتها. وأول هذه العلوم هو
العلم بالمدركات. والعلم بالمدركات لا يصح أن يختلف عليه اثنان، بل لا بد
أن يتساوى فيها البشر إذا لم يكن هناك لَبْس. وهو من هذه الزاوية يُعدُّ
علمًا ضروريًّا لا يحتاج لإثبات؛ فغاية المستدِل على شيء ما أن يصل به إلى
مرحلة أن يجعله كالمُدْرَك بالحواس، وبهذا يكون الإدراك أوضح طرق العلم:
«اعلم أنَّه لا طريق للعلم بالشيء أوضح من الإدراك؛ فمتى تناول الإدراك
شيئًا فقد استغنى في إثباته عن دليل؛ لأنَّ نهاية ما يبلغه المستدل على
إثبات الشيء أن يردَّه إلى المُدْرَك. فإذا حصل الشيء مدرَكًا، فالواجب في
إثباته أن يكون أصلًا وأن يستغني عن دليل. ولهذه الجملة لم يُحتَج في إثبات
السواد إلى دليل وإن احتجنا إلى ضرب من التأمُّل في كونه غير المحل.»
٧٤ ومعنى ذلك أنَّ المعرفة الإدراكية أو الحسية تختلف عن المعرفة
الاستدلالية — وهي مرحلة النظر — في أنَّها أكثر منها وضوحًا وبيانًا. ولكن
هذه الثقة في الإدراك الحسي قد يعترض عليها معترضون زاعمين أنَّه «لا حقيقة
للأشياء في نفسها وحقيقتها»،
٧٥ وأنَّ المُدْرِك هو الذي يُحدِّد حقيقة الشيء حسب ما يعتقده
ويُدركه، بمعنى أنَّ الأشياء ليس لها وجود مستقل عن مُدْرِك يهبها — عن
طريق عملية الإدراك — وجودها الذي لا ينفصل أو يستقل عن معتقداته وأفكاره.
ويتصدَّى القاضي عبد الجبَّار للفصل بين المُدْرِك والشيء المُدْرَك على
أساس أنَّ عملية الإدراك لا دخل لها في تحديد طبيعة الشيء أو تحديد صفاته.
وهذا الفصل بين طرفَي الإدراك هو ما يُثبت عند المعتزلة وجود الواقع
الخارجي، ويُثبت نتيجةً لذلك عملية الإدراك، ومن ثمَّ يهبها موضوعيتها.
ويُلزم القاضي أصحاب هذا الرأي الوقوع في التناقض، على أساس أنَّ «هذا
يُوجب أن يصح منَّا الجسم والقدرة إذا اعتقدنا ذلك فيهما، بل يوجب أن يكون
تعالى موجودًا ومختصًّا بسائر ما هو عليه من جهتنا إذا اعتقدنا كونه كذلك،
بل يُوجب إذا اعتقد المُعْتَقِد، في الشيء، جوهرًا وسوادًا، أن يحصل بهذه
الصفة، وقد بيَّنا فساد ذلك، بل يجب على هذا صحة كون الشيء الواحد بياضًا
سوادًا إذا اعتقد المُعْتَقِد أنَّ ذلك فيه، وقديمًا محدَثًا، وموجودًا
معدومًا. وقد بيَّنا أنَّ العلم باستحالة ذلك ضروري.»
٧٦
ويزيد القاضي هذه الفكرة وضوحًا حين يرد على من يُسمِّيهم «أصحاب
التجاهل» الذين يعتمدون في نفي المعرفة الحسية على ما هو مُشاهَد من خداع
الحواس. يقودنا القاضي في ردِّه عليهم إلى شروط صحة المعرفة الحسية، أو
الإدراك، وهي سلامة الحاسة وارتفاع الموانع. يقول: «فأمَّا تعلُّقهم بأنَّ
المُدْرِك يسكن إلى أنَّ السراب ماء، وأنَّ العسل إذا غلب عليه الصفراء
مُر، كسكونه إلى سائر ما يُدركه، ثمَّ ينكشف له خلاف ما اعتقد، فما الذي
نؤمنه من مثله في سائر المدرَكات التي يعلمها، فبعيد؛ لأنَّ نفسه لا تسكن
إلى أنَّ ما رآه ماء، وإنَّما تشاهده بصفة الماء لتشبهه به في البياض
واللمعان واضطرابه في الموضع الذي أدركه. فما أدركه صحیح، وإن أخطأ في
اعتقاده. وليس كذلك ما يعلمه من كَون الماء ماءً، عند مشاهدته له.»
٧٧
وعلى ذلك فالمعرفة الحسية معرفة صحيحة بشرط سلامة الحاسة وارتفاع
الموانع التي قد تخدع الحواس أو تُضلِّلها. وإذا كانت الحاسة سليمة،
والموانع مرتفعة، وجب إثبات ما نُدركه ونفي ما لا نُدركه: «إذا ما كان طريق
العلم به الإدراك بالحواس وجب نفيه إذا لم يُدْرَك مع سلامة الحاسة وارتفاع
الموانع المعقولة لعدم الطريق الذي به يُتوصَّل إلى معرفته.»
٧٨ هذا الحرص على إثبات الإدراك الحسي، واعتباره علمًا ضروريًّا
عند كلٍّ من الأشاعرة والمعتزلة، يُعدُّ مسألةً هامة وضرورية لإثبات العالم
الخارجي الذي يُستدل بوجوده على وجود الصانع. غير أنَّ المعرفة الحسية ليست
الطريق الوحيد للمعرفة، بل هي أول طريق المعرفة؛ فالحس «إنَّما نُعبِّر به
عن أول العلم بالمُدْرَكات.»
٧٩
إذا كانت المعرفة الحسية هي أول العلم بالمُدْرَكات، فما هي العلاقة
بينها وبين المعرفة العقلية؟ يُعرِّف القاضي العلم بأنَّه «المعنى الذي
يقتضي سكون نفس العالم إلى ما تناوله.»
٨٠ فكل معرفة أدَّت إلى سكون النفس إلى ما عليه المعلوم اعتُبِرَت
علمًا، سواء أكانت علمًا بالمُدْرَكات أم علمًا ضروريًّا، أم علمًا
مكتسبًا. ومن هذه الزاوية تُعدُّ هذه العلوم علومًا منفصلة لا يقضي صحة
أحدها على صحة آخر. غير أنَّ هذه العلوم — من جانب آخر — تتصل اتصالًا
وثيقًا؛ فالعلم بالمُدْرَكات — الذي هو نتيجة للإدراك الحسي — يُعدُّ
مقدمةً للعلوم الضرورية. وهذه بدورها تُعدُّ مقدمةً للوصول إلى العلوم
المكتسبة عن طريق النظر والاستدلال. وعلى ذلك لا يصحُّ القول بأنَّ علوم
الحواس قاضية على علوم العقل وحكمًا على صحته، إلا على معنى «أنَّه لولا
العلم بما يُدْرَك بالحواس، لَمَا صحَّ أنْ يعلم الإنسان سائر الأمور. وإن
أرادوا بذلك أنَّ بالإدراك تُعْلَم صحة العلوم العقلية فذلك باطل … ويجب
على هذا، أن يكون العقل قاضيًا على صحة العلم بالمُدْرَكات؛ لأنَّ به نعلم صحتها.»
٨١ أي إنَّ هذه العلوم ترتبط ببعضها البعض ارتباط العِلَّة
بالنتيجة، ولا يقضي الإدراك الحسي على العلوم العقلية ولا يحكم بصحتها.
والصحيح أنَّ علوم العقل هي الحاكمة على علوم الإدراك الحسي، وهو ما عبَّر
عنه الجاحظ بقوله: «للأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول،
والعقل هو الحُجَّة.»
٨٢ ومعنى ذلك أنَّ علوم الحس إذا أدَّت إلى العلم الذي يقتضي سكون
النفس كانت عِلمًا منفصلًا بذاته. والعلاقة بينها وبين علوم العقل أنَّ هذه
تُبْنَى عليها. وهذا الانفصال والاستقلال لا يمنع أن يكون العقل حاكمًا على
الحس، وقاضيًا على صحة ما تؤدِّي إليه الحواس. وهذا أمر ضروري خصوصًا للرد
على أولئك الذين يتشكَّكون في صحة المعرفة الحسية لما يعْتَوِرُها أحيانًا
من خداع وعوائق تمنع عن الإدراك الصحيح.
وإذا كان الإدراك الحسي يُعدُّ أول العلم بالمُدْرَكات كما قرَّر
القاضي، فإنَّه أيضًا يُعدُّ مقدمةً للعلوم الضرورية التي هي من كمال
العقل، أو التي هي العقل في تعريف القاضي. وإذا كانت غاية المعرفة هي معرفة
الله لمعرفة أوامره ونواهيه — التكليف — فإنَّ المعرفة الإدراكية تحتاج
لقدر آخر من المعارف التي يعتبرها القاضي معرفةً ضرورية من كمال العقل:
«ومن كمال العقل أن يعرف من حال المُدْرَكات التي هي الأجسام ما تحصل عليه؛
من كونها مجتمعةً أو متفرِّقة، ومن استحالة كونها في مكانَين؛ لأنَّ متى لم
يعلم ذلك لم يسلم له من العلوم ما يجري مجراها، ولا يصح منه الاستدلال على
إثبات الأعراض وحدوثها، وحدوث الأجسام، وتعلُّق الفعل بالفاعل؛ لأنَّ كل
ذلك يستند إلى هذا العلم.»
٨٣ وهذه المعرفة بحال المُدْرَكات — بعد العلم بها — تُعدُّ
ضروريةً في نظر القاضي لارتباطها بأدلة التوحيد؛ لأنَّها مقدمة لإثبات جواز
الاجتماع والافتراق على الأجسام، وبالتالي إثبات حدوثها. ويؤدِّي إثبات
حدوثها إلى إثبات صانع مُخالف لها غير مُحْدَث، ومن ثمَّ لا بد أن يكون
قديمًا … إلخ. كل هذه الاستدلالات التي تؤدِّي إلى إثبات الله بصفاته من
القدرة والعلم والحياة.
«ومن كمال العقل أن يعرف بعض المقبِّحات، وبعض المحسِّنات، وبعض
الواجبات، فيعرف قبح الظلم وكفر النعمة والكذب الذي لا نفع فيه ولا دفع
ضرر، ويعلم حسن الإحسان والتفضُّل، ويعلم وجوب شكر النعم ووجوب رد الوديعة
عند المطالبة، والإنصاف، ويعلم حُسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع،
وحُسن الذم على الإخلال بالواجب مع ارتفاع الموانع، وإنَّما يجب حصول هذه
العلوم؛ لأنَّها لو لم تحصل لم يحصل للمُكلَّف الخوف من ألَّا يفعل النظر،
وابتداء التكليف مُتعلِّق به، ولأنَّه لا يصحُّ منه العلم بالعدل إلا معه؛
لأنَّه متى لم يعرف الفرق بين الحسن والقبيح لم يصح أن ينزَّه القديم
— تعالى — عن المقبحات، ويضيف إليه المحسنات.»
٨٤ ولا شك أنَّ القاضي عبد الجبَّار، ومن قبله مشايخه، بوضعهم كل
هذه المعارف في إطار العلم الضروري، كانوا يسعَون إلى تأكيد أفكارهم
العقلية في العدل والتوحيد تأكيدًا يُلزم خصومهم التسليم بها. ومن الواضح
أنَّ هذه المُقدِّمات — أو العلوم الضرورية — فيها الكثير مِمَّا يحتاج إلى
نظر واستدلال. فكون الجسم لا يخلو من الاجتماع والافتراق وكافة الأعراض —
وهو مقدِّمتهم لإثبات الصانع بصفاته من القدرة والعلم والحياة — يُعدُّ من
لطيف الكلام الذي يحتاج لنظر واستدلال، ومن الصعب اعتباره معرفةً ضرورية.
أمَّا العلوم الضرورية المتصلة بالعدل، فهي علوم لا يسلِّم لهم خصومهم
ببديهيتها: «فأمَّا وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يُعْرَف
إلا من طريق الشرع.»
٨٥
واعتبار العقل هو كل هذه العلوم الضرورية لإثبات التوحيد والعدل،
يُعدُّ تعريفًا يخلط بين المعرفة نفسها وبين مفهوم العقل باعتباره أداةً
للمعرفة ونشاطًا متميِّزًا للوصول إلى المعرفة. ويُعدُّ هذا التعريف — من
جانب آخر — متناقضًا مع ما يُقرِّره القاضي من أنَّ «المُكلَّف يحتاج إليه
(يعني العقل)؛ لأنَّ به يعلم الكثير مِمَّا كُلِّف، نحو وجوب رد الوديعة
وشكر المُنعِم وقُبح الظلم وحُسن الإحسان.»
٨٦ فكيف تُعْرَف بالعقل هذه الأشياء مع اعتبارها من العلوم
الضرورية التي هي العقل في تعريف القاضي؟ وكيف تكون هذه الأشياء من التكليف
الذي يحتاج المُكلَّف إلى العقل لمعرفتها، وهي في نفس الوقت من علوم العقل
الضرورية؟ هنا يحسُّ الباحث أنَّ القاضي قد خلط بين العقل كوسيلة وأداة
للمعرفة، وبين المعرفة ذاتها التي هي نتيجة ومحصِّلة لنشاط العقل في ربطه
بين المُدْرَكات وتحصيل الكُليات.
ويذهب القاضي إلى اعتبار كل هذه العلوم بديهيةً وفطرية ومن كمال العقل،
بمعنى أنَّها علوم لا ينفك عنها العاقل المُكلَّف، ولا تؤثِّر فيها عوامل
الزمان والمكان والبيئة: «إنَّ العلم بالمدح والذم واستحقاقهم على الأفعال
… من كمال العقل، وليس بموقوف على أنَّ ذلك قد وقع، بل لو خالط الناس ولم
يقع من أحد معصية لَمَا وقع الذم، ولو لم يقع منهم طاعة لَمَا وقع المدح
على جهة، ولم يُؤثِّر ذلك في كون ما ذكرناه من كمال العقل. وكذلك القول فيه
لو خُلِق في أرض فلاة في أنَّه يُحسن أن يُكلَّف متى كَمُل عقله وعلم مكان
الحمد والذم، وإن لم يعلم فاعلًا لهما.»
٨٧ وعلى هذا فالعقل شرط في التكليف، رأى الإنسان الخير والشر
متجسِّدَين أم لم يرَهما. والعقل وحده يستطيع أن يعرف ما يستحق المدح من
الأفعال وما يستحق منها الذم، دون أن يعرف الأفعال نفسها.
•••
يُعدُّ النظر أو الاستدلال هو الوسيلة الأساسية للانتقال من مرحلة
العلوم الضرورية التي يتساوى فيها البشر، إلى مرحلة العلوم النظرية، أو
الاكتسابية، التي يتفاوت فيها البشر نتيجة تفاوتهم في قدراتهم على النظر
والاستدلال. والنظر هو أول مراحل التكليف العقلي. ويتم هذا التكليف عن طريق
باعث أو داعٍ أو خاطر يُسلِّطه الله على نفس المُكلَّف: «وتلك الأمارة هي
تنبيه الداعي والخاطر؛ لأنَّهما يفيدانه ما يخاف عنده من العقاب بترك
النظر، ويدلَّانه على ما ترتَّب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح
والنقص الذي يختصُّ به. فإنَّه لا يأمن من مضرَّة عظيمة تستحق به، فيخاف
عند ذلك.»
٨٨ ويقوم تخويف الداعي والخاطر على ما ترتَّب في العقل من ضرورة
حُسن الذم على القبيح إذا لم يكن هناك منع، فيخشى الإنسان، إن هو لم يستجِب
للداعي والخاطر في حسن النظر، أن يكون بترك النظر واقعًا في قبيح يستحق
عليه الذم. ويدفعه هذا الخوف من الوقوع في القبيح إلى النظر ليصل بذلك إلى
المعرفة.
غير أنَّ النظر، شأنه شأن الإدراك الحسي، لا بد له من شروط حتَّى
يؤدِّي إلى العلم والمعرفة. وكما اشترط القاضي لصحة الإدراك الحسي سلامة
الحاسة وارتفاع الموانع، فإنَّه يشترط وجود الشك، وكأنَّ الشك يُعْتَبر
بذلك مُقدِّمةً طبيعية وضرورية للفكر المؤدِّي إلى النظر: «ومن حق النظر
ألَّا يصحَّ إلا مع الشك في المدلول.»
٨٩ وتُعدُّ فكرة الشك فكرةً أساسية عند جميع المعتزلة تقريبًا،
على اعتبار أنَّ الشك ترجيح بين احتمالات مختلفة أو وجوه متعدِّدة. ومن شأن
هذا الشك أن يُثير التأمُّل ويُحرِّك الفكر؛ مِمَّا يجعل الشاك أقرب إلى
معرفة الحقيقة مِمَّن يثق بظنه، ويستنيم إلى فكره ووهمه: «والذي حصَّلناه
في هذا الباب، أنَّ النظر لا يصح إلا مع تجويز كون المدلول على صفة وأنَّه
ليس عليها، فيجب أن يقارنه هذا التجويز. وقد يحصل ذلك مع الشك، وقد يحصل مع
الظن، وقد يحصل مع الاعتقاد على جهة التبخيت. ولا يصحُّ ذلك مع العلم، ولا
مع الجهل الواقع بالشبهة؛ لأنَّ العالم والجاهل بهذا العلم والجهل يتساويان
في أنهما لا يُجوِّزان خلاف ما اعتقداه.»
٩٠ بمعنى أنَّ العالِم تسكن نفسه إلى ما علمه، وكذلك الجاهل،
وكلاهما لا يُمكن أن يقع منهما النظر، وذلك على عكس الشاك أو المُتردِّد
بين احتمالات مختلفة.
وتلتقي فكرة الداعي والخاطر —
أساس التكليف العقلي للنظر — مع فكرة الشك والتجويز وإثارة الاحتمالات
المختلفة في الذهن، تلك الاحتمالات التي تكون مُثيرًا يدفع للنظر والفحص
والاستدلال. ويؤكِّد الجاحظ تلك العلاقة بين الشك والوصول إلى اليقين فيما
يرويه عن أستاذه النظَّام: «نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدت الشاك
أبصر بجواهر الكلام من أصحاب الجحود … الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن
يقين قط حتَّى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتَّى
يكون بينهم حال شك.»
٩١
والداعي والخاطر يُثيران الشك في الإنسان، ويُخيفانه من أن يكون على
باطل، ومن أن يكون جاهلًا بالحقيقة. وهذا الخوف يدفعه للتأمُّل والاستدلال
والنظر حتَّى يصل إلى الحقيقة التي تسكن إليها نفسه ويهدأ لها باله. وعلى
ذلك تقوم المعرفة عند القاضي على أساسَين؛ أساس نفسي هو الخوف من أن يكون
على خطأ، أو على جهل قد يُهدِّد مصيره الإنساني؛ وأساس معرفي هو الشك فيما
يعتقده، وتجويز أن يكون الواقع على خلاف ما يعتقد. وبِناءً على هذَين
الأساسَين تتحدَّد الغاية الدينية للمعرفة، وهي غاية ذات شقَّين؛ غاية
دينية أخلاقية هدفها أن تُجنِّب الإنسان القبيح الذي يترتَّب عليه استحقاقه
للذم، وأن تؤدِّي به إلى فعل الحسن الذي يستحق به المدح. وغاية أُخروية
هدفها خلاص الإنسان من العذاب الذي يُمكن أن يُلاقيه نتيجة جهله بخالقه،
وتقصيره في أداء ما كُلِّف به. وأساسا المعرفة — الشك والخوف — وغايتاها —
الدنيوية والأخروية — غير منفصلتَين بأي حال من الأحوال؛ فكلاهما تفضي إلى
الأخرى.
يختلف كل من أبي علي الجبَّائي
وابنه أبي هاشم في تحديد طبيعة الخاطر الذي يدعو إلى ضرورة النظر؛ فذهب أبو
علي إلى «أنَّه ليس بكلام وأنَّه اعتقاد»،
٩٢ بينما ذهب أبو هاشم إلى «أنَّه كلام، إمَّا أن يفعله الله
تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله.»
٩٣ وحاول القاضي عبد الجبَّار التوسُّط فذهب إلى أنَّه معنًى
«لأنَّه أمر حادث يختصُّ مَن ورد عليه، ولا بد إذا كان معنًى، من أن يكون
من أفعال القلوب أو أفعال الجوارح؛ لأنَّ إثباته سوى هذَين لا يصح.»
٩٤ وبصرف النظر عن هذا الخلاف الدقيق، فإنَّ مهمة الداعي والخاطر
تنحصر — عند أبي هاشم — في بيان وجه الضرر الذي يلحق بالمُكلَّف إذا ترك
النظر، ومن ثمَّ يتوجَّه إليه قائلًا: «انظرْ لتعلم أنَّ لك صانعًا صنعك
ومُدبِّرًا دبَّرك، وتعلَّم استحقاق الثواب من جهته على فعل الواجب والعقاب
على فعل القبيح. ومتى لم تعرفه وتعرف هذا الثواب والعقاب، كنت إلى فعل
القبيح أقرب؛ لأنَّك تجد شهوته فيك، وأنت إذا عرفته كنت إلى التباعد منه
أقرب؛ لأنَّك تجد استحقاق الذم على القبيح مع ما يؤثِّر فيك من غم ونقيصة،
فلا تأمن أن تستحق به المضار العظيمة.»
٩٥ عند ذلك يخاف المُكلَّف من ترك النظر: «حتَّى لو لم يخف البتة
لم يكن مُكلَّفًا ولا عاقلًا؛ إذ العاقل إذا خُوِّف بأمارة صحيحة خاف لا محالة.»
٩٦
ومن اللافت للانتباه أنَّ القاضي
عبد الجبَّار إذا كان قد اعتبر العقل فطريًّا وقاسمًا مشتركًا بين البشر،
لا يتأثَّر بظروف الزمان أو المكان أو البيئة، فإنَّه أدرك أنَّ الباعث على
النظر والاستدلال واكتساب العلوم النظرية يأتي من خارج الإنسان — الداعي
والخاطر — ومن داخله — الشك — معًا، فالخاطر يُثير الخوف من العقاب
الخارجي، والشك يُثير الرغبة في التوازن الداخلي وصولًا لليقين. ولكن هل من
الضروري أن يؤدِّي النظر إلى المعرفة؟ ألَا يجوز أن يؤدِّي بنا للجهل؟ وفي
هذه الحالة لا يكون ثمَّة ضرورة له ما دام سينقلنا إلى جهل آخر. يُنْكِر
القاضي أن يؤدِّي النظر إلى الجهل وإن جوَّز أن يؤدِّي إلى غالب الظن أو أن
يؤدِّي — على أسوأ تقدير — إلى الشك مرةً أخرى. ولكنَّه إذا كان نظرًا من
عاقل في دليل معلوم، فلا بد أن يؤدِّي إلى العلم: «ومن حق النظر أن يكون
فيه ما يُولِّد العلم، إذا كان نظرًا من عاقل في دليل معلوم له على الوجه
الذي يدل، ويكون فيه ما لا يولِّد العلم، بل يُقتضى غالب الظن في أمور
الدنيا، وقد يكون فيه ما لا يحصل عنده الوجهان جميعًا. ولا يصحُّ أن يكون
فيه ما يولِّد الشبهة أو الجهل … وكما لا يجوز أن يُولِّد الجهل، فكذلك لا
يجوز أن يُولِّد غير الاعتقاد من أفعال القلوب.»
٩٧ ومعنى ذلك أنَّ النظر من شأنه أن يُولِّد العلم إذا كان نظرًا
في دليل معلوم على الوجه الذي يدل، وعدم الوصول بالنظر إلى مرحلة العلم
يعني وجود نوع من الخطأ في استخدام الدليل، أو في معرفة وجه الاستدلال
به.
وتتحدَّد أنواع الأدلة عند القاضي عبد الجبار بِناءً على تحديده لغاية
المعرفة. وغاية المعرفة هي الوصول إلى معرفة المُكلِّف بكل صفاته من
التوحيد والعدل، ثمَّ الوصول بعد ذلك إلى معرفة أوامره ونواهيه حتَّى يُمكن
أداء التكاليف الشرعية التي تؤدِّي إلى الثواب وتعصم من العقاب، ومن
الطبيعي أن تنقسم الأدلة تبعًا لهذا الترتيب المعرفي؛ فثمَّ أدلة تُعْرَف
بها قضايا التوحيد، وثمَّ أدلة تُعْرَف بها قضايا العدل، ونوع ثالث تُعْرَف
به النبوات والشرائع. وهكذا تنقسم الأدلة إلى أنواع ثلاثة يختصُّ كل منها
بمرحلة من مراحل المعرفة: «فمنها ما يدلُّ على الصحة والوجوب، ومنها ما
يدلُّ في الدواعي والاختيار، ومنها ما يدلُّ بالمواضعة والقصد. ورتَّبنا كل
واحد من هذه الوجوه، بأن بيَّنا: أنَّ المُقدَّم على ما يدلُّ من حيث
الصحة، وهو الذي يُتطرَّق به إلى معرفة التوحيد، ثمَّ يتلوه ما يدلُّ
بالدواعي، وهو الذي يُعرَف به العدل، ثمَّ يتلوه ما يدلُّ بالمواضعة
وتُعْرَف — به — النبوات والشرائع.»
٩٨
يختصُّ النوع الأول من الأدلة بأنَّه يُعْرَف به التوحيد. وتفصيل ذلك
أنَّ هذا النوع الأول يدلُّ على الصحة والوجوب، بمعنى أنَّ وجود الفعل أو
وقوعه يدلُّ — وجوبًا — على وجود الفاعل. وإن وقع الفعل مُحكمًا دلَّ على
أنَّ فاعله عالِم ولا دخل لحال الفاعل أو الفعل في هذه الدلالة؛ أي إنَّها
دلالة مجرَّدة منفصلة عن أحوال الفعل وأحوال الفاعل معًا. وتستند هذه
الدلالة — في حركة العقل الفكرية للنظر والاستدلال — إلى العلوم الضرورية
القائمة في الذهن والتي اعتبرها القاضي من كمال العقل. وأول هذه الحركة
الاستدلالية البدء بالضروريات، وأهمها أنَّ الفعل يتعلَّق بالفاعل، وأن
ثمَّ أجسادًا في العالم لا نقدر عليها، فلا بدَّ من فاعل لها مغاير لها
ولنا. وأنَّ هذه الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون
وكافة الأعراض، وهذه الأعراض مُحْدَثة ولا يجوز عليها البقاء، وكل ما لا
يخلو من الحدوث مُحْدَث مثله. وهكذا ينتهي المُتكلِّم إلى إثبات حدوث
العالم. لا يُمكن لفاعل العالم أن يكون مُحدَثًا وإلا كان مثلها، وبذلك
تثبت صفة القدم لله. ثمَّ يُستدلُّ بوقوع الفعل أيضًا على القدرة، وبوقوعه
مُحكمًا على العلم. ويُستدلُّ بوجود القدرة والعلم على الحياة.
٩٩
أمَّا النوع الثاني من الأدلة، وهو ما يدلُّ بالدواعي والاختيار، فهو
النوع الذي يُتوصَّل به إلى معرفة «العدل». وهذا النوع يقع في الترتيب
تاليًا للنوع الأول. بمعنى أنَّنا إذا عرفنا الله بصفاته وأنَّه ليس جسمًا
ولا عرَضًا: «ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود والهبوط
والارتفاع والانحدار والانتقال من مكان إلى مكان، ولا تجوز عليه الزيادة والنقصان»
١٠٠ … إلخ، إذا عرفنا ذلك أمكننا أن نعرف ما يختاره من الأفعال وما
يمتنع عنه. وما دمنا علمنا أنَّه عالِم، فلا بد أنَّه عالِم بقبح القبيح
ومستغنٍ عنه، وعالِم باستغنائه عن فعله. ومن شأن هذا العلم أن يكون داعيًا
له لاختيار الأفعال الحسنة دون القبيحة. وينتهي بنا كل ذلك إلى «العلم
بكونه عدلًا حكيمًا، لا يفعل القبيح ولا يُخلُّ بالواجب، ولا يأمر بالقبيح،
ولا ينهى عن الحسن، وأنَّ أفعاله كلها حسنة. فبهذه الطرق يحصِّل المرء
لنفسه علوم التوحيد والعدل.»
١٠١
والنوع الثالث من الأدلة وهو الذي يدلُّ بالمواضعة وتُعْرَف به النبوات
والشرائع، أو بكلمات أخرى هو الوحي، الذي نستطيع عن طريقه معرفة الشريعة.
غير أنَّ علينا أن نُلاحظ أنَّ القاضي قد رتَّب الأنواع الثلاثة من الأدلة
ترتيبًا بحسب أهميتها المعرفية؛ فأدلة التوحيد أولًا، ثمَّ أدلة العدل
فأدلة الشرع. ومعنى هذا أنَّنا — كما سبقت الإشارة — لا نستطيع معرفة الشرع
إلا بعد معرفة التوحيد والعدل إذ إنَّ معرفة الشرع فرع عليهما.
ويُفرِّق القاضي عبد الجبَّار بين أنواع الأدلة من وجه آخر يكشف بشكل
أوضح عن الدلالة الشرعية: «اعلم أنَّ الأدلة على ضربَين؛ أحدهما يدلُّ على
ما يدلُّ عليه، لوجه يختصه لا يتعلَّق باختيار الفاعل له وما جرى مجراه،
فهذا لا يجوز أن تتغيَّر حاله في الدلالة، وذلك كدلالة الأعراض على حدوث
الأجسام، والفعل بمجرَّده على أنَّ فاعله قادر، وبكونه محكَمًا على أنَّه
عالم. والثاني يدلُّ على مدلوله، لوقوعه على وجه له تعلُّق باختيار فاعله،
كدلالة الكلام على ما يدل عليه؛ لأنَّ الخبر إنَّما يدلُّ على المُخْبَر
عنه من حيث قُصد به الإخبار عمَّا هو خبر عنه، ومن حيث كان فاعله على صفة
ولا يدلُّ بجنسه.»
١٠٢ ومعنى ذلك أنَّ الكلام — الدلالة الشرعية — لا يدلُّ إلا بعد
فهم دواعي المُتكلِّم وقصده. ولا يمكن فهم الدواعي إلا بعد معرفة التوحيد
والعدل؛ أي معرفة الله بصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز. وهذا هو الشرط
الأول لفهم الدلالة الشرعية. أمَّا الشرط الثاني فهو المواضعة؛ فالكلام —
الدلالة الشرعية — لا يُمكن أن يدلَّ على ما يدلُّ عليه إلا مع قدم
المواضعة.
هذه التفرقة الحاسمة بين أنواع الدلالات الثلاث، والفصل بينها،
وترتيبها ترتيبًا تنازليًّا يبدأ بالأهم فالمهم، أو بالعلَّة فالنتيجة، هو
لبُّ الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة. فلقد رأينا أنَّ الباقلاني لم يُميِّز
بوضوح بين الدليل العقلي والدليل الشرعي من حيث الترتيب والأهمية، فأحيانًا
يُعتبر العقل حَكَمًا على الشرع، وأحيانًا يفعل العكس. وكان سلوكه العملي
تطبيقًا حرفيًّا لمبدأ سيادة الشرع على العقل. ومن جهة أخرى لم نجد عنده
فرقًا حاسمًا بين الدلالة الشرعية ودلالة اللغة، بالرغم من أنَّه اعتبرهما
دلالتَين. أمَّا القاضي عبد الجبَّار فقد وحَّد بينهما، وكان هذا مدخله
الطبيعي لدراسة القرآن ولقضية التأويل، ومن ثمَّ تحتاج لوقفة متمهِّلة.
١٠٣
(٤) الدلالة اللغوية وشرط المواضعة
يُعدُّ البحث في «الكلام» قضيةً خلافية حادة بين المعتزلة وخصومهم،
خصوصًا الأشاعرة. وإذا كان كلٌّ من الباقلاني والقاضي عبد الجبَّار قد
اعتبر الدلالة الشرعية تدلُّ من جهة المواضعة والمواطأة، وأضاف القاضي
إليها شرط «القصد»، فإنَّهما لم يتفقا على تحديد مفهوم الكلام، ولا على
تحديد جهة المواضعة والمواطأة. والجذر الديني لهذه المشكلة يتصل — في الفكر
الاعتزالي — بقضية التوحيد وبقضية خلق القرآن. وقد كان هدف المعتزلة من
إثارة هذه المشكلة — متأثرين بمن سبقهم من المتكلِّمين كالجعد بن درهم
وغيلان الدمشقي — مرتبطًا برغبتهم في نفي وجود أي صفة قديمة خارجة عن الذات
الإلهية؛ وذلك ليخلص لهم مبدأ التنزيه والتوحيد نقيًّا من أي إيهام
بالتعدُّد؛ ولذلك فصلوا بين صفات الذات وصفات الفعل. واقتصرت الصفات
الذاتية عندهم على العلم والقدرة والحياة والقِدَم، وهي صفات ليست منفصلةً
عن الذات، بل هي هو؛ فالله — عند أبي الهذيل العلَّاف — «عالم بعلم هو هو،
وقادر بقدرة هي هو، وهو حي بحياة هي هو.»
١٠٤ أمَّا الكلام فقد اعتبره المعتزلة من صفات الفعل، وهي صفات لا
تختلف في الغائب عنها في الشاهد، وبالتالي يجوز فيها القياس، وإقامة
معرفتنا لِمَا غاب عنَّا قياسًا على معرفتنا لِمَا نشاهده. ويُقسِّم القاضي
عبد الجبَّار الصفات الإلهية على أقسام: «منها ما يجب له في كل حال، ككونه
عالمًا وقادرًا. ومنها ما يستحيل عليه في كل حال، ككونه مُتحرِّكًا
وساكنًا، إلى سائر ما يختص ما خالفه من الجواهر والأعراض. ومنها ما يستحيل
عليه فيما لم يزَل ويصح عليه فيما بعد ذلك، كصفات الأفعال أجمع، ككونه
مُحْسِنًا ومُتفضِّلًا ورازقًا وخالقًا، فلا يجب إذا قلنا إنَّه يستحيل
كونه مُتكلِّمًا فيما لم يزل أن يستحيل ذلك عليه أبدًا، بل يصحُّ ذلك عليه
إذا صحَّ أن يفعل الكلام، كما ذكرناه في صفات الأفعال.»
١٠٥ فصفة الكلام إذن صفة فعل، وليست صفة ذات. وصفة الفعل لا يمكن
أن يوصف بها الله فيما لم يزل، بل هي صفة حادثة مع وجود الحاجة للكلام.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ كلام الله ليس قديمًا، بل هو محدَث لارتباطه
بوجود مَن يُخاطبه عزَّ وجلَّ من الملائكة أو البشر، ووجودهم مُحْدَث لا
مِراء. والكلام الإلهي — من ناحية أخرى — لا بد أن يكون مُفيدًا؛ لأنَّه
يتوجَّه إلى مخاطَب. فإن لم يكن مفيدًا دخل في العبث الذي يتنزَّه الله
عنه، لوقوع أفعاله كلها في دائرة الحكمة والصواب. ووجوب الإفادة في كلام
الله مع وجوب الحدوث يؤدِّيان معًا إلى ضرورة أن يكون كلامه سبحانه مسبوقًا
بالمواضعة؛ «لأنَّ الكلام لا يكون مُفيدًا إلا وقد تقدَّمت المواضعة عليه،
وإلا كانت حاله وحال سائر الحوادث لا تختلف.»
١٠٦
لا يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في اعتبار المواضعة شرطًا من شروط
الدلالة اللغوية كما رأينا عند الباقلاني. ولكنَّهم يختلفون معهم في تحديد
صفة الكلام الإلهي على أساس «أنَّ كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا
يزال موصوفًا به وأنَّه قائم به ومختص بذاته.»
١٠٧ وهذا الخلاف بين قِدم الكلام الإلهي — قول الأشاعرة — وبين
حدوثه — قول المعتزلة — كان من شأنه أن يُثير خلافًا حول أصل المواضعة في
اللغة هل هي توقيف من الله أم اصطلاح من البشر؟ وكان من الطبيعي أن يذهب
الأشاعرة إلى اعتبار المواضعة توقيفًا، ما دام الكلام صفةً ذاتية قديمة من
صفات الله عزَّ وجل. وإلى العكس من ذلك ذهب المعتزلة اتساقًا مع نظرتهم
للكلام الإلهي على أنَّه صفة من صفات الفعل.
وإذا كانت هذه القضية تبدو ناضجةً جدًّا وواضحة المعالم في القرن
الرابع حيث يُعبِّر ابن فارس عن رأي القائلين بالتوقيف، ويُعبِّر القاضي
عبد الجبَّار عن رأي القائلين بالاصطلاح، وبينهما يتراوح ابن جني — رغم
اعتزاليته — بين التوقيف والاصطلاح وتقليد أصوات الطبيعة. إذا كان الأمر
كذلك، فمن المؤكَّد أنَّ القضية أقدم من ذلك؛ إذ هي ترتد — كما أشرنا —
للخلاف حول صفة الكلام وخلق القرآن، وهي خلافات أدَّت إلى فتنٍ دامية،
انتهت بالقضاء على الازدهار الاعتزالي في التاريخ الإسلامي.
١٠٨
ويُقرِّر القرآن أنَّ الله هو الذي علَّم آدم الأسماء كلها؛ ولذلك
استند أصحاب التوقيف إلى هذه الآية (سورة البقرة: ٣١) للاستدلال على صحة
رأيهم. أمَّا القائلون بالاصطلاح فقد وقعوا في مآزق حاولوا الخروج منها
بالتأويل. واضطرب المعتزلة جميعًا أمام هذه الآية اضطرابًا عظيمًا. ذهب أبو
علي الجبَّائي (ت٣٠٣ﻫ) مستندًا إلى هذه الآية إلى أنَّ «هذه اللغات أصلها التوقيف»،
١٠٩ وبذلك أراح نفسه؛ لأنَّه كان يعتبر الخاطر الداعي إلى النظر —
أساس التكليف — اعتقاد، وبالتالي لا بد قبل وقوع التكليف من جهة الله من
التوقيف على بعض اللغات ليصحَّ النظر، ويحسن إرسال الرسل. ولقد خالف أبو
هاشم (ت٣٢١ﻫ) أباه في هذه القضية، ويُهاجِم ابن القيِّم الجوزية أبا هاشم
على أساس «أنَّه زعم أنَّ اللغات اصطلاحية، وأنَّ أهل اللغة اصطلحوا على ذلك.»
١١٠ وأنَّه أوَّل من ابتدع هذه البدعة. ويبدو في حديث أبي هاشم
أنَّه يردُّ على أبيه تعليقه بعثة الرسل والوحي على التوقيف على بعض اللغات
حين يقول: «إنَّ التوقيف في تعليم الأسماء والصفات لا يصحُّ. ويقول
(مُتأوِّلًا آية سورة البقرة) إنَّ تعليم الله تعالى آدم الأسماء لا يصحُّ
إلا وقد عرف، مواضعة، على لغة الملائكة، ثمَّ وقعت المخاطبة بها، فعرف عند
ذلك ما عرَّفه الله تعالى.»
١١١ وهكذا يفترض أبو هاشم أنَّ ثمَّة لغةً تواضعت عليها الملائكة،
وأنَّ آدم كان قد عرف هذه اللغة قبل أن يُعلِّمه الله أسماء الأشياء، ثمَّ
علَّمه الله أسماء هذه الأشياء باللغة التي عرفها آدم عن الملائكة. وينسى
أبو هاشم أنَّه يرتدُّ بقضية المواضعة إلى الملائكة الذين هم خلق الله،
ويسلب آدم أيَّ فعَّالية في المواضعة اللغوية. وحقيقة المعضلة التي لم
يدركها أبو هاشم أنَّ سياق الآية نفسها كان في معرض بيان فَضْل آدم على
الملائكة، واختيار الله له للخلافة في الأرض، ومن ثمَّ تزويده ببعض الوسائل
التي تُعينه على الحياة ومنها تعليمه أسماء الأشياء، وهي أسماء لم تكن
الملائكة تعرفها، حتَّى إنَّها عجزت عن الإنباء بأسماء هذه الأشياء، وبذلك
تميَّز عنهم آدم بهذا العلم الذي وهبه الله إياه.
وتُعدُّ فكرة الاصطلاح في اللغة — عند المعتزلة — ضروريةً لنفي مشابهة
الله للبشر، وذلك إلى جانب اتصالها بقضية الكلام وحدوثه؛ فالمواضعة تحتاج
للإشارة المادية الحسية بمعنى أنَّ المواضعة بين اثنَين مثلًا على تسمية
شيء ما باسم ما تستلزم أن يُشير أحدهما للشيء وينطق الاسم عدة مرات، وذلك
«على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلَّم لغة والدَيه، إذا تكرَّرت منهما الإشارات.»
١١٢ هذه الإشارة المادية — التي هي جزء من المواضعة — لا تجوز على
الله لأنَّه ليس جسمًا، وهي فكرة يطرحها كلٌّ من ابن جني والقاضي
عبد الجبَّار. يقول ابن جني: «والقديم سبحانه لا يجوز أن يُوصف بأن يواضِع
أحدًا من عباده على شيء؛ إذ قد ثبت أنَّ المواضعة لا بد معها من إيماء
وإشارة بالجارحة، نحو المومى إليه، والمُشار نحوه، والقديم سبحانه لا جارحة
له، فيصحُّ الإيماء والإشارة بها منه. فبطل عندهم أن تصحَّ المواضعة على
اللغة منه.»
١١٣ ويقول القاضي مؤكِّدًا نفس الفكرة: «وأمَّا أول المواضعات فلا
بد فيه من تقدُّم الإشارة التي تُخصِّص المسمَّى … ولذلك جوَّزنا من القديم
تعالى تعليمه لغةً بعد تقدُّم المواضعة على لغة، ولم نُجوِّز أن يبتدئ
بالمواضعة لاستحالة الإشارة عليه سبحانه.»
١١٤
وينتهي المعتزلة — تأكيدًا لمبدأ التوحيد — إلى أنَّ المواضعة على
اللغات لا بد أن تسبق كلام الله حتَّى يقع مُفيدًا، ولا يجوز أن يبدأ الله
المواضعة على اللغة؛ لأنَّ المواضعة تستلزم الإشارة الحسية التي لا تجوز
عليه سبحانه، فإذا تقدَّمت المواضعة على لغة ما بين البشر، فلا مانع عند
المعتزلة بعد ذلك من أن يبدأ الله مواضعةً على لغة أخرى. وهذه المواضعة
الثانية لا تستلزم الإشارة الحسية؛ لأنَّ الكلام باللغة المتواضَع عليها
سابقًا يُغني — في هذه الحالة — عن الإشارة الحسية التي لا تجوز على الله:
«يجوز أن ينقل الله اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها، بأن يقول:
الذي كنتم تُعبِّرون عنه بكذا، عبِّروا عنه بكذا، والذي كنتم تُسمُّونه كذا
ينبغي أن تُسمُّوه كذا، وجواز هذا منه سبحانه كجوازه من عباده.»
١١٥
وإلى جانب ارتباط فكرة الاصطلاح في المواضعة اللغوية بقضية التوحيد،
فإنَّها ترتبط بقضية المعرفة من جانب التفرقة بين العلم الضروري والعلم
الاكتسابي. فالإشارة الحسية — وهي شرط في المواضعة — قرينة المعرفة
الضرورية؛ أي إنَّ الاسم حين يرتبط نُطقه بالإشارة الحسية، يقع العلم
الضروري بأنَّ هذا الشيء المُشار إليه يُدْعى بهذا الاسم. وهذه المعرفة
الضرورية تُعدُّ نتيجةً للإشارة الحسية؛ إذ هي معرفة إدراكية، أو علم
بالمُدْرَكات كما يقول المعتزلة. وإذا كانت هذه الإشارة الحسية لا تجوز على
الله، فإنَّنا من جانب آخر لا يُمكن أن نعرف قصده تعالى باضطرار، كما نعرف
قصد المتكلِّم العادي الذي يُزاوج — عادةً — بين الكلام والإشارة: «أنَّه
لا طريق إلى العلم بالمقاصد على جهة الاكتساب بالكلام، وتعلُّقه بالمُسمَّى.»
١١٦ ونحن لا يُمكن أن نعرف قصد الله تعالى باضطرار؛ لأنَّ هذه
المعرفة لا تجوز «في حال التكلیف كما لا نعلم ذاته باضطرار في حال التكليف.»
١١٧
وليس الإنسان وحده هو الذي لا يجوز عليه معرفة قصد الله معرفةً ضرورية،
بل الملائكة أيضًا لا يتسنَّى لها ذلك؛ «لأنَّها مُكلَّفة ولم يكن لها قبل
التكليف حال علمَت فيه القديم، جلَّ وعز، ضرورة؛ لأنَّ هذه الحال إنَّما
تجوز في أهل الآخرة ومَن يجري مجراهم دون غيرهم.»
١١٨ وهكذا إذا كانت معرفة الله بصفاته لا يجوز أن تكون ضرورية،
سواء للملائكة أو البشر لتساويهما في التكليف العقلي، فإنَّ معرفة قصده لا
يُمكن أن تكون ضرورية، بل كلاهما معرفة نظرية كسبية استدلالية. كل ذلك ينفي
أن يبدأ الله الملائكة أو البشر مواضعةً على لغة؛ لأنَّ من شرط المواضعة
الإشارة الحسية التي تؤدِّي إلى معرفة قصد المُتكلِّم والمُشير باضطرار.
وكلا الأمرَين مستحيلٌ في حق الله؛ لأنَّه يؤدِّي إلى هدم مبدأ التكليف
العقلي، وهو حجر الزاوية في الفكر الاعتزالي، إلى جانب ما يؤدِّي إليه من
مشابهة الله للأجساد.
وإذا كانت قضية المواضعة والاصطلاح في اللغة تُعدُّ هامةً في الفكر
الاعتزالي، لاتصالها بالتوحيد من جانب وبالمعرفة الاستدلالية بالله من جانب
آخر، فقد كان من الطبيعي أن يعتبر القاضي عبد الجبَّار — خلافًا للباقلاني
— القصد شرطًا من شروط الدلالة الشرعية وهي الكلام. فإذا كان المُتكلِّم
الماثل أمامنا يُمكن أن نفهم قصده باضطرار بحكم ما يُقارن كلامه من إشارات،
فإنَّ هذه المقارنة ليست مُتوفِّرةً في كلام الله؛ لأنَّه ليس ماثلًا
أمامنا، ولا هو مِمَّن تجوز عليه الإشارة. ومن جهة أخرى فإنَّ صفات الله —
صفات الذات والفعل معًا — يُمكن التوصُّل إلى معرفتها عن طريق الدليل
العقلي. وصفات الفعل هي التي تكشف عن دواعي الله واختياراته؛ أي هي التي
تكشف للعقل عمَّا يجوز عليه من الأفعال وما لا يجوز منه؛ فهو عدل لا يختار
القبيح ولا يأمر به، ولا ينهى عن الحسن ولا يظلم ولا يكذب في أخباره … إلخ،
كل صفات العدل التي يُمكن الاستدلال عليها بالعقل. وصفات الفعل هذه يُمكن
أن تُحدِّد لنا مقاصد الله بكلامه. وهكذا ترتدُّ الدلالة اللغوية — الكلام
— إلى العقل الذي يعرف قصد الله استدلالًا قبل ورود الشرع، وهذا أمر
سنتعرَّض له تفصيلًا عند حديثنا عن المجاز والتأويل.
قضية الاصطلاح في المواضعة إذن ليست قضيةً فرعية أو ثانوية؛ فهي تمتد
بجذورها في كل قضايا الفكر الاعتزالي. ولقد كان من الطبيعي أن تتجمَّع خيوط
هذه القضية حول الآية الكريمة
وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وهي آية كانت تُواجه كل مُفكِّر معتزلي
يبحث في أصل اللغة ومنشئها. ولقد سبق أن رأينا تسليم أبي علي الجبَّائي
بمنطوقها، وافتراضات أبي هاشم لتأويلها. أمَّا القاضي عبد الجبَّار فيكاد
يجمع كل تفاصيل النقاش في القضية عند تأويله لهذه الآية: «إنَّ الله لا
يصحُّ أن يُعرِّف المُكلَّف الأسماء كلها لأنَّه لا بُدَّ من مواضعة
مُتقدِّمة على لغة واحدة، ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم تتقدَّم، لم
يصحَّ أن يُعرِّفه مع التكليف؛ لأنَّ تعريف الأسماء يقتضي تعريف المقاصد،
ولا يصحُّ فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة، حتَّى إذا عرف
لغةً واحدة صحَّ أن يُخاطبه بها فيُعرِّفه سائر اللغات، فلا بُدَّ أن يكون
آدم قد عرف مواضعة الملائكة على لغة ما، ثمَّ علَّمه الأسماء في سائر
اللغات بتلك اللغة.»
١١٩ وإذا كانت الآية تنصُّ على أنَّ الله قد علَّم آدم كل الأسماء،
فسلاح التأويل كفيل بحل المشكلة. والدليل العقلي على استحالة أن يكون قد
علَّمه كل الأسماء، لاستحالة ابتداء المواضعة على الله، كفيل بتخصيص عموم
لفظ «كل». فإذا كان هذا اللفظ يدلُّ على العموم، وليس في لفظ الآية ما
يدلُّ على تخصيص هذا العموم كالاستثناء أو غيره من أدوات التخصيص اللغوية،
فإنَّ هذا الدليل العقلي يُخصِّص عموم الآية. ومن جهة أخرى فالعقل يُحدِّد
قصد الله ويعرِّفه، وهو بذلك لا يقلُّ دلالةً عن القرينة اللفظية إن لم يزد
عليها: «إذا صحَّ بما ذكرناه من دليل العقل أنَّ العلم بمراده بالخطاب لا
يصحُّ إلا على الوجه الذي قدَّمناه (يعني تقدُّم المواضعة) وجب تخصيص قوله
«الأسماء كلها»، والقطع على أنَّه لا بُدَّ من لغة عرفها إمَّا بمواضعة
بينه وبين حواء أو الملائكة، أو على جهة الإتباع للغتهم، ثمَّ علَّمه أسماء
تلك الأجناس باللغات الأُخر، وإن لم يمتنع أن يُعرِّفه أسماء أشياء لم
يُتَوَاضَع عليها في تلك اللغة؛ لأنَّ ذلك غير ممتنع في بعض الأسماء، إذا
حصلت المواضعة على غيرها من الأسماء.
وبعد، فإنَّ ظاهر الآية يقتضي أنَّ ما علَّمه من الأسماء هو ما تقدَّمت
المواضعة عليها، وصارت بذلك أسماءً؛ لأنَّ الاسم إنَّما يُسمَّى بذلك متى
تقدَّمت فيه مواضعة أو ما يجري مجراه؛ لأنَّه إنَّما يصير اسمًا للمُسمَّى
بالقصد، ومتى لم يتقدَّم تعلُّقه بالمُسمَّى لأجل القصد، لم يُسمَّ بذلك.»
١٢٠
•••
خالف أهلُ السنة والأشاعرة المعتزلة في قضية المواضعة الاصطلاحية للغة.
وهذا الخلاف يرتدُّ في جذوره الحقيقية، إلى قضية خلق القرآن من جهة، وقضية
المعرفة من جهة أخرى. ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أنَّ القرآن «كلام الله
غير مخلوق»،
١٢١ وذهب إلى تقديم النقل على العقل. يقول فيما يحكيه الباقلاني
عنه ويُوافقه عليه: «لا مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته وتسميته،
وإنَّما يعلم ذلك بفضله من جهته.»
١٢٢ وإذا كان أول من قال بالمواضعة الاصطلاحية للغات هو أبو هاشم
الجبَّائي، فإنَّ أول من قال بالتوقيف من غير المعتزلة هو أبو الحسن
الأشعري، وصلة كلَيهما بأبي علي الجبَّائي معروفة؛ فقد جمعت بين التلمذة
والبنوة الصريحة عند أبي هاشم، وبين التلمذة وبنوة التربية عند الأشعري.
وينقُل السيوطي عن الفخر الرازي آراء المختلفين حول هذه القضية: «الألفاظ
إمَّا أن تدلَّ على المعاني بذواتها، أو وضع الله إيَّاها، أو بوضع الناس،
أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس، والأول مذهب عبَّاد
بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك، والثالث مذهب
أبي هاشم، وأمَّا الرابع فإمَّا أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من
الله، وهو مذهب قوم. أو الابتداء من الله والتتمة من الناس، وهو مذهب
الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني» (المزهر، ١: ٦). ومن الواضح أنَّ هذا القسم
الرابع بفرعيه يُمكن إدراجه تحت القسمين الثاني والثالث؛ فالفرع الأول منه
يدخل تحت القول بالاصطلاح، وقد قال به القاضي عبد الجبَّار فيما تقدَّم.
أمَّا الفرع الثاني فهو يدخل بالضرورة تحت القول بالتوقيف. ومن الواضح أنَّ
القول الأول — قول عبَّاد بن سليمان — لم يُكْتَب له الذيوع والانتشار ولم
يتحمَّس له أحد من المشاركين في بحث المشكلة، بل رفضوه جميعًا: «ودليل
فساده أنَّ اللفظ لو دلَّ بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف
الدلالات الذاتية.»
١٢٣
ومن الطبيعي أن يستدل القائلون بالتوقيف على صحة رأيهم بالآية الكريمة
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وكل
تفسيرات المُفسِّرين القدماء ابتداءً من ابن عباس يُمكن — في هذه الحالة —
أن يُستدلَّ بها.
١٢٤ أمَّا الدليل العقلي فيعرضه ابن فارس على النحو التالي: لو
كانت اللغة اصطلاحًا لجاز الاستشهاد بأشعار المُحدَثين وبكلامنا نحن
المُحدَثين، والدليل على أنَّها توقيف «إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة
القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثمَّ احتجاجهم بأشعارهم. ولو كانت
اللغة مواضعةً واصطلاحًا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأَولى منَّا في
الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.»
١٢٥ غير أنَّ هذا الرأي يؤدِّي — بداهةً — إلى إنكار فكرة التطوُّر
في اللغة، ما دام دليل التوقيف هو الاستشهاد بلغة القدماء دون المُحدَثين.
ويبدو أنَّ ابن فارس بالفعل يؤمن بذلك، وإن كان لا يُنكر حدوث التجديد
والتطوُّر في اللغة، ولكنَّه يقف بالتطوُّر عند عصر الرسول
ﷺ حيث
بلغت اللغة غاية نضجها وتمامها. ومعنى ذلك أنَّ التوقيف في اللغة لم يتم
دفعةً واحدة، بل بدأ بآدم، وظلَّ يتطوَّر وتنمو اللغة مع احتياج البشر
وإرسال الرسل، حتَّى كانت بعثة محمد
ﷺ: «فآتاه الله — عزَّ وجلَّ —
من ذلك ما لم يؤته أحدًا قبله تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدِّمة. ثم
قرَّ الأمر قراره فلا نعلم لغةً من بعده حدثت.»
١٢٦ وهكذا ينتهي ابن فارس إلى ربط الحاجة للغة بالبعثة، تمامًا كما
فعل أبو علي الجبَّائي، وما دامت البعثة والشريعة تأتي من عند الله، واللغة
من لوازمها، ليُفهم عن الله ما أنزل؛ فهي بدورها توقيف من الله علَّمه
عباده حتَّى يفهموا عنه.
•••
ذهب أبو علي الفارسي — أستاذ ابن جني — إلى ما ذهب إليه أبو علي
الجبَّائي من أنَّ اللغات «من عند الله»، واحتجَّ بقوله سبحانه:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا١٢٧ ورغم مُحاولة ابن جني رفع التناقض وتأويل الآية وجعلها بعيدةً
عن أن تكون موضع خلاف على أساس: «أنَّه قد يجوز أن يكون تأويله أقدر آدم
على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة. فإذا كان ذلك
محتمَلًا، غير مستنكَر، سقط الاستدلال به.»
١٢٨ وهو تأويل يخرج من الافتراضات التي افترضها كلٌّ من أبي هاشم
والقاضي عبد الجبَّار وتأوَّلا الآية على أساسها. رغم هذه المحاولة الناجحة
إلى حد كبير، والتي تقترب من حل المشكلة، يعود ابن جني ليفترض أنَّ الله قد
يجوز أن يُواضع ابتداءً، ودون مواضعة على لغة سابقة؛ وذلك «بأن يُحدث في
جسم من الأجسام، خشبةً أو غيرها، إقبالًا على شخص من الأشخاص، وتحريكًا لها
نحوه، ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له،
ويُعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنَّه — عزَّ اسمه — قادر
على أن يقنع في تعريفه ذلك، بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الإيماء،
وهذه الإشارة، مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة.»
١٢٩ وهو افتراض لا يختلف كثيرًا عن افتراض زملائه المعتزلة أنَّ
الله يخلق كلامًا في جسم، شجرةً مثلًا، يسمعه النبي، وأنَّه لا يجوز أن
يكون الله مُتكلِّمًا إلا على هذا النحو، دون أن يُحلَّ الكلام — وهو عَرَض
— في ذاته. غير أنَّ هذا الافتراض قُصِد منه نفي قِدم الكلام الإلهي،
وافتراض ابن جني مجرَّد محاولة للجمع بين جواز أن تكون اللغة توقيفًا من
الله، وبين نفي الإشارة والجارحة عن الله. والواقع أنَّ ابن جني ظلَّ
مُتردِّدًا بين الأمرَين — بين الاصطلاح والتوقيف — وسجَّل لنا هذه الحيرة
والتردُّد: «واعلم فيما بعد، أنَّني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث
في هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات
التغوُّل على فكري، وذلك أنَّني إذا تأمَّلت حال هذه اللغة الشريفة،
الكريمة، اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة، والدقة، والإرهاف، والرقة، ما يملك
عليَّ جانب الفكر، حتَّى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبَّه
عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه
وانقياده، وبُعد مراميه وآماده، صحة ما وفِّقُوا لتقديمه منه، ولُطف ما
أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة، بأنَّها
من عند الله جلَّ وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا من الله سبحانه،
وأنَّها وحي. ثمَّ أقول في ضد هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبَّهوا
وتنبَّهنا، على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا نُنكر أن يكون
الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بَعُد مداه عنَّا، من كان ألطف منَّا
أذهانًا، وأسرع خواطر، وأجرأ جنانًا، فأقف بين هاتَين الخَلتَين حسيرًا،
وأكاثرهما فأنكفئ مكسورًا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يُعلِّق الكف بإحدى
الجهتَين، ويكفيها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق.»
١٣٠ وهو تردُّد عالِم باحث مدقِّق لا يجد مُرجِّحًا بين المذهبَين،
فيصل به الأمر إلى موقف «لا أدري».
وقد كان يُمكن لابن جني أن يتوقَّف عند رأيه الثالث، الذي ذهب فيه إلى
أنَّ اللغة نشأت تقليدًا لأصوات الطبيعة: «كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير
الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك.
ثمَّ وُلدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح ومذهب مُتقبَّل.»
١٣١ قد كان لابن جني أن يتوقَّف عند هذا الرأي الذي ينفرد به بين
الباحثين في هذه القضية، ولكن يبدو أنَّ هذا الرأي — بدوره — قد اعتبر
تفريعًا على القول بالاصطلاح، وهذا ما جعل ابن جني يقصر حيرته وتردُّده بين
الاصطلاح والتوقيف.
•••
ويرتبط الخلاف حول أصل المواضعة — أيضًا — بخلاف آخر حول تحديد مفهوم
الكلام؛ فالكلام عند المعتزلة — كما يُعبِّر عنهم القاضي عبد الجبَّار —
«ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة حصل في حرفَين أو حروف. فما
اختصَّ بذلك وجب كونه كلامًا، وما فارقه لم يجب كونه كلامًا. وإن كان من
جهة التعارف لا يُوصف بذلك، إلا إذا وقع مِمَّن يُفيد أو يصحُّ أن يُفيد،
فلذلك لا يُوصف منطق الطير كلامًا، وإن كان قد يكون حرفَين أو حروفًا منظومة.»
١٣٢ ويقوم هذا التعريف عند القاضي — وهو تعريف يشترط في الكلام
الإفادة — على أساس مبدأ أثير عند المعتزلة، هو «قياس الغائب على الشاهد»؛
أي إنَّ «كلام الله عزَّ وجلَّ من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف
منظومة وأصوات مقطعة.»
١٣٣ والفارق بين الشاهد والغائب أنَّنا نحتاج في إحداث الكلام إلى
بنية مخصوصة؛ «لأنَّ ذلك آلة لنا في إيجاده.»
١٣٤ لأنَّنا قادرون بقدرة: «وليس كذلك حكم القادر لنفسه؛ لأنَّه
ليس يحتاج في إيجاده لِمَا يوجده إلى آلة، ولا إلى سبب.»
١٣٥ وبذلك ينتهي القاضي إلى أنَّ كلام الله «عَرَضٌ يخلقه الله
سبحانه في الأجسام على وجه يُسْمَع، ويُفْهَم معناه، ويؤدِّي المَلَك ذلك
إلى الأنبياء — عليهم السلام — بحسب ما يأمر به عزَّ وجلَّ ويعلمه صلاحًا،
ويشتمل على الأمر والنهي والخبر وسائر الأقسام، ككلام العباد.»
١٣٦ وبذلك ينتهي المعتزلة إلى إثبات حدوث كلام الله ونفي قِدمه
وذلك حفاظًا على وحدة الله الأزلية.
أمَّا الأشاعرة فقد كان لهم منحًى آخر، واتجاه مُغاير، وإن كانت غايتهم
وغاية المعتزلة واحدةً وهي التنزيه والتوحيد. فقد فهم بعض المسلمين أنَّ
نفي الكلام عن الله في الأزل يعني وصفه بنقيض الكلام وهو الخرس. والخرس صفة
نقص لا تجوز على الله الذي جمع صفات الكمال المُطلقة. ولم يكن هذا الاعتراض
واردًا في ذهن المعتزلة؛ لأنَّهم — كما سبقت الإشارة — اعتبروا الكلام صفةً
من صفات الفعل لا من صفات الذات كما ذهب الأشاعرة، وربطوه ببعثة الرسل التي
يُفترض — قبلها — وجود البشر الذين تُبْعَث الرسل لمصلحتهم. ويُعبِّر
الأشعري عن هذا المنحى حين يقول: «ومِمَّا يدلُّ من القياس على أنَّ الله
لم يزل متكلِّمًا أنَّه لو كان لم يزل غير متكلِّم وهو مِمَّن لا يستحيل
عليه الكلام لكان موصوفًا بضد من أضداد الكلام من السكوت أو الآفة. ولو كان
لم يزل موصوفًا بضد الكلام لكان ضد الكلام قديمًا. ولو كان ضد الكلام
قديمًا لاستحال أن يُعدم وأن يتكلَّم الباري؛ لأنَّ القديم لا يجوز عدمه
كما لا يجوز حدوثه، فكان يجب ألَّا يكون الباري تعالى قائلًا ولا آمرًا ولا
ناهيًا على وجه من الوجوه، وهذا فاسد عندنا وعندهم، وإذا فسد هذا صحَّ أنَّ
الباري لم يزل مُتكلِّمًا قائلًا.»
١٣٧ والمعتزلة — على عكس ما يقول الأشعري — لا يعتبرون الله قائلًا
ولا آمرًا فيما لم يزل؛ فقوله تعالى، وأوامره، ونواهيه، مُحْدَثة
لتعلُّقِها بمن يتوجَّه إليهم الكلام والأمر والنهي، وهم المُكلَّفون الذين
يستحيل وصفهم بأنَّهم موجودون فيما لم يزل. ويذهب ابن متويه (ت٤٦٩ﻫ) أحد
تلامذة القاضي عبد الجبَّار — ردًّا على هذا الرأي — إلى أنَّ الخرس
والسكوت «ليس بينهما وبين الكلام تضاد؛ لأنَّ الخرس فساد يلحق آلة الكلام.»
١٣٨ والله — عند المعتزلة — ليس مُتكلِّمًا بآلة.
وإذا كان تعريف المعتزلة للكلام أنَّه الأصوات المنظومة المفيدة التي
تترتَّب في الحدوث على وجه مخصوص، فقد كان من الطبيعي أن يعترض الأشاعرة
على هذا التعريف لِمَا يؤدِّي إليه من حدوث الكلام، وبالتالي خلق القرآن.
ويُعدُّ الباقلاني أول من تعرَّض للرد على هذا التعريف، فذهب إلى «أنَّ
الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس، لكن جعل عليه أمارات تدلُّ
عليه؛ فتارةً تكون قولًا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه
وجرى به وجُعل لغةً لهم.»
١٣٩ وإذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، والكلام أمارة
تدلُّ عليه، فمن الطبيعي أن يُساوي الباقلاني بين دلالة الكلام وغيره من
الدلالات كالكتابة والإشارة والرموز الأخرى. ولا يكتفي الباقلاني بقصر هذا
التعريف على الكلام الإلهي — محور المعضلة — بل يمتدُّ بتعريفه أيضًا
للكلام البشري: «إنَّ حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق
إنَّما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارةً بالصوت
والحروف نطقًا، وتارةً بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابةً دون الصوت ووجوده،
وتارةً إشارةً ورمزًا دون الحروف والأصوات ووجودهما.»
١٤٠ ويكون الفارق بين كلام الله وكلام الخلق عنده أنَّ «الخلق
كلامهم مخلوق كهم، وكلام الله ليس بمخلوق كهو سبحانه وتعالى.»
١٤١
وهذا التوحيد بين المعنى النفسي والكلام عند الأشاعرة، وكذلك توحيدهم
بين الدلالة الصوتية وغيرها من أنواع الدلالات، ثمَّ عدم تفرقتهم بين
الكلام الإلهي والكلام البشري، قد يُوقعهم في مجموعة من الاعتراضات
والإلزامات لو استخدمنا طريقة المعتزلة في الجدل. وأول هذه الإلزامات أنَّه
يلزمهم وصف الأخرس بأنَّه مُتكلِّم لأنَّ نفسه لا تخلو من معانٍ، ويلزمهم
وصف من يدلُّ أخرسَ على الطريق بأنَّه مُتكلِّم وإن كان يُشير دون صوت،
وأهم من ذلك كله أنَّه يلزمهم وصف كل صامت في الحال بأنَّه مُتكلِّم؛
لأنَّه لا يخلو — رغم صمته — من التفكير في أمر من الأمور. غير أنَّ
المعتزلة لا يُنكرون المعاني القائمة بالنفس، وإن كانوا لا يعتبرونها
كلامًا، بل يتوقَّفون عند حد اعتبارها معاني، ويكون «غرضهم بقولهم» في نفس
الكلام «أنِّي عالِم بأمر أريد أن أبديه لك بالخطاب، وأنا عازم عليه»،
١٤٢ «وقولهم: فلان يُرتِّب الكلام في نفسه ثمَّ يتكلَّم به، يعنون
به أنَّه يُرتِّب معنى الكلام، وإلا كان قولهم ثمَّ يتكلَّم به ناقضًا له؛
لأنَّ ما رُتِّب وفُعِل لا يجوز أن يُفْعَل من بعد.»
١٤٣
ويبدو الخلاف هنا خلافًا شكليًّا، خصوصًا والمعتزلة — أيضًا — يعتبرون
الكلام دلالةً على ما في النفس ولا يُنكرون ذلك، وإن كانوا يُفرِّقون
بينهما ولا يُوحِّدون كما فعل الباقلاني؛ «فلو كان الكلام معنًى في النفس
لم يصح أن يُقال في العبارة إنَّها تدلُّ عليه؛ لأنَّ لا نسبة بينها وبينه
ولا تعلُّق.»
١٤٤ ولكن ارتباط القضية — برمتها — بقضية التوحيد هو الذي جعل
المعتزلة ينفرون من اعتبار الكلام هو المعاني القائمة في النفس؛ لأنَّ
المعاني — عندهم — هي الصفات، وهم لا يُثبتون لله صفةً مغايرة لذاته كما
يفعل الأشاعرة. ولعل هذا يُفسِّر لنا استخدام القاضي لمصطلح «القصد» الذي
اعتبره — إلى جانب المواضعة — شرطًا لاعتبار الكلام دلالة، وسنتعرَّض
لدلالة هذا المصطلح عمَّا قريب.
وحَّد الباقلاني — كما لاحظنا — بين دلالة الصوت والكتابة والإشارة
والرمز. ويُقارن القاضي عبد الجبَّار — من جانب المواضعة — بين الكلام من
جانب، وبين الإشارات والمعجزات من جانب آخر. ومقارنته بين الكلام والإشارات
ينتهي منها إلى أنَّ الإشارة يُمكن أن تحلَّ محلَّ الأصوات إذا سبقت عليها
مواضعة، غير أنَّ الأصوات تُعبِّر بشكل أوسع عمَّا لا تستطيع الإشارة
التعبير عنه بحكم تعدُّد الأصوات وكثرتها. وينتهي من مقارنته بين الكلام
والمعجزات إلى أنَّ المعجزة أشدُّ دلالةً على ما تدلُّ عليه من الكلام؛
لأنَّ الكلام قد يقع فيه الاشتراك والمجاز والاستعارة. وكلتا المقارنتَين
ضرورية لفهم طبيعة المواضعة من جانب، ولفهم خصوصية الدلالة الكلامية من
جانب آخر. وهي خصوصية لم يتعرَّض لها الأشاعرة تفصيلًا لتوحيدهم بين أنواع
الدلالات الوضعية من جهة، ولقولهم بالتوقيف في المواضعة من جهة
أخرى.
والمقارنة التي يعقدها القاضي بين الإشارة والكلام توحِّد بينهما بشرط
وجود المواضعة؛ «ولذلك نجد أحدَنا يستدعي من غلامه سَقي الماء بالإشارة،
على حد ما يستدعيه بالعبارة؛ لعادة تقدَّمت، يُعرف بها أنَّ الإشارة تحلُّ
محلَّ العبارة التي تقدَّمت معرفة فائدتها.»
١٤٥
وكما تدل الإشارة إذا تقدَّمت عليها مواضعة، تدل المعجزة كدلالة
الكلام، إذا وقعت بعد ادِّعاء النبي أنَّه نبي، وأنَّ علامة صدقه أن تنقلب
العصا حيَّة. فإذا انقلبت العصا حيَّة، كان هذا الفعل دلالةً على صدق
النبي، وذلك للاتفاق السابق بينه وبين من يتحدَّث إليه. فإذا انتفى شرط
الاتفاق السابق بين النبي وقومه لم يكن لانقلاب العصا أيَّ دلالة. ومعنى
ذلك أنَّ المعجزة لا تدلُّ على صدق النبي إلا باتفاق سابق أو مواضعة سابقة
على دلالتها: «وعلى هذا الوجه تنزل المعجزات منزلة التصديق بالقول فنقول:
إذا صحَّ لو صدقه تعالى، عند ادِّعائه النبوة والرسالة كونه نبيًّا، فكذلك
إذا فعل ما يحلُّ هذا المحل من المعجزات؛ لأنَّ مجموع قوله: اللهم إن كنت
صادقًا فيما ادَّعيت من الرسالة فاقلب العصا حيَّة، ثمَّ وقوع ما سأل عنه
مُطابقًا لمسألته بمنزلة المواضعة المتقدِّمة على التصديق، بل ذلك أقوى في
بابه؛ لأنَّ من حق التصديق بالقول أن يقع فيه، والحال هذه، المجاز
والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام، وصحة هذه الطريقة فيه. ولا يتأتَّى
ذلك في الفعل المخصوص إذا الْتمسه الرسول من المرسِل للمرسَل إليه.»
١٤٦ فالمعجزة شأنها شأن الكلام إذا وقعت تصديقًا لادِّعاء النبي،
بل يذهب القاضي إلى أنَّها أشد دلالة، وأقوى في بابه؛ لأنَّها لا تحتمل
المجاز ولا الاستعارة الذي يحتمله الكلام لأمر يرجع إلى طبيعته
الخاصة.
وإذا كانت دلالة الكلام — في باب المعجزات — أقلَّ من الفعل لجواز وقوع
المجاز والاستعارة فيه، فإنَّ الكلام يتميَّز عن الإشارات والحركات بأنَّه
يُعبِّر باتساع عن حاجات الناس ومطالبهم، وهي حاجات لا تستطيع الإشارات
والحركات — لضيقها ومحدوديتها — أن تتسع له. ويربط الجاحظ بين وسائل البيان
والحاجات البشرية الاجتماعية. وإذا كان الإنسان — في نظر الجاحظ —
اجتماعيًّا بطبعه، فمن الطبيعي أن يحس بالحاجة للإبانة عن نفسه والتواصل مع
غيره من بني البشر: «فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد؛ لاحتياج الأدنى إلى
معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى … وجعل حاجتنا إلى معرفة
أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى إخبار من كان قبلهم، وحاجة من
يكون بعدنا إلى أخبارنا.»
١٤٧ فلا بُدَّ إذن من وسيلة لنقل المعرفة والخبرة، والتواصل بين
القريب والبعيد، وبين الماضي والحاضر والمستقبل. ولا تترك العناية الإلهية
الإنسان دون أن تُكمِل له وسائله وحاجاته. وعلى قدْر تعدُّد الحاجات
للإبانة، تتعدَّد وسائل الإبانة، وعلى ذلك فإنَّ الله «لم يرضَ لهم من
البيان بصنف واحد … وجعل آلة البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان
الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء … هي؛ اللفظ، والخط،
والإشارة، والعقد.»
١٤٨
يتفق القاضي عبد الجبَّار مع
الجاحظ في تأكيد وجه المصلحة في وجود وسيلة للإبانة، وإن اختلف معه في
التفرقة بين الإشارة والكلام، اللذَين وحَّد الجاحظ بينهما في النص السابق،
وذلك بناءً على تفرقته بينهما من حيث الضيق والاتساع: «إنَّ حاجة العقلاء
لمَّا دعت إلى الإنباء عمَّا في النفس، لِمَا فيه من النفع، ودفع الضرر،
وعلِموا أنَّ ذلك وإنْ صحَّ بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتسع ذلك
اتساع الكلام، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمُّل تعرف أنَّه
أشدُّ اتساعًا من كل ما تصح فيه المواضعة. وليس يمتنع أن يعرفوا ذلك
إلهامًا، أو بالتأمُّل، أو الاختبار، وللاجتماع في ذلك من التأثير ما ليس
للانفراد؛ لأنَّ جميعهم إذا تعارفوا على المراد قلَّ فيه اللَّبْس وظهر فيه الغرض.»
١٤٩
(٥) الدلالة اللغوية وشرط القصد
بعد أن انتهينا من مناقشة الجوانب المُتعدِّدة لشرط المواضعة الذي
بدونه لا يصحُّ وقوع الكلام دلالة، من الضروري — أيضًا — أن نُناقش الجوانب
المختلفة لمفهوم «القصد» الشرط الثاني للدلالة الكلامية. وأول هذه الجوانب
معنى «القصد» عند القاضي عبد الجبَّار. وقد لاحظنا — من قبلُ — أنَّ
الباقلاني لم يشترط في حديثه عن الدلالة الشرعية والدلالة اللغوية سوى شرط
المواضعة والمواطأة، ولم يتعرَّض لشرط القصد من بعيد أو قريب.
وأول معنًى من معاني «القصد» عند القاضي عبد الجبَّار يُمكن لنا أن
نتلمَّسه في حديثه عن علاقة الاسم بالمُسمَّى، وهي قضية خلافية — أيضًا —
بين المعتزلة والأشاعرة. ولقد كان من نتائج تسوية الأشاعرة بين المعنى
النفسي والكلام أنَّهم على مستوى الدلالة اللغوية لم يُفرِّقوا بين الاسم
والمُسمَّى واعتبروهما شيئًا واحدًا: «إنَّ الاسم هو المُسمَّى بعينه
وذاته، والتسمية الدالة عليه تُسمَّى اسمًا على سبيل المجاز.»
١٥٠ وقد كانت التفرقة بين المعاني النفسية والكلام هي المُقدِّمة
الطبيعية لتفرقة المعتزلة بين الاسم والمُسمَّى، واعتبار الاسم إشارةً إلى
المُسمَّى. غير أنَّ هذا الخلاف يرتدُّ — بدوره — إلى قضية الخلاف حول صفات
الله عزَّ وجلَّ — ومنها صفة الكلام — وحول حدوثها وقِدمها. واتفق المعتزلة
والخوارج وكثير من المرجئة وكثير من الزيدية على أنَّ «أسماء الباري هي
غيره وكذلك صفاته.» وذهبوا إلى أنَّ «الأسماء والصفات هي الأقوال، وهي
قولنا الله عالم، الله قادر، وما أشبه ذلك.»
١٥١ وكان من الطبيعي أن يمتدَّ هذا الخلاف ويسحب ظلَّه على قضايا
الدلالة اللغوية. وكلا الفريقَين على أي حال متسق مع وجهة نظره العامة في
التوحيد والكلام والمواضعة اللغوية.
وكان على المعتزلة أن يكشفوا — بطريقة أو بأخرى — عن طبيعة العلاقة بين
الاسم والمُسمَّى. تلك العلاقة التي سكت عنها الأشاعرة بحكم توحيدهم بين
الكلام والمعاني النفسية، ومن ثمَّ بين الاسم والمُسمَّى. ومن الطبيعي كذلك
أن يدور هذا الخلاف حول الآية التي سبق أن دار الخلاف حولها في قضية
المواضعة، وهي قوله تعالى:
وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (البقرة: ٣١). ومن استعراض آراء المُفسِّرين
القدماء لهذه الآية لا نجد أي ظل لهذا الخلاف،
١٥٢ غير أنَّ الطبري نفسه (ت۳۱۰ﻫ) وهو أقرب إلى أهل السنة منه إلى
المعتزلة، يُفرِّق بين الاسم والمُسمَّى ولا يعتبرهما شيئًا واحدًا.
ويُهاجم — عند تفسير البسملة — أبا عبيدة معمَّر بن المثنى (ت۲۰۷ﻫ) لقوله
في بيت لبيد:
إلى الحول ثمَّ اسم السلام عليكما
ومن
يبكِ حولًا كاملًا فقد اعتذر
أنَّ اسم السلام هو السلام، ويُهاجمه
على أساس أنَّه «لو جاز ذلك … لجاز أن يُقال: رأيت اسم زيد، وأكلت اسم
الطعام، وشربت اسم الشراب.»
١٥٣ ولكن هذا الخلاف يظلُّ خلافًا لغويًّا لا يمتد إلى أبعد من
تفسير البيت أو تفسير البسملة عند الطبري.
ويكشف الجاحظ، وهو بصدد الرد على مُتأوِّلي هذه الآية عن فهمه للعلاقة
بين الاسم والمُسمَّى في اللغة، أو بين الدال والمدلول كما يقول: «لا يجوز
أن يُعلِّمه (أي يُعلِّم الله آدم) الاسم ويدع المعنى، ويُعلِّمه الدلالة
ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنًى لغو كالظرف الخالي. والأسماء في
معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللفظ للمعنى بدن والمعنى للفظ
روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معانٍ لكان كمن وهب شيئًا جامدًا لا حركة له،
وشيئًا لا حس فيه، وشيئًا لا منفعة عنده. ولا يكون اللفظ اسمًا إلا وهو
مُضمَّن بمعنًى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم إلا وله معنًى.»
١٥٤ وهذا النص يكشف أمرَين؛ الأمر الأول هو اشتراط تضمُّن الاسم
لمعنًى، وإلا صار لغوًا وظرفًا خاليًا وجسدًا ميِّتًا لا منفعة فيه، ومعنى
ذلك أنَّ تعليم الله آدم الأسماء لا بُدَّ أنَّه تضمَّن تعليمه محتويات هذه
الأسماء ومضامينها وهي المعاني، ومن حقنا هنا أن نستنتج أنَّ العلاقة بين
الاسم والمُسمَّى هي ما يُطْلِق عليه الجاحظ «المعنى». أمَّا الأمر الثاني
الذي يكشف عنه النص، فهو تلك التفرقة الحادة بين الأسماء والمعاني. ورغم
اعتبار اللفظ جسمًا والمعنى روحًا، وهو تشبيه يُنْبِئ عن قوة العلاقة بين
الألفاظ والمعاني، فالجاحظ يفترض وجود معانٍ بلا أسماء، وذلك يؤكِّد الفاصل
الحاد بينهما في ذهن الجاحظ. وإنْ كان من ناحية أخرى يحيل وجود أسماء بلا
معانٍ.
ويكاد القاضي عبد الجبَّار — في تأويله للآية — يُكرِّر نفس ألفاظه.
غير أنَّه يستخدم كلمة «القصد» بدلًا من كلمة «المعنى» التي يستخدمها
الجاحظ. يقول: «ولا يصحُّ أن يعرف المُكلَّف الأسماء كلها لأنَّه لا بُدَّ
من مواضعة مُتقدِّمة على لغة واحدة ليفهم بها سائر اللغات، فمتى لم
تتقدَّم، لم يصحَّ أن يعرفه مع التكليف؛ لأنَّ تعريف الأسماء يقتضي تعريف
المقاصد، ولا يصح فيمن يعرف الله باستدلال أن يعرف مقاصده ضرورة.»
١٥٥ وإذا كان القاضي قد ربط بين المواضعة والقصد والتكليف من جانب،
وبين التفرقة بين العلم الاستدلالي والعلم الضروري من جانب آخر، وهو أمر لم
يتعرَّض له الجاحظ بحكم استطراداته، فإنَّ استخدام القاضي لكلمة «القصد»
بدلًا من كلمة «المعنى» التي استخدمها الجاحظ، يجعلهما بمعنًى واحد.
ويؤكِّد ذلك ما يقوله القاضي في مكان آخر حول نفس الآية: «إنَّ ظاهر الاسم
إنَّما يُسمَّى بذلك متى تقدَّمت فيه مواضعة، أو ما يجري مجراها؛ لأنَّه
إنَّما يصير اسمًا للمُسمَّى بالقصد.»
١٥٦ وهي نفس الفكرة التي طرحها الجاحظ من أنَّ الاسم لا يكون اسمًا
إلا وهو مُضمَّن بمعنًى، ويظلُّ الخلاف حول تفسير الآية، وحول علاقة الاسم
بالمُسمَّى يتردَّد عند المُفسِّرين؛ فالزمخشري يقول في تفسير «الأسماء
كلها»: «أسماء المسميات، فحذَف المضاف إليه لكونه معلومًا مدلولًا عليه
بذكر الأسماء؛ لأنَّ الاسم لا بُدَّ له من مُسمًّى وعوَّض عنه باللام.»
ويُهاجمه ابن المُنيِّر السُّنِّي لأنَّه «يفرُّ من اعتقاد أنَّ الاسم هو
المُسمَّى؛ لأنَّ ذلك معتقد أهل السنة، فيُعمل الحيلة في إبعاده عن مقتضى الآية.»
١٥٧
وإذا كانت كلمة «القصد»، عند القاضي، تُعطي نفس مفهوم كلمة «معنى» عند
الجاحظ، فمعنى ذلك أنَّ المواضعة والقصد — جانبَي الدلالة اللغوية — غير
منفصلَين؛ إذ المواضعة لا بُدَّ أن ترتبط بقصد المتواضعين وإلا استحال
التفاهم بينهم. ولكي تؤدِّي اللغة وظيفة «الإنباء» عند القاضي أو «الإبانة»
عند الجاحظ، لا بُدَّ من المواضعة. والمواضعة تُعدُّ بديلًا للإشارة
للأشياء بهدف الإخبار عنها. وإذا كانت الإشارة كافيةً في حالة حضور
الأشياء، فإنَّ التسمية تُصبح ضروريةً للإخبار عنها حالة غيابها عن
الإدراك: «إذا ثبت أنَّه يحسن من العاقل أن يُشير إلى ما علمه ليعرف به
حاله، لم يمتنع أن يُعبِّر عنه ببعض الأسماء ليعرف غيره حاله … ويدلُّ على
ذلك أنَّ هذه الأسماء إنَّما احتيج إليها ليقع بها التعريف، ويصحُّ بها
الإخبار عند غيبة المسميات؛ لأنَّ الإشارة تتعذَّر إليه والحال هذه، فأُقيم
الاسم عند ذلك مقام الإشارة عند الحضور. فكما تحسن الإشارة عند الحضور، إذا
حضر المُشار إليه لوقوع الفائدة به للمشير والمُشار إليه، فكذلك يحسن الاسم
لهذا الغرض عند غيبة المُسمَّى، أو يكون المُسمَّى مِمَّا لا يظهر للحواس؛
لأنَّ ذلك في أنَّ الإشارة لا تصحُّ إليه على كل وجه بمنزلة المشاهد إذا غاب.»
١٥٨ وهكذا تتحدَّد المواضعة بأنَّها بديل عن الإشارة للأشياء
الحسية، وذلك بهدف الإخبار عنها حالة غيابها عن الحواس. وتصبح المواضعة
ضروريةً للإخبار عن تلك الأشياء التي لا تظهر للحواس، وذلك كالأفكار
المُجرَّدة التي لا تقع على مُتعين مخصوص كالبقاء والفناء والقدم … إلخ، كل
هذه الألفاظ التي لا يُمكن أن تُشير إلى موجودات حسية. والتفرقة بين
المحسوسات التي يحسن تسميتها، وبين الذهنيات التي يجب تسميتها لاستحالة
الإشارة إليها يُمكن اعتبارها موازاةً للمعرفة الإدراكية الضرورية،
والمعرفة النظرية الاستدلالية. وكلا المستويَين من المعرفة يتطلَّب الإخبار
عنه، وهي الحاجة التي تجعل المواضعة ضرورية، ما دامت وظيفة اللغة هي
«الإنباء» عمَّا في النفس لتبادل المعرفة والخبرة.
ومِمَّا يؤكِّد هذه الموازاة أنَّ القاضي كما فصل بين المُدْرَك
والمُدْرِك حين ردَّ على منكري الإدراك الحسي، وبين العلم والمعلوم واعتبر
أنَّ الإدراك والعلم يتعلَّقان بالمُدْرَكات وبالمعلومات على ما هي به، دون
أن تؤثِّرا فيها سلبًا أو إيجابًا، وكذلك كما فصل بين الدلالة العقلية وما
تدلُّ عليه، واعتبرها دلالةً مُجرَّدة تدلُّ بذاتها ولا تُؤثِّر في حال
المدلول عليه. كما فعل ذلك كله، نراه يفصل الدلالة اللغوية عن مدلولها
فصلًا كاملًا، ويربط بين التسمية والعلم ربطًا تامًّا: «فقد ثبت أنَّ الاسم
في تعلُّقِه بالمُسمَّى بمنزلة الخبر عن الشيء، والعلم به، والدلالة عليه،
بل هو في ذلك دون مرتبته. فإذا كان العلم والدلالة والخبر لا تُؤثِّر فيما
تتعلَّق به، فالاسم بألَّا يؤثِّر أولى. وكذلك لا يصحُّ استعماله على وجه
يُفيد إلا بعد تقدُّم العلم بالمعنى أو الاعتقاد له.»
١٥٩ ويظلُّ «القصد» هو الرابط الوحيد بين الدلالة اللغوية وما
تدلُّ عليه. ومعنى ذلك أنَّ المواضعة — وحدها — تتساوى مع الإشارة. أمَّا
«القصد» فهو الذي يُعطي للمواضعة ثباتها ويُحوِّل الأصوات إلى دلالة؛
«ولذلك يصحُّ أن تتغيَّر اللغات بحسب الدواعي والأغراض.»
١٦٠
إذا كان مفهوم «القصد» عند القاضي عبد الجبَّار يعني «المعنى»، وهو
العلاقة بين الاسم والمُسمَّى على مستوى المفردات اللغوية. وهذا القصد ليس
من صنع الفرد، بل هو من صنع الجماعة عن طريق المواضعة على مُسمَّيات
الأشياء. إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ مفهوم «القصد» يتسع على مستوى التركيب
اللغوي ليُعبِّر عن «المعنى القائم في النفس» عند الباقلاني.
وإذا كانت وظيفة التسمية — ومن ثمَّ اللغة — قد تحدَّدت في «الإنباء»
عمَّا في النفس، والإخبار عن الأشياء والأفكار، فمن الطبيعي أن يُراعى حال
المتكلِّم وقصده حين نُحاول فهم كلامه أو الاستدلال به. ومعنى ذلك أنَّ فهم
قصد المُتكلِّم ضروري — إلى جانب المواضعة — حتَّى يتمكَّن أن يُفيد
الكلام. وإصرار المعتزلة هنا على فكرة «القصد» — من جانب المُتكلِّم —
تؤكِّد أنَّ المواضعة وحدها في التركيب لا تكفي؛ فالكلام «قد يحصل من غير
قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل، ويفيد. فكما أنَّ المواضعة لا بُدَّ منها،
فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مُطابقًا للمواضعة.»
١٦١ فالمواضعة — على أهميتها وضروريتها — لا تكفي وحدها لوقوع
الكلام دلالة؛ لأنَّها، وإن جعلت الكلام مُفيدًا ومُحتملًا للمعاني
المتواضع عليها، لا يُمكن أن تنفصل فائدتها عن قصد المُتكلِّم الذي يقصد
بالكلام إلى أن يكون دلالة. وخير مثال يُوضِّح ذلك أنَّ المجنون قد يتكلَّم
بكلام مُفيد، بمعنى أنَّ ألفاظه وعباراته من المُمكن أن تُفيد معاني سبقت
المواضعة عليها بهذه الألفاظ وتلك العبارات، لكن هذا الكلام الصادر عن
المجنون لا يُمكن أن يدلَّ على قصده. أو بمعنًى آخر لا يُمكن أن يقع دلالة؛
ولذلك كله فلا بُدَّ — إلى جانب المواضعة — من أن يُراعى حال المُتكلِّم
وقصده ليستدلَّ بكلامه على ما يُريد: «وإنَّما اعتُبر حال المُتكلِّم
لأنَّه لو تكلَّم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما
يؤدِّيه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقَّنه المُتلقِّن، أو تكلَّم به من
غير قصد لم يدل. فإذا تكلَّم به، وقصد وجه المواضعة فلا بُدَّ من كونه
دالًّا، إذا عُلم من حاله أنَّه يُبيِّن مقاصده، «ولا يُريد القبيح ولا
يفعله»، فإذا تكاملت هذه الشروط فلا بُدَّ من كونه دالًّا، ومتى لم تتكامل
فموضوعه أن يدل، وإن كان متى وقع مِمَّن ليس هذا حاله، لم يصحَّ أن
يُستدلَّ به.»
١٦٢
والسؤال الآن: كيف يُمكن للمستمع أن يعرف قصد المُتكلِّم حتَّى يستدلَّ
بكلامه؟ وقد يبدو السؤال غريبًا على الحس المعاصر الذي لا يفصل بين القصد
والكلام، ويعتبر الكلام دليلًا على القصد، بل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة
قصد المُتكلِّم. أمَّا اشتراط معرفة القصد — سلفًا — قبل معرفة الكلام، فهو
أمر ينفي عن الكلام أي دور إيجابي في الدلالة على القصد. غير أنَّ المعتزلة
لم يكونوا يواجهون مثل هذا التساؤل، ولم يكن يعنيهم الرد عليه أو حتَّى
مناقشته. فالكلام عندهم هو الدلالة الشرعية عند الباقلاني. بمعنى أنَّ
الكلام — عندهم — هو كلام الله. وفي هذا الإطار يُمكن فهم تمسُّكهم بشرط
القصد — إلى جانب المواضعة — لوقوع الكلام دلالة، وهو شرط لم يُشر إليه
الباقلاني، وإن أشار للمواضعة واعتبرها شرطًا.
وفي هذا الإطار أيضًا يُمكن فهم اشتراطهم معرفة قصد المُتكلِّم قبل
الاستدلال بكلامه؛ فالمُتكلِّم بالدلالة الشرعية هو الله عزَّ وجل. وكما
اشترط المعتزلة سبق المواضعة على كلام الله، اشترطوا معرفة قصد الله. وهذه
المعرفة — كما أسلفنا — هي معرفة صفة أفعاله وما يجوز عليه منها وما لا
يجوز، وهذه المعرفة عندهم معرفة عقلية سابقة — في الترتيب — على المعرفة
الشرعية. وهكذا ينتهي المعتزلة في قضية الدلالة اللغوية إلى اعتبارها
تابعةً للدلالة العقلية ومترتِّبةً عليها. ولمَّا كان جذر الخلاف بين
المعتزلة والأشاعرة يكمن في هذه القضية — قضية المعرفة — فقد كان من
الطبيعي أن يكتفي الأشاعرة بشرط المواضعة دون الإشارة إلى شرط القصد؛ لأنَّ
القصد عندهم لا يُمكن معرفته إلا بدلالة الكلام؛ ولذلك وحَّد الأشاعرة بين
الكلام — الدلالة — والمعاني النفسية — المدلول — واعتبروهما شيئًا واحدًا
قديمًا أزليًّا قائمًا بالله. ولعل في هذا كله ما يؤكِّد أنَّ مفهوم
«القصد» على مستوى التركيب عند المعتزلة يتساوى مع مفهوم «المعاني النفسية»
عند الأشاعرة. غاية الأمر أنَّ المعتزلة يتحرَّجون من اعتبار المعاني
والصفات قائمةً بالذات؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى التركيب والتعدُّد اللذَين
يتنافيان مع التنزيه المطلق.
ومِمَّا يؤكِّد ما نذهب إليه من أنَّ المعتزلة لم يكونوا مشغولين بقضية
المُتكلِّم في الشاهد، أنَّ القاضي عبد الجبَّار يعتبر أنَّ معرفة قصد
المُتكلِّم في الشاهد هي معرفة اضطرارية، على عكس معرفة قصد الله عزَّ
وجلَّ التي هي معرفة استدلالية نظرية. وهي معرفة سابقة على وقوع الدلالة
الشرعية — الكلام — وضرورية لفهمها: «إنَّ الكلام في الشاهد صحَّ أن يدلَّ
بالمواضعة والقصد، ولنا طريق إلى معرفة الكلام بالإدراك والمواضعة
بالأخبار، وما يجري مجراها، والقصد بالاضطرار. فصح، عند ذلك، أن يعرف به
الغرض، ويصير كالدلالة في الشاهد. ولا يصحُّ أن نعرف قصده تعالى باضطرار،
لتعذُّر ذلك مع التكليف، فوجب أن نعرفه بالاستدلال.»
١٦٣
انتهينا من مناقشة جانبَي الدلالة اللغوية، أو دلالة الكلام، ونرى من
الضروري أن نُشير إلى جانب الوظيفة في دلالة الكلام. ولقد ركَّز الجاحظ على
جانب «الإبانة» بينما ركَّز القاضي على جانب «الإنباء». ومفهوم «الإبانة»
أوسع دون شك من مفهوم «الإنباء»؛ لأنَّه يتضمَّن علاوةً على جانب «الإنباء»
جوانب أخرى تناولها الجاحظ، لا باعتباره معتزليًّا، بل باعتباره كاتبًا
مُنشئًا أديبًا. ويهمنا هنا أن نُحاول تفهُّم مفهوم «الإنباء» عند القاضي
عبد الجبَّار.
ولقد رأينا — فيما سبق — أنَّ التسمية، أو إطلاق الأسماء على الأشياء
تُعدُّ مسألةً ضرورية؛ وذلك للإخبار عن الأشياء حالة غيابها عن الحواس،
وأنَّها بذلك تُعدُّ بديلًا للإشارة التي لا تتمُّ إلا في حضور الشيء.
أمَّا الأشياء التي لا تظهر للحواس أصلًا، فيجب تسميتها ليُمكن الإخبار
عنها والتعريف بها. ورأينا أنَّ العلاقة بين الاسم والمُسمَّى هي علاقة
انفصام كاملة، ولا يربط بينهما سوى قصد المتواضعين؛ ولذلك يُجوِّز المعتزلة
قلب الأسماء عن مُسمَّياتها: «ولو أنَّ أهل اللغة بدا لهم في العربية على
الوجه الذي تواضعوا عليه وغيَّروه حتَّى يجعلوا «قديمًا» مكان «مُحْدَث»
و«عالمًا» مكان «جاهل» و«طويلًا» مكان «قصير» كان لا يمتنع … فلو سُمِّي
السواد بياضًا والجوهر عرضًا لم يُؤثِّر ذلك فيه ولكان حاله كحاله الآن،
وهو مُسمًّى بما يُسمَّى به.»
١٦٤
وإذا كانت العلاقة على مستوى المفردات اللغوية علاقة انفصام، فإنَّها
كذلك أيضًا على مستوى التركيب، فثمَّ معانٍ في النفس، وثمَّ عبارات تدلُّ
عليها. وإذا كان الأشاعرة قد وحَّدوا بين الدلالة والمدلول فقد فصل
المعتزلة بينهما. وعلى مستوى الكلام الإلهي امتنع المعتزلة عن استخدام
عبارة «المعاني النفسية» واستخدموا بدلًا منها كلمة «القصد». وكما أنَّ
التسمية تحسن للإخبار عن الشيء، فكذلك العبارة «تُنْبِئ» أو «تُخْبِر» عن
قصد المُتكلِّم.
ولا يكفُّ القاضي عبد الجبَّار في حديثه عن الدلالة اللغوية، من إدخال
الخبر فيها حتَّى ينتهي به الأمر إلى التوحيد بينهما. فلا يكفي في الخبر —
لكي يكون خبرًا — الصيغة اللغوية المعروفة بالجملة الخبرية، ولا تكفي
المواضعة السابقة، بل لا بُدَّ من اعتبار إرادة المُتكلِّم للإخبار وقصده
إليه: «اعلم أنَّه لا يكفي في كونه خبرًا صيغة القول ونظامه، ولا المُواضعة
المُتقدِّمة، بل لا بد من أن يكون المُتكلِّم مُريدًا للإخبار به عمَّا هو
خبر عنه؛ لأنَّ جميع ما قدَّمناه، قد يحصل ولا يكون خبرًا، إذا لم يكن
مُريدًا لِمَا قلناه. ومتى حصل مُريدًا صار خبرًا، فيجب أن يكون لأجله يكون
خبرًا، وإن كان لا بُدَّ من تقدُّم المواضعة، أو ما يجري مجراها، كما لا
بُدَّ من ظهور القول وكما لا بُدَّ من وقوعه من قِبَل المريد، وكل ذلك شروط
مُصحِّحة لكونه خبرًا.»
١٦٥
ويؤكِّد القاضي هذه الفكرة مرةً أخرى، ولكن على مستوى الكلام الإلهي،
حيث يُوحِّد — أيضًا — بين الكلام والخبر. وهو هنا يشترط معرفة حال
«المخبِر» من أنَّه لا يكذب ولا يختار القبيح، وذلك حتَّى نعلم صدقه في
خبره: «لأنَّ الخبر إذا جاز، والصنعة واحدة، أن يقع كذبًا، فيجب أن يُعلَم
من حال فاعله أنَّه مِمَّن لا يفعل الكذب، حتَّى يكون دلالة؛ لأنَّ هذا
الخبر نفسه قد يجوز كونه خبرًا عن المخبِر الذي إذا كان خبرًا عنه كان
كذبًا، وعن المخبِر الذي إذا كان خبرًا عنه كان صدقًا، فلا بُدَّ من أمر به
يُعلَم أنَّه بأن يكون صدقًا أولى من أن يكون كذبًا، وهو أن يُعلَم من حال
فاعله أنَّه لا يختار الكذب.»
١٦٦
ولا يكتفي القاضي بهذا التوحيد بين الخبر والدلالة اللغوية، بل إنَّه
يُوحِّد بين كل الصيغ التعبيرية في اللغة كالأمر والنهي والطلب والاستفهام
والتعجب، والنداء، ويُعتبر «الخبر» هو أصل كل هذه الصيغ: «اعلمْ أنَّ الخبر
هو الأصل في الكلام المفيد؛ لأنَّ الفوائد الواقعة بالكلام أجمع لا بُدَّ
من أن تكون راجعةً إلى الخبر أو إلى معناه. لكنَّه ربما تتأوَّل الفائدة
بصريح لفظه فيكون خبرًا، وربما أفاد من جهة المعنى فلا يُسمَّى خبرًا،
والفائدة لا تختلف. يُبيِّن ذلك أنَّ الأمر يحلُّ محلَّ قوله «أريد منك أن
تفعل»، والنهي يحلُّ محلَّ قوله «أكره أن تفعل». وإذا استخبر غيره حلَّ
محلَّ قوله «أريد منك أن تُخْبِر». وإذا دعا ونادى حلَّ محلَّ قوله «أريد
منك أن تُصغي إلى ما أقول وتتوجَّه إليَّ»، إلى ما شاكل ذلك. لكن اللغة
لمَّا ثبتت على طريق الحكمة فُصِل بين أن يكون المُتكلِّم مُفيدًا للأمور
الثابتة أو المنفية، وكلامه الذي هو عبارة عنه، وبين أن يُظهِر إرادته
لِمَا يُريده، وكراهيته لِمَا يكرهه منه؛ لأنَّ ذلك أمر مُتجدِّد ليس
بظاهر. فإذا أراد إظهاره للغير بقول موضوع لذلك خالف القول الذي وُضِع
ليُعبِّر به عن الأمور الثابتة؛ فلذلك ما صاغوا، عند المواضعة، أقوالًا
مختلفة النظام لهذه الفروق المعقولة، ثمَّ وجدوا الخبر تختلف حاله في
الفائدة، فقسَّموه أقسامًا يرجع جميعها إلى الخبر؛ لأنَّ زيادة فوائده لا
تُخرجه عن أن يكون خبرًا، وذلك نحو وصفهم لبعض الأخبار بأنَّه جحود،
وتشبيه، ونفي، وإثبات، ووعد، ووعيد، وقَسَم، وخصوص، وعموم، إلى غير ذلك.»
١٦٧ ومعنى ذلك أنَّ الخبر أو «الإخبار» هو الوظيفة الأساسية للغة،
وإلى معناه ترتدُّ كل أبنية اللغة. وكما أنَّ اللغة تدلُّ بشرطَين هما
المواضعة والقصد، فكذلك الخبر لا يقع خبرًا إلا بإرادة المتكلِّم، ولا
نستطيع الحُكم عليه بالصدق والكذب إلا بعد العلم بحال المُتكلِّم وأنَّه لا
يختار القبيح ولا يكذب في أخباره.
وننتهي من قضية البحث في الدلالة اللغوية عند المعتزلة إلى ملاحظة هذا
التداخل الكامل بين وظيفة اللغة من جانب، وبين شرطَي دلالتها من جانب آخر،
وهما المواضعة والقصد. وإذا كانت العلاقة بين الاسم والمُسمَّى علاقة
انفصام لا يربطها سوى قصد الجماعة التي تتواضع على هذه العلاقة، فإنَّ
العلاقة بين العبارة — التركيب — وما تدلُّ عليه من المعنى النفسي على
المستوى البشري، ومن القصد على المستوى الإلهي هي أيضًا علاقة انفصام.
وبذلك انتهى المعتزلة إلى الفصل بين المعنى واللفظ على مستوى الأفراد، وإلى
الفصل بين العبارة والمعنى على مستوى التركيب.
وليس معنى ذلك أنَّ الأشاعرة لم ينتهوا إلى نفس النتيجة، رغم أنَّهم —
كما سبقت الإشارة — وحَّدوا بين الكلام والمعنى القائم في النفس. فاعتبار
الكلام دلالةً على ما في النفس، والتسوية بين الكلام وبين الخط والإشارة في
الدلالة على هذا المعنى يُؤكِّد هذا الانفصال بين الدلالة والمدلول عليه،
والخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة من هذا الجانب خلاف ديني أو كلامي كما سبقت
الإشارة.
أمَّا كيف تنتقل الدلالة اللغوية من مستوى الحقيقة إلى مستوى المجاز،
وكيف يمكن أن تُعبِّر، من ثَم، عن قصد المُتكلِّم ومعانيه؛ فذلك أمر
سيتناوله النص التالي بالتفصيل.