(١) نظرة تاريخية
يُحسُّ الباحث أنَّ من الضروري قبل بيان كيفية الانتقال في اللغة عند
المعتزلة من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، البدء ببيان الجوانب
المُتعدِّدة التي دخلت تحت مفهوم المجاز. ويُعدُّ الجاحظ — كما سنرى — أول
مَن تبلور على يدَيه مصطلح المجاز باعتباره قسيمًا للحقيقة ومُقابلًا لها.
وقد حدَّد ابن قتيبة (ت٢٧٦ﻫ) — المتأثِّر بالجاحظ بشكل واضح — جوانب المجاز
وجعلها تشمل «الاستعارة والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار
والإخفاء والإظهار والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد
مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنَين،
والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم وبلفظ العموم لمعنى الخصوص، مع أشياء أخرى كثيرة.»
١ وهي كلها ظواهر أسلوبية تعني التغيُّر في الدلالة، والخروج بها
عن دلالة المواضعة الشائعة. والذي يهمنا هنا هو تحديد كيفية بلورة هذه
الجوانب على يدَي المُفسِّرين منذ ابن عباس حتَّى وصلت إلى الجاحظ
وابن قتيبة.
ويُعدُّ مصطلح «المثل» أكثر المصطلحات المجازية ورودًا في القرآن
الكريم، سواء في أصله الثلاثي أو في مشتقاته المُتعدِّدة، وهو يتراوح بين
عدَّة معانٍ أهمها «الصفة العجيبة كأنَّها لغرابتها يُشبَّه بها ويُتمثَّل.»
٢ ومعنى ذلك أنَّ مصطلح «المثل» يُصبح قريبًا جدًّا من معنى
«التشبيه» ويدل عليه. ومِمَّا يؤكِّد هذا التطابق الذي يكاد يكون تامًّا
بين «المثل» و«التشبيه» أنَّ مادة «شبه» في القرآن لا تأتي إلا بمعنى
الاشتباه والاختلاط والتداخل وعدم القدرة على التمييز «شبَّه الشيء
تشبيهًا، أشكل. وشبه عليه، خلط عليه الأمر حتَّى اشتبه بغيره. وشُبِّه عليه
الأمر: لبس علیه.»
٣ والمعنى واضح في المشتقات الأخرى للمادة أنَّه هو الاختلاط،
وذلك في «تشابه» و«مشتبه» و«متشابه».
ولم يرد لفظ «الكناية» في القرآن، وإن وردت المادة في معنى الإخفاء والستر.
٤ وترد في معنى «الكناية» أو قريبًا منها «التعريض»، وهي خلاف
التصريح، وهو «ما توسَّع في دلالته فصار له وجهان ظاهر وباطن»،
٥ وذلك في قوله تعالى
فِيمَا عَرَّضْتُمْ
بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ (البقرة: ٢٣٥).
وقد وردت مادة «جَوَزَ» بمعنى القطع والعبور، وهذا المعنى ليس بعيدًا
عن المفهوم المُتأخِّر لكلمة «مجاز» على أساس أنَّ المجاز هو تجاوز المعنى
الحقيقي للعبارة إلى معنًى آخر يتعلَّق به تعلُّقًا تامًّا.
أمَّا مادة «عَيَرَ» الأصل الاشتقاقي لمصطلح «الاستعارة» فلم ترد في
القرآن الكريم؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون هذا المصطلح أكثر المصطلحات
البلاغية تأخُّرًا في الظهور. وعلى العكس من ذلك كان مصطلح «المثل» مع ما
يُشْتَق منه كالتمثيل، هو أكثر المصطلحات ظهورًا عند المفسرين، وذلك بحكم
كثرة دورانه في القرآن الكريم ودلالته على معنى «التشبيه». وكان مصطلح
«الكناية» أقل ظهورًا من مصطلح «المثل» لقلة وروده في القرآن من جانب،
ولعدم وضوح دلالته البلاغية من جانب آخر.
(أ) مصطلح المثل عند المُفسِّرين
ولقد شاع استخدام مصطلح «المثل» على ألسنة المُفسِّرين مثل ابن عباس
ومجاهد وقتادة والسُّدِّي، ثمَّ على ألسنة اللغويين كأبي عبيدة
والفَرَّاء من بعدُ في تحليلهم للعبارات القرآنية. وإذا كانت الكلمة
تُعدُّ مرادفةً لمفهوم التشبيه، فإنَّها من جانب آخر قد تتسع للدلالة على
معنى التصوير: «ومثَّل له الشيء صوَّره حتَّى ينظر إليه، وامتثله هو تصوَّره.»
٦ وهي بذلك تُشير — إلى جانب دلالتها على التشبيه — إلى القدرة
على التجسيد والتصوير بالعبارات والكلمات. وللكلمة معانٍ أخرى في سياقات
مختلفة يُحاول المبرِّد أن يردَّها كلها إلى معنى «التشبيه»، «المثل
مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يُشَبَّه به حال الثاني بالأول، والأصل
فيه التشبيه، فقولهم «مَثَلَ بين يدَيه» إذا انتصب، معناه أشبه الصورة
المنتصبة، و«فلان أمثل من فلان» أي أشبه بما له من الفضل. والمثال القصاص
لتشبيه حال المقتص منه بحال الأول. فحقيقة المثل ما جُعل كالعَلَم
للتشبيه بحال الأول.»
٧
ومن الضروري الإشارة إلى ما أثارته بعض محتويات الصور القرآنية —
التي عبر عنها بالمثل — من الجدل والاستنكار من غير المسلمين. وقد عبَّر
القرآن نفسه عن هذا الاعتراض بقوله تعالى:
إِنَّ
اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (البقرة: ٢٦)
٨ وتنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب أنَّه لم يفهم معنى بعض
الآيات التي سيقت مساق المثل. ويتساءل عن معنى قوله تعالى:
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا
مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
(البقرة: ٢٦٦). ولكن أحدًا من الحاضرين لم يستطع أن يُفسِّر له معنى هذه
الآية «حتَّى قال ابن عباس — وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في
نفسي منها شيئًا. قال: فتلفَّت إليه فقال: تحوَّل ها هنا. لِمَ تحقر
نفسك؟ قال: هذا مَثَل ضربه الله عزَّ وجلَّ. فقال: أيود أحدكم أن يعمل
عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتَّى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن
يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء،
فأفسده كله، فحرقه أحوج ما يكون إليه.»
٩ وهذه الرواية، إن صحَّت، ولم تكن مجرَّد رغبة من الرواة
لبيان فضل ابن عباس وعلمه، تُعدُّ دلالةً على تلك الجدة الأسلوبية التي
أثارت إعجاب العرب وحيرتهم في نفس الوقت، حتَّى اضطربوا في تحديد تلك
الخاصية المُميِّزة للقرآن، ومن ثمَّ حاولوا ربطه بالشعر والسحر
والكهانة. والآية في سياقها العام لا تخرج عن فهم ابن عباس لها، وكلمة
«المثل» ترد في صدر الآية التي قبلها.
وإلى جانب مصطلح «المثل» يرد مصطلح «الكناية» في تفسير ابن عباس
قريبًا جدًّا من معناه البلاغي، بل إنَّ ابن عباس يلمح الفارق بين
التعبير المباشر والكناية، وذلك عندما يُفسِّر كلمات مثل «الرفَث»
و«المباشرة» و«المس» بقوله إنَّها تعني «الجماع، ولكن الله كريم يكني ما
شاء بما يشاء.»
١٠ وبذلك يلمح — من بعيد — وظيفة التعبير بالكناية، وترك المعنى
المباشر الذي قد يخدش الحياء، أو يصدم الشعور، أو ترى فيه الجماعة عيبًا
لا يجب التفوُّه به صراحة. ولكن هذا المصطلح يرد على قلة، على عكس مصطلح
«المثل» الذي يرد كثيرًا.
ومن الضروري الإشارة إلى أنَّ اجتهادات ابن عباس في تفسير النص
القرآني، لم تكن بعيدةً عن جو التأويل والجدل الديني الذي بدأ بانشقاق
الخوارج على علي ابن أبي طالب نتيجة رفضهم لمبدأ التحكيم. ولقد كان
ابن عباس — فيما يُقال — هو رسول علي بن أبي طالب لمجادلة الخوارج
ومحاولة إقناعهم بخطأ موقفهم وصحة موقف علي. ولم يخلُ هذا الجدل من
الاستشهاد بالقرآن من كلا الطرفَين على صحة موقفه واتساقه مع معطيات
القرآن، حتَّى تحوَّل النزاع — على مستوى الجدل الديني — إلى فهم النص
القرآني نفسه والاستدلال به. وهذا كله ما جعل علي بن أبي طالب ينهى
ابن عباس عن مجادلة الخوارج بالقرآن: «فخاصِمهم ولا تُحاجهم بالقرآن؛
فإنَّه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسُّنة.»
١١ ولكن ابن عباس — فيما يبدو — لم يكن في موقف الاختيار. والذي
نودُّ أن نُشير إليه — إنْ صحَّت الرواية — أنَّ هذا الإحساس المُبكِّر
بتعدُّد الوجوه في التعبير القرآني يُنْبِئ عن تصوُّرٍ ما لإمكانية
تعدُّد الدلالة. وابن عباس هو الذي يتهم الخوارج بقصور الفهم والعجز عن
إدراك معاني القرآن؛ فقد «ذُكر عنده الخوارج وما يلقَون عند القرآن، قال:
يؤمنون بمُحْكَمِه، ويهلكون عند متشابهه.»
١٢
ومِمَّا يرويه الطبري عن ابن عباس رواية مؤداها أنَّه لم يتقبَّل
القراءة المشهورة للآية الكريمة
فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (البقرة: ١٣٧)
على أساس أنَّها تثبت مثلًا لله يُمكن الإيمان به: «لا تقولوا فإنْ آمنوا
بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا — فإنَّه ليس لله مِثْل — ولكن قولوا: «فإنْ
آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا.»
١٣ ومن المحتمل — إن صحَّت الرواية — أنَّ ابن عباس كان مدفوعًا
إلى ذلك رغبةً منه في نفي أي شبيه أو مِثْل لله، خصوصًا مع ما ذهب إليه
ابن سبأ من تأليه الأئمة والقول بالرجعة.
ولم يكن الجدل حول القرآن وقفًا على الفِرق وحدها، أو على الجدل بين
المسلمين وغيرهم من أهل الأديان، كاليهود والنصارى كما سنُشير من بعد. بل
توقَّف كثير من المسلمين عند بعض آيات القرآن متسائلين عن المعنى الحقيقي
وراء صورتها اللفظية. فيروي الطبري عن الربيع أنَّه «لمَّا نزلت
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قال
أصحاب النبي
ﷺ یا رسول الله، هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف
العرش؟ فأنزل الله تعالى:
وَمَا قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إلى قوله:
سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
١٤ وإذا كان الرسول قد سكت عن تساؤل المتسائلين تاركًا لله —
عزَّ وجلَّ — الرد عليهم واستنكار هذا السؤال الذي ينمُّ عن جهل بحقيقة
الألوهية، فإنَّ ابن عباس — والجدل قد اشتدَّ واتسع مداه — يُفسِّر الآية
على أنَّ «كرسيه: علمه»،
١٥ وهو تأويل يُقرِّبنا من جو التأويل الاعتزالي الذي يهدف إلى
نفي مشابهة الله للبشر أو حلوله في المكان.
لم يكن المُفسِّر القديم إذنْ بعيدًا عن الجدل والصراع الكلامي، ومن
ثمَّ لم یكن استخدامه لوسائله التحليلية للنص القرآني بعيدًا عن هذا
الجدل. وليست كلمة «المثل» في الآية التي حاول ابن عباس تعديل قراءتها
بعيدةً عن المصطلح البلاغي الذي كثيرًا ما استخدمه لتحليل آيات القرآن،
بل إنَّ ما توهَّمه من معنى «الشبه» هو الذي دفعه لتغيير قراءتها. ولقد
استخدم مجاهد — تلميذ ابن عباس — هذا المصطلح في تأويل آية على غير
ظاهرها، وهو تأويل استنكره الطبري استنكارًا شديدًا، وذلك في قوله تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ
فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ
حيث يقول: «لم يُمْسَخوا، إنَّما هو
مَثَل ضربه الله لهم، مِثْل ما ضَرَب مَثَل الحمار يحمل أسفارًا.»
١٦ ولم يكن مجاهد بعيدًا عن الجدل العقائدي، وما يُحكى عن نزعته
العقلية، وما نُسِب إليه «من الميل إلى تتبُّع التصوُّرات الأسطورية
بالدرس والفحص، والانتقال بنفسه إلى الأماكن التي يتصل بها شيء من
الخوارق الخرافية، ليجد لنفسه تفسيرًا لها عن عِيان وشهادة»،
١٧ كل ذلك يُقرِّبه من المعتزلة أكثر مِمَّا يُباعده عنهم.
وتأويلاته الكثيرة لآيات القرآن تتفق مع التأويلات الاعتزالية حتَّى
ليعده جولد تسيهر رائدًا لهم في مسائل كثيرة في التأويل، وينحصر فضل
المعتزلة عنده في أنَّهم «جعلوا هذه الطريقة تستوعب جميع دائرة العبارات
القرآنية الدالة على التشبيه.»
١٨
(ب) مقاتل بن سليمان والإحساس بتعدُّد الدلالة
ومِمَّا يؤكِّد الارتباط بين تطوُّر المصطلح البلاغي والخلافات
العقائدية، أنَّ أول كتاب مُتخصِّص يصلنا في تحليل النص القرآني هو
لمقاتل بن سليمان (ت١٥٠ﻫ) الذي تَنْسِب إليه المصادر القول بالتجسيم، كما
تَنْسِب إليه مجادلته لجهم بن صفوان (ت١٢٨ﻫ). وقد سبقت الإشارة — في
التمهيد — إلى دور جهم في ثورة الحارث بن سريج في عهد هشام بن عبد الملك،
وكان مقاتل في المعسكر المعادي للحارث. والْتقى كلٌّ من جهم ومقاتل
كممثِّلَين لاتجاهَين متعارضَين، سياسيًّا وفكريًّا. وعنوان الكتاب
«الأشباه والنظائر»، بل والكتاب نفسه بمنهجه وطريقة تناوله للنص القرآني
يكشف عن ذلك الإحساس بتعدُّد دلالات اللفظ الواحد تبعًا لتعدُّد السياقات
واختلافها، وهو بذلك يُقرِّبنا خطوةً إلى جو «المجاز» بمعناه الاصطلاحي.
ويُعدُّ الكتاب بذلك تطبيقًا لِمَا سبق أن ألمح إليه علي بن أبي طالب من
قبلُ من أنَّ «القرآن حمَّال أوجه»، وهذا الإحساس بتعدُّد دلالات اللفظ
الواحد في القرآن ظلَّ يلحُّ على أفئدة المُفسِّرين ويؤرِّقهم، حتَّى صار
موضوع «الوجوه والنظائر» فرعًا من فروع الدراسات القرآنية، كالناسخ
والمنسوخ، والإعراب … إلخ، وهو فرع يُعرِّفه السيوطي بقوله: «فالوجوه
اللفظ المشترك الذي يُسْتَعْمَل في عدة معانٍ كلفظ الأُمة … وقيل النظائر
في اللفظ والوجوه في المعاني.»
١٩ وكتاب مقاتل يتعرَّض لبعض الألفاظ والعبارات، بل والحروف
أيضًا، التي وردت في القرآن، ويُحاول أن يحصر «وجوه» معاني هذه الألفاظ
والعبارات والحروف، مستشهدًا على كل وجه من هذه الوجوه بمجموعة من الآيات
القرآنية. والذي نُلاحظه أنَّ مقاتلًا معني بالدرجة الأولى بشرح معنى
اللفظ في سياقاته المختلفة. ومعنى ذلك أنَّ فكرة الانتقال في الدلالة من
معنًى إلى معنًى باللفظ الواحد كانت واردةً في ذهن مقاتل، وإن لم يشغل
نفسه بمحاولة الكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الدلالات أو الوجوه
المختلفة للفظ الواحد. وتسمية المعاني نفسها باسم «وجوه» يؤكِّد وجود ذلك
الإحساس بتعدُّد الدلالات للفظ الواحد واختلافها من سياق إلى سياق ومن
تركيب إلى تركيب. يقول مقاتل مُعبِّرًا عن ذلك الإحساس: «لا يكون الرجل
فقيهًا كل الفقه حتَّى يرى للقرآن وجوهًا كثيرة.»
٢٠ ويُدرك مقاتل إدراكًا واضحًا أنَّ للفظ الواحد معنًى
مُحدَّدًا أو وجهًا مُحدَّدًا، ويُدرك أنَّ باقي الوجوه أو المعاني فروع
لذلك المعنى أو الوجه. وحين يُشير إلى ذلك الوجه أو المعنى الأصلي — إن
صحَّ لنا استخدام هذه الكلمة الآن — يقول «كذا عينه». وهو يعني بذلك أنَّ
هذا الوجه من وجوه معاني اللفظ هو الوجه المعروف المتداول، والذي يطرأ
على الذهن لأول وهلة؛ فكلمة «الموت» مثلًا لها خمسة وجوه، الأربعة الأولى
كلها معانٍ فرعية، كأن يُشار بها في القرآن إلى النُّطَف التي لم تُخلَق،
أو إلى الضال عن التوحيد، أو إلى جدوبة الأرض وقلة النبات، أو إلى ذهاب
الروح عقوبةً بغير أن يستوفوا الأرزاق. ثمَّ يُشير مقاتل إلى الوجه
الخامس — الأصلي — بقوله: «الموت بعينه، ذهاب الروح بالآجال وهو الموت
الذي لا يرجع صاحبه إلى الدنيا، فذلك قوله
إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقوله:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ،
٢١ وهذا الوجه الخامس هو المعنى المباشر — أو الأصلي — لكلمة
«الموت»، أمَّا باقي الوجوه الأربعة فهي معانٍ فرعية أو دلالات
ثانوية.
ويسلك مقاتل نفس المسلك إزاء بعض العبارات والتراكيب القرآنية،
فيتوقَّف عند عبارات «الحسنة والسيئة» و«الظلمات والنور» و«الطَّيب
والخبيث» و«أقام الصلاة» و«ما بين أيديهم وما خلفهم» و«مُستقَر ومُستودَع»،
٢٢ ولا يختلف بيانه لوجوه هذه العبارات ومعانيها كثيرًا عن
بيانه لوجوه الألفاظ، بمعنى أنَّه يُشير إلى الوجوه الفرعية، أو الدلالات
غير المباشرة، كما يُشير إلى الوجه الأصلي أو الدلالة المباشرة؛ فعبارة
«الظلمات والنور» — على سبيل المثال — لها وجهان: «فوجه منهما: الظلمات،
يعني الشرك، فذلك قوله في البقرة
اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ، يعني يُخرجهم من الشرك إلى الإيمان، نظيرها عنده. وقال
في الأحزاب
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ، يعني من الشرك إلى الإيمان، ونحوه كثير. والوجه
الثاني: الظلمات: الليل، والنور، يعني النهار، فذلك قوله في الأنعام:
الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، يعني جعل الليل
والنهار ليس مثلهما في القرآن.»
٢٣ ولا يتوقَّف مقاتل — وهذا طبيعي — أمام التعبير بالظلمات
والنور عن الشرك والإيمان ليُبيِّن العلاقة بين الوجهَين؛ وذلك لأنَّ
غايته هي إيراد المعنى المباشر لهذه الألفاظ والعبارات ووجوهها المختلفة
في القرآن.
وكما تتعدَّد وجوه اللفظ الواحد، تتعدَّد كذلك وجوه الحرف الواحد،
ويتعرَّض مقاتل في هذا الصدد للوجوه المختلفة للحروف، ولكنَّه لا يُشير
في أيٍّ من هذه الحروف أو الأدوات إلى وجه أصلي ووجوه فرعية أو ثانوية،
بل تتساوى وجوه الحرف الواحد في إمكانية ورودها. والكتاب — من هذه الوجهة
— يُعدُّ أقدم كتاب وصلنا في معاني الحروف، مِمَّا يؤكِّد أنَّ تفسير
القرآن، أو الدراسات القرآنية عمومًا، كانت في الحضارة الإسلامية هي
البيئة الطبيعية التي نضجت في أحضانها كل فروع الدراسات اللغوية
والبلاغية.
وإلى جانب هذه الدراسة التي قرَّبت المُفسِّر من مفهوم «المجاز»، نرى
أنَّ مصطلح «المثل» يتقدَّم خطوةً للإمام، حيث يكشف مقاتل عن العلاقة بين
المعنى الأصلي والمعنى المجازي في المثل؛ وذلك حين يُفسِّر الوجوه
المختلفة لكلمة «ماء» في القرآن؛ فهو يرى أنَّ لها وجوهًا ثلاثة هي
المطر، والنطفة، «والوجه الثالث: الماء: يعني القرآن، كما أنَّ الماء
حياة الناس، كذلك القرآن حياة لمن آمن به.»
٢٤
(ﺟ) أبو عبيدة وأنواع المجاز
وإذا كان مقاتل بن سليمان صاحب ميول تجسيدية واضحة، وذا نزعة إرجائية
معروفة، وهو أول من وصلَنا عنه كتاب في «الأشباه والنظائر»، فإنَّ أول
كتاب يصلنا بعنوان «مجاز القرآن» هو لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت٢٠٧ﻫ) الخارجي.
٢٥ وفي نفس الفترة تقريبًا نلتقي بكتاب «معاني القرآن» للفرَّاء
(ت٢٠٩ﻫ) وله ميول اعتزالية أشار إليها الدارسون. وكما فعلنا مع كتاب
مقاتل، سنكتفي هنا بمحاولة رصد ما يندرج تحت مفهوم المجاز من أساليب،
تاركين الكشف عن الجوانب الكلامية في هذه المؤلفات للفصل الخاص بالتأويل.
ولا شكَّ أنَّ طبيعة ثقافة كلٍّ من أبي عبيدة والفَرَّاء قد أثَّرت —
بشكل أو بآخر — على زاوية رؤية كل منهما للتركيب القرآني، وعلى طريقة
تحليلهما لهذا التركيب وتذوُّقهما له. والدوافع التي دفعت كُلًّا منهما
لتأليف كتابه تكشف — من جانب آخر — عن وجود مجموعة من العوامل الخارجية
أهمها استغلاق النص القرآني على أفهام كثيرين من رجال الدولة ذوي الأصول
الأعجمية في غالب الأحيان، هذا إلى جانب أخطائهم في نطق القرآن أو اللحن
فيه. وكان من أثر ذلك كله أن تطوَّرت مهمة المُفسَّر قليلًا عن ذي قبل،
فصار عليه أن يتناول النص القرآني من زاوية التركيب كما يتناوله من زاوية
شرح الغامض من ألفاظه. وعلاوةً على ذلك كان عليه أن يتناول الجانب
الإعرابي. وبمعنًى آخر كان على هؤلاء المُفسِّرين أن يخوضوا في مباحث
بلاغية وأسلوبية أكثر اتساعًا مِمَّا تعرَّض له المُفسِّرون السابقون،
بحكم هذه المهمة التي كانت تُواجههم.
وإذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة والبلاغة،
وتُدْخِل في صميم عملها جنبًا إلى جنب دراسة «موقع اللفظ، والتكرار،
والوسائل الإيقاعية والموسيقية، والاستعارة والرمز والصورة»،
٢٦ فكذلك كان الأمر في تراثنا القديم، حيث كانت الدراسة
البلاغية متداخِلةً مع الدراسة اللغوية في كُتب النحاة الأوائل أمثال
«سيبويه»، حتَّى اعتبره بعض الباحثين «واضع علمَي المعاني والبيان»
٢٧ واعتبر أنَّ أبا عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» لم يفعل أكثر
من أنَّه سلك مسلك سابقيه من اللغويين من ربط النحو بالأساليب والتراكيب،
على عكس ما فعل المُتأخِّرون حيث قصروه على أنَّه «علم يُعْرَف به أحوال
أواخر الكلم إعرابًا وبناءً»، «والنحو بالمعنى الذي عناه المُتقدِّمون هو
الذي عنى مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عندما سمَّى كتابه
«المجاز في القرآن»، وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم
وبيان ما قد يطرأ على الجملة العربية من تقديم أو تأخير أو حذف إلى نحو ذلك.»
٢٨ ومعنى ذلك أنَّ مفهوم المجاز عند أبي عبيدة يتسع ليشمل كل ما
يندرج تحت دراسة الأساليب. ومِمَّا يؤكِّد هذا المفهوم عند أبي عبيدة ما
يحكيه هو نفسه عن سبب تأليف كتابه من أنَّ كاتبًا للفضل بن ربيع سأله عن
قوله تعالى
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ، وقال: إنما يقع الوعد والإيعاد بما عُرِفَ مثله
وهذا لم يُعْرَف، فقال له أبو عبيدة: «إنَّما كلَّم الله تعالى العرب على
قدر كلامهم، أمَا سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زُرق
كأنياب أغوال
وهم لم يرَوا الغول قط،
ولكنَّهم لمَّا كان أمر الغول يهولهم أُوعِدوا به. فاستحسن الفضل ذلك
واستحسنه السائل، وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابًا في القرآن في مثل هذا
وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلمَّا رجعتُ إلى البصرة عملت كتابي
الذي سمَّيته «المجاز».
٢٩ وهذا الذي يحكيه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمرين؛ الأمر الأول
أنَّ التساؤل يصدر عن كاتب للفضل بن ربيع، وهو في الغالب من الفُرس
المُتعرِّبين الذين لا يُدركون أسرار التركيب العربي، وإن عرفوا مفرداته
وأساليبه الشائعة. ومثل هذا يتوقَّف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق
والقواعد التي درس على أساسها اللغة، وقد يدفعه ذلك إلى رفض التركيب
واتهامه بالخطأ. وغني عن البيان أنَّ أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق
دائمًا عن إمكانيات الواقع الحي للغة وتراثه، ويظل مَن يتعلَّم اللغة —
ولفترة طويلة جدًّا — في حدود القواعد والحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى
رحابة الأساليب الفنية للغة، تلك الأساليب التي تخضع القواعد لها دون أن
تخضع هي للقواعد. والأمر الثاني الذي يلفتنا إليه كلام أبي عبيدة أنَّه
يردُّ المثال القرآني الذي سُئِل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن
عليها. ومنهجه في الكتاب كله يقوم على ذلك، بمعنى أنَّه يُحاول شرح
التركيب، ثمَّ يستشهد على صحته بأبيات من الشعر أو العبارات القرآنية.
ويُعدُّ هذا المسلك من جانب أبي عبيدة استمرارًا للتقليد الذي رفع شعاره
ابن عباس: «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإنَّ الشعر
ديوان العرب.»
٣٠
ومعنى هذا كله أنَّ مصطلح «المجاز» عند أبي عبيدة، وإن ظلَّ شديد
الالتصاق بمعناه اللغوي، فإنَّه كان يديره «على أمر في نفسه، وأنَّه
التزم فكرةً بعينها كانت تشغل ذهنه، فلم تكن هذه الكلمة تُعبِّر عن مدلول
كلمة تفسير، أو كلمة معنًى بصفة مطلقة، وإن كان هذا لا ينفي إطلاقها
أحيانًا في ذلك المعنى.»
٣١
والحذف — وهو ظاهرة أسلوبية — يُعدُّ من المجاز عند أبي عبيدة.
ويُشْتَرط في الحذف، أو في المحذوف، أن يكون مِمَّا يُمكن أن يعلمه
المُخاطب. وفي تعليقه على قوله تعالى: فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ يقول: «العرب
تختصر لعلم المخاطب بما أُريد به، فكأنه خرج مخرج قولك: فأمَّا الذين
اسودت وجوههم فيُقال لهم أكفرتم، فحُذِف هذا واختصر في الكلام.» ويُستشهد
على ذلك بما قال الأسدي:
كذبتم وبيتِ الله لا تنكحونها
بني شاب
قرناها تصر وتحلب
ويقول: «أراد بني التي شاب قرناها، وقال النابغة الذبياني:
كأنَّك من جمال بني أقيش
يقعقع خلف
رجلَيه بشن
يقول: كأنَّك جمل يقعقع خلف الجمل بشن، ففُهم عنه ما أراد.»
٣٢ ومن الواضح أنَّ وظيفة الحذف هي الاختصار، وشرطه ألَّا
يُخلَّ الحذف بوضوح المعنى.
ومثال ثانٍ يؤكِّد ما نذهب إليه، وذلك في تحليله لقوله تعالى
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ حيث يقول: «سُقوه حتَّى غلب عليهم، مجازه، مجاز
الاختصار، أُشربوا في قلوبهم العجل، حب العجل، وفي القرآن
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ مجازها: أهل القرية.»
٣٣
فإذا تركنا الحذف إلى وسائل
التعبير التصويرية كالتشبيه والتمثيل والاستعارة فسنجد أبا عبيدة يلجأ
لتبسيط التراكيب الاستعارية والتمثيلية بدلًا من أن يُحلِّلها ويتذوَّقها
ويكشف عن مناحي الجمال فيها، فقوله سبحانه
كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ يصبح معناه «ميِّتة»، وقوله
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
يتحوَّل إلى «الزموا المسكنة»، وقوله
وَأَلْقَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ يصير «جعلنا». أمَّا أخذ
الله للأسماع والأبصار في الآية
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ «فمجازه إنْ أصمَّ
الله أسماعكم وأعمى أبصاركم»، وقوله تعالى
فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ معناه
«قالوا: إنَّكم لكاذبون. وتُصْبِح الهبة الإلهية
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي «مجازه جعلت محبةً مني
في صدور الناس». و
تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ مجازه تقبلونه ويأخذه بعضكم عن بعض». وكذلك
قوله
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ
«مجازه وجعل فيها رواسي أي جبالًا قد رست أي ثبتت»، وقوله تعالى
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ تصير «يأتي بالحق».
٣٤
وفي هذه الآيات كلها يبدو التركيب القرآني — في شرح أبي عبيدة — كما
لو كان فيه إطالة تحتاج للحذف والاختصار. وبذلك يتعادل التركيب المُعقَّد
والتركيب البسيط ليُعبِّرا عن معنًى واحد في النهاية. ومعنى ذلك كله أنَّ
أبا عبيدة أدرك أنَّ في هذه التعبيرات جميعًا شيئًا غير عادي، شيئًا
يحتاج للتوضيح كما احتاج التشبيه برءوس الشياطين إلى الشرح والتوضيح. وهو
وإن كان لم يُبيِّن الفارق الدقيق بين مستويَي التعبير المجازي والتعبير
الحقيقي، فإنَّ مُجرَّد توقُّفه أمام هذه النماذج ووضعه إياها تحت المجاز
يُعدُّ نقلةً كبيرة في إنضاج مفهوم المجاز وتطويره.
ومن إنجازات أبي عبيدة أنَّه
يلتفت إلى ما يُمكن أن نُطلق عليه أسلوب «التشخيص» في القرآن، وهو إطلاق
صفات إنسانية على الحيوان والجماد. غير أنَّ
ما يلفت نظر أبي عبيدة إلى هذا
الأسلوب هو استخدام ضمائر العاقل بدلًا من ضمائر غير العاقل. والأمثلة
التي يتوقَّف أمامها هي قوله تعالى قَالَتْ نَمْلَةٌ
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ يقول: «هذا من
الحيوان الذي خرج مخرج الآدميين، والعرب قد تفعل ذلك. قال:
شربت إذا ما الديك يدعو صباحه
إذا ما
بنو نعش دنوا فتصوَّبوا»
٣٥
ويقول في قوله تعالى
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ «هذا مجاز الموات
الذي يُشبه تقدير فعله بفعل الآدميين»، وهي نفس النظرة التي ينظر بها إلى
الآيات
وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
و
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مَّسَمًّى.
٣٦
(د) الفَرَّاء وبلورة المصطلح
إذا تركنا أبا عبيدة، وانتقلنا لمُعَاصِره الفَرَّاء، فسنجد تحديدًا
أدقَّ لمفهوم المجاز، أو التجاوز في الدلالة عمومًا. وإذا كان الفَرَّاء
لم يستخدم كلمة «مجاز» التي جعلها أبو عبيدة عنوانًا لكتابه، فإنَّه
استخدم صيغة الفعل «تجوَّز» وذلك حين تعرَّض لقوله تعالى
فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ، حيث اعتبر إسناد
الربح إلى التجارة تجوُّزًا في التعبير. وهذا الاستعمال للفعل «تجوَّز»
في هذا السياق يعني أنَّ مفهوم «المجاز» أو «التجوُّز» قد تقدَّم على يد
الفَرَّاء خطوةً بعد أبي عبيدة، وذلك أنَّ معنى «تجوَّز في كلامه أي
تكلَّم بالمجاز.»
٣٧
يقول الفَرَّاء في تعليقه على هذه الآية: «ربما قال القائل: كيف تربح
التجارة وإنَّما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر
بيعك، فحسن القول بذلك؛ لأنَّ الربح والخسران إنَّما يكون في التجارة،
فعلم معناه، ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله:
فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ وإنَّما العزيمة
للرجال، ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك، لم
يجز ذلك إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارةً يربح فيه أو يوضع؛ لأنَّه قد
يكون العبد تاجرًا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه
إذا كان مُتجوِّزًا فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك وخسر
بَزُّك ورقيقك، كان جائزًا لدلالة بعضه على بعض.»
٣٨ ولعله من المفيد أن نتوقَّف قليلًا أمام هذا النص مُحاولين
استجلاء مفهوم التجاوز في التعبير عند الفَرَّاء. وأول ما يلفت الانتباه
في هذا النص مُحاولة الفَرَّاء — شأن أبي عبيدة والمُفسِّرين قبله — أنْ
يردَّ العبارة القرآنية إلى كلام العرب، ثمَّ أن يُبيِّن أنَّ سبب
التجاوز هو أنَّ «الربح والخسران إنَّما يكون في التجارة فعلم معناه»؛ أي
إنَّ التجاوز في الإسناد لم يُؤدِّ إلى غموض المعنى بسبب تلك الصلة
القائمة بين التاجر — الفاعل الحقيقي للربح — وبين التجارة — التي يحدث
فيها الربح — ولذلك فذهن القارئ ينصرف فورًا إلى أنَّ المعنى هو ربح
التاجر في التجارة. والرغبة في وضوح المعنى هي التي تجعل الفَرَّاء يرفض
التجاوز في مثل «خَسِرَ عبدك» إذا كنت تريد أن تجعل العبد تجارةً لا
تاجرًا. والذي يجعل الفَرَّاء يرفض التجاوز في هذا التركيب أنَّ جملة
«خَسِر عبدك» تحتمل معنيَين؛ المعنى الأول: أن يكون العبد تاجرًا في مال
سيده فيخسر، وبذلك يكون الإسناد حقيقيًّا لا مجازيًّا. والمعنى الثاني:
أن يكون العبد نفسه تجارةً يخسر فيها السيد، وهنا يكون الإسناد مجازيًّا،
أو مُتجوزًا فيه على حد تعبير الفَرَّاء. يرفض الفَرَّاء هذا التركيب
لأنَّه يؤدِّي إلى غموضٍ يعوقنا عن فهم المراد؛ وذلك لأنَّه يحتمل
الإسناد الحقيقي والمجازي معًا دون مرجِّح أو قرينة ترجِّح بينهما. فإذا
ورد تركيب مُشابه لهذا التركيب في سياق يُفْهَم منه المعنى كأن تقول «قد
ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزُّك ورقيقك»، كان جائزًا لدلالة بعضه على
بعض. والذي يهمنا في هذا النص هو التفات الفَرَّاء لمعنى التجاوز في
التعبير، واستخدامه لكلمة «التجوُّز» التي هي أقرب إلى كلمة «مجاز»، ثمَّ
إدراكه للعلاقة بين المجاز والحقيقة في إسناد الفعل إلى غير فاعله؛ وذلك
لوجود علاقة بين الفاعل الأصلي والفاعل النحوي في العبارة.
وإذا كان الفَرَّاء قد تنبَّه — في النص السابق — إلى التجاوز في
إسناد الفعل إلى غير فاعله، فهو في مواطن كثيرة يتنبَّه إلى هذا التجاوز،
دون أن يُشير إلى كلمة «التجوُّز» التي كثرت إشارته إليها في النص
السابق، بل يستخدم كلمةً قريبة جدًّا من معنى التجوُّز هي «الاتساع». يقف
أمام قوله
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ ويقول: «المكر ليس لليل ولا للنهار، وإنَّما
المعنى: بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن نُضيف الفعل إلى الليل
والنهار، ويكونا كالفاعلَين؛ لأنَّ العرب تقول: نهارك صائم، وليلك نائم،
ثمَّ تُضيف الفعل إلى الليل والنهار، وهو في المعنى للآدميين كما تقول:
نام ليلك، وعزم الأمر، إنَّما عزمه القوم. فهذا مِمَّا يُعْرَف معناه
فتتسع به العرب.»
٣٩ ويُلح الفَرَّاء هنا كما في المثال السابق على وضوح الدلالة
«فهذا مِمَّا يُعْرَف معناه.»
وإذا كان التجاوز في المثالَين السابقَين تجاوزًا في الإسناد، فثمَّ
نوع آخر من التجاوز يكون في دلالة الصيغة الصرفية؛ فصيغة «فاعل» تدل على
اسم الفاعل، ولكنَّها قد يُتجوَّز بها فتدل على اسم المفعول. ومن الطبيعي
أن يقف نحوي كالفَرَّاء أمام هذه الظواهر ليتأمَّلها ويُحاول أن يردَّها
إلى ما هو معروف من كلام العرب. يتوقَّف مثلًا أمام قوله تعالى:
فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فيقول: «فيها الرضاء، والعرب
تقول: هذا ليل نائم، وسر كاتم، وماء دافق، فيجعلونه فاعلًا، وهو مفعول في
الأصل، وذلك أنَّهم يُريدون وجه المدح والذم، فيقولون ذلك لا على بناء
الفعل، ولو كان فعلًا مُصرَّحًا لم يقل ذلك فيه؛ لأنَّه لا يجوز أن تقول
للضارب مضروب، ولا للمضروب ضارب؛ لأنَّه لا مدح فيه ولا ذم.»
٤٠ والفَرَّاء هنا يُحدِّد وظيفةً للانتقال بالصيغة عمَّا
وُضِعَت له من دلالتها الصرفية إلى دلالة أخرى، هذه الوظيفة هي المدح أو
الذم. والمقصود بالمدح والذم هنا هو التعبير عن شيء وراء الوصف الظاهري.
وبدون هذا الشيء لا يصح استخدام الصيغة في غير ما وُضِعَت له، ومعنى ذلك
أنَّ الانتقال بالصيغة من معنى الفاعل إلى معنى المفعول يتضمَّن مدحًا أو
ذمًّا لا تُعبِّر عنه الصيغة في دلالتها الأصلية.
يتوقَّف الفَرَّاء أيضًا أمام ما سيُطلِق عليه فيما بعدُ اسم «المجاز
المرسل»، وذلك عند قوله تعالى: كُنْتُمْ
تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ يقول: «كنتم تأتوننا من قبل
اليمين؛ أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه. واليمين: القدرة والقوة.
وكذلك قوله فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا
بِالْيَمِينِ؛ أي بالقوة والقدرة. وقال الشاعر:
إذا ما غاية رُفعت لمجد
تلقَّاها
عرابة باليمين
أي بالقدرة والقوة.»
٤١ وكذلك يتوقَّف الفَرَّاء أمام قوله تعالى
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ليقول: «يريد
أولي القوة والبصر في أمر الله»
٤٢ «وقوله عزَّ وجل:
بِأَيْدٍ بقوة.»
٤٣ ولا يُشير الفَرَّاء في هذه الأمثلة للعلاقة المجازية بين
الأيدي والقوة، ولكنَّه في مثال آخر يُحاول توضيح هذه العلاقة، وذلك حين
يتعرَّض لقوله تعالى
يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، حيث يقول: «السجود في هذا الموضع
اسم للصلاة لا للسجود؛ لأنَّ التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع.»
٤٤ والعلاقة التي يُشير إليها الفَرَّاء هنا هي علاقة تعبير
الجزء عن الكل؛ فالسجود جزء من الصلاة؛ ولذلك عبَّر عن الصلاة — الكل —
بالسجود — الجزء. والقرينة التي تسمح بهذا التجوُّز أنَّ التلاوة لا تكون
في السجود ولا في الركوع، بل تكون في الصلاة عمومًا ولهذا السبب — أي
بسبب عدم غموض المعنى — جاز هذا التعبير.
ويتوقَّف الفَرَّاء، شأن مُعاصره أبي عبيدة، أمام مجاز الحذف في آيات
كثيرة، وهو يسلك مسلكه في الحرص على تعيين المحذوف وتحديده. يقف أمام
قوله تعالى:
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ليقول «معناه —
والله أعلم — فضرب فانفجرت. فعُرف بقوله «فانفجرت» أنَّه قد ضرب، فاكتفى
بالجواب؛ لأنَّه أدَّى عن المعنى. فكذلك قوله
أَنِ
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ، ومثله في الكلام أن
تقول: أنا الذي أمرتك بالتجارة فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجرت فاكتسبت.»
٤٥ ومن الواضح أنَّ الفَرَّاء يهتم بوضوح المعنى الذي يجوز معه
الحذف، ما دام الحذف لن يعوق المُتلقِّي عن فهم المعنى المراد.
ومِمَّا يؤكِّد المدخل النحوي للوقوف الطويل أمام مجاز الحذف، بحث
الفَرَّاء عن «الفاء» في جواب «أمَّا» في قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، وهي
نفس الآية التي توقَّف أمامها أبو عبيدة وإن لم تشغله قضية «الفاء»، وهذا
هو الفارق بين لغوي — كأبي عبيدة — يبحث عن استواء العبارة، وبين نحوي
كالفَرَّاء يبحث عن استواء القاعدة. يقول الفَرَّاء: «إنَّ «أمَّا» لا
بُدَّ لها من الفاء جوابًا فأين هي؟ فيُقال: إنَّها كانت مع قول مُضْمَر،
فلمَّا سقط القول سقطت الفاء معه.
والمعنى — والله أعلم — فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم فيقال: أكفرتم،
فسقطت الفاء مع «فيُقال»، والقول قد يُضمَر. ومنه في كتاب الله شيء كثير،
من ذلك قوله
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا وقوله
وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا وفي قراءة عبد الله
ويقولان ربنا.»
٤٦ والاستشهاد بقراءة ابن مسعود هنا يؤكِّد ما يذهب إليه
الفَرَّاء من أنَّ القول قد يُضْمَر. ومن الطبيعي ألَّا يلتفت الفَرَّاء
وأبو عبيدة للوظيفة الأسلوبية لِمَا أسمَوه «الحذف»، خصوصًا في فعل
القول، تلك الوظيفة التي «تنبع من الرغبة في التمثيل أكثر من مجرَّد القص
أو الإخبار بأحداث القصة.»
٤٧
وذلك لأنَّهما كانا مشغولَين بتوضيح النص القرآني وشرحه وجعله
مفهومًا. وكان من الطبيعي أيضًا أن يتعاملا مع الشعر من نفس الناحية،
منتهيًا إلى الاهتمام بتحديد المحذوف وتعيينه. ويتوقَّف الفَرَّاء أمام
قول الشاعر مُستشهدًا به على وجود الحذف في لغة العرب:
رأتني بحبلَيها فصدَّت مخافةً
وفي
الحبل رَوعاء الفؤاد فروق
ليقول: أقبلت بحبلَيها.
ويتوقَّف أمام قول الآخر:
حنتني حانيات الدهر حتى
كأني خاتل
أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب مَنْ رآني
ولست
مُقيَّدًا أنِّي بقيد
وكما اشترط الفَرَّاء في التجاوز الإسنادي وضوح المعنى والدلالة،
كذلك يشترط لجواز الحذف أن يكون المعنى مفهومًا. فإذا كان الحذف سيُخِلُّ
بالمعنى فهو غير جائز. والذي يُثير القضية عند الفَرَّاء قوله تعالى:
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، «ولم يقل قال الذي لم
يُتقبَّل منه لأقتلنك»، ومثله في الكلام أن نقول: إذا اجتمع السفيه
والحليم حُمِد، تنوي بالحَمد الحليم، وإذا رأيت الظالم والمظلوم أعَنْت،
وأنت تنوي: أعنتُ المظلوم للمعنى الذي لا يشكل. ولو قلت مرَّ بي رجل
وامرأة فأعَنْت، وأنت تريد أحدَهما لم يجُزْ حتى يُبيِّن؛ لأنَّهما ليس
فيهما علامة يُستدَل بها على موضع المعونة، إلا أن تريد فأعنتهما جميعًا.»
٤٩ ومعنى ذلك أنَّ وضوح الدلالة لا بُدَّ أن يُقارن الحذف، ومعه
يجوز. فإذا لم يتعيَّن المحذوف من سياق الكلام لم يجُز الحذف. وقد كان
الفَرَّاء يستطيع — ببساطة — أن يحل المشكلة دون تقدير المحذوف أو
تعيينه؛ ذلك أنَّ المعنى واضح في الآية من السياق. ولو تتبَّعنا مسلك
النُّحاة، لقلنا إنَّ الضمير في «قال» يعود إلى أقرب اسم وهو «الآخر».
ويكون المعنى «قال الآخر لأقتلنك»، وذلك دون حاجة لتقدير محذوف في
الكلام.
ويدخل في أسلوب التجاوز عند الفَرَّاء، استخدام الضمائر العاقلة لغير
العاقل من الحيوان والجماد، وهي ما أطلقنا عليه ظاهرة «التشخيص». ولا
تختلف وقفة الفَرَّاء عند هذه الظاهرة عن وقفة أبي عبيدة إلا في التناول
التفصيلي، حيث اكتفى أبو عبيدة بالإشارة المجملة. يقول الفَرَّاء في قوله
تعالى
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ «فإنَّ
هذه النون والواو إنَّما تكونان في جمع ذكران الجن والإنس وما أشبههم.
فيُقال: الناس ساجدون، والملائكة ساجدون. فإذا عدوت هذا صار المؤنث
والمذكر إلى التأنيث، فيُقال الكباش قد ذبحن وذبحت ومذبحات، ولا يجوز
مذبحون. وإنَّما جاز في الشمس والقمر والكواكب بالنون والياء لأنَّهم
وصفوا بأفاعيل الآدميين، ألَا ترى أنَّ السجود والركوع لا يكونان إلا من
الآدميين فأخرج فعلهم على فعال الآدميين، ومثله
وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا، فكأنَّهم
خاطبوا رجالًا إذ كلَّمتهم وكلَّموها، وكذلك
يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، فما أتاك موافقًا
لفعل الآدميين من غيرهم أجريته على هذا.»
٥٠ ويُمكن لنا أن نستنتج من هذا النص أنَّ المُبرِّر الذي يسمح
لنا باستخدام ضمائر العقلاء لغير العقلاء هو التشبيه بين أفعال النوعَين،
بمعنى أنَّنا إذا أسندنا لغير العاقل فعل العاقل كالكلام للجلود والسجود
للكواكب والحديث للنمل جاز لنا استخدام ضمائر العقلاء.
غير أنَّ إسناد أفعال العقلاء إلى الجماد يُعد — من جانب آخر —
تجاوزًا في الإسناد. وهذا أمر يكشف عنه الفَرَّاء حين يتوقَّف أمام قوله
تعالى يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ حيث يقول:
«يقال: كيف يريد الجدار أن ينقض؟ وذلك من كلام العرب أن يقولوا: الجدار
يريد أن يسقط. ومثله قول الله وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ، والغضب لا يسكت، إنَّما يسكت صاحبه، وإنَّما
معناه: سكن، وقوله: فَإِذَا عَزَمَ
الْأَمْرُ، وإنَّما يعزم أهله، وقد قال الشاعر:
إن دهرًا يلف شملي بجُمل
لزمان يهم
بالإحسان
وقال الآخر:
شكا إليَّ جملي طول السرى
صبرًا جميعٌ
فكلانا مُبتلَى
والجَمَل لم يشكِ، وإنَّما تكلَّم به على أنَّه لو نطق لقال ذلك.
وكذلك قول عنترة:
فازورَّ من وقع القنا بلبانه
وشكا
إليَّ بعبرة وتحمحم.»
٥١
وبهذا التحليل للأسلوب التصويري في القرآن، بما يتمِّمنه من إسناد
فعل الإنسان إلى الحيوان، وهو تحليل يُركِّز على زاوية الرؤية النحوية في
المجاز، يُمكن لنا أن نُعلِّل عدم وجود مصطلح «الاستعارة» عند الفَرَّاء.
على أنَّ تحليله لبعض الصور الاستعارية لم يخلُ من إحساس بدور التعبير
الاستعاري في تجسيد المعنوي. يقف أمام قوله تعالى:
وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ليقول: «البرزخ من يوم يموت إلى
يوم يُبعث. وقوله
وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا
بَرْزَخًا، يقول: حاجزًا. والحاجز المسافة البعيدة، وتنوي الأمر
المانع، مثل اليمين والعداوة، فصار المانع في المسافة كالمانع في
الحوادث، فوقع عليهما البرزخ.»
٥٢ وهو شرح يُركِّز على وجه الشبه الذي يسمح باستعمال اللفظ
الواحد في معنيَين متقاربَين، أحدهما حسي والآخر معنوي؛ فالحاجز — في
الأصل — هو المسافة البعيدة، وهذا هو المعنى الحسي، ولكن اللفظة قد
تُستخدم في كل ما يمنع من اللقاء مثل اليمين والعداوة … إلخ، فاستعمال
اللفظ في المعنى الثاني ونقله عن المعنى الأول يُمكن لعلاقة المشابهة
بينهما. وقد لاحظنا من قبل أنَّ إسناد أفعال الآدميين لغير الآدميين
وكذلك ضمائرهم لا بُدَّ أن يقوم على أساس المشابهة. وهذا كله يجعل
التشابه هو أساس التجاوز أو الانتقال في الدلالة عند الفَرَّاء. ومثال
آخر يؤكِّد هذا المنحى في فكر الفَرَّاء نجده في قوله تعالى:
إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا، حيث يقول:
«والذَّنُوب في كلام العرب: الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب بها إلى
النصيب والحظ. وبذلك أتى التفسير: فإنَّ للذين ظلموا حظًّا من العذاب،
كما نزل بالذين من قبلهم، وقال الشاعر:
لنا ذَنوب ولكم ذَنوب
فإن أبيتم فلنا القليب.»
٥٣
وإذا كان التشبيه هو الأصل في
التجاوز، سواء في إسناد الأفعال أو الضمائر، فمن الطبيعي أن يتوقَّف
الفَرَّاء عند «المثل» — التشبيه — وقفةً تكشف عن طبيعة فهمه له. ومن
الطبيعي أيضًا أن تكون وقفته في تحليل المثل — التشبيه — هي وقفة النحوي
الذي تستلفت نظره ظواهر نحوية في الأسلوب. يتوقَّف عند قوله تعالى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا، والظاهرة التي تستوقفه في هذه الآية أنَّ المُشبَّه جمع
بينهما المشبَّه به مفرد، فكيف يُمكن أن يقع التشبيه على ذلك؟ ويدفعه هذا
التساؤل إلى تحليل لوجه الشبه: «فإنَّما ضرب المثل — والله أعلم — للفعل
لا للأعيان، وإنَّما هو مَثَل للنفاق، فقال مثلهم كمثل الذي استوقد
نارًا، ولم يقل الذين استوقدوا، وهو كما قال الله:
تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ، وقوله
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فالمعنى — والله أعلم —
إلا كبعث نفس واحدة، ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعًا كما قال:
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ … وقال
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ،
فكان مجموعًا إذا أراد تشبيه أعيان الرجال، فأجِز الكلام على هذا. وإنْ
جاءك تشبيه جمع الرجال مُوحدًا في شعر فأجِزه، وإن جاءك التشبيه للواحد
مجموعًا في شعر فهو أيضًا يُراد به الفعل فأجِزه، كقولك ما فِعْلُك إلا
كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذئب، فابنِ على هذا، ثمَّ تلقى
الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذئب.»
٥٤ فالتشبيه بالأعيان لا بُدَّ فيه من مطابقة المشبَّه للمشبَّه
به مطابقةً نحوية كاملة، أعني من حيث الإفراد والتثنية والجمع. ولا
تُشترط هذه المطابقة النحوية إذا كان التشبيه بالأفعال. ويسمح الفَرَّاء
بتلقي هذه التشبيهات وإجازتها في الشعر حتَّى مع حذف المشبَّه الذي هو
الفعل. ومن المُلاحظ أنَّ الحذف هنا لا يعوق عملية التشبيه أو التمثيل،
وعلينا أن نُلاحظ أنَّ الفَرَّاء يُقدِّر المحذوف محافظةً على وضوح
المعنى، وبذلك يكون الفَرَّاء — رغم زاوية التحليل — قد أضاء بعض جوانب
عملية التشبيه أو التمثيل التي أعتبرها أساس كل تجاوز في دلالة اللفظ أو
العبارة.
فإذا تركنا «المثل» لا نجد الفَرَّاء يُضيف كثيرًا إلى ما شرحه أبو
عبيدة والمُفسِّرون مثله لمفهوم «الكناية»؛
٥٥ فهو ما يزال عنده مرتبطًا بالمعنى اللغوي وهو الإضمار
والإخفاء، وكثيرًا ما يُستَخدَم كمصطلح نحوي يُقابل مصطلح «الإضمار» عند
البصريين. وحين يُفسِّر الفَرَّاء قول الله تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى
الْأَذْقَانِ يقول: «فكنَّى عن هي، وهي للأيمان ولم تُذكر؛ وذلك
أنَّ الغُلَّ لا يكون إلا باليمين، والعنق جامعًا لليمين والعنق، فيكفي
ذكر أحدهما عن صاحبه، كما قال:
فَمَنْ خَافَ مِن
مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، فضمَّ
الورثة إلى الوصي ولم يُذكروا؛ لأنَّ الصلح إنما يقع بين الوصي والورثة،
ومثله قول الشاعر:
وما أدري إذا يمَّمت وجهًا
أريد الخير
أيهما يليني
أألخير الذي أنا مُبتغيه
أم الشر الذي
لا يأتليني
فكنَّى عن الشر وإنَّما يذكر الخير وحده؛ وذلك أنَّ الشر يُذكر مع
الخير، وهي في قراءة عبد الله: «إنَّا جعلنا في أيمانهم أغلالًا فهي إلى
الأذقان»، فكفت الأيمان عن ذكر الأعناق في حرف عبد الله، وكفت الأعناق من
الأيمان في قراءة العامة … ومعناه: إنَّا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله.»
٥٦ ومن المُلاحَظ أنَّ فكرة الحذف مُتضمَّنة في الكناية — بهذا
المفهوم — بشكل واضح، بمعنى أنَّنا نكتفي بذكر شيء واحد عن ذكر شيئَين
لتضمُّن أحدهما للآخر، سواء في المفهوم اللفظي أو السياق المعنوي.
ومِمَّا يرتبط بالكناية التعريض والتورية، وهي فكرة يتوقَّف
الفَرَّاء عندها لينفي ارتباطها بالكذب، وهو يستند في ذلك لكلمة لعمر
بن الخطاب، وتُسند أحيانًا لعلي بن أبي طالب. ويبدو أنَّ الآية التي
تُثير هذه المسألة — وهي على لسان إبراهيم عليه السلام — كان لا بُدَّ أن
تُثير قضية الكذب، ومن ثمَّ فلا بُدَّ من أن يسعى المُفسِّر لنفي الكذب
عن نبي من أنبياء الله المعصومين. يقول الفَرَّاء تعليقًا على قوله تعالى
حكايةً لقول إبراهيم لقومه:
إِنِّي سَقِيمٌ:
«أي مطعون من الطاعون. ويُقال إنَّها كلمة فيها معراض؛ أي إنَّ كلُّ مَن
كان في عنقه الموت فهو سقيم، وإنْ لم يكن به حين قالها سقم ظاهر. وهو وجه
حسن. حدَّثنا أبو العباس، قال حدَّثنا محمد، قال حدَّثنا الفَرَّاء، قال
حدَّثني يحيى بن المهلب أبو كدينة، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال
بن عمرو وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب الأنصاري في
قوله:
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، قال:
لم ينسَ ولكنَّها من معاريض الكلام، وقد قال عمر في قوله: «إنَّ في
معاريض الكلام لَمَا يُغْنِينَا عن الكذب».»
٥٧
ومن الواضح في كل هذه التحليلات للتراكيب المجازية في القرآن، أنَّ
الفَرَّاء وكذلك أبا عبيدة توقَّفا عند مرحلة الكشف عن المعنى، وبيان
توافق التركيب القرآني مع تراكيب اللغة الشائعة في الشعر وكلام العرب،
وكانت زاوية التحليل عند كل منهما متأثرةً بثقافتهما من ناحية، وبطبيعة
المهمة التي واجهاها من ناحية أخرى. وكان من الطبيعي — في هذه المرحلة —
ألَّا يُدرك المُفسِّر الفارق بين التركيب المباشر، والتعبير الاستعاري
أو المجازي، ذلك التركيب الذي نعتبره اليوم «أكثر الوسائل أهميةً لاكتشاف
المعاني الجديدة»، ومن ثمَّ يُعدُّ ضرورةً لغوية تتطوَّر من خلاله اللغة
للتعبير عن مُدْركات جديدة، أو تُعبِّر من خلاله «ما هو معروف إلى ما لم
يُعْرَف بعد.»
٥٨
ومع ذلك كله فقد كشف كلٌّ من أبي عبيدة والفَرَّاء عن هذه الأساليب
المجازية، واستطاعا أن يُبلورا كثيرًا من عناصر المجاز التي لم تنفصل عنه
بعد ذلك، وبذلك مهَّدا الطريق — من بعدهما — للجاحظ وابن قتيبة والقاضي
عبد الجبَّار ليُفيدوا من هذه الجهود في تأويل النص القرآني ليتفق مع ما
ذهب إليه كلٌّ منهم في قضايا التوحيد والعدل. ولم يكن كلٌّ من أبي عبيدة
والفَرَّاء والمُفسِّرون قبلهم منفصلين عن هذه المهمة التأويلية التي
أجَّلنا التعرُّض لجهودهم فيها إلى الفصل التالي، مكتفين هنا برصد تطوُّر
مفهوم المجاز وتحديد العناصر التي دخلت تحته.
(٢) الجاحظ ونضج المصطلح
تحدَّدت وظيفة اللغة عند الجاحظ بأنَّها هي «الإبانة» التي اعتبرها
ضرورةً من ضرورات الاجتماع البشري لتبادل المعرفة ونقل الخبرة. وما دام
الأمر كذلك فمن حق أهل اللغة أن يستخدموها ويتعاملوا بها بالطريقة التي
يرَونها مُحقِّقة لهذه الوظيفة ومؤدِّيةً لهذه الغاية. وثمَّة مجالات يرى
كلٌّ من النظَّام والجاحظ ضرورة أن تُراعى فيها الدقة في استخدام اللغة دون
توسُّع أو تجاوز في دلالاتها؛ فقد ذهب النظَّام إلى «أنَّ طلاق الكناية مثل
قول الإنسان: الخلية والبرية والبتة، أو حبلك على غاربك، لا يقع، وإنْ
قارنته نية الطلاق.»
٥٩ وليس أشدَّ من الطلاق التصاقًا بحياة الناس ومصالحهم ولذلك
يمنع النظَّام من وقوع طلاق الكناية والمجاز، حتَّى مع توفُّر النية، بل لا
بُدَّ من استخدام التعبير المباشر.
والجاحظ وإن كان لا يرى رأي أستاذه في طلاق الكناية —
٦٠ وهو خلاف فقهي على أي حال — يتفق معه في المبدأ العام، وهو
استبعاد مجال المعاملات من الحرية في استخدام الكلمات، على أساس أنَّ
المعاملات حاجات نفعية مباشرة لا تحتمل اللبس أو التأويل والخلاف. فإذا
استبعدنا هذا المجال النفعي الخالص جاز للناس «أن يضعوا كلامهم حيث أحبوا
إذا كان لهم مجاز، إلا في المعاملات.»
٦١ وهذا كله يؤكِّد حرص الجاحظ على وظيفة اللغة العملية في حياة
الناس.
ولكن هذه الحرية في نقل الألفاظ والعبارات ليست حريةً مطلقة كما تُوهم
العبارة السابقة، فلها شرطان لا بُدَّ من مراعاتهما؛ الشرط الأول: أن يكون
بين المعنى المنقول إليه اللفظ والمعنى المنقول عنه علاقة ما. أمَّا الشرط
الثاني فهو أنَّ الحرية في النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد، وعلى الفرد
أن يتبع في عباراته وأساليبه طرق الدلالة التي سارت عليها الجماعة قبله،
دون أن يخرج على هذه الأُطر الدلالية أو التعبيرية، أو دون حتَّى أن يسمح
لنفسه القياس عليها. والغاية وراء هذَين الشرطَين هي الوضوح الذي لا بُدَّ
منه لأداء اللغة لوظيفتها الاجتماعية، وظيفة الإبانة. فلو لم توجد علاقة
بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول إليه لاختلَّت دلالة الألفاظ
على المعاني. ولو تُرِك الأمر لكل مُتكلِّم وحريته يستخدم الألفاظ حيث شاء،
ويُجريها حيث أراد، لصار كل فرد جزيرةً لغوية منعزلة لا تستطيع التواصل
والإبانة لغيرها عن نفسها. وتفقد الإبانة — والحالة هذه — أهميتها
وضرورتها، بل لا تُصبح إبانةً على الإطلاق. وكلا الأمرَين سيؤدِّي في
النهاية إلى القضاء على الوظيفة الاجتماعية للغة. وهي الإبانة، ومن ثم ينفض
عقد الاجتماع البشري، ويعود الإنسان إلى عالم البهيمة والسبع، بل يعود إلى
عالم الجماد أو النبات؛ فالحيوانات لها منطقها الخاص الذي يُعبِّر عن
احتياجاتها ويكفي «لتفاهمهم حاجة بعضهم إلى بعض.»
٦٢
والشرط الأول للحرية في نقل الألفاظ لا يذكره الجاحظ بشكل مباشر
وتفصيلي، وإنَّما يُشير إليه أثناء تحليله لبعض العبارات والتراكيب. وجدير
بالذكر أنَّ المصطلحات ما تزال مُتداخلةً عند الجاحظ؛ فهو مرةً يستخدم
مصطلح المجاز، وأخرى يستخدم المثل، وثالثةً الاشتقاق. وقد يجمع بينهم
جميعًا في تحليل عبارة واحدة، وذلك للدلالة على استخدام اللفظ في غير ما
وُضِع له في اللغة؛ فكلمات المجاز والمثل والتشبيه والكناية والاشتقاق تدل
على معنًى واحد. يقول: «وللعرب إقدام على الكلام ثقة بفهم أصحابهم عنهم.
وهذه أيضًا فضيلة أخرى، وكما جوَّزوا لقولهم أكل وإنَّما عض، وأكل وإنَّما
أفنى، وأكل وإنَّما أحاله، وأكل وإنَّما أبطل عينه؛ جوَّزوا أيضًا أن
يقولوا: ذقت ما ليس بطعم، ثمَّ قالوا طعمت لغير الطعام … وقد يقولون ذلك
أيضًا على المثل وعلى الاشتقاق وعلى التشبيه.»
٦٣ وشرط الوضوح أساس في الانتقال باللفظ من معنًى إلى معنًى، وهو
شرط ينفي عن الكلام مظنة الكذب: «وقد يكون إخلاص ظاهر لفظة على شيء ومعناه
غيره، فلا يكون كذبًا، لمعرفة القائل بفهم المستمع عنه، وهذا باب كثيرًا ما
يستعمله العرب.»
٦٤
ويَعدُّ الجاحظ الكناية نوعًا من أنواع الاشتقاق في المعاني أيضًا،
وبذلك يُدْخِلُها في المجاز: «ويُقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب،
والمخرج، والكنيف، والحَش، والمرحاض، والمرفق، وكل ذلك كناية واشتقاق.»
٦٥
وتُلِح فكرة الوضوح على الجاحظ إلحاحًا شديدًا لِمَا لها من خطرها على
وظيفة البيان التي هي إحدى شروط الاجتماع: «ومن الكلام كلام يذهب السامع
منه إلى معاني أهله وقصد صاحبه.»
٦٦ وهي فكرة تجعل الجاحظ يعود للآية التي كانت — فيما يبدو —
مطعنًا في عدم وضوح بعض الآيات القرآنية، وهي الآية التي سُئِل عنها أبو
عبيدة معمر بن المثنى، وكانت سببًا في تأليفه كتابه. يعود الجاحظ إلى هذه
الآية فيرفض تفسير المُفسِّرين الذين قالوا إنَّ رءوس الشياطين نبات في
اليمن، وذلك ليردُّوا التشبيه في الآية إلى مُدْرَك حسي واضح للعيان. يقول
الجاحظ: «وقد قال الناس في قوله تعالى:
إِنَّهَا
شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، فزعم أُناس أنَّ رءوس الشياطين
ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن، لها منظر كريه. والمُتكلِّمون لا يعرفون هذا
التفسير، وقالوا: ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فسقة
الجن ومردتهم. فقال أهل الطعن والخلاف كيف يجوز أن يُضْرب المثل بشيء لم
نرَه فنتوهَّمه، ولا وُصف لنا صورته في كتاب ناطق، أو خبر صادق، ومخرج
الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها. وعلى أنَّه لو كان شيء
أبلغ في الزجر من ذلك لذكره. فكيف يكون الشأن كذلك، والناس لا يفزعون إلا
من شيء هائل شنيع، قد عيَّنوه، أو صوَّره لهم واصف صدوق اللسان، بليغ في
الوصف، ونحن لم نُعاينها، ولا صوَّرها لنا صادق؟ وعلى أنَّ أكثر الناس من
هذه الأمم التي لم تُعايش أهل الكتابَين وحملة القرآن من المسلمين، ولم
تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف
يكون ذلك وعيدًا عامًّا؟!
قلنا، وإنْ كنَّا نحن لم نرَ شيطانًا قط، ولا صوَّر رءوسها لنا صادق
بيده، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقُبْح الشيطان حتَّى صاروا يضعون ذلك في
مكانَين، أحدهما أن يقولوا: «لهو أقبح من شيطان.» والوجه الآخر أن يُسمَّى
الجميل شيطانًا، على جهة التطيُّر له، كما نُسمِّي الفَرَس الكريمة شوهاء،
والمرأة الجميلة صمَّاء، وقَرناء، وخنساء، وجرباء، وأشباه ذلك، على جهة
التطيُّر له. ففي إجماع المسلمين والعرب وكل مَن لقيناه، على ضرب المثل
بقبح الشيطان، دليل على أنَّه في الحقيقة أقبح من كل قبيح.»
٦٧
والجاحظ في هذا النص الطويل يقرن بين المثل والتشبيه مِمَّا يؤكِّد
تداخل المصطلحات عنده ودلالتها كلها على المجاز، وهو من ناحية أخرى يُلحُّ
على فكرة الوضوح مُسْتَدِلًّا عليها بما ثبت في طبائع العرب من استقباح
صورة الشيطان حتَّى ضربوا به المثل استقباحًا أو تطيُّرًا. وربط وضوح
الدلالة بالمعرفة من جهة، وربط المجاز بعلاقة المشابهة أو الاشتقاق المعنوي
من جهة أخرى يؤكِّد وظيفة اللغة البيانية عند الجاحظ. وهكذا يرتبط الشرط
الأول في الانتقال بالدلالة من معنًى إلى معنًى — شرط التشبيه والاشتقاق —
بالغاية النهائية للغة. وليس من شأن المُشابهة أو الاشتقاق أن تلغي الفواصل
بين الأشياء، أو أن تؤدِّي إلى الخلط بين الدلالات، بل لا بُدَّ من
المحافظة على تمايز الأسماء ودلالاتها. فإذا كان الاسم علامةً على الشيء،
فحين ننقله لنُعبِّر به عن شيء آخر لمشابهة بينهما في المعنى، فإنَّنا لا
ننقله على أنَّه علامة، بل ننقله لنؤكِّد وجه المشابهة مدحًا أو ذمًّا، دون
أن ندخل الشيئَين أو المعنيَين في حدود بعضهما، والشعراء أنفسهم حين
يُشبِّهون — والتشبيه مجاز — لا ينبغي لهم أن يُدخلوا الشيء في حد غيره:
«وقد يُشبِّه الشعراء والبلغاء الإنسان بالقمر والشمس، والغيث والبحر،
وبالأسد والسيف، وبالحية وبالنجم، ولا يخرجون بهذه المعاني إلى حد الإنسان.
وإذا ذمُّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القرد والحمار، وهو التيس، وهو
الذئب، وهو العقرب، وهو الجعل، وهو القرنبى ثمَّ لا يُدْخِلون هذه الأشياء
في حدود الناس ولا أسمائهم، ولا يُخرجون بذلك الإنسان إلى هذه الحدود وهذه الأسماء.»
٦٨
أمَّا الشرط الثاني للانتقال باللفظ من معنًى إلى معنًى — إلى جانب
علاقة المشابهة بين المعنيَين — فهو أن يكون هذا النقل من صنع الجماعة لا
من صنع الفرد، ولا يجوز للفرد — والحالة هذه — إلا السير على الدرب الذي
مهَّدته الجماعة قبله وذلك حفاظًا على الإبانة اللغوية أن يعتورها الغموض.
وقد يبدو أحيانًا أنَّ الجاحظ يُعطي هذا الحق — حق النقل والاشتقاق —
للشعراء وحدهم، ويجعلهم سدنةً على اللغة لهم كل الحرية في تغييرها
واستخدامها كيف شاءوا. ولكن المؤسف أنَّ الجاحظ يتحدَّث عن طبقة من الشعراء
— شعراء العصر الجاهلي — كان لها وحدها هذا الحق، أمَّا الشعراء بعدهم
فعليهم الاحتذاء والتقليد. الدليل على ذلك أنَّه يُعدِّد — في نص طويل —
تشبيهات الشعراء كأنَّه يقوم بعملية حصر ليهتدي بها ويتعلَّم منها شعراء
عصره، وهو من ناحية أخرى يمنع الشعراء من القياس على تشبيهات الشعراء
السابقين. يقول: «وسمَّوا الجارية غزالًا، وسمَّوها أيضًا خشفًا، ومُهرة،
وفاختة، وحمامة، وزهرة، وقضيبًا، وخيزرانًا على ذلك المعنى … وليس هذا
مِمَّا يطَّرد لنا أن نقيسه، وإنَّما نُقْدِم على ما أقدموا ونُحْجِم عمَّا
أحجموا وننتهي إلى حيث انتهوا، ونراهم يُسمُّون الرجل جملًا ولا يُسمُّونه
بعيرًا، ولا يُسمُّون المرأة ناقة، ويُسمُّون الرجل ثورًا، ولا يُسمُّون
المرأة بقرة، ويُسمُّون الرجل حمارًا ولا يُسمُّون الرجل أتانًا، ويُسمُّون
المرأة نعجةً ولا يُسمُّونها شاة.»
٦٩ وهكذا يفقد الفرد المُعبِّر — باستثناء طبقة الشعراء القدماء —
أيَّ فعاليةٍ في إثراء اللغة، أو إثراء التجربة الشعورية التي هي موضوع
الشعر أو النص البليغ.
هذا التقييد من حرية الفرد في
الاشتقاق المجازي كان ضروريًّا عند الجاحظ للمحافظة على الوظيفة البيانية
للغة كما فهمها الجاحظ. ولكن هذا التقييد في مجال البيان الإنساني، قابلته
حرية واسعة في مجال البيان القرآني، وذلك على أساس أنَّ اللغة، مِلْك لله
وهي عارية في أيدي البشر، ومن ثمَّ فله كل الحرية في وضعها حيث شاء. ومن
جهة أخرى فقد ربط الجاحظ اللغة بالمعرفة. وقد تفرَّد الله سبحانه بمعرفة ما
لا يُمكن أن يعرفه أحد من خلقه: «فإذا كان للنابغة أن يبتدئ الأسماء على
الاشتقاق من أصل اللغة، كقوله:
والنؤى كالحوض بالمظلومة الجَلَدِ
وحتَّى اجتمعت العرب على تصويبه، وعلى اتباع أثره، وعلى أنَّها لغة
عربية، فالله الذي له أصل اللغة أحق بذلك.»
٧٠ فالمعارف كلها، بل العالَم كله بما فيه من كائنات وموجودات
وطبائع من خلق الله، وهو الذي خلق الإنسان ومكَّنه، وزوَّده بكل ما يساعده
على تحقيق وجوده الأكمل، وزوَّده باللغة ليُبين بها عن نفسه: «فإذا كانت
العرب يشتقون كلامًا من كلامهم وأسماءً من أسمائهم، واللغة عارية في أيديهم
مِمَّن خلقهم ومكَّنهم وألهمهم وعلَّمهم، وكان ذلك منهم صوابًا عند جميع
الناس، فالذي أعارهم هذه النعمة أحق بالاشتقاق.»
٧١ وقد كانت التفرقة بين معارف البشر ومعارف الله، ثمَّ هذا
التسليم بحق الله في الاشتقاق والابتداء بوضع الأسماء، كانت هذه التفرقة
كفيلةً بأن تُوجِّه مبحث المجاز في القرآن وجهةً مختلفة عن تلك الوجهة
السائدة منذ أبي عبيدة والفَرَّاء والتي تبحث عن سند لمجازات القرآن
وعباراته في الشعر الجاهلي. غير أنَّ غاية التعليم والتوضيح — ولم تكن
بعيدةً عن جهود الجاحظ بأي حال — حاولت رد كل تعبير مجازي في القرآن إلى
الشعر العربي أو كلام فصحاء العرب. والجاحظ نفسه تابع أسلافه، واعتبر لغة
العرب هي الأساس في فهم القرآن. ولا يُنْكِر الباحث أن يكون الشعر العربي
دليلًا في فهم النص القرآني، ما دام كلام الله قد اتخذ اللغة العربية أداةً
للتوصيل. ولكن الآيات الخلافية التي كانت مثار جدل بين المعتزلة وخصومهم،
سواء المجبِّرة أو المشبِّهة، لا يُمكن النظر إليها من خلال الشعر وحده
ومواضعات اللغة منفردة؛ فالإسلام قد جاء برؤية جديدة لطبيعة الذات الإلهية،
وهي رؤية تتناقض مع واقع المعتقدات العربية الجاهلية. وعلى ذلك تُعبِّر هذه
الآيات — التي تصف الله — عن وعي ديني جديد تمامًا على الشعور العربي، وعلى
المدركات والمعارف التي تُعبِّر عنها اللغة والشعر. وهذا الوعي كان يستخدم
اللغة العربية للتعبير عن نفسه، ومن ثمَّ كان من الضروري أن يحدث تغيير في
النسق المُتعارف عليه للغة من أجل أن تتسع لحمل هذا الوعي الجديد.
وعلى ذلك فإرجاع هذه الآيات للشعر العربي ومجازه هو ردٌّ لهذا الوعي
والمعرفة إلى معرفة ووعي متخلفَين عن هذا الوعي الجديد. ولعل الجاحظ أحسَّ
بهذه المشكلة إحساسًا غامضًا، حتَّى اشترط لمن يتعرَّض لقضايا الدين أن
يكون مُتكلِّمًا إلى جانب علمه باللغة العربية، وذلك حتَّى يستطيع الوصول
إلى تلك المعرفة التي يُعبِّر عنها القرآن: «ولو كان أعلم الناس باللغة، لم
ينفعك حتَّى يكون عالمًا بالكلام.»
٧٢ ومع ذلك كله فقد سار الجاحظ — في كتاب لم يصلنا في الرد على
المشبِّهة — على درب أسلافه اللغويين. يقول: «وقد كتبت … في الرد على
المشبِّهة كتابًا لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريِّض
المبتدئ، وأكثر ما يعتمد عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور
ويشتمل عليه الفضل من حشوة الناس، ويختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم،
تحريف آي كثيرة إلى غير تأويلها، وروايات كثيرة إلى غير معانيها. وقد
بيَّنت ذلك بالوجوه المختصرة وبالأشعار الصحيحة، والأمثال السائرة،
واستشهدت بالكلام المعروف، وبالقياس على الموجود.»
٧٣ ولا ينبغي أن ننسى أنَّ الجاحظ نفسه لم ينجُ من أثر الغايتَين
الدفاعية والتعليمية اللتَين شُغل بهما كلٌّ من أبي عبيدة والفَرَّاء، إلى
جانب أنَّ وظيفة اللغة البيانية عنده كانت تُبرِّر هذا السلوك. ومن جهة
ثالثة كان استشهاد المشبِّهة والظاهرية بمواضعات اللغة والشعر العربي
كفيلًا بأن يُحدِّد لا مسلك الجاحظ وحده، بل مسلك المعتزلة جميعًا في تناول
المجاز في القرآن. يؤكِّد ذلك عند الجاحظ وقفاته الطويلة في كتبه كلها —
خاصةً كتاب الحيوان — للرد على المُؤوِّلين والطاعنين في القرآن
٧٤ وهي كلها وقفات يستدل فيها الجاحظ على صحة العبارات القرآنية
والتجوُّز فيها بالشعر العربي وأقوال العرب. ومن المؤسف أنَّنا لا نجد في
أي من هذه الآيات التي توقَّف عندها الجاحظ آيةً واحدة من تلك الآيات
الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، فكلها آيات ترتبط باستطرادات الجاحظ في
الكتاب، مثل قصة الهدهد، وحديث النمل، وعلاقة الإنس بالجن، ورءوس الشياطين
التي أشرنا إليها … إلخ، كل هذه الموضوعات والآيات القرآنية التي تمسُّ
موضوع الحيوان من قريب أو بعيد. ولسنا بصدد درس نهج الجاحظ في تفسير القرآن
عامةً حتَّى نتوقَّف أمام هذه الآيات مُحلِّلين أو كاشفين عن طريقة الجاحظ
في تفسير القرآن.
وإذا كان الجاحظ قد استخدم كلمات
الاشتقاق والتشبيه والمثل والمجاز بمعنًى واحد، فإنَّنا لأول مرة نُواجه
مصطلح «المجاز» باعتباره قسيمًا للحقيقة، وإن لم نُعدم في كتابات الجاحظ
بعض الاستخدامات اللغوية له، بمعنى أنَّنا إذا كنَّا عند أبي عبيدة وجدنا
المصطلح الواسع الدلالة يتناول أساليب العربية أو طرق التعبير عامة، وإذا
كنَّا عند الفَرَّاء وجدنا استعمالًا لكلمة «تجوُّز» بدل المجاز ومعنًى
أقرب للمعنى الاصطلاحي، فإنَّنا عند الجاحظ نجد المصطلح قد تحدَّد تحدُّدًا
كاملًا ليُشير إلى كل الأنواع البلاغية كالمثل والتشبيه والاستعارة
والكناية. والمواضع التي تحدَّث فيها الجاحظ عن المجاز كمقابل للحقيقة بشكل
مباشر قليلة جدًّا، وإن كان سياق استخداماته الكثيرة للفظ يدل على فهمه
الاصطلاحي لها. من هذه المواضع القليلة قوله في البخلاء: «فلاسم الجود
موضعان؛ أحدهما حقيقة، والآخر مجاز، فالحقيقة ما كان من الله، والمجاز
المشتق له من هذا الاسم.»
٧٥ وأشار إليه بنفس المعنى في كتاب فصل ما بين العداوة والحسد حين
تحدَّث عن العلماء المشهورين بالحسد فقال: «وقد وسموا أنفسهم بسمات الباطل
وتسمَّوا بأسماء العلم على المجاز من غير الحقيقة.»
٧٦ أمَّا في كتاب الحيوان فأغلب استعمال اللفظ، وإنْ فُهِم منه
أنَّه مقابل الحقيقة، فإنَّه لم يرد بهذا المعنى بشكل مباشر. فحين يُحاول
الجاحظ تأويل تهديد سيدنا سليمان للهدهد بالذبح، ردًّا على مَن طعنوا في
الآية على أساس أنَّ تهديد الهدهد تهديد في غير محله؛ لأنَّ الهدهد ليس
مُكلَّفًا أو عاقلًا من جانب، والذبح أكبر من جرم الهدهد إنْ صحَّ أنَّه
مُكلَّف أو عاقل ثانيًا. يردُّ الجاحظ على هذا الطعن بردود كثيرة، منها:
«على أنَّا لو تأوَّلنا الذبح على مثال تأويل قولنا في ذبح إبراهیم إسماعيل
عليهما السلام — وإنما كان ذلك ذبحًا في المعنى لغيره — أو على معنى قول
القائل: أمَّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقه ولكن السيف خانني. أو على قولهم،
المسك الذبيح، أو على قولهم، فجئت وقد ذبحني العطش، لكان ذلك مجازًا.»
٧٧ وفي موضع آخر من الحيوان يضع الجاحظ كلمة «مثل» في مقابل كلمة
«حقيقة»، وهو بذلك يُساوي بين «المثل» و«المجاز» في وضعهما في مقابل
الحقيقة. يقول: «ويذكرون نارًا أخرى، وهي على طريق المثل لا على طريق
الحقيقة، كقولهم في نار الحرب.»
٧٨
وهذا كله يُؤكِّد تداخل الحدود بين التشبيه والمثل والمجاز من ناحية،
٧٩ ويؤكِّد أنَّ مصطلح «المجاز» صار أكثر تحديدًا، باعتباره الوجه
الآخر للحقيقة من جهة أخرى،
٨٠ وبذلك صار هو المصطلح الأثير لدى المعتزلة الذي يُؤوِّلون على
أساسه كل الآيات التي يوهم ظاهرها — أو حقيقتها — بالتعارض مع آرائهم
وأفكارهم العقلية.
(٣) الرُّماني والكشف عن الأثر النفسي
لم ينفصل «المجاز» عن «التأويل» عند ابن قتيبة (ت٢٧٦ﻫ)، ومن ثمَّ اتسع
كما هو الحال عند السابقين عليه ليضم كل الوسائل الأسلوبية من «الاستعارة
والتمثيل والقلب والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار
والتعريض والإفصاح والكناية والإيضاح ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع،
والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنَين، والعقد بلفظ الخصوص
لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء أخرى كثيرة.»
٨١ وإذا كان الجاحظ ومن قبله الفَرَّاء قد ركَّزا على جانب
المشابهة باعتبارها أساس الانتقال في الدلالة، فإنَّ ابن قتيبة لم يتوقَّف
كثيرًا ليشرح كيفية الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، وذلك بحكم غلبة الجانب
التأويلي على كتابه، تلك الغاية التي ينمُّ عليها عنوان الكتاب نفسه «تأويل
مشكل القرآن»؛ ولذلك أجَّلنا الدراسة التفصيلية لهذا الكتاب للفصل
التالي.
وإذا كان ابن قتيبة سلك مسلك سابقيه في رد العبارة القرآنية إلى الشعر
العربي أسلوبًا وتركيبًا، فثمَّ جهود أخرى حول القرآن كانت أقرب إلى إدراك
تميُّز الأسلوب القرآني وتباينه عن أسلوب الشعر العربي. وقد كان لأصحاب هذه
الجهود بالتالي أثر كبير في تحديد مجالات المجازات القرآنية، والكشف عن
أثرها النفسي ووظيفتها البيانية. تلك هي الجهود حول «إعجاز القرآن»، وفكرة
«الإعجاز» نفسها تُسَلِّم — بداهةً — بمبدأ التباين بين كلام الله وكلام
البشر من حيث الأسلوب والصياغة، ومن ثمَّ تسعى للكشف عن هذا التباين وأثره
وملامحه. ويُعدُّ كتاب الرُّماني (ت٣٨٦ﻫ) «النكت في إعجاز القرآن» أهم هذه
الجهود لمجال بحثنا، وذلك بحكم أنَّ صاحبه معتزلي من جهة، وبحكم أنَّ البحث
البلاغي لم ينفصل عنده عن التأويل من جهة أخرى، غير أنَّ التأويل عند
الرُّماني ليس هو الهدف، بل يأتي عرضًا في سياق التحليل البلاغي.
يُعرِّف الرُّماني البلاغة «بأنَّها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن
صورة من اللفظ.»
٨٢ ولا يكتفي بوظيفة «الإفهام» التي ركَّز عليها سابقوه؛ «لأنَّه
قد يفهم المعنى متكلِّمان أحدهما بليغ والآخر عيي.»
٨٣ وإذا كان قد قسَّم البلاغة إلى ثلاث طبقات، فإنَّه اعتبر أنَّ
«أعلاها طبقةً في الحسن بلاغة القرآن.»
٨٤ وكان من الطبيعي — والأمر كذلك — أن تخلو رسالته من الاستشهاد
بالشعر خلوًّا يكاد يكون تامًّا إلا في موضعَين اثنَين.
٨٥
وقد قسَّم الرماني البلاغة إلى عشرة أقسام يهمنا منها هنا «الإيجاز»
و«التشبيه» و«الاستعارة» و«المبالغة».
ويُقسِّم الرماني الإيجاز إلى وجهَين: «حذف، وقصر. فالحذف إسقاط كلمة
للاجتزاء عنها، بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. والقصر بنية الكلام
على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف.»
٨٦ ويضرب للنوع الأول — الحذف — المثال الشائع «واسأل القرية»،
وحذف جواب الشرط. وإذا كان المحذوف مدلولًا عليه بغيره فإنَّ الرماني لا
يُعنى بتحديد المحذوف وتعيينه، بقدر ما يُعنى بإبراز الأثر النفسي للحذف،
خصوصًا في جواب الشرط: «وإنَّما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأنَّ
النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذُكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمَّنه البيان.»
٨٧
وهكذا يُحدِّد الرماني الوظيفة النفسية للحذف، ويتجاوز بذلك وقفات
أبي عبيدة والفَرَّاء والجاحظ وابن قتيبة جميعًا.
يُفرِّق الرماني بين التشبيه بمعناه اللغوي والتشبيه بمعناه البلاغي،
فيرى أنَّ التشبيه عمومًا «هو العقد، على أنَّ أحد الشيئَين يسدُّ مسد
الآخر في حس أو عقل.»
٨٨ أمَّا التشبيه البليغ فهو «إخراج الأغمض إلى الأظهر بأداة
التشبيه مع حسن التأليف.»
٨٩ وإذا كانت المشابهة عادةً تؤدِّي إلى التسوية بين الطرفَين،
فالتشبيه البليغ هو مقارنة بين طرفَين بهدف الكشف عن أحدهما أو إظهاره:
«فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئَين بمعنًى يجمعهما يكسب بيانًا فيهما.»
٩٠ ويُسهب الرماني في الكشف عن وجوه الأظهر الذي يقع فيه البيان
بالتشبيه: «منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة،
ومنها إخراج ما لم تُجريه عادة إلى ما جرت به عادة، ومنها إخراج ما لا
يُعْلَم بالبديهة إلى ما يُعْلَم بالبديهة، ومنها إخراج ما لا قوة له في
الصفة إلى ما له قوة في الصفة؛ فالأول نحو تشبيه المعدوم بالموجود، والثاني
نحو تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، والثالث تشبيه إعادة
الأجساد بإعادة الكتاب، والرابع تشبيه ضياء السراج بضياء النهار.»
٩١ وكل هذه الوجوه التي يقع عليها التشبيه بهدف بيان المُشبَّه عن
طريق مقارنته بما هو أظهر منه، تتفق مع تفريق المعتزلة بين مستويَي المعرفة
الحسية والعقلية. وغاية التشبيه هي بيان الشيء عن طريق مقارنته بما هو أظهر
منه وأوضح وأجلى، بنفس الطريقة التي يؤدِّي بها الاستدلال وظيفته في
الانتقال من الواضح إلى الغامض. ولم يكن الرماني على أي حال بعيدًا عن
إنجاز المعتزلة في هذه الجوانب؛ فقد كان مُتكلِّمًا إلى جانب كونه لغويًّا
وبلاغيًّا.
ومن أمثلة التشبيه الذي أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه في
القرآن قوله تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا … فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ
إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
(الأعراف: ١٧٥–١٧٦): «وقد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير
وفي التخسيس؛ فالكلب لا يُطيعك في ترك اللهث حملتَ عليه أو تركته، وكذلك
الكافر لا يُطيع بالإيمان على رفق ولا على عنف، وهذا يدل على حكمة الله
سبحانه وتعالى في أنَّه لا يمنع اللطف.»
٩٢ ومن هذا التحليل لعلاقة المشابهة في الآية يُشير الرماني إلى
انكشاف المعنى الغامض عن طريق الصورة الحسية فحسب، دون أن يلحظ التركيب كله
خصوصًا صورة «الانسلاخ» بدلالتها وإيقاعها الصوتي معًا. وعلينا أن نُلاحظ —
من جانب آخر — كيف استدل الرماني من الآية — بهذا التحليل البلاغي — على
أنَّ الكافر يمتنع عن الإيمان بإرادته، لا بالإجبار؛ فالله قد وهبه الآيات
ولكنَّه هو الذي انسلخ منها بإرادته الحرة، ولا يلمح الرماني وجه الشبه
فقط، ولكنَّه يُشير أيضًا إلى أثر هذه الصورة فيما أُطْلِق عليه «التخسيس»؛
فالآية — بهذا التشبيه — تُحقِّر من شأن الكافر عن طريق تشبيهه بالكلب في
صورة اللهث المستمر، وهي صورة لا شك مُقزِّزة.
وتقوم الاستعارة كذلك على أساس المشابهة، والفارق بينهما — عند الرماني
— وجود الأداة في التشبيه؛ ذلك «أنَّ ما كان — من التشبيه — بأداة التشبيه
في الكلام فهو على أصله، لم يُغير عنه في الاستعمال، وليس كذلك الاستعارة؛
لأنَّ مَخرَج الاستعارة ما العبارة ليست له في أصل اللغة.»
٩٣ ومن الواضح أنَّ الرماني يُدْخِل التشبيه البليغ — المحذوف
الأداة — في حد الاستعارة. ويؤكِّد هو هذا التداخل بقوله: «وكل استعارة
بليغة فهي جمع بين شيئَين بمعنًى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما بالآخر
كالتشبيه، إلا أنَّه بنقل الكلمة، والتشبيه بأداته الدَّالة عليه في اللغة.»
٩٤ ويكون الفارق بين التشبيه والاستعارة هو أنَّ الاستعارة تعتمد
على النقل من معنًى أصلي إلى معنًى مجازي، وذلك على عكس التشبيه الذي لا
يُنقل فيه اللفظ من معنًى إلى معنًى؛ وذلك لوجود أداة التشبيه التي تقوم
بهذا النقل. وينتقل اللفظ في الاستعارة بنفسه. واعتماد الاستعارة على النقل
عند الرماني — دون التشبيه — يجعلنا نعتبره أول من أخرج التشبيه من دائرة
المجاز، وذلك على الرغم من أنَّ مصطلح «المجاز» لم يرد له ذكر في رسالته.
غير أنَّه من جانب آخر يجعل الاستعارة مقابلًا للحقيقة: «وكل استعارة فلا
بُدَّ لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة.»
٩٥ وإذا كان التشبيه البليغ داخلًا في حد الاستعارة فهو بالتالي
داخل في حد المجاز بحكم أنَّ النقلة تتم فيه دون وجود الأداة. وإذا كانت
مهمة التشبيه هي البيان عن طريق المقارنة بين شيئَين أحدهما أظهر من الآخر
وأجلى منه، فإنَّ مهمة الاستعارة لا تخرج عن ذلك: «وكل استعارة حسنة فهي
تُوجب بلاغة بيان لا تنوب منابه الحقيقة، وذلك أنَّه لو كان تقوم مقامه
الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز الاستعارة.»
٩٦ غير أنَّ الرماني لا يكشف لنا بشكل واضح عن الفارق بين التعبير
الحقيقي والتعبير الاستعاري، ويكتفي فحسب بتقريره.
ويرتبط هذا التحديد للاستعارة بغاية التأويل عند الرماني، فمن استعارات
القرآن:
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (الفرقان: ٢٣): «حقيقة قَدِمنا
هنا عمدنا، وقَدِمنا أبلغ منه؛ لأنَّه يدل على أنَّه عاملهم معاملة القادم
من سفر، لأنَّه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثمَّ قدِم فرآهم
على خلاف ما أمرهم. وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال، والمعنى الذي
يجمعهما العدل؛ لأنَّ العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ لِمَا بيَّنا.»
٩٧ وواضح أنَّ الرماني يُريد أن ينفي عن الله الحركة والانتقال؛
فلذلك ما حاول الكشف عن أصل النقل في الفعل «قَدِم» وأنَّه بمعنى العمد.
غير أنَّ الرماني يكتفي بالقول بأنَّ القدوم أبلغ وذلك لِمَا يؤدِّيه من
غاية حدَّدها بأنَّها هي التحذير من الاغترار بالإمهال، وبذلك يكشف عن
الوظيفة النفسية للاستعارة في هذه الآية.
ثمَّ آية أخرى يسلك الرماني إزاءها نفس المسلك وهي قوله تعالى:
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (الرحمن:
٣١): «والله عزَّ وجلَّ لا يشغله شأن عن شأن، ولكن هذا أبلغ في الوعيد،
وحقيقته سنعمد، إلا أنَّه لمَّا كان الذي يعمد إلى شيء قد يُقصِّر فيه
لشغله بغيره معه، وكان الفارغ له هو البالغ في الغالب مِمَّا يجري به
التعارف، دلَّلنا بذلك على المبالغة من الجهة التي هي أعرف عندنا لمَّا
كانت بهذه المنزلة، ليقع الزجْر بالمبالغة التي هي أعرف عند العامة والخاصة
موقع الحكمة.»
٩٨ والتحليل هنا لا يختلف كثيرًا عن تحليل الآية السابقة من حيث
بيان وجه المشابهة في الاستعارة، والكشف عن أثرها النفسي في المتلقي، غير
أنَّ الرماني يستخدم هنا كلمة «المبالغة» للدلالة على الاستعارة، وهذا
يقودنا لمعنى المبالغة عنده، والفارق بينها وبين الاستعارة.
وتعريف الرماني للمبالغة بأنَّها: «الدلالة على كبر المعنى على جهة
التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة.»
٩٩ فهو تعريف يُدخلها في حد المجاز، والفارق بين الاستعارة
والمبالغة أنَّ الأولى تقوم على التشبيه، بينما تقوم الثانية على علاقة غير
علاقة المشابهة. ويُحدِّد الرماني هذه العلاقة على وجوه: «منها المبالغة في
الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة، وذلك على أبنية كثيرة، منها:
فعلان، ومنها فعَّال، وفعول، ومفعل، ومفعال ففعلان كرحمان، عدل عن راحم للمبالغة.»
١٠٠ أمَّا الوجه الثاني فهو استخدام صيغة العموم للتعبير عن الخصوص
للمبالغة. والثالث: «إخراج الكلام مَخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر
للمبالغة، كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له.»
١٠١ ومن الواضح أنَّ النوعَين الثاني والثالث من وجوه المبالغة
يدخلان فيها سُمِّي بعد ذلك بالمجاز المُرسَل، بينما يدخل النوع الأول في
المبالغة بالصيغة. ومن الواضح أيضًا أنَّ الرماني لم يُدخل هذا الباب في
باب الاستعارة، حتَّى لا تختلط الحدود بين التجاوز الذي يقوم على التشبيه،
والتجاوز الذي يقوم على علاقة من نوع آخر. وقد كانت هذه التفرقة مدخلًا
لتأويل بعض الآيات في التوحيد والعدل، وهي آيات يصعب تأويلها على أساس
الاستعارة وإلا أدَّى هذا التأويل إلى افتراض مشابهة الله للبشر، أو
إمكانية وجود هذه المشابهة على الأقل.
مثال ذلك قول الله تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (الفجر: ٢٢)، وهي آية يضعها الرماني في
النوع الثالث من أنواع المبالغة: «فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئًا له على
المبالغة في الكلام. ومنه:
فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم
مِّنَ الْقَوَاعِدِ؛ أي أتاهم بعِظم بأسه فجعل ذلك إتيانًا له على
المبالغة. ومنه قوله تعالى
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا١٠٢ ومن الصعب على الرماني تحليل هذه الآيات على الاستعارة؛ لأنَّ
ذلك سيؤدِّي إلى وجود مشابهة — في حس أو عقل — بين الله والبشر الذين يجوز
عليهم الحركة والمجيء والإتيان. ويكون تأويل هذه الآيات على ذلك أنَّ الفعل
أُسْنِد لله — مبالغةً — وإنْ كان في الحقيقة لغيره. غير أنَّ استعمال
الرماني لكلمة «المبالغة» في تحليل آية في باب «الاستعارة» يجعلنا نفترض
أنَّهما يُعبِّران — مع التساهل — عن مدلول واحد، خصوصًا إذا اعتبرنا
المبالغة — البيان عن طريق الكشف والإظهار — هي الوظيفة الأساسية للتشبيه
والاستعارة معًا.
ومِمَّا يدخل في النوع الثاني من المبالغة، وهو استخدام صيغة العموم
للخصوص، قول الله تعالى
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
(الأنعام: ١٠٢)، والذي يجعل الرماني يضع الآية هذا الموضع هو ما يذهب إليه
المعتزلة من أنَّ الإنسان هو خالق أفعاله عن حرية واختيار، وبالتالي تكون
لفظة «كل» في الآية لا يُقصد عمومها؛ لأنَّ أفعال الناس مستثناة — بالدليل
العقلي — من هذا العموم. غاية الأمر أنَّ الآية وردت مورد المبالغة: «كقول
القائل: أتاني الناس، ولعله لا يكون أتاه إلا خمسة فاستكثرهم، وبالغ في العبارة.»
١٠٣
وخلاصة الأمر أنَّ الرماني استطاع أن يفيد من جهود سابقيه، وأن يُفرِّق
تفرقةً واضحة بين التشبيه والاستعارة. كما استطاع أن يكشف عن علاقة
الاستعارة بالمجاز، وفي نفس الوقت استطاع أن يُفرِّق بين الاستعارة والمجاز
المُرسَل. ولم تكن كل هذه الجهود البلاغية بعيدةً عن غايته التأويلية
كمعتزلي، بل كانت مرتبطةً بها وفي خدمتها كما رأينا.
(٤) مفهوم المجاز عند القاضي عبد الجبَّار
وضع القاضي عبد الجبَّار اللغة بين أنواع الدلالة العقلية، كما اعتبرها
الجاحظ إحدى الوسائل البيانية كما سبقت الإشارة. وقد ميَّز القاضي اللغة من
أنواع الدلالة الأخرى بأنَّها تدل على شرطَين؛ المواضعة السابقة، ومراعاة
حال المُتكلِّم وقصده حتَّى يُمكن فهم المراد بكلامه. وقد تحدَّد مفهوم
المواضعة عنده بأنَّها المواضعة الإشارية البحتة التي تنفي وجود أي علاقة
بين الاسم والمُسمَّى، أو الدال والمدلول. وإذا كان هناك اسم ومُسمًّى،
فإنَّ المُتكلِّم هو الذي يُشير بالاسم لمُسمَّاه في حالة غياب هذا
المُسمَّى وذلك بهدف الإخبار عنه، وعلى ذلك يقوم المُتكلِّم بإيجاد علاقات
بين الإشارات اللغوية؛ فالعبارة «السماء جميلة» مثلًا تُشير إلى شيئَين؛
إلى السماء وإلى معنى الجمال، والمتكلِّم هو الذي أسند الجمال إلى السماء
ليخبر، بمعنى أنَّ المُتكلِّم حين يُخبر — ووظيفة الإخبار هي الوظيفة
المركزية للغة عند القاضي — فإنَّه يُشير بالاسم إلى الشيء ثمَّ يسند إليه
الخبر. وعلى ذلك فدور المُتكلِّم في الدلالة اللغوية يعادل دَور المواضعة
ولا غناء لأحدهما عن الآخر.
وحين قارن القاضي عبد الجبَّار بين دلالة المعجزة ودلالة الكلام، اعتبر
أنَّ المعجزة أشد دلالة: «لأنَّ من حق التصديق بالقول أن يصح فيه … المجاز
والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام.»
١٠٤ وعلى ذلك يرفع من شأن التصديق بالمعجزة على حساب التصديق
بالكلام الذي يُمكن أن يقع فيه المجاز والاستعارة، وهما أمران ثابتان في
الكلام لا زمان له؛ أي إنَّ الكلام وإنْ وقع دلالة — بالشرطَين السابقَين —
فإنَّه يتأخَّر عن أنواع الدلالات الأخرى بقابليته للاشتراك والاحتمال؛
ولذلك لا بُدَّ من وضع ضوابط لهذا الاشتراك والاحتمال والمجاز والاستعارة.
لا بُدَّ من وضع ضوابط لهذه الأمور وإلا خرج الكلام عن أن يكون دلالة. ومن
الضروري — والحالة هذه — أن يُحدِّد القاضي عبد الجبَّار الوجه الذي يقع
منه المجاز في الكلام. ومن البديهي ألَّا يكون المجاز واقعًا في أصل
المواضعة. فإذا كان المعتزلة قد انتهَوا — كما بيَّنا سالفًا — إلى أنَّ
العالم الخارجي ثابت وقائم بصرف النظر عن إدراكنا ومعرفتنا به، وإذا كانوا
قد ذهبوا إلى أنَّ الإدراك لا يُؤثِّر في المُدرك ولا في صفة من صفاته
سلبًا أو إيجابًا، وإذا كانت الأسماء اللغوية مجرَّد إشارات للأشياء، فمن
الطبيعي أن تكون المواضعة اللغوية لها ثبات الأشياء، بمعنى أن يُصبح الاسم
كالسِّمة والعلامة للشيء. واللغة — من هذه الجهة (المواضعة) — لا يجوز أن
تدخلها الاستعارة أو المجاز، غير أنَّ من حق الجماعة اللغوية أن تنتقل
بالمواضعة في الاسم عن معناه الحقيقي إلى معنًى آخر مجازي بشرط وجود علاقة
بين المعنى المنقول منه الاسم والمعنى المنقول إليه: «وبذلك جوَّزنا نقل
الألفاظ إلى الأحكام الشرعية، وجوَّزنا انتقال حكم اللفظة بالتعارف عن
المجاز إلى الحقيقة وعن الحقيقة إلى المجاز، وكل ذلك لا يُوجب قلب المعاني.»
١٠٥ ومعنى ذلك أنَّ المواضعة يجوز أن يحدث فيها التجاوز مع مراعاة
قصد الجماعة؛ أي مراعاة المعنى الذي تقصد إليه الجماعة حيث تُطْلِق اسمًا
على شيء من الأشياء أو صفة من الصفات. وهذا التجاوز لا يعني عند القاضي قلب
المعاني أو التداخل بين حدود الأشياء، ويكون المجاز حينئذٍ مواضعةً طارئة
على المواضعة الأصلية. وعلى ذلك يشترط القاضي عبد الجبَّار أن يكون للاسم
اللغوي حقيقة سابقة قبل استعماله في المجاز؛ «لأنَّ كون اللفظة مجازًا ولا
حقيقة لها لا يصح في اللغة»،
١٠٦ و«لأنَّ التجوُّز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وُضِع له في الأصل.»
١٠٧
وتدخل الاستعارة والمجاز أيضًا في الكلام من الجانب الثاني للدلالة
اللغوية؛ أعني جانب المُتكلِّم الذي يُعبِّر، ويستخدم اللغة للتعبير عن
قصده وإرادته. وما دام المُتكلِّم عنصرًا ثانيًا من عناصر الدلالة اللغوية
وما دام قصده شرطًا لاعتبار اللغة دلالة، فمن الطبيعي أن يدخل المجاز
والاستعارة اللغة من هذا الجانب؛ فالمواضعة تظل حتَّى مع التجاوز فيها
مواضعةً اجتماعية لا بُدَّ فيها من تواطؤ الجماعة صاحبة اللغة بأكملها، إلى
جانب أنَّ المجاز الذي يدخل المواضعة يرتبط بالأسماء المفردة، ولا يتناول
جانب التركيب الذي لا يتم إلا من جانب المُتكلِّم للتعبير عن قصده وإرادته.
وعلى ذلك فالمجاز والاستعارة في التركيب يختصَّان بإرادة المُتكلِّم ورغبته
في التعبير عمَّا يُريد؛ وذلك «لأنَّ الأمر لا يكون أمرًا إلا بالإرادة،
وكذلك الخبر.»
١٠٨
•••
ووقوع الاتساع والاشتراك والمجاز في اللغة من شأنه أن يُثير اعتراضًا
في وجه المعتزلة على اعتبارهم اللغة دلالة، بمعنى أنَّ ذلك يُخلُّ بمبدأ
الإشارة اللغوية. فإذا كانت المعجزة تقع موقع التصديق عند ادِّعاء النبوة،
وإذا كان الفعل بمجرَّده يدل على وجود الفاعل، وبوقوعه مُحكمًا يدل على
أنَّ فاعله عالم، فهذه — في النهاية — دلالات مباشرة لا يدخلها الاتساع
والمجاز الذي قد يُخلُّ بمبدأ الدلالة. لكن اللغة مع ما يدخلها من الاتساع
والمجاز قد تُضلِّل بدلًا من أن تدل. وهذا الاعتراض كان واردًا على
المعتزلة من كثيرين: «منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز
منداد من المالكية، وشُبهتهم أنَّ المجاز أخو الكذب، والقرآن مُنزَّه عنه،
وأنَّ المُتكلِّم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك
مُحال على الله تعالى.»
١٠٩
ويتضمَّن رد المعتزلة على هذا الاعتراض التفرقة بين أمرين؛ الأمر الأول
المُتكلِّم نفسه، أمَّا الثاني فالكلام. ومن ناحية المُتكلِّم يُفرِّق
المعتزلة بين مَن ثبتت حكمته — وهو الله تعالى — وبين مَن لم يُعْرَف حاله
— وهو المُتكلِّم العادي. أمَّا كلام مَن ثبتت حكمته فهو يدل لا محالة؛
لأنَّه لا يقع فيه الكذب أو محاولة التضليل. وكلام مَن لم يُعْرَف حاله
يكون طريقًا للنظر والتثبُّت والتيقُّن، وعلى هذا فكلام كلَيهما يقع
دلالة.
أمَّا الأمر الثاني وهو الكلام
نفسه، فيُفرِّق القاضي عبد الجبَّار بين الكلام إذا وقع مُجرَّدًا عن
قرينة، أو إذا قارنته قرينة تصرفه عن ظاهر المراد به. في الحالة الأولى يدل
الكلام بظاهر المواضعة، بينما يدل في الحالة الثانية بالقرينة على اعتبار
أنَّها جزء من الدلالة. وهذه التفرقة بين المُتكلِّم الذي ثبتت حكمته
وغيره، وبين اللغة مجرَّدة عن القرينة أو بها، تظل تفرقةً تدور في إطار
الغرض الديني للمعتزلة الذي يهدف إلى معرفة كلام الله — القرآن — وما يدل
عليه: «فأمَّا مَن يقول: إنَّ المُعجِز، إذا كان إنَّما يدل كدلالة
التصديق، وكان الكلام لا يدل على شيء لصحة وقوعه مُجْمَلًا ومشتركًا،
ولدخول الاتساع والمجاز (فيه)، فما يحل محله، بألَّا يدل أَولى»، فقوله
ظاهر السقوط؛ لأنَّه جعل ما نُصب منصب الأدلة خارجًا عن أن يكون دلالة؛
لأنَّ الكلام نُصب هذه النصبة، ليدل بالمواضعة، على ما لا يدل عليه الفعل،
وعلى ما لا يُعْلَم بالمشاهدة. لكن المُتكلِّم قد يكون حكيمًا، فيجب في
كلامه أن يكون دالًّا، وقد لا نعلم حكمته؛ فكلامه يكون طريقًا للنظر، لا
لأنَّه ليس بدلالة؛ لأنَّا لو علمنا من حاله أنَّه حكيم، لكان دلالة،
وإنَّما لا نعدُّه دلالة، إذا وقع من جهة «مَن» لم تثبت حكمته، لأمر يرجع
إلى أنَّه لم يقع منه على الوجه الذي يدل، من حيث لا نعلم أنَّ مقاصده
صحيحة، وذلك أمر لا يقدح في دلالته.
يُبيِّن ذلك أنَّ الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالمًا، إذا وقع
مرتَّبًا على طريقة مخصوصة، ومتى وقع على طريقة الاحتذاء، أو على غير جهة
الترتيب، لم يدل. ولا يخرج ذلك الفعل المحكم من أن يكون دلالة، فكذلك القول
في الكلام، فإن كان ما ظنَّه السائل من الاشتراك ودخول المجاز يمنع من كون
الكلام دلالة، فما قلناه في الفعل المحكم وصحة وقوعه ممن ليس بعالِم، على
بعض الوجوه، يجب أن يمنع من كونه دلالة … فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة
الكلام؛ لأنَّا نقول إنَّه يدل، إذا تجرَّد وجرى من قرينة، على خلاف الوجه
الذي يدل عليه إذا ضامَّه قرينة، ولم يتجرَّد. ونقول: إنَّه يدل، إذا وقع
من الحكيم الذي مقاصده صحيحة، على خلاف الوجه الذي يدل مِمَّن لم تثبت
حكمته؛ فقد صار افتراق هذَين الوجهَين اللذَين على أحدهما يدل، وعلى الآخر
لا يدل، أو يدل على أحد الوجهَين بخلاف دلالته على الوجه الآخر، بمنزلة
افتراق الجنسَين … لأنَّ الكلام إنَّما يدل، متى تجرَّد، على ما وُضِع له؛
لأنَّه يُخالف حاله إذا قارنه غيره فقد صار باختلاف هاتَين الحالتَين،
تختلف دلالته.»
١١٠
وكل هذه المقارنة الطويلة بين الفعل إذا وقع مُحكمًا ودلالته على علم
فاعله، وبينه إذا وقع على جهة الاحتذاء فلا يدل، وبين اللغة وكيف أنَّ
وقوعها من جهة الحكيم يجعلها تدل، بينما وقوعها من جهة مَن لم تثبت حكمته
يجعلها طريقًا للنظر. كل ذلك يؤكِّد النظرة الدينية لطبيعة اللغة ودلالتها
عند المعتزلة. هذا من جهة التفرقة بين المُتكلِّمين. أمَّا من جهة الكلام
نفسه، فالكلام يدل إذا تجرَّد عن القرينة بطريقة تختلف عن دلالته مع وجود
القرينة، لكنَّها تدل على أي حال. والمهم أن نفهم قصد المتكلِّم وغرضه.
والقرينة في حالة المتكلِّم العادي — مَن لم تثبت حكمته — لا بُدَّ أن تكون
قرينةً لفظية موجودة في الكلام نفسه. أمَّا في حالة المُتكلِّم الحكيم —
وهو الله — فمعرفتنا بحكمته وأنَّه لا يكذب ولا يفعل القبيح — وهي معرفة
عقلية سابقة على الشرع عند المعتزلة — هي القرينة التي تعلو على كل قرينة،
والتي تجعل كلامه دلالةً لا محالة. وسواء كانت القرينة لفظيةً أو عقلية
فوضوح قصد المُتكلِّم يظل هو الهدف ما دامت اللغة دلالة، وعلى ذلك «لا
يمتنع إطلاق العبارة في غير حقيقتها إذا فُهم الغرض.»
١١١
•••
إذا كان الاتساع والاشتراك يدخل من جهة المواضعة، كما يدخل من جانب
المُتكلِّم، فليس من حق المُتكلِّم أن ينقل أي لفظ شاء إلى أي معنًى يُريد،
وإلا اختلَّت الدلالة اللغوية؛ فهناك في اللغة نوعان من الأسماء؛ الألقاب
المحضة، وأسماء المعاني أو الصفات. والفارق بين هذَين النوعَين أنَّ اللقب
لا يُفيد فيما يُشير إليه أكثر من مجرَّد الإشارة، وذلك كاسم العَلَم الذي
يُشير إلى مُسمَّاه دون أن يُحدِّد صفةً من صفاته أو يُبْرِز خاصيةً من
خواصه. ولذلك قد يُطلَق اسم واحد على أفراد كثيرين دون أن تختل دلالة
الإشارة في اللقب. أمَّا أسماء الصفات أو أسماء المعاني فهي تُشير إلى
خاصية في الشيء المُشار إليه، فكلمة «أَسْوَد» تُشير إلى صفة «السواد» في
الشيء المُشار إليه: «اعلم أنَّ الاسم على ضربَين؛ أحدهما لا يُفيد في
المسمى به، وإنَّما يقوم مقام الإشارة في وقوع التعريف به من غير أن يقع
التعريف بما يُفيده، وهو الذي سمَّيناه بأنَّه لقب محض؛ ومنه ما يُفيد في
المُسمَّى به جنسًا أو صفة … وهو الذي يُسمِّيه شيوخنا صفات، ولا يجعلون
الفارق بين الاسم والصفة ما يقوله أهل العربية في ذلك، ومثال اللقب المحض
هو قولنا زيد وعمرو إلى ما شاكله. والقول في أنَّ ذلك لا يُفيد بيِّن؛
لأنَّه يقع موقع الإشارة، فكما أنَّ الإشارة تُعرِّف ولا تُفيد في المشار
إليه حالًا وصفة، فكذلك ما أُقيم مقامها؛ ولذلك يصح تبديل اللقب وصفة
الملقَّب واحدة، وتختلف الألقاب والصفة واحدة، وتتفق والصفة مختلفة.»
١١٢
فاللقب المحض على ذلك لا يحمل أي معنًى، بعكس الصفة التي تدل على
معنًى، وهذا المعنى الذي تدل عليه الصفة لا بد أن يكون ثابتًا — أولًّا —
بالدليل العقلي، ثمَّ تأتي العبارة أو الصفة للدلالة عليه: «إنَّ إثبات
المعاني بالأقوال والأسماء لا يصح؛ لأنَّ الواجب إثباتها بالطريق الذي تثبت
منه، ثمَّ يُعبِّر عنها.»
١١٣ ولذلك يمنع المعتزلة خصومهم في مواضع كثيرة من الاستدلال بوجود
العبارات على وجود المعاني
١١٤ على أساس أنَّ العبارات يجب أن تدل على معانٍ سبقت معرفتها
بالأدلة العقلية، أمَّا العبارات التي لا تدل على معانٍ فتُعدُّ من قبيل
الخطأ اللغوي. ويتبدَّى حرص المعتزلة على وضوح الدلالة اللغوية في هذه
المسألة في تأكيدهم على ضرورة أن تُستعمَل أسماء الصفات في معانيها، وإلا
تحوَّل الكلام من أن يكون صدقًا إلى أن يكون كذبًا: «اعلم أنَّ كل اسم
يُفيد ولم يكن لقبًا محضًا لا يُحْسَن أن يُسْتَعمل إلا فيما عُلِم فيه ما
يفيده. وغلبة الظن في ذلك لا يقوم مقام العلم في الإخبار لِمَا فيه من
تجويز كونه كذبًا. فأمَّا في ابتداء الوضع فإنَّه يقوم مقامه … ولا يحسن
استعمال العبارة المفيدة إلا على الوجه الذي وُضعت له في سائر ما تنقسم
إليه من الكلام، وإلا كان المُتكلِّم بها عابثًا أو في حكم العابث؛ ولذلك
لا يحسن اتباع أهل اللغة في مواضعاتهم إلا بعد العِلم بمقاصدهم فيما وضعوه
من اللغة. فثبت بذلك أنَّ إجراءهم الاسم المفيد لا يحسن إلا بعد العلم
بفائدته، كما أنَّ ما عُلِم فيه فائدة الاسم يحسن إجراء الاسم عليه.»
١١٥ وهذا الحرص على استعمال أسماء الصفات في معانيها المعقولة
أولًا، حتَّى إنَّه لا يجب اتباع أهل اللغة في أسمائهم إلا بعد العلم
بمقاصدهم، هذا الحرص لا يمنع من إجراء هذه الأسماء على ما عُلم فيه فائدة
الاسم. بمعنى أنَّنا يجب أن نعقل معنى «الطول» أولًا، ثمَّ نُجري عليه
الاسم الدال عليه، ثمَّ لا مانع بعد ذلك من أن نُطْلِق هذا الاسم على كل ما
علمنا فيه فائدة «الطول»، وليست هذه محاولةً منَّا لاستنتاج أنَّ أسماء
الصفات هي التي يجوز فيها الاستعارة والمجاز دون الألقاب المحضة التي
تُنْبِئ ولا تعني فيما يقول ستيوارت مل.»
١١٦ فالقاضي نفسه — تمشيًا مع مبدأ المعتزلة الأثير (قياس الغائب
على الشاهد) — لا يمنع من إطلاق الأسماء — وهي أسماء المعاني كما سنرى بعد
ذلك — على الغائب إذا ثبتت صحتها في الشاهد، وذلك على أساس أنَّ المواضعة
إنَّما تتم على الشاهد المحسوس المُدْرَك، ثمَّ يُمكن للمُتكلِّم أن ينتقل
بعد ذلك في إطلاق هذه الأسماء على ما غاب عنه، إذا أفادت مثل هذه المعاني
المعقولة في الشاهد: «اعلم أنَّ المواضعة إنَّما تقع على المشاهدات وما جرى
مجراها؛ لأنَّ الأصل فيها الإشارة، على ما بيَّناه. فإذا ثبت ذلك، فيجب،
متى أردنا التكلُّم بلغة مخصوصة، أن نعقل معاني الأوصاف والأسماء فيها في
الشاهد، ثمَّ ننظر، فما حصلت فيه تلك الفائدة نُجرِي عليه الاسم في الغائب.
وهذا في بابه بمنزلة معرفة ما له أصل في الشاهد في أنَّه يجب أن يُعلَم
أولًا ثمَّ يُبْنَى عليه الغائب، نحو ما بيَّناه في الاستدلال بالشاهد على الغائب.»
١١٧ ومبدأ قياس الغائب على الشاهد مبدأ أثير لدى المعتزلة، بل هو
حجر الزاوية في فلسفتهم كلها سواء ما اتصل منها بالعدل أم التوحيد.
والذي يصحُّ أن ننقله من الأسماء من الشاهد إلى الغائب لا يمكن أن يكون
الألقاب المحضة؛ لأنَّها كما سبق أن أشرنا تُشير ولا تُفيد، والأسماء التي
تُنقل من الشاهد إلى الغائب يجب أن تُفيد إلى جانب وظيفتها الإشارية، وإلا
لم يكن لإطلاقها على ما غاب عنَّا أي معنًى. وإذا جاز أن نُطلق الألقاب
المحضة على ما غاب عنَّا فما حاجتنا إلى أن نعقل معانيها في الشاهد، وهي
أصلًا لا تحمل أي معنًى، ولا تؤدِّي أي وظيفة سوى مجرَّد الإشارة العارية
عن أي معنًى؟
لا يتركنا القاضي عبد الجبَّار للاستنتاج والتخمين، فإذا كان اللقب
المحض لا يُفيد معنًى أو صفة، وإنَّما يُشير إلى مُسمَّاه فحسب، فإنَّ
الألقاب المحضة لا يجوز أن تُطلَق على الله؛ لأنَّه ليس مِمَّا يُشار إليه
ليقع به التعريف أولًا، وإنَّما هو سبحانه مِمَّا يجوز عليه الوصف؛ فلذلك
نُطلق عليه الأوصاف التي تفيد فيه معنًى أو وصفًا دون تلك الألقاب التي لا
تُفيد شيئًا: «وأمَّا ما لا يُفيد التعريف، ولكنَّه تعريف من المفيد في
إبانة نوع من الأنواع أو جملة أو ضرب من الفعل من نحو قولنا إرادة وقدرة
وحياة، وقولنا إنسان ودابة، وقولنا ضَرَبَ وعَدَّد، فذلك، وإن كان من باب
الألقاب، فمن حيث حلَّ محلَّ المفيد، أُجري مجراه في حكم الاستعمال.
والأسماء المفيدة أو الجارية مجرى المفيد يحسن استعمالها في الله تعالى.
فأمَّا الألقاب المحضة فاستعمالها فيه لا يحسن إلا أن يرد التقييد به …
فإذا ثبت أنَّها لا تُفيد فيجب ألَّا يحسن استعمالها فيه؛ لأنَّه عبث لا
فائدة فيه.»
١١٨ ولعل هذا كله يسمح لنا باستنتاج أنَّ الألقاب المحضة التي لا
تُفيد أي معنًى سوى دلالتها الإشارية لا يصح فيها المجاز، كما أنَّها لا
يصح أن تُطلَق على ما غاب عنَّا من المعاني. وعلى عكس ذلك فأسماء الصفات
والمعاني هي التي يصح فيها النقل والمجاز والاستعارة: «ولذلك تراهم لا
يُطلقون المجاز في الأعلام إطلاقهم لفظ النقل فيها.»
١١٩
•••
المجاز إذن لا يكون في الألقاب المحضة — أسماء الأعلام — لأنَّها
تُنْبئ ولا تعني، تُشير ولا تدل، وإنَّما يكون في الصفات وأسماء المعاني.
وإذا كانت هذه الأسماء نفسها لا تُطلَق إلا بعد أن تُعقل المعاني، فمن
الطبيعي أن يكون نقلها من مجال إلى مجال، أو من الشاهد إلى الغائب، مرتبطًا
بوجود علاقة بين معنى الاسم وبين ما يُنقل إليه على سبيل المجاز أو
الاستعارة. ويخشى المعتزلة — أعني القاضي عبد الجبَّار — إطلاق لفظ
المشابهة على هذه العلاقة بين المعاني؛ وذلك لأنَّهم في إطار فكرهم
وفلسفتهم يُحاولون نفي مشابهة الله للبشر في ذاته وصفاته. ولكن معنى
المشابهة بين المعاني المجازية والمعاني الحقيقية يُمكن أن يُفهم من
تحليلاتهم لبعض العبارات المجازية في القرآن. فإذا وصف الله نفسه بقوله:
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَدًا: «فمجاز؛ لأنَّ الإحاطة في الحقيقة تُستعمل فيما يحتوي على
الشيء، وذلك من صفة الأجسام، وإنَّما وصف نفسه بذلك من حيث عَلِم جميع
المعلومات، فتشبه من حيث علمها أجمع، بالمحيط بالشيء؛ لأنَّه من حيث أحاط
به يعلم أحواله.»
١٢٠ وإذا وُصِف الرجل العظيم بأنَّه رفيع، فإنَّما يكون ذلك «على
جهة المجاز تشبيهًا له بمن ارتفع مكانه.»
١٢١ وإذا سُمِّي عيسى بأنَّه كلمة الله فالغرض «أنَّ الناس يهتدون
به كاهتدائهم بالكلمة.»
١٢٢ … إلخ، كل هذه الأمثلة المبثوثة في الجزء الخامس من كتاب
المُغني والتي تؤكِّد جميعًا فكرة المشابهة كأساس للعلاقة بين المعنى
الحقيقي والمعنى المجازي للفظ الواحد.
غير أنَّ فكرة المشابهة لا تعني التطابق، وإلا لتحوَّل المجاز إلى
حقيقة، ولضاعت الحدود بين العوالم، خصوصًا بين عالَمَي الشاهد والغائب، وهي
حدود يحرص المعتزلة على وجودها وصلابتها. وإن كان ذلك لا يمنع قياس أحدهما
— الغائب — على الآخر — الشاهد. ومبدأ القياس نفسه يقوم على نوع من
المشابهة التي لا تتطابق ولا تلغي الحدود بين العالمين. وهذا هو الذي يجعل
القاضي عبد الجبَّار يمنع من استعمال اللفظ مجازًا على جهة الحقيقة؛ أي
يمنع من الخلط بين الاستعمالَين الحقيقي والمجازي للفظ الواحد: «اعلم أنَّ
من حق المجاز إذا اسْتُعْمِل ألَّا يُراعى معناه كما يُراعى ذلك في
الحقائق؛ لأنَّ ذلك يوجب كونه في حكم الحقيقة، لأنَّه إن رُوعي معناه
وجُعِل تابعًا له، وأُجري حيث يجري معناه، حلَّ محلَّ الحقيقة.»
١٢٣ وهي نفس الفكرة التي سبقت الإشارة إليها عند الجاحظ. وغاية
كلٍّ من الجاحظ والقاضي واحدة على أي حال؛ فالجاحظ قد اشترط ذلك للمحافظة
على الوظيفة البيانية للغة، وكذلك يشترط القاضي عبد الجبَّار محافظةً على
الوظيفة الدلالية. ويظل الإلحاح — عند كلَيهما — والحالة هذه على علاقة
المشابهة التي ينتقل اللفظ على أساسها من معنًى إلى معنًى آخر. وأي نسيان
لمبدأ المشابهة من شأنه أن يُخلَّ بمبدأ الدلالة في المجاز من ناحية، وأن
يُخلَّ بتمايز عالمَي الغيب والشهادة إذا كان المجاز في صفات الله وأحواله
من ناحية أخرى.
وقد كان متوقَّعًا، وقد ربط المعتزلة الدلالة اللغوية بقصد المُتكلِّم
وإرادته، بما في ذلك الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، أن يتنبَّهوا إلى
الوظيفة النفسية والانفعالية للمجاز في التعبير عن حالات وأحوال تعجز اللغة
العادية — لغة الحقيقة والإشارة — عن الإفصاح عنها بحكم ثبات دلالتها
وفقرها الإيحائي. إلا أنَّنا لا نجد شيئًا من ذلك على الإطلاق؛ إذ إنَّ
إطار الجدل الديني، وتركُّز البحث حول الله، باعتباره مُتكلِّمًا، وحول
القرآن باعتباره كلام الله، والرغبة الدينية في استخراج الدلالة المعرفية
من النص القرآني؛ كل ذلك كان له تأثيره في توجيه مبحث المجاز هذه الوجهة
التي تُعنى في المحل الأول بالدلالة أكثر من عنايتها بالصورة، ومن ثمَّ
تحوَّلت إيحاءات المجاز التصويرية — على يد المعتزلة — إلى دلالات إشارية.
وبناءً على ذلك لم يجد المعتزلة من وظيفة للمجاز في القرآن سوى إثارة
التأمُّل العقلي والاجتهاد النظري الذي عدُّوه جزءًا من التكليف، الغرض منه
تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد على ثواب المُقلِّد ویربو عليه.
ومن أجل تثبيت الدلالة المجازية، والمحافظة على وضوح الدلالة اللغوية،
يمنع المعتزلة المُتكلِّم من استعمال المجاز فيما لم يُستعمل، حتَّى لو
كانت علاقة المشابهة واضحةً بارزة؛ فاللفظان قد يتفقان في المعنى، ومع ذلك
يُنقَل أحدهما عن الحقيقة إلى المجاز ولا يُنقَل الآخر، مع إمكانية أن تقوم
المشابهة بين استعمالهما معًا في الحقيقة واستعمالهما معًا في المجاز.
والأصل في المنع أو التجويز يظل — في النهاية — هو استعمال الجماعة لا
الفرد، فما استعملته الجماعة مجازًا جاز استعماله، وما امتنعت عن استعمال
المجاز فيه لا يجوز استعماله: «ولا يمتنع في اللفظتَين المتفقتَين في
المعنى أن تُستعمل أحدهما مجازًا حيث لا تُستعمل الأخرى، وعلى هذا فإنَّ
الغائط والمكان المطمئن كانا في الأصل واحدًا، ثمَّ استُعْمِل أحدهما في
الكناية عن قضاء الحاجة ولم يُسْتَعْمل الآخر.»
١٢٤
ومِمَّا يدخل في الحرص على تثبيت الدلالة اللغوية ويؤكِّدها أنَّ
المعتزلة لا يُحبُّون التوسُّع كثيرًا في الاستعمالات المجازية، ويحرصون
على البُعد عن التأويلات المجازية كلما وجدوا في حقيقة اللغة مخرجًا.
وبالرغم من أنَّ خصومهم قد اتهموهم بأنَّهم يحملون الآيات على التأويلات
المجازية المستكرهة، فواقع الأمر أنَّ المعتزلة — شأن غيرهم من الفِرق —
يُعدُّون من أنصار الحقيقة، وكل الخلاف أنَّهم يعتمدون إلى جانب القرينة
اللفظية على القرينة العقلية التي تسمح لهم بتأويل كل ما لا يتفق وتصوُّرهم
لله ولعدله. لكن الأساس أنَّ الحقيقة عندهم أكثر دلالةً من المجاز، وعلى
ذلك يمنعون من حمل اللفظ على المجاز إذا أمكن حمله على الحقيقة؛ «لأنَّ
اللفظة متى أمكن حمل معناها في كل موضع على حقيقة واحدة، فحملها على فوائد
مختلفة، أو على المجاز في موضع والحقيقة في موضع آخر لا يجوز.»
١٢٥
وهم لا يمنعون تأويل اللفظ على المجاز فحسب، بل يمنعون استعماله كذلك
إلا فيما استُعْمِل فيه، فإذا استُعْمِل لفظ «جائر» في السهم إذا زال عن
سمته، فلا يصح أن تنقل اللفظة إلى كل ما أدَّى هذا المعنى من الخروج عن
عادته، وإلا تساوى المجاز والحقيقة، وصعبت التفرقة بينهما. وكل هذا من شأنه
أن يُخلَّ بمبدأ الوضوح المطلوب في الدلالة اللغوية حتَّى تظل دلالة:
«ووصفهم للسهم إذا زال عن سمته بأنَّه جائر، مجاز عندنا؛ لأنَّهم لا يصفون
كل ما زال عن سمته بذلك، فلا يصفون الحجر المرمي بذلك، ولا غيره، فعُلم
أنَّه مجاز، وإلا كان يشيع في هذه الفائدة. ألَا ترى أنَّه لمَّا أفاد وقوع
الجَور منه، استمرَّ في كل مَن فعل الجور؟ وأمَّا وصفهم السحاب بأنَّها
ظالمة، إذا جادت بالمطر في غير حينه، فمجاز؛ لأنَّه لو كان حقيقةً لاستمرَّ
في كل ما له حكم، وحصل له ذلك أو به في غير الوقت المعتاد، حتَّى يُقال في
الشجرة إذا تأخَّر نُضْج ثمارها بأنَّها ظالمة، فعُلم بذلك أنَّه استُعْمِل
فيها تشبيهًا بفاعل الظلم لمَّا كان المُبتغى منها المطر، في حين ما أخطأ
به كما أخطأ الظالم طريق العدل فأقدم على الظلم.»
١٢٦ وإذا لم يكن ثمَّ ما يمنع من وصف شجرة بأنَّها ظالمة، إذا كانت
هذه الصفة في السياق الذي تَرد فيه تؤدِّي وظيفةً في نقل خبرة أو انفعال أو
تجربة، فإنَّ القاضي عبد الجبَّار يمنع ذلك — رغم وجه المشابهة الواضح —
حتَّى لا تتداخل الحدود بين الحقيقة والمجاز. وتظل هذه الشروط التي تحدُّ
من طاقة المجاز على التعبير عن مدركات وخبرات وأحوال جديدة خاضعة للمبدأ
الاعتزالي عن اللغة، وهو أنَّها نوع من أنواع الدلالة. ويظلُّ الإلحاح على
علاقة المشابهة التي أقامت على أساسها الجماعة عبارتها المجازية هو الأساس
في الاستخدام المجازي؛ وذلك بهدف التفرقة بين الدلالتَين الحقيقية
والمجازية حتَّى لا تختلط إحداهما بالأخرى في ذهن المُتكلِّم أو المستمع،
الأمر الذي قد يؤدِّي للَّبس والإبهام، ويعوق عملية التوصيل التي هي وظيفة
الدلالة اللغوية. وعلى ذلك لا يمتنع أن يُطلق اللفظ في معنى ما يشبهه ويكون
حقيقةً في هذا المعنى الثاني، إذا كانت الجماعة استعملته في كليهما على
الحقيقة: «وقد أنكر بعضهم أن يُوصف العلم بأنَّه اعتقاد على الحقيقة؛ لأنَّ
العاقل يحكم ما عرفه، كإحكام مَن يعقد الحبل والخيط بالعقد المُحكم. وهذا
وإن لم يبعد أن يكون الأصل فيه ما قاله، فذلك غير دال على أنَّه ليس بحقيقة
في الاعتقادات؛ لأنَّه لا يمتنع في الأسماء أن توجد من غيرها، وتصير مع ذلك
حقيقةً في الثاني، إلا أن نُثبت بالدلالة، أنَّ أهل اللغة استعملوها في
الثاني على جهة التشبيه بالأول، فيجب الحكم فيه بأنَّه مجاز.»
١٢٧
وكل هذه الشروط السابقة تعود بالمجاز إلى أن يكون مواضعةً سابقة تواضعت
عليها الجماعة اللغوية، ولا يجوز للفرد أن يخرج عن إطارها ولا أن يقيس
عليها. والشرط للاستعمال المجازي للجماعة أن تكون أدركت وجه الشبه بين
المعنيَين، ولو كان وجه الشبه موجودًا ولم تُدرِكه الجماعة، ولم تستعمل
اللفظ مجازًا، فلا يجوز ادعاء المجاز فيه. وهذا التواضع المجازي يُساوي في
قوته وثباته المواضعة الحقيقية؛ وذلك لأنَّ «المجاز قد صار موضوعًا لِمَا
استعمل فيه مجازًا؛ فهو في الحكم بمنزلة اسم يُسْتَعْمل في أمرَين على جهة الاشتراك.»
١٢٨ وكل هذا ينتهي إلى تثبيت الدلالة اللغوية — مجازيةً كانت أو
حقيقية — ويعود بها إلى أن تكون دلالةً عادية رامزة مشيرة، لا تحمل أي نبض
إيحائي. وهي في ذلك تتساوى مع أنواع الدلالات الأخرى العقلية والسمعية.
وتُصبح اللغة — بنظامها الثابت — هي المرجع في معرفة الأسماء والصفات.
ويفقد المتكلِّم — الذي ألحَّ المعتزلة على دوره في الدلالة اللغوية — أي
فعالية إيجابية: «قد بيَّنا من قبلُ أنَّ استعمال الأسماء والأوصاف يحسن من
جهة اللغة، وإن لم يرد بها التوقيف. وإنْ صحَّ ذلك صارت اللغة هي الأصل
فيه، كما أنَّ أصل ما يُعلم من جهة السمع، فأدلة السمع هي الأصل فيه، وما
يُعلم بالعقل فهو الأصل فيه. فكما أنَّ الحكم العقلي يجب الرجوع في معرفته
إلى الطريق العقلية وكذلك السمعي، فكذلك القول في اللغة إذا التبس الحال فيه.»
١٢٩
وإذا كان المجاز — شأنه شأن الحقيقة — يعتمد على المواضعة السابقة
للجماعة، فمن الطبيعي أن يكون المجاز الذي سبق استعماله هو المقياس في
الاستعمال. وإذا كان المعتزلة قد أباحوا لأنفسهم قياس الغائب على الشاهد
فيما طريقه المعرفة العقلية، وفي إطلاق الأسماء والصفات، فإنَّهم قد منعوا
القياس في المجاز، بل لا بُدَّ من متابعة الاستعمالات المجازية التي سبق
استخدامها دون أن يُقاس على نفس نمطها. فلا «يُقال: سل الكتاب ويُراد به
صاحبه أو كاتبه، قياسًا على: سل القرية ويراد به الأهل. ولو كان ذلك حقيقةً
لرُوعي المعنى المُفاد ولأُجري الاسم حيث يجري المعنى.»
١٣٠
وثمَّ خلاف بين أبي علي وأبي هاشم الجبَّائيَّين حول جواز القياس على
المجاز، وهو خلاف لا يتصل بجوهر القضية؛ فأبو هاشم يمنع القياس منعًا
باتًّا، بينما يُجوِّزه أبو علي إذا كانت علاقة المقاربة واضحةً بحيث يظهر
المعنى للمخاطَب.
١٣١ وكلاهما يسعى إلى وضوح الدلالة اللغوية أو المجازية على
السواء.
وهذا المبدأ — مبدأ عدم القياس في المجاز — يكاد المعتزلة يُطبِّقونه
مع مبدأ التعارف السابق على المجاز على النص القرآني نفسه؛ فمن المؤكَّد
أنَّ القرآن قد جاء بعبارات مجازية لم ترِد في الشعر العربي، بمعنى أنَّ
القرآن يتضمَّن من الصور المجازية الكثير مِمَّا لم يوجد في الشعر العربي،
خصوصًا في تلك الآيات التي تُعبِّر عن ذات الله أو صفاته. وهذه الصور
المجازية تقف ضد مبدأ المعتزلة بعُرفية المجاز وضرورة أن يكون سابقًا في
عرف الجماعة. وفي محاولة رد هذه الصور المجازية في القرآن إلى مبدئهم العام
يفترض المعتزلة أنَّ هذه الصور المجازية كانت مسبوقةً بمجازات عربية مثلها
لم ينقلها لنا الرواة. ويعتبرون أنَّ القرآن نفسه دليل على وجود هذه
المجازات في لغة العرب: «فإن قيل: أليس قد خاطب تعالى في كتابه بأنواع من
المجاز لا تُعْرَف في اللغة في وصفه ووصف غيره. وذلك إنْ ذُكِر طال؟ فإذا
صحَّ ذلك عُلِم أنَّه لا يجب أن يُفسَّر المجاز حيث استُعمل؟ قيل له: إنَّ
ما لم يثبت في خطاب الله تعالى أنَّه شرعي منقول من المجاز، فيجب أن نقطع
على أنَّهم قد تكلَّموا بمثله، كما أنَّ ما تضمَّنه الكتاب من الحقائق يجب
ذلك فيه، كقوله تعالى في وصف الكتاب:
وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ، ولا يجب في جميع ما تكلَّموا به من المجاز أن
يكون منقولًا إلينا، ولا يجب إذا لم نعرفه ألَّا يكون معروفًا عند بعض
العرب، ولو انقطع نقله لكان الكتاب يدل عليه، ولو أنَّ واحدًا منهم حكى
ضربًا من المجاز لعمل بقوله، فإذا شهد القرآن به كان بأن يقطع بذلك أولى.
فلا يجب أن يُوجد في صريح كلامهم نفس ما وُجِد في القرآن، لكنَّهم إذا
تكلَّموا بمثله جاز أن يُخاطِب تعالى به، فإذا استجازوا القول بأنَّ فلانًا
جاءني وأنا مشغول، ويُراد به رسوله بأمره، لم يمتنع أن يقول جلَّ وعز:
وَجَاءَ رَبُّكَ؛ لأنَّ الباب في ذلك واحد كما
ذكرناه في القرية؛ ولذلك متى عَلِمنا من قول رسول الله
ﷺ مثل ذلك،
عَلِمنا أنَّ العرب تكلَّمت به أو بمثله فلا مَطعَن على ما ذكرناه بذلك.»
١٣٢
والذي يُمكن الخروج به من هذا النص أنَّ المعتزلة — في دفاعهم عن صحة
تأويلاتهم — كان عليهم الاستشهاد بالشعر سائرين في ذلك على درب اللغويين
والمُفسِّرين منذ ابن عباس. ولكن مشكلة الاستشهاد بالشعر أنَّ الخصم يُمكن
له أن يستشهد به كذلك. ومن ناحية أخرى فهناك آيات مثل وَجَاءَ رَبُّكَ لا يستطيعون إيجاد ما يُقابلها في التراكيب
العربية والشعرية للدلالة على المعنى الذي يُريدون إليه. وبدلًا من أن
يُسلِّم المعتزلة بوجود مجازات في القرآن لم ترد في الاستعمال العربي،
يذهبون إلى افتراض وجود مثل هذه المجازات وإن كانت لم تصل إلينا ولم يحفظها
لنا أحد. وهذه كلها افتراضات أدَّت بهم إليها تلك الرغبة في تثبيت الدلالة
المجازية، وربط القرآن الكريم هذا الربط الميكانيكي باللغة العربية
ووسائلها التعبيرية وطرائفها الأسلوبية، حتَّى ليجعلوه يقل — من هذه
الزاوية — عن شعر شاعر كامرئ القيس أو زهير فيما أضافاه للغة من تعبيرات
وتراكيب وصور.
وربما أمكن التماس العذر للمعتزلة في هذه الافتراضات التي راحوا
يتمحَّلونها؛ إذ الآيات التي تُثير هذه المشكلة آيات لا يُسلِّم خصوم
المعتزلة بتأويلهم لها، بل ذهب أغلبهم — خصوصًا الظاهرية — إلى أنَّها
حقائق، وإنْ كانوا نفَوا كيفية المجيء. ونتيجةً لذلك حاول المعتزلة —
لتأكيد وجهة نظرهم — ربط هذه التعبيرات المجازية بمثيلات لها في اللغة،
وافترضوا وجود مثلها في اللغة وإنْ لم تصلهم عن العرب ولم ينقلها
أحد.
أمَّا في الألفاظ الشرعية التي نقلها القرآن عن معناها اللغوي إلى
معناها الشرعي، كألفاظ الصلاة والزكاة والصوم، فلا نزاع بين المعتزلة
وخصومهم حول هذا التجاوز في الدلالة، ومن ثمَّ لا يحتاج المعتزلة للافتراض
والتمحُّل، ويُسلِّمون بأنَّ نقل مثل هذه الألفاظ يُعدُّ بمثابة ابتداء
مواضعة من جهة الله، ولم تُستعمل في القرآن على سابق مثال: «ولا تلزم على
ذلك الألفاظ الشرعية؛ لأنَّه جلَّ وعز، من حيث ثبتت حكمته يجب صرف كلامه
إلى أنَّه أراد به الوجه الصحيح. فإذا بيَّنه ونقل اللفظ عن اللغة صار
كابتداء مواضعة منه.»
١٣٣ وهكذا يقع المعتزلة فيما حاولوا الهروب منه، ويُسلِّمون بجواز
أن يكون في القرآن ما لم تقع المواضعة عليه، ويستندون في ذلك إلى فكرة
الحكمة الإلهية، وهي فكرة كانت كفيلةً بإخراجهم من المأزق السابق دون
افتراضات أو تمحُّلات.
•••
تحدَّدت مهمة اللغة عند القاضي على مستوى التركيب بأنَّها «الإنباء»
عمَّا في النفس، واعتبر القاضي أنَّ وظيفة «الإخبار» هي الوظيفة المركزية
للغة، لدرجة أنَّه ردَّ كل الصيغ اللغوية من أمر ونهي واستفهام ونداء
وقَسَم إلى معنى الخبر. ويرتبط الخبر في دلالته بقصد المُتكلِّم وإرادته:
«ولذلك يصح في الخبر المجاز والتعريض والألغاز.»
١٣٤ وقد استبعد المعتزلة من دائرة بحثهم المُتكلِّم البشري على
أساس أنَّ كلامه يُمكن معرفة دلالته بالاضطرار، وذلك على عكس كلام الله
عزَّ وجلَّ الذي لا يُمكن معرفة دلالته كاملةً إلا استدلالًا كما سبقت
الإشارة. وإذا كان تقدُّم المواضعة يُعدُّ عند المعتزلة شرطًا لوقوع كلام
الله دلالة، فإنَّ معرفة قصده تعالى يُعدُّ شرطًا ثانيًا لا يقل في أهميته
عن المواضعة السابقة. يقول القاضي مشترطًا المواضعة: «اعلم أنَّه لا بُدَّ
من لغة يتواضع عليها المخاطَب أولًا ليصح أن يفهم عن الله سبحانه وتعالى ما
يُخاطبه به … والذي يدلُّ على ذلك أنَّ العلم بما يُفيده الخطاب الوارد عن
الله سبحانه هو علم بأنَّه أراد به ما يتعلَّق ذلك الخطاب به، فمتى لم
تتقدَّم من المخاطب لغة لم يعلم مراده، عزَّ وجل، بكلامه؛ لأنَّه إنَّما
يعلم ذلك متى تقدَّم منه ما يقتضي صرف خطابه إلى ما تعارفه من اللغات،
فيكون خطابه دلالةً على مراده بتقدُّم المواضعة.»
١٣٥
وإذا كانت معرفة قصد المُتكلِّم بالكلام هي معرفة اضطرارية، فإنَّ
معرفة قصد الله بكلامه هي معرفة استدلالية عند المعتزلة. وقد سبقت الإشارة
في الفصل السابق إلى أنَّ قضايا العدل والتوحيد هي قضايا عقلية في الأساس
الأول، وهي سابقة في معرفتها على الدلالة الشرعية، وهي دلالة الكلام. ومعنى
ذلك أنَّنا بالعقل نعرف قصد الله وما يصحُّ أن يختاره ويأمر به وما لا يجوز
عليه من ذلك. وهذه المعرفة تُمكِّننا من صحة الاستدلال بكلامه عزَّ وجل.
ولا يُمكن عند المعتزلة أن يدلَّ كلام الله على خلاف ما دلَّ عليه العقل:
«لأنَّ الناصب لأدلة السمع هو الذي نصب أدلة العقل، فلا يجوز فيهما التناقض.»
١٣٦
وبِناءً على ذلك فإذا ورد في كلام الله — الدلالة الشرعية — ما يدلُّ
ظاهره على خلاف ما يدلُّ عليه العقل، وجب علينا أن نتأوَّله؛ لأنَّ الدلالة
الشرعية والدلالة العقلية يتطابقان ولا يتناقضان: «واعلمْ أنَّ ورود
الشرائع والمصالح على المُكلَّف أشدُّ مطابقةً لِمَا في عقله، ومناسبةً
لِمَا يرِد على المكلَّف من اختلاف الأمور التي تختلف بالعادات والتجارب.
يُبيِّن ذلك أنَّ ما يرِد بالسمع يكون عِلمًا مقطوعًا؛ لأنَّه لا يجوز
خلافه، كما لا يجوز خلاف ما في العقول، ولأنَّ ما يرد بالسمع تكليف، كما
أنَّ ما يرد بالعقل تكليف من قِبَل القديم، وكشف العقل عنهما وعن وجوبهما
وطريقة وجوبهما لا يختلف. ولذلك قلنا: إنَّ أصل التكليف يقتضيه العقل، كما
أنَّ السمع يقتضيه العقل، واقتضاءه لهما لا يختلف.»
١٣٧ وهكذا يُصبح التأويل ضرورةً لا محيص عنها لرفع التناقض الظاهري
بين أدلة العقل وأدلة الشرع.
والسلاح الذي يستعمله المعتزلة للتأويل هو سلاح المجاز، وإذا كنَّا في
الفقرة السابقة قد ركَّزنا على وجه المجاز في الاسم المفرد، فإنَّ علينا
الآن أن نُحدِّد كيفية الانتقال في الدلالة في التركيب، ولقد سبق أن أشرنا
إلى توحيد القاضي بين الصيغ اللغوية وردها كلها إلى معنى الخبر. والخبر لا
يُمكن أن يقع خبرًا إلا بقصد المُتكلِّم وإرادته، ومن حق المخبر — والحال
هذه — أن يُلغز في كلامه ويُعرِّض ويستخدم المجاز: «لو كان ما يتعلَّق
بالخبر بزيد يستحيل تعلُّقه بغيره بالقصد، لبَطل التوسُّع؛ لأنَّه إنَّما
يتجوَّز باللفظة إلى أن تُسْتَعْمل في غير ما وُضِعت له، ولهذا يحتاج
الحكيم أن يدلَّ عليه، من حيث لولا الدلالة لكان ظاهرها كما وُضِعت له، وفي
هذا إبطال القول به. وقد أباح الله تعالى ذلك بقوله:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ؛
لأنَّه إذا أُكره على القول بأنَّه تعالى ثالث ثلاثة، فلو كان هذا الخبر
يجب أن يتعلَّق بالله تعالى لاستحال أن يصير خلافه بالقصد. وقد عُلم أنَّ
الموضوع للأمر قد يُسْتَعمل في التهديد كقوله «واستفزز» وقوله «اعملوا ما
شئتم»، وما وُضِع للخبر قد يُسْتَعمل في غيره؛ فقد صحَّ أنَّ التجوُّز به
يصح في كل حال، وعلى كل وجه. فلولا أنَّ اللفظة بعينها تقع على الوجهَين
بالقصد لَمَا صحَّ ذلك فيها.»
١٣٨ ومعنى ذلك أنَّ قصد المُتكلِّم هو الذي يُحدِّد ما إذا كانت
الصيغة اللغوية قد استُعْمِلت على حقيقتها المتواضَع عليها، أو قد انتقلت
إلى معنًى مجازي. والصيغة اللغوية يُمكن انتقالها من الحقيقة إلى المجاز،
كما يُمكن الانتقال في الاسم المفرد؛ فصيغة الأمر قد تُستعمل للتهديد.
والمعيار النهائي للتجاوز في الصيغ اللغوية هو قصد المتكلِّم وإرادته. وقد
سبقت لنا المعرفة العقلية بأنَّ الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به.
فإذا ورد في كلامه أمر يدل بصيغته على القبيح، كان لنا أن نتأوَّل هذا
الأمر على أنَّ المقصود به هو التهديد. وهذه المعرفة بقصد الله — وهي معرفة
عقلية — هي التي تسمح لنا بتأويل ظاهر الصيغة، وهي التي يُطْلِق عليها
المعتزلة القرينة العقلية أو الدليل العقلي.
وثمَّ قرينة أخرى تسمح لنا بإخراج النص عن ظاهره، وهي القرينة اللفظية
المقارِنة للكلام كالشرط والاستثناء، أو وجود خطاب آخر يُفسِّر هذا الخطاب.
ولا يخلو كلام الله عزَّ وجل عن هاتَين الدلالتَين أو القرينتَين، غير أنَّ
المعتزلة يعتبرون القرينة العقلية هي الأساس في عملية التأويل: «فلذلك صحَّ
عندنا أن تدلَّ على خصوص كلامه أدلة العقل، كما يدل عليه تقييد اللفظ،
ودخول الشرط والاستثناء فيه، وتكون دلالة كالعهد المُتقدِّم والمعهود بين
المخاطب، وقد بيَّنا أنَّ ما حلَّ هذا المحل هو أقوى من نفس المواضعة في
الدلالة، فإذا كانت المواضعة المُتقدِّمة تدلُّ على المراد بالكلمة، فالعهد
بأدلة العقول وما قدَّر جلَّ وعزَّ فيها بأن يدل على ذلك وأن يقدم، أولى.»
١٣٩ ولا يخلو كلام الله — القرآن — عن هذَين النوعَين من القرينة
إطلاقًا؛ لأنَّه «لا بُدَّ أن يكون دليلًا، وإنَّما يكون كذلك بوجهَين؛
أحدهما: أن يريد ما يقتضيه ظاهره فيكون مجرَّده دلالةً على المراد، أو يريد
به غير ذلك، فلا بُدَّ من بيانٍ مقترن به كاقتران بعض الكلام ببعض؛ لأنَّه
إنْ كان مِمَّا يدل بالسمع فلا بُدَّ من أن يتصل به أصل الشرط والاستثناء،
أو ما يجري مجراهما، وإنْ كان من أدلة العقول فاقترانه به أَوكد من ذلك،
ولا يجوز في خطابه أن يخلو من هذَين الوجهَين.»
١٤٠
وتقسيم خطاب الله هذه القسمة إلى ما يدل بدليل العقل، وإلى ما يدل
بدليل الخطاب المقترن به لفظًا، ليس إلا التفرقة بين آيات الأحكام
والتشريع، والآيات التي تدل على التوحيد والعدل. ومن الطبيعي أن يضع
المعتزلة النوع الأول فيما يدل بقرينة اللفظ، ويشترطون لدلالته أن يكون فيه
ما يدل على المراد به: «وعلى هذا الوجه بنى الفقهاء القول بالعموم والخصوص؛
لأنَّهم بيَّنوا أنَّ الصيغة تكون واحدة، وتكون مرةً عمومًا، ومرةً خصوصًا.»
١٤١ غير أنَّ تخصيص العام أو تعميم الخاص لا بُدَّ أن يستند إلى
قرينة لفظية في الخطاب نفسه، سواء في نفس الآية أو في آية أخرى غيرها.
١٤٢
أمَّا الآيات التي تدلُّ على التوحيد والعدل فهي الآيات التي تدلُّ
أولًا بالدلالة العقلية. وقد كانت هذه الآيات هي مجال الخلاف في التأويل
بين المعتزلة وخصومهم من الصفاتية والظاهرية والأشاعرة والمجسمة. وكان لا
بُدَّ من البحث عن أساس للتأويلات الاعتزالية لهذه الآيات. وقد وجد
المعتزلة في التفرقة بين المُحكم والمُتشابه — وهي تفرقة قرآنية — أساسهم
الديني للتأويل، إلى جانب الأساس العقلي الذي أشرنا إليه. وهذه التفرقة
وغايتها هي ما يُعالجه الفصل التالي عن المجاز والتأويل.