(أ) المُحْكَم والمُتشابه كأساس للتأويل
أفرد القاضي عبد الجبَّار ضمن
مؤلفاته العديدة كتابًا كبيرًا من قسمَين لتأويل مُتشابهات القرآن وردها
إلى المُحكمات. وقدَّم بين يدي هذا الكتاب مقدمةً إضافية وضع فيها الأُسس
والقواعد التي ينبغي أن تحكم عملية التأويل وتضبطها. هذا علاوةً على
المواضع الكثيرة التي تناول فيها هذه القضية في موسوعته الضخمة «المُغني
في أبواب التوحيد والعدل» وفي شرحه للأصول الخمسة كذلك. والأساس عنده
أنَّ القرآن كلام الله، والكلام ليس صفةً من صفات الذات، وإنَّما هو صفة
من صفات الأفعال (لأنَّه محدث على وجه مخصوص).
١٥١ وهو كلام قصد به منفعة البشر وهدايتهم؛ ولذلك فلا بُدَّ من
أن يكون دلالة، وإلا انتفت عنه صفة المنفعة، وانتفت الحكمة — بالتالي —
عن فعل من أفعال الله: «والقول إذا كان بلغة مخصوصة فقد وُضِع ليدل على
المراد، فمتى خاطب به الحكيم الذي لا تصح عليه الحاجة إلا ليُفيد به
المخاطب، فقد خاطب به على وجه يقبح.»
١٥٢
وإذا كان القول — وكلام الله قول — بلغة مخصوصة فإنَّه يدل بشرطَين؛
الشرط الأول هو وجود مواضعة سابقة، والشرط الثاني هو معرفة قصد
المُتكلِّم أو المخاطب بهذا القول؛ «لأنَّ الخبر لا يُعلَم بصيغته أنَّه
صِدق أو كذب حتَّى إذا عُلِم حال المُخْبِر صحَّ أن نعلم ذلك، وقد علمنا
أنَّ ما أخبر جلَّ وعزَّ عنه في القرآن لم يتقدَّم لنا العلم بحال مخبره،
فيجب ألَّا يعلم أنَّه صدق إلا بعد العلم بحال المُخبِر وأنَّه حكيم.»
١٥٣
ومعنى هذا أنَّ الاستدلال بالقرآن، أو اعتباره دلالةً لا يصحُّ إلا
بعد معرفة المُتكلِّم بكل صفاته من التوحيد والعدل، بما يتضمَّنه مبدأ
العدل من أنَّ الله حكيم لا يختار القبيح ولا يأمر به ولا يكذب في
أخباره. وإذا كانت كل هذه الأشياء من صميم النظر العقلي، لا من الاستدلال
السمعي، فإنَّ القرآن نفسه لا بُدَّ أن يخضع في الاستدلال به للنظر
العقلي. والواقع أنَّ المعتزلة لم يتصوَّروا للحظة واحدة إمكانية أن
يدلَّ العقل على خلاف ما يدلُّ عليه القرآن، غاية الأمر أنَّهم كانوا في
جدلهم المستمر مع غير المسلمين أو مع مخالفيهم من المسلمين يُريدون أن
يحتكموا إلى مبدأ ظنُّوا أنَّه لا يُخطئ إذا استُخْدِم استخدامًا سليمًا؛
ولذلك هاجموا خصومهم هجومًا عنيفًا على أساس أنَّ نظرهم في القرآن كان
ناقصًا وخاطئًا: «لأنهم إنَّما أُتوا في ذلك من جهة الجهل بما يجوز على
الله تعالى، و«ما» لا يجوز، وبطريقة اللغة، فأمَّا مع المعرفة بذلك
وتأمُّل الآيات فلا بُدَّ من أن ينكشف أنَّه لا اختلاف في دلالته، وهذا
كما نقول من أنَّ قول الله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، موافق لقوله:
وَجَاءَ
رَبُّكَ، متى حُمل ذلك على أنَّ تأويله وجاء مُتحمِّلو أمر ربك …
ونحو قوله تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أنَّه مُوافق لقوله:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ، إذا حُمِل على أنَّ المراد به العاقبة … إنَّ
المُتعلِّق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أنَّ القرآن دلالة على التوحيد
والعدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلا بعد العلم بالتوحيد والعدل،
وبيَّنا فساد القول الأول، بأن قُلنا: إنَّ مَن لا يعرف المُتكلِّم، ولا
يعلم أنَّه مِمَّن لا يتكلَّم إلا بحق، لا يصحُّ أن يستدل بكلامه؛ لأنَّه
لا يُمكن أن يعلم صحة كلامه إلا بما قدَّمناه؛ لأنَّه لا يصح أن يعلمه
بقوله: إنَّ كلامه حق؛ لأنَّه إذا جوَّز في كلامه أن يكون باطلًا يُجوِّز
في هذا القول أيضًا أن يكون باطلًا، وإذا وجب تقدُّم ما ذكرناه من
المعرفة ليصح أن يعرف أنَّ كلامه تعالى حق ودلالة.»
١٥٤
وإذا كان القرآن لا تُعرَف دلالته إلا بعد تقدُّم المعرفة العقلية
بتوحيد الله وعدله وسائر صفاته، فإنَّ الحاجة للقرآن وللسمع عمومًا تُصبح
تابعةً للعقل. ويبدو أنَّ المعتزلة في هذه الحالة يُعطون للعقل الأولوية
على النص.
ولكنَّنا لا ينبغي أن ننسى أنَّ العقل الضروري — العلوم الضرورية —
هبة من الله للبشر جميعًا منحها لهم، وعلى أساسه كلَّفهم بعد أن نصب لهم
الأدلة. في هذه الحالة لا يُحسُّ المعتزلة أي تناقض بين العقل والقرآن؛
لأنَّ كلَيهما من عند الله، وكلاهما يتفقان بالضرورة. وإنَّما يأتي خطأ
مَن يستدل بالقرآن من خطئه في الاستدلال العقلي، أو من إهماله لقضية
الاستدلال العقلي إهمالًا تامًّا. وعلى ذلك فالمعتزلة حين يردُّون الخصم
إلى أدلة العقل، لا يردُّونه إلى شيء خارج إطار القدرة الإلهية أو النعمة
الإلهية. الفارق الوحيد بين أدلة العقل وأدلة القرآن، أنَّ أدلة العقل لا
يدخلها الاشتراك والمجاز والاستعارة، كما يدخل ذلك في أدلة القرآن، التي
هي لغة من طبيعتها الاشتراك والمجاز والاستعارة. أمَّا الفارق الثاني فهو
أنَّ اللغة لا تدلُّ إلا بعد معرفة قصد القائل، على العكس من الفعل الذي
يدلُّ بمجرَّده على الفاعل، وبوقوعه مُحكمًا على أنَّ فاعله عالم. والفعل
في هذه الحالة يدلُّ دون أن نضع الفاعل في اعتبارنا، والأمر على عكس ذلك
في اللغة التي لا بُدَّ من اعتبار حال الفاعل وقصده حتَّى تقع دلالة،
فإنَّ: «كل فعل لا تُعلم صحته ولا وجه دلالته إلا بعد أن يُعْرف حال
فاعله لا يُمكن أن يُستدَلَّ به على إثبات فاعله ولا على صفاته، وإنَّما
يُمكن أن يُستدل به على سوى ذلك من الأحكام؛ لأنَّه إن دلَّ على حال
فاعله، ولا يعلم صحته إلا وقد علم فاعله، أدَّى ذلك إلى ألَّا يدل عليه
إلا بالمعرفة به، ومتى عُلم الشيء اسْتُغْني عن الدلالة عليه.»
١٥٥ وهكذا يعود بنا القاضي عبد الجبَّار إلى الأساس الذي سبق أن
ناقشناه، وهو الأساس الذي يضع اللغة نوعًا ثالثًا من أنواع الدلالة
العقلية.
وإذا كانت اللغة نوعًا من الاستدلال المؤدِّي إلى المعرفة، فمن
الطبيعي والحالة هذه، أن يكون فيها — كأنواع الأدلة عمومًا — ما هو واضح،
ومنها ما هو غامض. وعلى مستوى القرآن سيكون المُحْكَم هو الدليل الواضح،
وسيكون المُتشابه هو الدليل الغامض الذي يحتاج لمزيد من النظر حتَّى يدل.
أمَّا على مستوى اللغة العادية — كلام البشر — فسيُصبح الكلام الخالي من
القرينة والذي يدل بظاهره هو الدليل الواضح، والغامض هو الذي لا يدل
بظاهره وإنَّما يحتاج لمضامَّة القرينة حتَّى يدل، وكل ذلك يتساوى في
النهاية؛ أي يتساوى مفهوم المُحْكَم والمُتشابه مع مفهوم اللغة الحقيقية
واللغة المجازية، وبالتالي يُصبح التأويل في المتشابهات هو الوسيلة لرفع
غموضها بردِّها إلى المُحْكَم، ويُصبح المجاز هو الأداة الرئيسية لعملية
التأويل هذه. وهذه المقابلة بين الاستدلال اللغوي والاستدلال العقلي
يعقدها القاضي عبد الجبَّار بشكل يؤكِّد ما نذهب إليه. يقول: «اعلم أنَّ
الغرض بكتاب الله جلَّ وعز التوصُّل به إلى العلم بما كلَّفناه، وبما
يتصل بذلك من الثواب والعقاب، والقصص وغيره. والعلوم قد يجوز أن يكون
الصلاح فيها أن تكون ضرورية، وأن تكون مكتسبة. ومتى كانت ضروريةً فقد
يكون الصلاح أن يُتوصَّل إليها بمعاناة، وقد يكون الصلاح في خلافه، وكذلك
المكتسب قد يكون الصلاح في أن ينجلي طريقه، وقد تكون المصلحة في أن يغمض
ذلك. وصارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الأفعال التي يفعلها الله
والتي يكلِّفناها. فإذا ثبت ذلك، فكما ليس لأحد من أصحاب المعارف أن
يقول: ما الفائدة في أن نُكلَّف اكتساب المعرفة بالله عزَّ وجل وبتوحيده
وعدله، وهلَّا جعل ذلك أجمع في العلوم الضرورية، ليكون أجلى ولتزول
الشُّبه والشكوك، فكذلك لا يجوز لهذا السائل مثله في طرق الأدلة فيقول:
هلَّا جعلها عزَّ وجل متفقةً في الوضوح! وبمثل ذلك أبطلنا قول مَن قال
بنفي القياس والاجتهاد إذا عوَّل على أنَّ النصوص تزول عنها الريب فيجب
أن تكون الأحكام مستدركةً بها، فقلنا: إنَّ المصلحة قد تختلف في طرق
الأحكام كما تختلف في نفس الأحكام، فكما لا يجوز أن يُقال فيها: إنَّه
يجب أن يجري على وجه واحد، فكذلك القول في طريقها وأدلتها.»
١٥٦ وهذا الاختلاف بين الأدلة في وضوح بعضها وغموض بعضها الآخر
يُردُّ إلى مصلحة خاصة بالمكلَّف، وهي مصلحة ترتَد إلى إثارة العقل؛
«لأنَّه لا يمتنع أن يكون الصلاح في بعض الأدلة أن يستقلَّ بنفسه فيعرف
المراد به بانفراده، وفي بعضها ألَّا يعرف المراد به إلا مع غيره، ألَا
ترى أنَّ العادة قد جرت أنَّا نعلم المُدرَكات الواضحة بالإدراك، ولا
نعلم بالإخبار ما تتناوله إلا إذا تكرَّرت، وكذلك المدركات إذا غمضت.
فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من العلوم، ففيها ما يفعله
تعالى ابتداءً، وفيها ما يفعله عن سبب واحد، وفيها ما يفعله عن أسباب،
بحسب ما من الصلاح».
١٥٧ وبفكرة الصلاح يعود القاضي للرد على التساؤل الذي يُمكن أن
يُثار حول أهمية القرآن إذا كان العقل وحده يستطيع أن يعرف الله بكل
صفاته من التوحيد والعدل.
ولكي يُبيِّن القاضي وجه المصلحة في خطاب الله تعالى يُفرِّق بين
وجهَين من الكلام: «أحدهما يتصل بنفس الخطاب وموضوعه، والآخر بما يدل
الخطاب عليه من الأحكام العقلية والسمعية.»
١٥٨ أولهما الكلام نفسه، والثاني ما يدل عليه هذا الكلام من
أحكام العقل والسمع.
فأمَّا الجانب الأول — جانب الخطاب نفسه — فهو ينقسم إلى ضربَين؛
«أحدهما يستقل بنفسه في الإنباء عن المراد، فهذا لا يحتاج إلى غيره في
كونه حجةً ودلالة. والثاني: لا يستقل بنفسه فيما يقتضيه، بل يحتاج إلى
غيره، ثمَّ ينقسم ذلك إلى قسمَين؛ أحدهما يعرف المراد به وبذلك الغير
بمجموعهما، والثاني يعرف المراد به بذلك الغير بانفراده، ويكون هذا
الخطاب لطفًا وتأكيدًا.»
١٥٩ في هذا الوجه الأول، وهو ما يختص بالخطاب نفسه؛ أي بالعبارة
من حيث هي عبارة لغوية، ينقسم الخطاب إلى ثلاثة أنواع؛ نوع يدل بنفسه —
أي بظاهره — دون حاجة لأي معرفة خارجية مستقلة عنه. أمَّا النوع الثاني
وهو ما يحتاج في معرفته إلى غيره فينقسم بدوره إلى قسمَين؛ الأول أن يدل
الخطاب بنفسه وبذلك الغير معًا؛ أي أن يدل الخطاب على ما يدل عليه
بتركيبه الذاتي وبالقرينة الملازمة له — عقليةً كانت أو لفظية — معًا.
أمَّا النوع الثاني فهو النوع الذي لا يدلُّ فيه الخطاب على شيء، بل
القرينة، العقلية أساسًا هي التي تدل، وهي قرينة منفصلة عن الخطاب. وتكون
وظيفة الخطاب والحالة هذه تأكيد هذه الدلالة العقلية السابقة، ويعتبر
القاضي عبد الجبَّار هذا النوع الأخير لطفًا.
ويربط القاضي عبد الجبَّار بين القرينة اللفظية والعقلية في هذه
الأنواع من وجهَي الخطاب ربطًا مُحكمًا حيث يقول: «ولا يخرج خطاب الله
أجمع عن هذه الأقسام الثلاثة. والقرائن قد تكون متصلةً سمعًا، وقد تكون
منفصلةً سمعًا وعقلًا، وقد بيَّنَا أنَّ الدليل العقلي وإن انفصل فهو
كالمتصل في أنَّ الخطاب يترتَّب عليه؛ لأنَّ قوله جلَّ وعز:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ، مع
الدليل العقلي الدال على أنَّه لا يُكلِّف مَن لا عقل له، أكَّد في بابه
من أن يقول: يا أيها العقلاء اعبدوا ربكم.»
١٦٠
كانت هذه الأنواع هي الأنواع التي ينقسم إليها الخطاب بنفسه؛ أي
ببنائه اللغوي. أمَّا الوجه الآخر من وجهَي الخطاب وهو ما يدل عليه
الخطاب من الأحكام العقلية والسمعية فينقسم أيضًا إلى أنواع ثلاثة، وهذه
الأنواع الثلاثة الأخرى تتطابق مع الأنواع الثلاثة السابقة، غاية الأمر
أنَّ الأنواع الثلاثة الأولى تتعلَّق ببنية الخطاب، أمَّا هذه الأنواع
فترتبط بمضمونه: «واعلم أنَّ الخطاب على ضربَين؛ أحدهما يدل على ما لولا
الخطاب لمَا صحَّ أن يُعلم بالعقل، والآخر يدل على ما لولاه لأمكن أن
يُعرف بأدلة العقول. ثمَّ ينقسم ذلك، ففيه ما لولا الخطاب لأمكن أن
يُعْلَم بأدلة العقول، ويصح أن يُعْلَم مع ذلك بالخطاب، فيكون كل واحد
كصاحبه في أنَّه يصح أن يُعْلَم به الغرض. وفيه ما لولا الخطاب لأمكن أن
يُعْلَم بالعقل ولا يُمكن أن يُعْلَم إلا به.
فالأول هو الأحكام الشرعية، فإنَّها إنَّما تُعْلَم بالخطاب وما يتصل
به، ولولاه لمَا صحَّ أن يُعْلَم بالعقل الصلوات الواجبة ولا شروطها ولا
أوقاتها، وكذلك سائر العبادات الشرعية.
والثاني هو القول في أنَّه عزَّ وجلَّ لا يُرَى؛ لأنَّه يصح أن
يُعْلَم سمعًا وعقلًا، وكذلك كثير من مسائل الوعيد.
والثالث بمنزلة التوحيد والعدل؛ لأنَّ قوله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، و
لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، و
قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ، لا يُعْلَم به التوحيد ونفي التشبيه والقول
بالعدل؛ لأنَّه متى لم يتقدَّم للإنسان المعرفة بهذه الأمور، لم يعلم
أنَّ خطابه تعالى حق، فكيف يُمكنه أن يحتجَّ فيما إنْ لم تتقدَّم معرفته
به لم يعلم صحته.»
١٦١
وهكذا يُوضِّح القاضي عبد الجبَّار — بالأمثلة — أنواع وجهَي الخطاب؛
فالنوع الذي يدل ببنيته ولا يحتاج لقرينة عقلية أو لفظية هو الذي يدل على
الأحكام الشرعية، فهذه الأحكام كالصلاة ومقاديرها وشروطها لا يُمكن أن
تُعْلَم إلا بخطاب الله، ولا يُمكن الوصول إليها بالعقل وحده. أمَّا
النوع الثاني فهو ما يدل بنفسه وبأدلة العقل معًا، ويُمكن للخطاب وحده أن
يدل عليه، وكذلك يُمكن للعقل وحده أن يدل عليه، وذلك مثل الآيات التي
وردت في نفي الرؤية عن الله وفي كثير من مسائل الوعيد. أمَّا النوع
الثالث من أنواع الخطاب الإلهي فهو لا يدل إطلاقًا بصيغته على المراد به،
بل العقل هو الذي يدل منفردًا، وذلك كل الآيات التي وردت في التوحيد
والعدل.
ويظلُّ التساؤل حول النوعَين الثاني والثالث وسبب ورودهما ما دامت
أدلة العقل وحدها تفيد عنهما واردًا. ولكن علينا ألَّا ننسى أنَّ القاضي
لا يُفرِّق بين القرينة اللفظية والعقلية، بل يعتبر القرينة العقلية «أكد
في بابه» على حد تعبيره. ومع ذلك يظلُّ السؤال واردًا؛ إذ ما دام العقل
وحده يُمكن أن يدلنا على مضمون النوعَين الثاني والثالث فما الحاجة
للخطاب إذن، وما وجه دلالته وأهميته؟ هنا يربط القاضي عبد الجبَّار ورود
هذا النوع من الخطاب بالتكليف العقلي وضرورة النظر والاستدلال، ويُعدُّ
ورود المُحْكَم من قبيل اللطف الباعث على النظر. ومن شأن النظر أن يؤدِّي
إلى المعرفة، وبذلك يكون ورود المُحْكَم غايته إثارة العقل ودفعه للنظر
والبحث والاستدلال: «إنَّه عزَّ وجلَّ إنَّما خاطب بذلك ليبعث السائل على
النظر والاستدلال، بما ركَّب في العقول من الأدلة، أو لأنَّه علم أنَّ
المُكلَّف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه، منه لو لم
يسمع بذلك، فهذه الفائدة تُخْرِج الخطاب من حد العبث.»
١٦٢
بعد هذا التفسير الثلاثي للخطاب الإلهي بوجهَيه، الصيغة والمضمون،
يستبعد القاضي عبد الجبَّار النوع الأول من دائرة المُحْكَم والمُتشابه،
على أساس أنَّه يدل بنفسه دون حاجة أو معرفة خارجية، وهو ذلك النوع الذي
يدلُّ على الأحكام الشرعية كالصلاة وشروطها ومواقيتها … إلخ. أمَّا
النوعان الثاني والثالث وهو الخطاب الذي لا يستقلُّ بنفسه، فإنَّ الناس
قد اختلفوا في العبارة عنه: «وليس المعتبر بالعبارات؛ لأنَّ وصف بعضه
بأنَّه مُحْكَم، وبعضه بأنَّه مُتشابه وبعضه بأنَّه مجاز، وبعضه بأنَّه
محذوف، إلى ما شاكَلَه، لا يُؤثِّر في أنَّه متفق في الوجه الذي ذكرناه،
وفي أنَّه يحتاج فيه إلى طلب قرينة يُعْرَف بها المراد، لكنَّه قد يختلف،
ففيه ما يحتاج إلى قرائن وفيه ما يحتاج إلى قرينة واحدة ويتفاوت في ذلك،
وربما ظهر الحال في تلك القرينة وربما غمض؛ ولذلك يكثر اختلاف الفقهاء
وأهل العلم فيما هذا حاله.»
١٦٣ ويؤكِّد القاضي خروج آيات الأحكام من نطاق المُحْكَم
والمتشابه في موضع آخر، وذلك على أساس أنَّ هذه الآيات ترتبط ببعضها في
القرآن كله: «إنَّ آيات الكتاب التي هي دالَّة في الحقيقة على الحلال
والحرام لا يُمكن ادِّعاء التناقض فيها؛ لأنَّها إذا اختلفت فلا بُدَّ من
أن تُقدَّر التقدير الذي قدَّمناه، فيخص بعضها بعضًا، وتجعل وهي مفترقة
كأنَّها متصلة، وكأنَّ بعضها مُقيَّد ببعض، على ما يجب في طريقة اللغة.»
١٦٤
ولكي يتأكَّد للقاضي عبد الجبَّار هذا الربط بين آيات القرآن وأدلة
العقل وضرورة رد الأولى إلى الثانية، خصوصًا تلك الآيات التي لا تدلُّ
بظاهر صيغتها، كان عليه أن ينفي كل تعريفات المُحْكَم والمُتشابه التي
كانت مطروحةً قبله أو في عصره،
١٦٥ ومنها الآراء التي سبق أن أشرنا إليها في صدر هذا الفصل، فهو
يرفض الرأي القائل بأنَّ المُحْكَم والمُتشابه هو الناسخ والمنسوخ؛ وذلك
«لأنَّ اللغة لا تقتضي ذلك، وقد يكون المنسوخ مِمَّا يدل ظاهره على
المراد فيكون مُحْكَمًا فيما أُريد به وإنْ نُسِخ، وقد يكون الناسخ غير
مستقل بنفسه فيكون مُتشابهًا وإنْ كان المراد به ثابتًا، وكذلك القول في
القصص إنَّه إذا كان المراد به جليًّا وجب أن يكون مُحكمًا.»
١٦٦
ومن الطبيعي أن يرفض القاضي أيضًا ذلك الرأي الذي يقول إنَّ
المُتشابه هو الحروف المقطَّعة في أوائل السور؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي
بالضرورة إلى قَبول الرأي القائل بعدم إمكانية معرفة المُتشابه. ولا
يكتفي القاضي برفض هذا الرأي فحسب، بل يُحاول أن يطرح تفسيرًا لهذه
الظاهرة، أو بمعنًى أصح أن يقبل تفسير الحسن البصري لهذه الظاهرة، وهي
أنَّ هذه الحروف ليست إلا أسماءً للسور.
١٦٧ يقول: «فأمَّا قوله عزَّ وجلَّ في فواتح السور، وذلك مثل:
«المص» و«الم» إلى ما شاكله، فليس من المُتشابه. وقد أراد عزَّ وجلَّ به
ما إذا علمه المُكلَّف كان صلاحًا له. وأحسن ما قيل فيه ما رُوِي عن
الحسن وغيره من أنَّه عزَّ وجلَّ أراد أن يجعله اسمًا للسور، وإثبات
الكلمة اسمًا للسورة، والقصد بها إلى ذلك مِمَّا يحسن في الحكمة، كما
يحسن من سائر مَن عرف شيئًا وفصل بينه وبين غيره أن يجعل له اسمًا
ليُميِّزه به من غيره.»
١٦٨
وبعد كل هذه المناقشة والجدل يعود القاضي ليؤكِّد الربط بين
المُحْكَم والمُتشابه من جهة، وبين أنواع الخطاب ودلالته من جهة أخرى:
«إنَّ المُحْكَم إنَّما وُصَِ بذلك لأنَّ مُحكِمًا أحكمه، كما أنَّ
المُكْرَم إنَّما وُصِف بذلك لأنَّ مُكرِمًا أكرمه، وهذا بيِّن في اللغة.
وقد عَلِمنا أنَّه تعالى لا يُوصف بأنَّه أحكم هذه الآيات المحكمات من
حيث تكلَّم بها فقط؛ لأنَّ المُتشابه كالمُحْكَم في ذلك، وفي سائر ما
يرجع إلى جنسه وصفته، فيجب أن يكون المُراد بذلك أنَّه أحكم المُراد به
على صفة مخصوصة — لكونه عليها (له) تأثير في المُراد — وقد علمنا أنَّ
الصفة التي تؤثِّر في المراد هي أن توقعه على وجه لا يُحتمل إلا ذلك
المراد في أصل اللغة، أو بالتعارف، أو بشواهد العقل. فيجب فيما اختصَّ
بهذه الصفة أن يكون مُحْكمًا، وذلك نحو قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ، ونحو
قوله:
إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ
شَيْئًا، إلى ما شاكله. فأمَّا المُتشابه فهو الذي جعله عزَّ
وجلَّ على صفة تشتبه على السامع — لكونه عليها «غمض» المراد به — من حيث
خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف، وهذا
نحو قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
اللهَ، إلى ما شاكله؛ لأنَّ ظاهره يقتضي ما علمناه مُحالًا،
فالمراد به مشتبه ويحتاج في معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكمات.»
١٦٩
ويُورد القاضي عبد الجبَّار على نفسه اعتراضًا مؤدَّاه أنَّ الله وصف
القرآن كله بأنَّه مُحْكَم، وذلك في قوله تعالى:
الر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ، ثمَّ وصفه كله
بأنَّه مُتشابه، وذلك في قوله:
اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا، ولكنَّه — ببساطة
يُساعده عليها سياق الآيات كلها — يردُّ الأحكام هنا إلى الإعجاز، ويردُّ
التشابه إلى التساوي في المصلحة والدلالة: «فأمَّا وصف جميعه بأنَّه
مُحْكَم فليس المراد به ما قدَّمناه، وإنَّما أُريد به أنَّه تعالى أحكمه
في باب الإعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل، ووصف جميعه بأنَّه
مُتشابه، المراد به أنَّه سوَّى بين الكل في أنَّه أُنْزِل على وجه
المصلحة ودلَّ به على النبوة؛ لأنَّ الأشياء المتساوية في الصفات المقصود
إليها يُقال فيها متشابهة.»
١٧٠
وإذا كان القاضي قد أخضع دلالة القرآن كله لدلالة العقل، بناءً على
أنَّ اللغة لا تدلُّ إلا بعد معرفة القائل، فإنَّ المُحْكَم والمُتشابه
كلَيهما في حاجة إلى هذه المعرفة العقلية لوقوعهما دلالة. ويرى القاضي:
«أنَّ المُحْكَم كالمُتشابه من وجه، وهو يُخالفه من وجه آخر. فأمَّا
الوجه الذي يتفقان فيه فما قدَّمناه من أنَّ الاستدلال بهما أجمع لا
يُمكن إلا بعد معرفة حِكْمَة الفاعل، وأنَّه لا يجوز أن يختار القبيح؛
لأنَّ الوجه الذي له قلنا ذلك لا يُميِّز المُحْكَم من المُتشابه …
وأمَّا الوجه الذي يختلفان فيه، فهو أنَّ المُحْكَم إذا كان في موضوع
اللغة أو لمضامة القرينة، لا يحتمل إلا الوجه الواحد، فمتى سمعه مَن عرف
طريقة الخطاب وعلم القرائن أمكنه أن يستدل في الحال على ما يدلُّ عليه.
وليس كذلك المُتشابه؛ لأنَّه وإنْ كان من العلماء باللغة ويحمل القرائن،
فإنَّه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ ونظر مجدَّد ليحمله على الوجه الذي
يُطابق المُحكَم أو دليل العقل. ويُبيِّن صحة ذلك أنَّه عزَّ وجلَّ بيَّن
في المُحْكَم أنَّه أصل للمُتشابه، فلا بُدَّ أن يكون العلم بالمُحكَم
أسبق ليصحَّ جعله أصلًا له.»
١٧١
وهكذا يظلُّ القاضي عبد الجبَّار يُلحُّ على فكرة النظر التي هي
والاستدلال شيء واحد، وذلك ليظلَّ مخلصًا لتصوُّره العام للغة على أنَّها
نوع من أنواع الدلالة. وإذا كان الكلام مُحتَمِلًا لوقوع المجاز فيه، على
عكس الأنواع الأخرى من الدلالة، فمن الطبيعي أن ينفي القاضي عن المجاز
تهمة الكذب التي سعى خصومهم لإلزامهم بها، وذلك لنفي الكذب عن القرآن،
وجعل تأويلاتهم قائمةً على أساس مكين.
ونفي الكذب عن المُتشابه، ليس إلا دفاعًا عن المجاز في اللغة عمومًا
مِمَّا يؤكِّد العلاقة بين القضيتَين عند القاضي: «اعلم أنَّ المُتكلِّم
قد يكون صادقًا بالكلام المُحتمل، إذا أراد به الوجه الصحيح، ويحل جميع
ذلك محل كونه صادقًا، بالكلام المخصوص، الذي لا يحتمل؛ لأنَّ الصدق ليس
بمقصور على الحقيقة، دون المجاز، وإنَّما يكون المُتكلِّم صادقًا بالكلام
الذي يجوز أن يتناول المراد باللغة، على وجه إذا قصد به وجه الصدق، فإذا
صحَّ ذلك في المُتشابه، كصحته في المُحكَم، ولم يمتنع أن يكون له معنًى،
فيجب ألَّا يكون قبيحًا؛ لأنَّ من حق الصدق، إذا خرج من أن يكون عبثًا،
بحصول غرض صحيح فيه، أن يكون حسنًا، فإذا كان هذا حال المُتشابه، فكيف
ينفي وقوعه من الحكيم؟»
١٧٢
وإذا كان المُحكَم يدل بظاهره على ما يدل عليه العقل، فالحاجة إليه
تُصبح ضروريةً وهامة لمجادلة الخصوم الذين يتمسَّكون بظاهر المُتشابه،
وذلك إلى جانب ضرورته لإثارة التأمُّل والحث على النظر والاستدلال: «إنَّ
المخالفين في التوحيد والعدل يُمكن أن نُحاجَّهم بذكر المُحكَم ونُبيِّن
مخالفتهم لِمَا أقرُّوا بصحته في الجملة، ويبعد ذلك في المُتشابه؛ فلذلك
تجد كتب شيوخنا رحمهم الله مشحونةً بذكر هذا الباب ليُبيِّنُوا أنَّ
القوم كما خرجوا عن طريقة العقول فكذلك عن الكتاب.»
١٧٣
وهكذا يتحوَّل القرآن بمُحكَمه ومُتشابهه، وكذلك المجاز، إلى قرائن
وأدلة عقلية غايتها الحث على التأمُّل والنظر ومجادلة الخصوم وكشف تهافت
حججه وأقاويله. ومن الطبيعي بعد ذلك أن يكون المُتشابه مِمَّا يُمكن
معرفته؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يقع دلالةً وإلا كان الله عابثًا بمخاطبتنا
به. ومن الطبيعي أيضًا أن يكون التوجيه النحوي للآية عند القاضي على
العطف لا على الاستئناف، ويكون الراسخون في العلم يعلمون المُتشابه وهم:
«مع العلم بذلك يقولون آمنا به في أحوال علمهم به ليكمل مدحهم؛ لأنَّ
العالِم بالشيء إذا أظهر التصديق فقد بالغ بما يلزمه، ولو علم وجحد لكان مذمومًا.»
١٧٤
وبذلك كله يكون القاضي عبد الجبَّار قد ربط بين المجاز والتأويل
والمُحكَم والمُتشابه، وربط كل هذه القضايا بالأساس العقلي للمعرفة عند
المعتزلة، ويُصبح هناك نوع من الموازاة بين المُحكَم والمُتشابه من جهة،
والمعرفة الضرورية والمعرفة النظرية من جهة أخرى. يتشابه المُحكَم مع
المعرفة الضرورية بوضوحه وانكشافه دون حاجة للاستدلال. وعلى العكس من ذلك
المُتشابه الذي لا يُعْرَف المراد به إلا بالتأمُّل والتأويل، تمامًا كما
لا يُمكن التوصُّل إلى العلوم النظرية إلا بالاستدلال والنظر. وكما أنَّ
العلوم الضرورية تُعدُّ أساسًا للعلوم النظرية، فكذلك المُحكَم يُعدُّ
أساسًا لفهم المُتشابه. ونتيجةً لذلك كله يُصبح التأويل قرينًا للاستدلال
ومرادفًا له بنفس القدر الذي أصبحت فيه اللغة نوعًا ثالثًا من الدلالة
العقلية لها شروطها الخاصة لوقوعها دلالة.
ومن الضروري — لاكتمال جوانب دراستنا — أن نعرض لبعض جهود القاضي
عبد الجبَّار في التأويل. ولمَّا كانت جهود المعتزلة في التأويل تنصبُّ
أساسًا على آيات التوحيد والعدل بكل تفاصيلهما، ولمَّا كُنَّا قد عرضنا
لكثير من هذه الآيات في الفصول السابقة، فقد رأينا أن نقتصر في عرض جهود
القاضي على قضيتَين أساسيتَين هما: قضية رؤية الله عزَّ وجل، وقضية خلق
الأفعال. ومُبرِّر اختيار هاتَين القضيتَين، أنَّ أُولاهما تُعدُّ — إلى
جانب قضية الكلام — من أهم القضايا الخلافية بين المعتزلة وخصومهم، وتظهر
فيها بوضوح كامل مشكلة التأويل لورود بعض آيات القرآن بإثباتها، وذلك على
عكس قضية الكلام التي تُعدُّ قضيةً جدلية أكثر منها قضيةً مُتصلة بتأويل
النص القرآني، أمَّا قضية خلق الأفعال فترجع أهميتها إلى أنَّها أساس
نشأة الفكر الاعتزالي برمته كما سبقت الإشارة في التمهيد. وهي — أيضًا —
قضية خلافية ظلَّ الخلاف فيها مُستمرًّا، هي وقضية الرؤية، حتَّى عصور
متأخرة. لذلك كله نكتفي بهاتَين القضيتَين كنموذجَين لقضايا التوحيد
والعدل، يكشفان لنا عن نهج القاضي في التأويل وعلاقته بباقي جوانب الفكر
الاعتزالي التي أسهبنا في شرحها.
(ب) التوحيد وقضية رؤية الله
قضية الرؤية، وجوازها على الله وعدم جوازها عليه، من القضايا الهامة
التي ثارت بين المعتزلة وخصومهم، وأثارت كثيرًا من الجدل والنقاش. وترتبط
هذه القضية — في مفاهيم المعتزلة — بقضية التوحيد ونفي الجسمية عن الله،
ذلك أنَّ إثبات الله مرئيًّا يقتضي كونه في جهة ومُتحيِّزًا في المكان.
ولذلك سعى المعتزلة إلى نفي أن يكون الله مرئيًّا بأي صورة من الصور،
وإلى نفي ذلك عنه في الدنيا وفي الآخرة على السواء. ولم يكن سبيل ذلك
سهلًا أمامهم؛ فالاعتراضات كثيرة. وإذا كانوا قد وجدوا في بعض آيات
القرآن سندًا لوجهة نظرهم، فقد اعترضتهم آيات أخرى استشهد بها خصومهم في
رد هذه الدعوى. ومن ثمَّ لم يكن أمام المعتزلة سبيل إلا تأويل هذه الآيات
التي يستشهد بها الخصوم تأويلًا يتَّفق مع وجهة نظرهم في التوحيد، وفيما
يجوز على الله وما لا يجوز عليه. ونظروا إلى الآيات التي استشهد بها
الخصوم على أنَّها من المُتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون
في العلم، ونظروا إلى الآيات التي تسند وجهة نظرهم على أنَّها من
المُحْكَم الذي تُردُّ إليه آيات الخصوم المتشابهة. وكان من الطبيعي أن
يلجأ الخصوم إلى نفس الحيلة، فيعتبروا ما يدعم وجهة نظرهم مُحكَمًا، وما
يدعم وجهة نظر المعتزلة مُتشابهًا. وكان من الطبيعي أيضًا أن يدَّعي كل
طرف لنفسه صفة «الراسخين في العلم» القادر على التأويل الصحيح.
ويستلفت نظر الباحث في هذه القضية أنَّ المعتزلة — على غير عادتهم —
لا يُلزمون خصومهم الكفر على القول بجواز رؤية الله جلَّ وعز، ومن ثمَّ
فهم أقل تشدُّدًا في الهجوم على خصومهم، وذلك على عكس ما نرى من تشدُّد
في مواقفهم من قضية خلق الأفعال أو خلق القرآن، وهما قضيتان ترتبط
أولاهما بالأصل الثاني من أصول المعتزلة وهو العدل، أمَّا الثانية فترتبط
بأصل التوحيد الأول.
والمعتزلة — في قضية الرؤية — لا يتساهلون مع خصومهم فحسب، بل
يلتمسون لهم العذر إذا هم جوَّزوا الرؤية على الله من غير كيفية؛ أي من
غير تشبيه لله بالأجساد. وهم — أي المعتزلة — في ذلك يُفرِّقون بين أنواع
المدركات، ومدى وضوحها والعلم بها، فأجناس المسموعات والمشمومات
والمذوقات لا جدال في وضوحها والعلم بها، وليس كذلك أجناس المرئيات التي
منها ما هو جوهر، ومنها ما هو عَرَض، وهي لذلك ليست على نفس الدرجة من
الوضوح والعلم، ومن ثمَّ كثرت فيها الشُّبه والاعتراضات. ومن أجل هذه
الشُّبه التي تتعلَّق بالمرئيات دون ما عداها من أنواع المدركات لا يلزم
مَن جوَّز على الله الرؤية الكفر، إذا جوَّزها من غير تشبُّه لله
بالأجساد؛ إذ إنَّه بذلك لا يُكون مُخالفًا للمعتزلة في الأصل الذي
يُدافعون عنه، وهو التوحيد والتنزيه، وإنَّما يكون خلافه لهم ناتجًا عن
سوء التفرقة بين أنواع المُدرَكات. يقول أبو هاشم الجبَّائي: «إنَّ العلم
بأنَّ ما خالف في جنسه الأصوات والكلام لا يصح أن يكون مسموعًا أظهر من
العلم بأنَّ ما خالف هذه الأجناس المرئية لا يصحُّ أن يكون مرئيًّا …
إنَّه يقرِّب عندي أن يكون العلم بأنَّ الجسم لا يُسمع، والحركة لا
تُسمع، ولا يصح ذلك فيهما، ضروريًّا … إنَّ المسموعات نوع واحد، فلا يصح
إثبات مسموع ليس منها، وكذلك المدركات من جهة الشم، والذوق. فأمَّا
المرئيات فمخالفة لها في ذلك؛ لأنَّها تشتمل على نوعَين مختلفَين؛ جوهر
وعَرَض، فلم ينحصر المرئي على الوجه الذي انحصر عليه المسموع، فلذلك لزم
مَن قال إنَّ الله تعالى يسمع الكفر، ولم يلزم ذلك مَن قال إنَّه يُرى
إذا نفى التشبيه؛ ولذلك ظهر القول في أنَّه تعالى لا يسمع، والتبس ذلك في
الرؤية وكثُرت الشُّبه.»
١٧٥
غير أنَّ قضية نفي الرؤية عن الله، إلى جانب اتصالها بأصل التوحيد،
وهو الأصل الأول للمذهب الاعتزالي، تتصل من جانب آخر بصفات المدح التي لا
يجب نفيها عن الله. بمعنى أنَّ الله تعالى إذا كان قد تمدَّح نفسه بأنَّه
لا يُرى، فإنَّ الزعم بأنَّه يُرى هو نفي للمدح الذي مدح به ذاته. وفي
هذا السبيل يُقسِّم المعتزلة ما يمتدح به الله سبحانه نفسه إلى قسمَين؛
القسم الأول: ما يرجع إلى صفات الفعل، أمَّا القسم الثاني: فهو ما يرجع
إلى صفات الذات.
وينقسم القسم الأول من صفات المدح إلى: ما يُتمدَّح بإثباته، وما
يُتمدَّح بنفيه. وما يُتمدَّح بإثباته من الصفات الراجعة إلى الفعل ينقسم
بدوره إلى قسمَين؛ أحدهما يقتضي نفيُه نقصًا، مثل التمدُّح بفعل الواجب
والتمكين وإزاحة العلل وإثابة المُطيع، وثانيهما ما لا يقتضي نفيه نقصًا
مثل فعل الإحسان والتفضُّل. وأمَّا ما يُتمدَّح بنفيه من صفات الفعل فعلى
قسمَين أيضًا؛ أحدهما يُوجب إثباته النقص كنفي الظلم، وثانيهما ما لا
يقتضي إثباته نقصًا مثل أن يُمتدح بألَّا يُعاقب الكافر ولو عاقبه لم
يقتضِ ذلك نقصًا فيه.
أمَّا القسم الثاني، وهو التمدُّح بالأمر الذي يرجع إلى صفات الذات،
فينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ أولهما: التمدُّح بما هو إثبات في الحقيقة، ونفي
ذلك يُوجب النقص، وذلك كمدحه بأنَّه قديم. وثانيهما: التمدُّح بما يجري
مجرى الإثبات مثل وصفنا له بأنَّه عالم وقادر وحي، ونفي ذلك يوجب النقص.
وثالثهما: التمدُّح بما يجري مجرى النفي مثل نفي الرؤية والنوم، وإثبات
ذلك يُوجب النقص.
١٧٦
وإلى هذا النوع الثالث من القسم الثاني ينتمي ما تمدَّح الله به نفسه
من نفي الرؤية عن ذاته، ومن ثمَّ فإنَّ إثبات الرؤية له تقتضي نقصًا
ينبغي نفيه عن الله جلَّ وعز. والدليل السمعي الذي يُورده المعتزلة على
خصومهم في هذا الصدد هو قوله تعالى:
لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ (الأنعام: ١٠٣). ولكي يؤكِّد المعتزلة أنَّ هذه الآية
وردت مورد التمدُّح يلجئون إلى السياق الذي وردت فيه الآية: «لأنَّ سياق
الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها؛ لأنَّ جميعه في مدائح الله
تعالى، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثمَّ يخلطها
بما ليس بمدح البتة، ألَا ترى أنَّه لا يحسن أن يقول أحدنا: فلان ورع تقي
نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي بالليل ويصوم بالنهار، لما
لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح. يُبيِّن ذلك، أنَّه تعالى
لمَّا بيَّن تميُّزه عمَّا عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد بيَّن
أنَّه يتميَّز عن غيره من الذوات بأنه لا يُرى ويَرَى.»
١٧٧
وفكرة المدح لا تنفصل عند المعتزلة عن فكرة التوحيد والتنزيه ونفي
مشابهة الله للبشر والأجساد، بل هما فكرتان مرتبطتان غير منفصلتَين: «فإن
قيل: وأي مدح في أنَّه لا يُرَى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات
وكثير من الموجودات؟ قلنا: لم يقع التمدُّح بمجرَّد أن لا يُرَى، وإنَّما
يقع التمدُّح بكونه رائيًا ولا يُرَى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون
مدحًا ثمَّ بانضمام شيء آخر إليه يصير مدحًا، وهكذا فلا مدح في نفي
الصاحبة والولد مجرَّدًا، ثمَّ إذا انضمَّ إليه كونه حيًّا لا آفة به صار
مدحًا. وهكذا فلا مدح في أنَّه لا أوَّل له، فإنَّ المعدومات تشاركه في
ذلك، ثمَّ يصير مدحًا بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادرًا عالمًا
حيًّا سميعًا بصيرًا موجودًا، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة، أنَّ
التمدُّح إنَّما يقع لِمَا تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات،
والبينونة لا تقع إلا بما نقوله؛ لأنَّ الذوات على أقسام، منها ما يَرَى
ويُرَى كالواحد منَّا، ومنها ما لا يُرَى ولا يَرَى كالمعدومات، ومنها ما
يُرَى ولا يَرَى كالجماد، ومنها ما لا يُرَى ويَرَى كالقديم سبحانه
وتعالى. وعلى هذا الوجه صحَّ التمدُّح بقوله: وهو يُطعِم ولا يُطعَم.»
١٧٨ وهكذا ترتبط فكرة المدح بتباين الذات الإلهية عن الذوات
البشرية. وفكرة التباين ليست سوى التنزيه عن صفات النقص البشرية، وتأكيد
صفات الكمال، بمعنى أنَّ الذات الإلهية وإن حملت بعض الصفات البشرية
كالحياة والعلم والإرادة والسمع والبصر، فإنَّ هذه الصفات قد بلغت أوج
كمالها في الله وتفاوتت في البشر، أمَّا صفات النقص والضعف في البشر فهي
منفية نفيًا كاملًا عن الله. وهكذا تقع البينونة التي هي أساس المدح.
وهكذا تلتقي فكرتا التوحيد والمدح في قضية نفي الرؤية عن الله.
وإذا كان المعتزلة — على غير عادتهم — لا يلزمون مَن جوَّز رؤية الله
من غير كيفية الكفر على أساس أنَّ التفرقة بين أنواع المرئيات مِمَّا
يصعب ويلتبس، فإنَّهم أيضًا — على غير عادتهم — يُجيزون الاستدلال على
مسألة نفي الرؤية بالعقل والسمع جميعًا: «لأنَّ صحة السمع لا تقف عليها،
وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. ولهذا
جوَّزنا الاستدلال بالسمع على كونه حيًّا، لمَّا لم نقف صحة السمع عليها،
يُبيِّن ذلك أنَّ أحدنا يُمكنه أن يعلم أنَّ للعالم صانعًا حكيمًا، وإن
لم يخطر بباله أنَّه هل يُرَى أم لا، ولهذا لم نُكفِّر مَن خالفنا في هذه
المسألة، لمَّا كان الجهل بأنَّه تعالى لا يُرَى لا يقتضي جهلًا بذاته
ولا بشيء من صفاته.»
١٧٩ والمسألة ترتبط في النهاية بعدم المساس بأصل التوحيد الذي
يُدافع عنه المعتزلة، لكنَّهم حين يجدون خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع؛
أي من القرآن الشريف، والسنة النبوية، على اعتبار أنَّ قضية التوحيد،
ومنها الرؤية، لا تؤخذ إلا من السمع ولا مجال فيها للعقل، وهو منطلَق
يُخالف تمام المخالفة ما ينطلق منه المعتزلة، حيث يعتبرون أنَّ قضايا
التوحيد والعدل هي قضايا عقلية في الأساس الأول، وأنَّ السمع قد جاء
لتأكيدها؛ ولذلك قال أبو علي الجبَّائي: «إنَّ سائر ما ورد به القرآن في
التوحيد والعدل ورد مُؤكِّدًا لِمَا في العقول، فأمَّا أن يكون دليلًا
بنفسه يُمكن الاستدلال به ابتداءً فمُحال.»
١٨٠ حين يجد المعتزلة أنَّ خصومهم يبدءون استدلالهم بالسمع،
يلجئون إلى نزع هذا السلاح من يدهم بادئ ذي بدء، على أساس أنَّهم لا يصح
لهم العلم بالسمعيات: «لأنَّهم قد أفسدوا على أنفسهم طريق العلم بأنَّه
سبحانه لا يفعل القبيح لإضافتهم القبائح كلها إلى الله.»
١٨١
وإذا كانت قضايا التوحيد والعدل هي قضايا عقلية في المحل الأول،
فإنَّ صحة السمع تنبني على أدلة العقل، وما ورد في السمع مخالفًا لأدلة
العقل يجب تأويله بما يتفق مع هذه الأدلة العقلية. ولا تناقض بين هذا
المبدأ وبين قول المعتزلة إنَّ قضية الرؤية مِمَّا يصحُّ أن يُستدلَّ
عليها بالعقل والسمع معًا إذا كانت هذه القضية، حتَّى مع الجهل بها، لا
تقدح في أساس التوحيد. على أنَّهم في هذه القضية يربطون بين العقل والسمع
ولا يُقدِّمون السمع على العقل، بل يجعلونهما متساويَين في
الدلالة.
(١)
وإذن يقوم مسلك المعتزلة في تأكيد أفكارهم العقلية عن الله تعالى
على ثلاث وسائل؛ الوسيلة الأولى هي التفرقة بين المُحْكَم والمُتشابه،
واعتبار ما يدعم وجهة نظرهم مُحكَمًا يدل بظاهره، وفي نفس الوقت اعتبار
ما يدعم وجهة نظر الخصوم مُتشابهًا في حاجة إلى التأويل. أمَّا الوسيلة
الثانية فهي التأويل، وغايته رفع التناقض الذي يُمكن أن يوجد بين
أفكارهم العقلية عن الله وبين ظاهر بعض الآيات التي يستشهد بها الخصوم،
والتي يُعدُّها المعتزلة مُتشابهًا. أمَّا الوسيلة الثالثة فهي إنكار
حق الخصوم، أو قدرتهم على معرفة السمعيات وفهمها؛ لأنَّ صحة السمع
موقوفة على العدل والتوحيد، وهي قضايا عقلية؛ ولأنَّ الخصوم «قد أفسدوا
على أنفسهم طريق العلم بأنَّه سبحانه لا يفعل القبيح لإضافتهم القبائح
كلها إلى الله.» وهذه الوسيلة الأخيرة لا يسلكها المعتزلة في الرد على
خصومهم في قضية الرؤية؛ وذلك لأنَّها لا تقدح في أصل التوحيد أولًا،
وثانيًا لأنَّها من المسائل الشائكة التي كثرت فيها الشُّبه
والاعتراضات، بسبب صعوبة التفرقة بين أنواع المدركات كما سبقت الإشارة.
وعلى ذلك يبدأ المعتزلة نقاشهم قضية الرؤية على أساس إيراد أدلتهم
السمعية، وهي المُحْكَمة من وجهة نظرهم على نفي الرؤية، ثمَّ يلجئون
إلى أدلة الخصوم — وهي المُتشابه — مستخدمين سلاح التأويل
والمجاز.
يورد المعتزلة على خصومهم قوله تعالى:
لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الأنعام: ١٠٣)، فيأخذونه دليلًا على
صحة ما أثبتوه عقلًا من أنَّ الله تعالى لا يصحُّ أن يُرَى. غير أنَّ
هذا الدليل السمعي لا يسلم للمعتزلة من النقض؛ إذْ يلجأ خصومهم إلى
التفرقة بين لفظ «أدرك» ولفظ «رأی» على أساس أنَّ الإدراك غير الرؤية،
وأنَّ الله إذا كان قد نفى أن يُدْرَك بالبصر فإنَّه لم ينفِ أن يُرَى،
إذ: «إنَّ الإدراك عبارة عن الإحاطة، ومنه: فلمَّا أدركه الغرق، أحاط،
وإنَّا لمدركون: أي مُحاط بنا؛ فالمنفي إذن عن الأبصار إحاطتها به عزَّ
وعلا لا مجرَّد الرؤية … يدل لنا أنَّ تخصيص الإحاطة بالنفي يُشعر
بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك، وأقله مجرَّد الرؤية، كما
أنَّا نقول لا تُحيط به الأفهام، وإن كانت المعرفة بمجرَّدها حاصلة لكل
مؤمن، فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للحس، وما دون الإحاطة من
المعرفة للعقل والرؤية للحس ثابت غير منفي.»
١٨٢ ويُضطر المعتزلة إلى الدخول في مناقشات لغوية حول لفظ
«أدرك» والفرق بينه وبين لفظ «رأی». وينفي المعتزلة أن يكون الإدراك هو
الإحاطة: و«الإحاطة ليس هو بمعنى الإدراك، لا في حقيقة اللغة ولا في
مجازها، ألَا ترى أنَّهم يقولون السور أحاط بالمدينة، ولا يقولون
أدركها أو أدرك بها … على أنَّه كما لا تُحيط به الأبصار، فكذلك لا
يُحيط هو بالأبصار؛ لأنَّ المانع في الموضعَين واحد، فلا يجوز حمل
الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة.»
١٨٣ ثمَّ يُفرقون بين الإدراك مطلقًا، وبين الإدراك إذا قُيِّد
بالنظر كما هو منطوق الآية الكريمة؛ فالإدراك: «إذا قُرِن بالبصر أفاد
ما تُفيده رؤية البصر، وإن كان إذا أطلق فقد يُسْتَعمل بمعنى اللحوق،
فيُقال: أدرك الغلام إذا بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت، وأدرك فلان
فلانًا إذا لحقه، وقال سبحانه:
حَتَّى إِذَا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، يعني لحقه الغرق، و
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، يعني لملحوقون.
وقد يُقال عند الإطلاق أدركت الحرارة والبرودة وأدركت الصوت، وكل ذلك
إنَّما يصح إذا لم يُقرن بالبصر، ومتى قُرِن به زال الاحتمال عنه،
فاختص بفائدة واحدة وهي الرؤية بالبصر. فإذا صحَّ ذلك فيجب أن يكون
قوله تعالى:
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ،
في باب الدلالة على أنَّه لا يرى بمنزلة قوله تعالى: «لا تراه الأبصار»
١٨٤ وبصرف النظر عن خلافهم حول «الإدراك» هل هو الإحاطة أو
البلوغ أو اللحوق، فإنَّ الفكرة التي يطرحها القاضي عبد الجبَّار
للتفرقة بين لفظ «أدرك» عند الإطلاق، وبين نفس اللفظ إذا قُيِّد
بالنظر، تبدو فكرةً أصيلة من ناحية الدلالة على أساس أنَّ اللفظ يكتسب
معنًى مُحدَّدًا من خلال التركيب والسياق، وأنَّ هذا اللفظ حين لا يكون
موضوعًا في سياق مُحدَّد، لا يكون له حينئذٍ سوى معنًى هُلامي مهوَّش.
غير أنَّ الآية تُثير إشكالًا آخر حول مفهوم كلمة «الأبصار»؛ إذْ يبدو
مفهومًا ومنطقيًّا نفي أن تُدْرِك الأبصار الله، ولكن كيف يُدْرِكُ هو
الأبصار؟ وهنا يلجأ المعتزلة إلى القول ﺑ «أنَّ المراد بالأبصار
المبصرون، إلا أنَّه تعالى علَّق الإدراك بما هو آلة فيه وعنى به
الجملة، ألَا ترى أنَّهم يقولون: مشت رجلي، وكتبت يدي، وسمعت أذني،
ويريدون الجملة.»
١٨٥ وعلى ذلك يكون معنى الآية أنَّ المبصرين لا يُدرِكُون الله
ولكنَّه يُدرِكُ المبصرين. وهنا يثور إشكال جديد فحواه أنَّ الآية
تقتضى على هذا التأويل — أي تأويل الأبصار بالمبصرين — «أن يرى الله
نفسه لأنَّه من المبصرين.»
١٨٦ غير أنَّ المعتزلة يردون على هذا الإشكال بدليل عقلي
فحواه: «أنَّه تعالى وإن كان مبصرًا، فإنَّما يرى ما تصحُّ رؤيته،
ونفسه يستحيل أن تُرَى؛ لِما قد بينَّا أنَّه يُمدح بنفي الرؤية عن
نفسه مدحًا يرجع إلى ذاته، وما كان نفيه راجعًا إلى ذاته فإن إثباته
نقص، والنقص لا يجوز على الله تعالى.»
١٨٧ ولا يكون هذا الإشكال واردًا على مُفسِّر معتزلي كالزمخشري
لأنَّه لم يتأوَّل الأبصار على أنَّها المبصرون كما فعل القاضي
عبد الجبَّار، وإنَّما البصر عنده: «هو الجوهر اللطيف الذي ركَّبه الله
في حاسة النظر وبه تُدرك المبصرات، فالمعنى أنَّ الأبصار لا تتعلَّق به
ولا تُدْرِكه؛ لأنَّه متعالٍ أن يكون مُبصرًا في ذاته؛ لأنَّ الأبصار
إنَّما تتعلَّق بما كان في جهة أصلًا أو تابعًا كالأجسام والهيئات،
«وهو يدرك الأبصار»: وهو للطف إدراكه للمدركات يُدرك تلك الجواهر
اللطيفة التي لا يُدركها مدرك، «وهو اللطيف»: يلطف عن أن تُدركه
الأبصار، «الخبير»: بكل لطيف يدرك الأبصار لا تلطف عن إدراكه، وهذا من
باب اللف.»
١٨٨ وفي هذا التفسير تُسعف الزمخشري معرفته البلاغية فيبتعد عن
الإشكال الذي يُثيره تأويل «الأبصار» بالمبصرين، ويُساعده على ذلك ربط
آخر الآية بأولها على طريقة «اللف»، بمعنى أنَّ نفي إدراك الأبصار لله
يؤكِّده كونه — سبحانه — لطيفًا، وإثبات إدراكه لها يؤكِّده كونه
خبيرًا. ثمَّ إنَّ تعريف الزمخشري للأبصار بأنَّها جواهر لطيفة وأنَّ
الله يُدرِكُها يستند إلى أساس كلامي للمعتزلة، وللنظَّام خصوصًا في
أنَّ الجواهر يجوز أن تُرى. وبذلك يرى الله ما تجوز عليه رؤيته، ويرتفع
الاعتراض الذي يُمكن أن يثور من الخصوم على ذلك.
إلى هنا ينتهي المعتزلة من إيراد دليلهم المُحكَم من السمع،
ويدفعون الاعتراض الذي يُثيره الخصوم على هذا الدليل. وهذا يؤدِّي بهم
إلى الخوض في مسائل لغوية ودلالية حول معنى اللفظ منفردًا ومعناه في
تركيب معين. وفي هذه النقطة أفلح القاضي عبد الجبَّار في تفسير الآية
بما يتفق مع وجهة النظر الاعتزالية. غير أنَّ تأويله للأبصار بأنَّ
المقصود بها المُبصِرون أوقعه في إشكالات راح يدفعها، وهي إشكالات
تخلَّص منها الزمخشري تخلُّصًا بلاغيًّا استخرجه من السياق العام للآية
الذي لا يفصل بين أولها وآخرها. غير أنَّنا يجب أن نُثبت أنَّ القاضي
عبد الجبَّار له كتابان؛ المغني في أبواب التوحيد والعدل، وشرح الأصول
الخمسة، وأنَّه في الكتاب الأول لم يورد هذا التأويل الذي أوقعه في
الإشكالات، بل ورد هذا التأويل في كتابه الثاني «شرح الأصول الخمسة»،
وهو كتاب يختلف في أسلوبه وطريقة عرضه الكتاب الأول، الأمر الذي يجعلنا
نظن أنَّ هذه التأويلات من صنع شارح الكتاب والمُعلِّق عليه، وهو أحد
تلاميذ القاضي عبد الجبَّار.
يُثير خصوم المعتزلة — على الدليل السابق — اعتراضًا آخر، فحواه
أنَّ الله وإنْ كان يستحيل أن يُرَى في الدنيا، فما المانع من رؤيته في
الآخرة والحال غير الحال؟ ويبنون هذا الاعتراض على أساس أنَّ نفي
الرؤية في الآية المقصود به الرؤية في الدنيا لا في الآخرة،
١٨٩ ويبني المعتزلة ردهم على هذا الاعتراض على أساسَين؛ الأساس
الأول أنَّ الآية وردت مورد التمدُّح، وإثبات ما تمدَّح الله بنفيه عن
نفسه يوجب النقص. والأساس الثاني أنَّ الآية عامة ولم تُخصَّص بوقتٍ
دون وقت، فلا دليل للخصوم على تخصيص عموم الآية، والأصل في ذلك «أنَّه
تعالى قد نفى أن يُدْرَك بالأبصار نفيًا عامًّا من غير توقيت، فيجب
القطع على أنَّ المراد به في كل حال، ولا فرق بين مَن قال إنَّه أراد
به في الدنيا دون الآخرة، وبين مَن قال إنَّه أراد بذلك في بعض أوقات
الدنيا دون بعض على ما يذهب إليه بعض مَن يقول بالحلول. ولا فرق بين
مَن قال ذلك في هذه الآية وبين مَن قال بمثله في سائر ما تمدَّح بنفيه
عن نفسه، نحو تمدُّحه بنفي السِّنة والنوم، ونفي الصاحبة والولد، ونفي
المثل. فإذا وجب حمل ذلك أجمع على أنَّ المراد به النفي، وما كان نفيه
مدحًا مِمَّا يرجع إلى ذاته، فإثباته له لا يكون إلا نقصًا. وصفات
النقص لا تجوز على القديم سبحانه في الدنيا ولا في الآخرة، فيجب ألَّا
يُرَى في الدنيا ولا في الآخرة، وألَّا يصح أن يكون المراد بالآية
النفي في وقتٍ دون وقت، كما لا يصح أن يكون المراد بقوله:
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، نفي ذلك في
حال دون حال.»
١٩٠
وهناك دليل آخر يتشبَّث به المعتزلة على عدم جواز رؤية الله تعالى،
وهو دليل سمعي من قصة عليه السلام، والمقصود بذلك قوله تعالى لموسى حين
طلب رؤيته:
لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
(الأعراف: ١٤٤): «فنفى أن يراه وأكَّد ذلك بأن علَّقه باستقرار الجبل،
ثمَّ جعله دكًّا، ونبَّه بذلك على أنَّ رؤيته له لا تقع لتعليقه
إيَّاها بأمر وجد ضده على طريق التبعيد المشهور في مذاهب العرب؛
لأنَّهم يؤكِّدون الشيء بما يُعْلَم أنَّه لا يقع «لا» على جهة الشرط
لكن على جهة التبعيد.»
١٩١
ويبدو أنَّ طلب موسى الرؤية من الله عزَّ وجل بقوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (الأعراف: ١٤٣)،
كان قد أثار لدى المعتزلة السابقين على القاضي عبد الجبَّار مشكلةً
تصدَّوا لحلها. هذه المشكلة تتمثَّل في حل التعارض القائم بين قولهم
بأنَّ معرفة توحيد الله وعدله هي معرفة عقلية لا تستند إلى السمع، وبين
طلب موسى عليه السلام الرؤية، مِمَّا يوهم بجهله — وهو النبي المعصوم —
بصفات الله وما يليق به. وكان أن تصدَّى علماء المعتزلة كأبي الهذيل
العلَّاف، وأبي على الجبَّائي إلى تأويل «النظر» في قوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، بأنَّ المقصود
به المعرفة الضرورية التي تزول معها الشُّبه، وتصل إلى درجة أشبه
بالمعرفة اليقينية، كأنَّ موسى عليه السلام طلب من الله أن يُعرِّفه
نفسه معرفةً ينجلي عنها الشك كأنَّها المعرفة الناتجة عن الرؤية والنظر
المباشر. ومعنى هذا أنَّ الآيات الواردة في قصة موسی كانت تُمثِّل لدى
المعتزلة السابقين مُتشابهًا في حاجة إلى التأويل. ويبدو أنَّها كانت
سلاحًا في يد خصوم المعتزلة يستدلُّون بها على جواز رؤية الباري جلَّ
وعزَّ بدليل أنَّ موسى عليه السلام طلب رؤيته. وكان خصوم المعتزلة —
فيما يبدو — يحملون دك الجبل من الله وعدم تحقُّق الرؤية على أنَّ موسى
طلب رؤية الله في الدنيا، وهي غير جائزة — في رأيهم — إلا في
الآخرة.
ويتشبَّث المعتزلة بفكرة التبعيد الموجودة في قوله تعالى: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي. ومعنى ذلك أنَّ الله
علَّق رؤية موسى باستقرار الجبل، لا على جهة الشرط، ولكن على جهة
التبعيد بأنَّ ذلك لن يحدث. ويستشهدون على فكرة التبعيد هذه بآيات أخرى
من القرآن، وبأبيات من الشعر: «كما يقول قائلهم: «لا كلمتك ما لاح كوكب
أو أضاء فجر»، وكما قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار
القار كاللبن الحليب
وكما قال جلَّ وعز:
وَلَا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ،
وكما قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا
فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ
وَالْأَرْضُ، فكذلك قوله:
فَإِنِ
اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، ثمَّ جَعْلِه الجبل
دكًّا بيَّن به انتفاء الاستقرار، دليل على أنَّ الرؤية لا تقع على وجه.»
١٩٢
وهناك فكرة أخرى تؤكِّد فكرة التبعيد السابقة وهي أنَّ الله قال
لموسى:
لَنْ تَرَانِي، و«لن موضوعة
للتأبيد، فقد نفى أن يكون مرئيًّا البتة، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه.»
١٩٣ وفكرة أنَّ «لن» موضوعة للتأبيد قد يجد الخصوم فيها مطعنًا
يستدلون عليه من القرآن الكريم؛ ذلك أنَّ «الله قال حاكيًا عن اليهود
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ؛ أي لا يتمنَّون الموت، ثمَّ قال حاكيًا عنهم:
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ فكيف يُقال: إنَّ لن موضوعة للتأبيد؟
قلنا: إنَّ لن موضوعة للتأبيد ثمَّ ليس يجب ألَّا يصحَّ استعماله إلا
حقيقة، بل لا يمتنع أن يُسْتَعمل مجازًا، وصار الحال فيه كالحال في
قولهم أسد وخنزير وحمار، فكما أنَّ موضعها وحقيقتها الحيوانات المخصوصة
ثمَّ تُستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسُّع، واستعمالهم في غيرها
لا يقدح في حقيقتها، كذلك ههنا.»
١٩٤ ومعنى ذلك أنَّ «لن» موضوعة في حقيقتها للتأبيد، ثمَّ قد
تُستعمل مجازًا كما في الآيات التي يستدل بها الخصوم. وتلتقي فكرة أنَّ
«لن» موضوعة للتأبيد، مع فكرة التبعيد المتضمَّنة في الشرط في الآية،
ليستدل بهما المعتزلة على أنَّ رؤية الله مستحيلة. ولكن خصوم المعتزلة
يرَون في هذه الآيات رأيًا آخر؛ فهم يُسلِّمون بجواز الرؤية على الله،
لكنَّهم لا يرَونها جائزةً في هذه الحياة الدنيا، ويكون الأمر أنَّها
لم تحدث؛ لأنَّ موسى طلبها في غير أوانها؛ ولهذا تاب موسى من ربه على
ذلك وتبرَّأ من سفاهة قومه. وتوبته وتبرُّؤه من طلب الرؤية: «ليس
لأنَّها غير جائزة على الله ولكنَّ الله تعالى أخبره أنَّها لا تقع في
دار الدنيا والخبر صدق.»
١٩٥
وإذا كان المعتزلة قد اعتمدوا على فكرتَي أنَّ «لن» موضوعة
للتأبيد، وأنَّ الشرط في الآية هو على طريقة التبعيد المعروفة في مذاهب
العرب، وذلك لكي يؤكِّدوا استحالة الرؤية على الله استحالة مطلقة، فما
زال أمامهم سؤال موسى نفسه الله بقوله:
رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، وهو سؤال يتناقض مع معرفة موسى
العقلية بعدل الله وتوحيده مِمَّا يقدح في عصمته كنبي. وهذا التناقض
حلَّه أبو الهذيل وأبو علي الجبَّائي بتأويل النظر في الآية على أنَّه
المعرفة كما سبقت الإشارة. وهذا التأويل معناه أنَّ الآية من
المُتشابه، ولكن القاضي عبد الجبَّار شاء أن يُحوِّل الآية إلى دليل
للمعتزلة، ومن ثمَّ وجد نفسه مضطرًّا إلى رفض تأويل مشايخه، وأخذ الآية
على ظاهرها بأنَّ موسى طلب الرؤية. والأساس الذي يستند إليه
عبد الجبَّار أنَّ «النظر» إذا عُدي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلا
النظر، ولا يحتمل المعرفة. يقول: «إنَّ الرؤية إذا قُرن إليها النظر
وعدَّاه بإلى، فالمراد به الرؤية بالبصر. وقد قال سبحانه:
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، فلمَّا قرنه
بالنظر وعدَّاه بإلى، وجب حمل ظاهره على الرؤية بالبصر؛ لأنَّه لا يصح
أن يكون المراد بهذا النظر والفكر؛ لأنَّه لا يُقال في نظر الفكر ينظر
إليه على الحقيقة، وإنَّما يُقال ينظر فيه. وقد ورد الكتاب بما يدل على
ذلك، فقال سبحانه:
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وقال تعالى:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ، ومتى قُرن بالرؤية ذكر الجَهرة، فالمراد به رؤية
البصر. وذلك يدل على أنَّ موسى صلى الله عليه إنَّما سأل الرؤية، ومتى
حمل سؤاله على هذا الوجه أمكن حمل قوله (أنظر إليك) على ظاهره، ومتى
حمل على أنَّ المراد به العلم احتيج إلى حذف الآيات في الكلام، فيصير
في التقدير كأنَّه قال: رب أرني أنظر إلى الآيات التي عندها أعرفك
ضرورةً من غير أن يدل الظاهر عليه.»
١٩٦ وإذا أُخذت الآية على ظاهرها بأنَّ موسى طلب رؤية الله
حقًّا، فكيف يتأتَّى منه هذا الطلب وهو النبي المعصوم الذي يجب أن يعرف
بعقله ما يجوز على الله وما لا يجوز عليه؟ هنا يُنكر القاضي
عبد الجبَّار أن يكون موسى طلب الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه بعنادهم إلى
ذلك؛ إذ هو أعلم بالله وصفاته وتوحيده من أن يسأل هذا السؤال الذي
ينمُّ عن جهل لا يليق بنبوته: «وقد حُكِي في القصة أنَّ قومه سألوه أن
يُريهم ربهم جهرة، فأجابهم بأنَّ ذلك يستحيل على الله تعالى، فلم
يقنعوا بجوابه، وأحبوا أن يَرِد الجواب من قِبَل الله تعالى، فوعدهم
بذلك ظنًّا منه أنَّ الجواب إذا وقع من قِبَله كان أحسم للشُّبهة
وآكَّد في الحجة، فاختار السبعين لحضور الميقات، وهو الذي أراده تعالى
بقوله:
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ
رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا، ووعد قومه بأنَّه سأله سبحانه الرؤية
بحضور السبعين في الميقات، وسأله عزَّ وجلَّ كما وعد، فأجابه بما دلَّ
به على أنَّ ما سألوه لا يجوز عليه. وقوله تعالى:
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُم مِّنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
السُّفَهَاءُ مِنَّا، يدل على صحة ما قدَّمناه؛ لأنَّه بيَّن
أنَّ للسفهاء فيما سأل من الاختصاص ما ليس له وللسبعين. وظاهر ذلك يدل
على أنَّه إنَّما سأل على لسانهم، وأنَّهم لم يؤمنوا بأنَّه جلَّ وعزَّ
لا يجوز أن يُرَى عند جوابه.»
١٩٧ ويكاد خصوم المعتزلة يتفقون معهم في ذلك، إلا أنَّهم لا
يستنتجون من هذا الموقف عدم جواز الرؤية على الله، بل يرَون أنَّ قوم
موسى أخطئوا حين طلبوا رؤية الله في الدنيا، وهي غير جائزة إلا في
الآخرة. أمَّا الخطأ الثاني الذي وقع فيه قوم موسى فهو «توقيفهم
الإيمان عليها حيث قالوا لن نؤمن لك حتَّى نرى الله جهرة، ألَا ترى
أنَّ قولهم لن نؤمن لك حتَّى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعًا، إنَّما
سألوا فيه جائزًا، ومع ذلك قُرِّعُوا به لاقتراحهم على الله ما لا
يتوقَّف وجوب الإيمان عليه.»
١٩٨
وهنا يثور تساؤل يطرح نفسه على المعتزلة ويُحاولون الإجابة عليه.
إذا كان موسى طلب الرؤية لقومه لا لنفسه؛ لأنَّه «أعرق في معرفة الله
تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظَّام وأبي الهذيل والشيخَين
وجميع المتكلِّمين.»
١٩٩ فلماذا نسب السؤال إلى نفسه بقوله:
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، ولم يقل مثلًا: «رب أرهم
ينظرون إليك»؟ ولماذا جاء جواب الله له «لن تراني» ولم يجئ مثلًا «لن
يرَوني»؟ يورد المعتزلة هذه الأسئلة على أنفسهم ويُجيبون عن ذلك ﺑ
«أنَّه لا يمتنع أن يورد السائل عن غيره المسألة على سبيل الإضافة
إليه، فيكون الحال في ذلك معقولًا لِمَا تقدَّم من المُقدِّمات، وعلى
ذلك يشفع أحدنا إلى غيره لغيره، فيقول: أُحب أن تفعل بي كَيت وكَيت،
وأن تقضي حقي فيه، ويُجيب المشفوع إليه: بأنِّي قد فعلت ذلك لك وبك،
ويكون ذلك صحيحًا، وإن كان السؤال عن غيره. وإنَّما كان كذلك لأنَّ
السائل لغيره عن غيره لغرض فيه تكفَّل بالمشقة لأجل غيره كتكفُّله بها
لأجل نفسه، فتحقَّق بإضافة السؤال إلى نفسه اهتمامًا بذلك، وإن كان
سائلًا عن غیره كاهتمامه إذا كان سائلًا لنفسه.»
٢٠٠
ويورد المعتزلة على أنفسهم سؤالًا آخر، أو ربما أورد هذا السؤال
خصومهم، فحواه: إذا كان موسى لم يسأل الرؤية لنفسه، بل سألها لقومه على
طريقة التشفُّع، فلماذا تاب عن هذا السؤال، والتوبة لا تصح إلا من فعل
نفسه؟ وتكون الإجابة أنَّ موسى تاب عن ذلك؛ لأنَّه سأل الله بحضرة
القوم من غير إذن، ولا يجوز من الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة
الأمة من غير إذن سمعي؛ لأنَّه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن يُجابوا،
فيكون ذلك تنفيرًا عن قَبول الأمة.»
٢٠١
ولعل في كل ما أوردناه في قصة موسى من حوارٍ بين المعتزلة وخصومهم
ما يُبيِّن تنازعهم في الاستدلال بهذه القصة كلٌّ لصالح وجهة نظره.
فالمعتزلة في بادئ الأمر أنكروا أن يكون موسى عليه السلام طلب الرؤية،
حتَّى اضطُر أبو الهذيل العلَّاف وأبو علي الجبَّائي إلى تأويل النظر
في قوله: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ
بأنَّه المعرفة. ولم يُسلِّم القاضي عبد الجبَّار بهذا التأويل من
مشايخه؛ ربما لأنَّ قول الله: لَنْ
تَرَانِي، إجابة لهذا الطلب، يؤكِّد أنَّ موسی طلب الرؤية، ومن
ثمَّ أخذ الآية على ظاهرها بناءً على أنَّ «النظر» إذا عُدِّي بحرف
الجر «إلى» لم يحتمل إلا الرؤية. ومعنى ذلك — كما أسلفنا — أنَّ الآية
كانت تُمثِّل لدى المعتزلة مُتشابهًا يحتاج للتأويل. ولكن القاضي
عبد الجبَّار حوَّلها إلى مُحْكَم يستدل به المعتزلة على عدم جواز
الرؤية على الله عزَّ وجل. واضطرهم ذلك إلى الرد على الاعتراضات الأخرى
حول نسبة سؤال موسى إلى نفسه لا إلى قومه، وحول تبرير توبة موسى من هذا
السؤال … إلخ كل ذلك.
وإذا كان القاضي عبد الجبَّار قد رفض تأويل مشايخه للآية على أساس
أنَّ موسی قد طلب رؤية الله حقًّا، ونفى في نفس الوقت أن يكون قد طلب
الرؤية لنفسه، بل دفعه قومه إلى هذا الطلب، فطلبه لقومه ونسبه لنفسه
على طريقة التشفُّع، وبذلك نقل الآية من أن تكون دليلًا للخصوم وجعلها
دليلًا للمعتزلة عليهم. إذا كان القاضي عبد الجبَّار قد فعل ذلك، فإنَّ
جار الله الزمخشري لم يسلك هذا المسلك، بل قبل التأويلَين معًا دون أن
ينصر أحدهما على الآخر. ولعل هذا المسلك من الزمخشري يُفسِّره أنَّه
ليس مُتكلِّمًا بقدر ما هو مُفسِّر يجمع آراء المعتزلة في تفسير الرؤية
دون أن يُناقش هذه الآراء، وذلك على عكس القاضي عبد الجبَّار الذي هو
مُتكلِّم في المقام الأول يعنيه رفع التناقض فيما يراه من آراء مشايخه
وذلك في وجه الاعتراضات التي وردت — أو يمكن أن ترد — على آراء هؤلاء المشايخ.
٢٠٢
(٢)
ينتقل المعتزلة بعد تقرير وجهة نظرهم، ودفع الاعتراضات على الآيات
التي يعتبرونها مُحْكَمةً تُردُّ إليها المُتشابهات التي هي أدلة
الخصوم، ينتقلون بعد ذلك إلى أدلة الخصوم السمعية، سواء من جهة الحديث
النبوي الشريف أو القرآن الكريم، فيستخدمون سلاح التأويل لتخلص لهم
وجهة نظرهم في نفي مشابهة الله للبشر وتقرير أصل التوحيد تقريرًا
كاملًا.
وفيما يتصل بالأحاديث النبوية التي يُوهم ظاهرها جواز رؤية الباري
عزَّ وجل، لا يجد المعتزلة كبير عناء في ردها. والأساس الذي يستندون
إليه في رد هذه الأحاديث أنَّها أحاديث آحاد لا يُؤخذ بها في أصول
الدين وإنْ أُخِذ بها في فروعه. غير أنَّهم من جانب آخر قد يلجئون إلى
تأويل ما ورد فيها تأويلًا يتفق مع أصول مذهبهم، أو إلى معارضة هذه
الأحاديث بأحاديث أخرى تتفق مع ما يذهبون إليه. ومعنى ذلك أنَّ هناك
ثلاث وسائل في مواجهة الحديث النبوي الذي يستند إليه الخصوم فيما
يذهبون إليه من جواز الرؤية على الله.
الوسيلة الأولى هي رفض هذه الأحاديث باعتبارها آحادًا: «ولا يجوز
قَبول ذلك فيما طريقه العلم؛ لأنَّ كل واحد من المخبرين يجوز عليه
الغلط فيما يخبر به، ويصح كونه كاذبًا فيه، ولا يجوز أن ندين ونقطع على
الشيء من وجه يجوز الغلط فيه؛ لأنَّا لا نأمن بالإقدام على اعتقاده من
أن يكون جهلًا، ولا نأمن أن تكون أخبارنا كذبًا. وإنَّما يُعْمَل
بأخبار الآحاد في فروع الدين، وما يصح أن يتبع العمل فيه غالب الظن،
فأمَّا ما عداه فإنَّ قَبوله فيه لا يصح؛ ولذلك لا يُرجَع إليه في
معرفة التوحيد والعدل وسائر أصول الدين، وذلك يُبطل تعلُّقهم بهذه
الأخبار لو كانت صحيحة السند سليمةً من الطعن في الرواة، فكيف وقد طعن
أهل العلم في رواتها، وذكروا من حالهم ما يمنع من الرجوع إلى خبرهم.»
٢٠٣
أمَّا السلاح الثاني في مواجهة الخصوم حين يستشهدون بالأحاديث
النبوية — وذلك بعد دفع هذه الأحاديث على اعتبار أنَّها أحاديث آحاد لا
يؤخذ بها في أصول العلم — فهو أنْ تُعارَض بأحاديث أخرى تؤكِّد وجهة
النظر الاعتزالية في نفي الرؤية عن الله جلَّ وعز: «وهو ما رُوِي عن
أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله
ﷺ: «لن
يرى اللهَ أحدٌ في الدنيا ولا في الآخرة.» وما رُوِي عن أبي ذر، عن
رسول الله
ﷺ أنَّه قال لرسول الله: «هل رأيت ربك؟ قال: نور
أنَّى أراه.» يعني لا أراه، كقوله تعالى:
بَدِيعُ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وما
رُوِي عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث، عن كعب، أنَّه كان يقول: إنَّ
الله قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد، فكلَّم موسى مرتَين، ورآه محمد
مرتَين، فأتى مسروق عائشة، فقال: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟
فقالت: سبحان الله! لقد قَفَّ شعري مِمَّا قلته ثلاثًا، مَن حدَّثك
بهذا فقد كذب، مَن حدَّثك أنَّ محمدًا رأى ربه فقد كذب. قال الله
تعالى:
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، وقال:
مَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا، وَمْن حدَّثك
أنَّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي فقد كذب. وقد رَوَى مسروق عن عائشة
أنَّه قال لها: أليس الله يقول في كتابه:
وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول
الله
ﷺ فقال: «ذلك جبريل رأيته في صورته التي خلقه الله عليها مرتَين».»
٢٠٤ … إلخ كل هذه الأحاديث التي يُعارض بها المعتزلة أحاديث
خصومهم في هذه القضية. وليس يعنينا الكشف هنا عن مدى صدق هذه الأحاديث
من ناحية السند أو المتن، بقدر ما يعنينا أن نرصد طريقة المعتزلة في
الرد ومنازعة الخصوم. والمعتزلة أنفسهم لا يُعوِّلون كثيرًا على الحديث
فيما يتصل بأصول العقائد، فيكفي أن تكون هذه الأحاديث: «معارضةً لِمَا
نقلوه، وإن لم تزد في الظهور على تلك لم تنقص منه، فلِمَ صار التعلُّق
بتلك أولى من هذه؟ ويجب عند تعارضهما الرجوع إلى ما دلَّ عليه العقل
والكتاب لو ثبت أنَّ أخبار الآحاد تُقبل.»
٢٠٥
أمَّا السلاح الثالث في مواجهة الأحاديث التي يستشهد بها الخصوم
فهو سلاح التأويل، وهو نفس السلاح الحاد الذي يُواجه به المعتزلة
الآيات التي يستشهد بها الخصوم على صحة قولهم من القرآن الكريم. غير
أنَّ التأويل — في مواجهة النصوص القرآنية — هو السلاح الوحيد، وإن كان
— في مواجهة الأحاديث النبوية — سلاحًا من أسلحة عديدة، بل هو آخر هذه
الأسلحة، خصوصًا إذا اتصل الأمر بأصولهم العقلية. وليس ببعيد تأويلهم
لقول الرسول
ﷺ حين سُئِل: «هل رأيت ربك فقال: نور أنَّى أراه.»
حيث أُوِّلت «أنَّى» بمعنى «لا»، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى:
بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ
لَهُ وَلَدٌ، وهذه القراءة لا تُسلَّم للمعتزلة تمامًا؛ فأهل
السنة يوردون الحديث على أنَّ «أنَّى» ظرف لا نفي،
٢٠٦ وعلى أي حال فتأويل منطوق الحديث بما يتفق مع الأصول مسلك
اعتزالي مشروع. وبنفس الطريقة يُؤوِّل المعتزلة الأحاديث التي وردت
ويُفيد ظاهرها الرؤية، على أنَّ الرؤية فيها بمعنى العلم لا رؤية
العين: «على أنَّ شيوخنا قد بيَّنوا أنَّ خبر جرير لو صحَّ لكان له
تأويل سليم على قولنا وهو أنَّه أراد بقوله: «ترون ربكم»، تعلمون ربكم؛
لأنَّ الرؤية قد تكون بمعنى العلم في اللغة. يُبيِّن ذلك قوله جلَّ
وعز:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ، و
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، وقوله:
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ
قَرِيبًا، وهو تعالى يعني البعث، وقول المسلمين: اللهم أرنا
الحق حقًّا فنتبعه، والباطل باطلًا فنجتنبه. وقد ذكر أهل اللغة في
كُتبهم أنَّ الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تعدَّت إلى مفعولَين، وإذا
كانت بمعنى الإدراك لم تتعدَّ إلا إلى مفعول واحد. فإذا صحَّ ذلك،
وأنَّ الرؤية قد تكون بمعنى العلم، لم يمتنع أن يكون المراد بقوله
«ترَون ربكم» «تعلمون ربكم»، كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويكون هذا
أصح؛ لأنَّه إن حُمِل على أنَّه أراد يُدركونه كما يُدركون القمر، فيجب
أن يُدرَك في جهة مخصوصة كالقمر، فثبت أنَّ وجه التشبيه فيه، إذا حُمِل
على العلم من حيث شاركه في أنَّه ضروري، أصح.»
٢٠٧
غير أنَّ تأويل الرؤية بمعنى العلم في الحديث السابق يحتاج إلى
تأويل آخر؛ ذلك أنَّ الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدَّى إلى
مفعولَين، وإذا كانت بمعنى الإدراك لم تتعدَّ إلا إلى مفعول واحد كما
ذكر أهل اللغة الذين يروي عنهم القاضي عبد الجبَّار في النص السابق.
وإذا كان القاضي عبد الجبَّار لم يحلَّ هذا الإشكال الذي أورده على
نفسه، واكتفي بالدليل العقلي على أساس أنَّ حمل «ترَون» في الحديث على
الإدراك يقتضي الإدراك في جهة مخصوصة كما يُدْرَك القمر في جهة مخصوصة،
إذا كان القاضي عبد الجبَّار لم يحلَّ الإشكال اللغوي واكتفى بإقامة
تأويله على أساس عقلي، فإنَّه في مكان آخر يتنبَّه إلى هذا الإشكال
ويُحاول حلَّه، أو لعل شارح كتابه والمُعلِّق عليه هو الذي أحسَّ
بالإشكال وردَّ عليه: «فإن قالوا: الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدَّى
إلى مفعولَين، نحو رأيت فلانًا فاضلًا، ولا يجوز الاقتصار على أحد
مفعولَيه إلا إذا كان بمعنى المشاهدة، قلت: لا يمتنع أن يكون الأصل ما
ذكرتموه، ثمَّ يقتصر على أحد مفعولَيه توسُّعًا ومجازًا، كما أنَّ همزة
التعدية إذا دخلت في الفعل الذي يتعدَّى إلى مفعولين، تقتضي تعدِّيه
إلى ثلاثة مفاعيل، ثمَّ قد تدخل على الفعل الذي هذا حاله ويقتصر على
مفعولَين؛ ولهذا قال تعالى:
أَرِنَا
مَنَاسِكَنَا، فأدخل الهمزة على الرؤية، واقتصر على مفعولَين.
على أنَّ حال الرؤية إذا كانت بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم،
ومعلوم أنَّهم يقتصرون في العلم على أحد مفعولَين، فيقولون أعلم ما في
نفسك، ولهذا قال تعالى:
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي
وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ. فإنْ قال: إنَّ العلم ها هنا
بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد المفعولَين، قلنا: فارضَ
منَّا بمثل هذا الجواب.»
٢٠٨
وهذا الرد يتضمَّن ثلاث وسائل لغوية؛ الوسيلة الأولى: أنَّ اقتصار
«الرؤية» بمعنى العلم على مفعول واحد توسُّع ومجاز. والشاهد على ذلك
أنَّ همزة التعدية إذا دخلت على الفعل الذي يتعدَّى إلى مفعولَين
تُعدِّيه إلى ثلاثة مفاعيل، لكنَّها قد تدخل عليه ويُعدَّى إلى
مفعولَين فقط كما هو الأصل، كما في قوله تعالى: أَرِنَا مَنَاسِكَنَا (البقرة: ١٢٨). الوسيلة الثانية: أنَّ
حال الرؤية كحال العلم، وأنَّ الفعل «عَلِم» قد يُعدَّى إلى مفعول
واحد؛ فلذلك جاز أن يُعدَّى الفعل «يرى» بمعنى «عَلِم» إلى مفعول واحد
حسب معناه. فإن قيل إنَّ الفعل «علم» في قوله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ، بمعنى «عرف»، ولهذا عُدِّي إلى مفعول واحد. يلجأ
المعتزلة إلى وسيلة ثالثة: وهي أنَّ «ترَون» في الحديث بمعنى «تعرفون»؛
ولذلك فإنَّ تعديته إلى مفعول واحد صحيحة.
وتأويل «الرؤية» في الحديث بمعنى «العلم» أو «المعرفة» يتلقَّفه
الزمخشري وهو بصدد تفسير قوله تعالى:
رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، مُستشهدًا به على أنَّ النظر في
الآية بمعنى المعرفة، كأنَّ الحديث قد سلم للمعتزلة تمامًا على هذا
التأويل. يقول الزمخشري في تفسير الآية «أنظر إليك»، أعرفك معرفة
اضطرار كأنِّي أنظر إليك، كما جاء في الحديث سترَون ربكم كما ترَون
القمر ليلة البدر، بمعنى ستعرفونه معرفةً جلية هي في الجلاء كإبصاركم
القمر إذا امتلأ واستوى.»
٢٠٩
(٣)
يتصدَّى المعتزلة بعد ذلك للآيات التي استشهد بها الخصوم على صحة
ما ذهبوا إليه من جواز الرؤية على الله جلَّ وعز، وأول هذه الآيات قوله
تعالى في سورة القيامة: ٢٢–٢٣:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ٢١٠ حيث قالوا: «إنَّه جلَّ وعزَّ دلَّ بذلك على أنَّه يصحُّ
أن يُرَى؛ لأنَّ النظر إذا عُلِّق بالوجه لم يحتمل إلا الرؤية … والنظر
إذا عُدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية ولم يحتمل الانتظار؛ لأنَّه لا
يُقال في زيد أنَّه ناظر إلى فلان ويُراد به الانتظار، وإنَّما يُقال
هو منتظر فلانًا … على أنَّا إذا قسمنا النظر خرج من القسمة أنَّ
المراد بالآية الرؤية على ما نقوله، وذلك أنَّ النظر يحتمل وجوهًا؛
منها الفكر، ومنها التعطُّف والرحمة، ومنها الانتظار، ومنها الرؤية.
وقد علمنا أنَّه لا يجوز أن يكون الفكر والاعتبار مرادًا بالآية؛
لأنَّه تعالى ليس هو مِمَّن يُفكَّر فيه، ويُعتبر به، وإنَّما يُفكَّر
في الحوادث، ويُعتبر بها، ليتوصَّل بالفكر فيها إلى معرفة غيرها،
ولأنَّ النظر بمعنى الفكر لا يُعدَّى بإلى، ألَا ترى أنَّ القائل
إنَّما يقول نظرت في الشيء، بمعنى الفكر، ولا يقول نظرت إليه. ولا يجوز
أن يُراد الانتظار لوجوه، منها أنَّه عُلِّق بالوجه، والنظر إذا عُلِّق
بالوجه لم يحتمل الانتظار كما أنَّ الكتابة إذا عُلِّقت باليد لم تحتمل
إلا الكتابة المخصوصة، وكذلك كل شيء وصل إليه بالآلة متى عُلِّق بالآلة
لم يحتمل سواه؛ ومنها أنَّ النظر بمعنى الانتظار لا يُعدَّى بإلى على
ما بيَّناه؛ ومنها أنَّ الرؤية واردة في أهل الجنة ولا يجوز عليهم
الانتظار؛ لأنَّ الانتظار يوجب الحسرة والغم، وقد ضرب أهل اللغة المثل
به حتَّى قالوا: «إنَّ الانتظار يورث الصغار.» وذكروه في الأمثال
والأشعار، وذلك لا يجوز على أهل الجنة. فإذا بطل أن يكون المراد بالنظر
المذكور في الآية هذه الوجوه، ثبت أنَّ المراد به الرؤية على ما قلناه.»
٢١١ في هذا النص يُلخِّص القاضي عبد الجبَّار أدلة خصومه على
أنَّ المراد بالآية النظر الذي هو الرؤية بالحاسة. والأساس الأول الذي
تقوم عليه هذه الأدلة أنَّ النظر قد عُلِّق بالوجه، والوجه آلة في
النظر، ومن ثمَّ لا تحتمل الآية معنى الانتظار. أمَّا الأساس الثاني
فهو أنَّ النظر قد عُدِّي بحرف الجر «إلى»، ومن ثمَّ لا يحتمل معنى
الفكر؛ لأنَّ النظر بمعنى الفكر لا يُعدَّى بحرف الجر «إلى»، وإنَّما
يُعدَّى بحرف الجر «في». الأساس الثالث أنَّ الآية وردت في شأن أهل
الجنة الذين لا يجوز عليهم الانتظار لِمَا يُسبِّبه لهم من غم وقلق لا
يليق بحال أهل الجنة وتكريمهم. ويتصدَّى القاضي عبد الجبَّار لمناقشة
هذه الأُسس التي يُقيم عليها الخصوم دليلهم. وسبيله في هذه المناقشة،
وتأويل الآية بما يتفق مع أصوله، ليس سهلًا ولا بسيطًا، وإنَّما شأنه
في ذلك تفتيت الآية وإعمال سلاح المجاز في معظم ألفاظها، بل وفي حرف
الجر أيضًا.
يبدأ القاضي عبد الجبَّار — أولًا — بالتفرقة بين «النظر»
و«الرؤية»؛ «لأنَّ النظر في الحقيقة هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو الشيء
التماسًا لرؤيته، والرؤية إدراك المرئي عند النظر … فالنظر هو طريق
للرؤية فينا، فأمَّا أن يكون هو الرؤية في الحقيقة فمحال. يدل على ذلك
أنَّا نعلم بالمشاهدة كون الناظر ناظرًا، ولا نعلمه رائيًا إذا كان
المرئي مِمَّا يدق ويخفى. يُبيِّن ذلك أنَّا نعلم أنَّ الجماعة ناظرة
إلى الهلال ولا نعلمها رائيةً له؛ ولذلك يحتاج أن يرجع إلى قولها في
أنَّها رأت الهلال أم لم ترَه، ولا يحتاج في كونها ناظرةً إلى ذلك، بل
نعلمه باضطرار. فثبت أنَّ النظر الذي نعلمه من حالها غير الرؤية التي
نجهلها ولا نعلمها، وأنَّ النظر الذي نعلمه لا من قبلها غير الرؤية
التي نعلمها من قبلها.»
٢١٢
وبعد هذه التفرقة بين «النظر» و«الرؤية» وأنَّ النظر هو تقليب
الحدقة الصحيحة في الشيء التماسًا لرؤيته، والرؤية هي إدراك الشيء،
وعلى ذلك فليس كل من نظر فقد رأى؛ لأنَّ الرؤية نتيجة للنظر، وتتوقَّف
على حال المرئي من الدقة والخفاء أو الوضوح والانكشاف. بعد هذه التفرقة
ينتقل القاضي عبد الجبَّار إلى أدلة الخصوم دليلًا دليلًا لمناقشتها
وتأويل الآية. والدليل الأول الذي يُناقشه القاضي هو قول الخصوم إنَّ
النظر إذا عُلِّق بالوجه لا يحتمل إلا الرؤية؛ لأنَّ الوجه آلة في
النظر. يرى القاضي أنَّ تعلُّق النظر بالوجوه مجاز وليس حقيقة؛ لأنَّ
الوجوه لا تُرى في الحقيقة: «ولا يصح أن يُنْظَر بها أيضًا لأنَّ النظر
يقع بالعين التي في الوجه دون الوجه. وإذا لم يَجُز أن يُراد بالوجوه
العضو على الحقيقة؛ لأنَّ العضو لا ينظر في الحقيقة، ولا يُنْظَر به في
الحقيقة، فيجب متى حُمل الكلام عليه أن يكون مجازًا يحتاج الحامل له
عليه إلى دليل.»
٢١٣ وإذن فالوجه لا ينظر في الحقيقة ولا يُنْظَر به؛ لأنَّه
ليس بآلة للنظر، ومن ثمَّ فالوجه هنا مجاز يدل على الجملة التي هي
الإنسان: «ومِمَّا يُبيِّن ذلك أيضًا أنَّه تعالى قال:
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وقد علمنا أنَّه لم
يُرد بقولها «ربها» المالك؛ لأنَّه لا يكون لأهل الجنة في ذلك اختصاص،
بل لا يكون للحي فيه اختصاص؛ لكونه تعالى مالكًا لجميع الأشياء،
ومقتدرًا على تصريفه، فعلم أنَّ المراد بقوله إلى ربها ما يخصُّ
الإنسان الذي هو مستحق لعبادته الثواب والتعظيم والتبجيل، وذلك يوجب
منع حمله على أنَّ المراد بالوجوه العضو، ويوجب أنَّ المراد به جملة الإنسان.»
٢١٤ ويقوم تأويل أنَّ المراد بالوجوه جملة الإنسان على أنَّ
الضمير «الهاء» في «ربها» لا يجوز أن يعود للوجوه؛ لأنَّ الله تعالى لا
يملك الوجوه وحدها. وإذا كانت الآية واردةً في شأن أهل الجنة، فإضافة
الضمير إلى «الرب» يقتضي تكريمًا لأهل الجنة واختصاصًا يحول دون عودة
الضمير إلى الوجوه ويؤكِّد عودتها إلى الجملة. وعلى ذلك يكون تأويل
الوجوه على أنَّ المراد بها الجملة مشروعًا، وبذلك يكون هذا القول من
الله تعالى قد جرى «على منهاج ما ذكره في قوله:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ
بِهَا فَاقِرَةٌ، فذكر الوجوه وأراد جملة الإنسان، وقوله:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ *
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فكما أنَّ تعليق الظن بالوجوه يقتضي
أنَّ المراد به جملة الإنسان؛ لأنَّه الظان دون الوجه، فكذلك وصف
الوجوه بأنَّها ناظرة يدل على ذلك؛ لأنَّ الناظر هو صاحب الوجه دونه.
وقد صحَّ استعمال الوجه في اللغة على هذه الطريقة؛ فلذلك يقول القائل:
هذا وجه الرأي، ووجه الطريق، ويريد به: نفس الرأي، ونفس الطريق. وعلى
هذا حمل جماعة المسلمين قوله سبحانه:
وَيَبْقَى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، و
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. ولا يبعد
أن تكون الجملة وُصفت بذلك؛ لأنَّ بالوجه تتميَّز الجملة عن غيرها،
فلمَّا كان التمييز والمعرفة تقع به، وُصفت الجملة بهذه الصفة.»
٢١٥
وإذا كانت الرؤية غير النظر، وإذا كان تعلُّق النظر بالوجوه
مجازًا؛ لأنَّ المقصود بالوجه جملة الإنسان، فإذا وُصِف الإنسان بأنَّه
ناظر دون أن يُقيِّد ذلك بالعين أو القلب، جاز للنظر في هذه الحالة أن
يحتمل الانتظار. ولكن خصوم المعتزلة قد يُوردون هنا اعتراضًا فحواه
أنَّ حمل الوجوه على أنَّ المراد بها جملة الإنسان مجاز، وحمل النظر
على أنَّ المراد به الانتظار مجاز أيضًا، وبذلك يكون في الآية مجازان
وتأويلان: «ولأن يُحْمَل الكلام على الوجه الذي هو حقيقة في بعض الوجوه
فهو أَولى من حمله على ما هو مجاز من كل وجه.»
٢١٦ وهذا الاعتراض يجعل المعتزلة يُنْكِرون أنَّ النظر بمعنى
الانتظار مجاز؛ وذلك حتَّى لا يُتَّهموا بحمل الآية على تأويلَين
ومجازَين، ولكن هذا الإنكار لمجازية «النظر» ينساه المعتزلة — أعني
القاضي عبد الجبَّار — ليعودوا من جديد معترفين بأنَّ النظر بمعنى
الانتظار مجاز.
يقول القاضي عبد الجبَّار في إنكاره لمجازية «النظر» في الآية:
«إنَّ ما ادعيته من أنَّ النظر بمعنى الانتظار مجاز ليس بِمُسلَّم؛
لأنَّهم قد استعملوه فيه على وجه قد اطرد، كاستعمالهم ذلك في النظر
بالعين، فلا يمتنع أن يكون ما له سمَّى الجميع ذلك نظرًا يرجع إلى
معنًى واحد وهو الطلب، فكأنَّ المُفكِّر المُعتَبر يطلب المعرفة بحال
ما يُفكِّر فيه، والناظر يطلب الرؤية، والمنتظر يطلب ما يتوقَّعه من
جهة غيره، فمعنى الطلب في الجميع يتساوى على ما ذكرناه. ومتى صحَّ
حَمْل الجميع على أنَّه مأخوذ من وجه واحد، وموضوع في اللغة بطريقة
واحدة، فما أوجب كونه حقيقةً في البعض يوجب كونه حقيقةً في الكل.»
٢١٧ ويبني القاضي عبد الجبَّار إنكاره لمجازية «النظر» بمعنى
الانتظار على أساسَين؛ الأساس الأول أنَّ الرؤية والانتظار والفكر كلها
ترجع لمعنى الطلب. وبذلك يكون استعمال «النظر» بمعنى الطلب، ليستوعب كل
هذه المعاني، حقيقةً وليس مجازًا. الأساس الثاني أنَّ العرب قد استعملت
النظر بمعنى الانتظار على وجه قد اطَّرد، كاستعمالهم ذلك في النظر
بالعين. ويُورد القاضي شواهد من استعمالهم «نظر» بمعنى «انتظر»:
«والنظر بمعنى الانتظار قد ورد، قال تعالى:
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (البقرة: ٢٨)؛ أي فانتظار، وقال
جلَّ وعزَّ فيما حكى عن بِلقيس:
فَنَاظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (النمل: ٣٥) أي منتظرة. وقال
الشاعر:
فإن يكُ صدر هذا اليوم ولَّى
فإنَّ
غدًا لناظره قريب
أي لمنتظر. وقال آخر:
وإن امرأً يرجو السبيل إلى الغنى
بغيرك عن حد الغني جد جائر
تراه على قرب وإنْ بعد المدى
بأعين
آمال إليك نواظر
وقال آخر:
وجوه يوم بدر ناظرات
إلى الرحمن
يأتي بالخلاص
وقال الخليل: إنَّما يُقال أنظر إلى الله وإلى فلان من بين
الخلائق؛ أي أنتظر خيره، ثمَّ خير فلان.»
٢١٨
ولكن القاضي عبد الجبَّار حين يتعرَّض لمناقشة الأساس الثاني
للخصوم، وهو قولهم إنَّ «النظر» إذا عُدِّي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل
إلا الرؤية ولم يحتمل الانتظار أو الفكر، حين يتعرَّض لمناقشة هذا
الأساس يعود للاعتراف بأنَّ «النظر» بمعنى «الانتظار» مجاز، ومن ثمَّ
يقع في التناقض. غير أنَّ مناقشة هذا الأساس تُوقعه في تناقض آخر مع
قضية سبق أن قرَّرها حين تعرَّض لقوله في قصة موسى:
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، فهناك قرَّر
أنَّ النظر إذا عُدِّي بحرف الجر «إلى» لم يحتمل إلا الرؤية، وذلك حين
كان يتصدَّى لتأويل مشايخه بأنَّ «النظر» بمعنى العلم، أمَّا هنا فهو
لا يجد مانعًا من أن يُعدَّى «النظر» بإلى ويكون معناه الانتظار، وذلك
على أساس «أنَّ اللفظة إذا قُصِد بها في اللغة معنًى، وظاهرها موضوع في
اللغة لغيره، فقد تُسْتَعمل على ما يقتضيها اللفظ تارة، وعلى ما يقتضي
معناها أخرى، وهذا كقوله عزَّ وجل:
وَكَأَيِّن
مِّنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ، فأعمل
اللفظ وأنَّثَ، ثمَّ قال في آخره:
أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأعمل المعنى المراد. فكذلك لا
يمتنع أن يكون سبحانه أجرى في الخطاب على ما يقتضيه لفظ «ناظر»،
فعدَّاه بإلى دون ما يقتضي المعنى. على أنَّ اللفظة إذا أفادت في اللغة
أمرًا وتُجوِّز بها في غيره، فيجب أن تُسْتَعمل في المجاز على الوجه
الذي وُضِعَت له في الحقيقة، فتكون مستعارةً فيه على الحد الذي هو
حقيقة في غيره، ومتى غُيِّرت عمَّا تُستعمل عليه في حقيقتها لم تكن هي
المستعارة. فلمَّا كان قولنا «ناظر» يُستعمل في الحقيقة في نظر العين
مُعدًّى بإلى، صحَّ أن يُتجوَّز به في الانتظار على هذا الحد، وإن كان
لو صرَّح بلفظ «الانتظار» بدلًا منه لم يُعدَّ بإلى، وهذا كقولنا «إنَّ
زيدًا يُحِب عَمرًا»، بمعنى الإرادة، ولو صُرِّح بلفظ الإرادة لم يسغ
دون أن يذكر نفس المراد الذي هو منافعه، فيُقال: «إنَّ زيدا يُريد
منافع عمرو.»
٢١٩ وإذن يعود القاضي عبد الجبَّار إلى الاعتراف بأنَّ استعمال
«نظر» بمعنى الانتظار مجاز وليس حقيقة، غاية الأمر أنَّها استُعْمِلت —
من حيث التعدية — كما استُعملت في الحقيقة وعُدِّيت بحرف الجر «إلى».
وهذا الاستعمال — في رأي القاضي — هو الذي يجعل المجاز في اللفظ
ويؤكِّده. ولو استُعملت اللفظة في المجاز على غير ما تُسْتَعمل في
الحقيقة لم تكن هي المستعارة؛ أي لم يكن المجاز في اللفظ المُسْتَعمل.
ويستشعر عبد الجبَّار أنَّ المسألة لم تُحلَّ تمامًا، ومن ثمَّ يدعم
هذا الرأي بسند لغوي ينسبه إلى أستاذه أبي علي الجبَّائي، وهو رأي لغوي
شائع يقول إنَّ حروف الجر تنوب عن بعضها: «وقد قال شيخنا أبو علي رحمه
الله: إذا ثبت أنَّ لفظة الانتظار قد تُعدَّى ببعض حروف الجر فيُقال:
أنا منتظر لفلان فغير ممتنع أن تُعدَّى بإلى؛ لأنَّ حروف الجر يقوم
بعضها مقام البعض، وذلك نحو قوله تعالى:
يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ، و
يَهْدِي
لِلْحَقِّ، فأقام أحدهما مقام الآخر، وكقوله:
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ،
يعني على جذوع النخل، وقد يُقال في التعارف: «زيد قوي على عمله» و«قوي
في عمله» و«هو مستعلٍ على عمرو ولعمرو»، فلا يمتنع أن يُعدَّى ناظر
بمعنى الانتظار بإلى، ويقوم مقام اللام في هذا الباب. وليس لأحد أن
يقول: فجوَّزوا أن يُقال في زيد إنَّه ضارب إلى عمرو، كما يُقال ضارب
لعمرو على قياس ما ذكرتم، وإلا فيجب بطلان ما ذكرتموه. وذلك أنَّ ما
ذكرناه مجاز، فلا يجب اطراده واستعمال القياس فيه.»
٢٢٠ وإذا كانت نيابة الحروف عن بعضها مجازًا، واستعمال «نظر»
بمعنی «انتظر» مجازًا ثانيًا، وتعلُّق النظر بالوجوه مجازًا ثالثًا،
فقد وُجدت في الآية ثلاثة مجازات رُكِّب بعضها فوق بعض، وهذا مِمَّا
يأباه المعتزلة عمومًا، والقاضي عبد الجبَّار خصوصًا، حتَّى إنَّه منذ
قليل أنكر أن تكون «نظر» بمعنى «انتظر» مجازًا، ولكنَّه عاد فاعترف
بها، ووقع — بالتالي — في أكثر مِمَّا حاول الهرب منه. وقع في ثلاثة
مجازات حمل عليها الآية، وكان قد حاول الهرب من مجازَين فقط. غير أنَّ
هناك تأويلًا يُورده القاضي قد يُعفيه من هذه المجازات التي يأخذ بعضها
بخناق بعض، هو أنَّ «إلى في الآية على ما قيل، هو «لا» حرف الجر ولا
حرف التعدية، وإنَّما هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنَّه تعالى
قال: وجوه يومئذ ناضرة آلاء ربها منتظرة، ونِعَمَه مترقبة.»
٢٢١ غير أنَّ هذا التأويل لا يستهوي القاضي عبد الجبَّار فيما
يبدو. وأغلب الظن أنَّه من اجتهادات شارح الأصول؛ لأنَّه — أي هذا
التأويل — لم يرد في «المُغني».
وحَمل النظر في الآية على الانتظار — بهذه التأويلات المتعدِّدة —
لا يُريح القاضي فيما يبدو، ويدفعه — على غير عادته — إلى أن يستشهد
بآراء المُفسِّرين السابقين عليه أمثال مجاهد والحسن البصري فيما ذهبا
إليه أنَّ معنى «النظر» في الآية هو «الانتظار»،
٢٢٢ غير أنَّه من جانب آخر — وما دام قد قبل من تفسيراتهم ما
يؤكِّد وجهة نظره — لا يستطيع أن يرفض التفسيرات التي وردت عنهم من طرق
أخرى، والتي قد لا تلتقي تمامًا مع وجهة نظره؛ فقد ورد عن مجاهد والحسن
البصري وعن غيرهما أمثال ابن عباس وعكرمة والسُّدي أنَّ النظر في الآية
بمعنى النظر الحسي لا الانتظار، ولكن الآية — في تفسير هؤلاء جميعًا —
تعني أنَّ الوجوه ناظرة إلى ثواب الله لا إلى الله نفسه، وهو تأويل
ابن عباس ومجاهد. أمَّا عكرمة فيرى أنَّ الوجوه ناظرة إلى أمر الله،
بينما يرى السُّدي أنَّها ناظرة إلى ما يأتي من عند الله.
٢٢٣ وبصرف النظر عن الخلاف بينهم في تحديد المحذوف في الآية،
هل هو الثواب أو الأمر أو ما يأتي، فإنَّهم جميعًا يتفقون على أنَّ في
الآية حذفًا، وذلك حتَّى لا يقع نظر الوجوه على الله عزَّ وجل. ومعنى
ذلك أنَّ هناك في التراث التفسيري السابق على القاضي تأويلَين للآية؛
تأويل يتفق مع ما ذهب إليه، وهو ما ورد عن الحسن البصري ومجاهد من أنَّ
«النظر» في الآية بمعنى «الانتظار»، وهو يقبل هذا التفسير ويستشهد به
على صحة ما ذهب إليه. والتأويل الثاني لا يلتقي تمامًا مع تأويل القاضي
وإنْ كان لا يتناقض معه، ومن ثمَّ فهو يقبله أيضًا. غير أنَّه يُحاول
التوفيق بين التأويلَين، وهو يبدأ بمحاولة إعطاء شرعية لغوية لتأويل
الحذف: «وليس يمتنع في اللغة أن يُذْكَر الشيء ويُراد غيره، ويُحذف ذكر
المراد، وذلك طريقة ظاهرة في المجاز، نحو قوله:
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، و
هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ، و
جَاءَ رَبُّكَ، و
أَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ،
أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ،
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ؛ لأنَّه في ذلك أجمع ذكر
نفسه وأراد غيره.»
٢٢٤ وربما أحسَّ القاضي عبد الجبَّار أنَّ استشهاده بهذه
الآيات، على أنَّ فيها حذفًا، لا يستقيم إلا على تأويل اعتزالي قد
يُنازعه فيه الخصوم،
٢٢٥ ومن ثمَّ يلجأ إلى الشعر العربي، فيرى أنَّ قول
عنترة:
هلَّا سألت الخيل يا ابنة مالك
إن
كنت جاهلةً بما لم تعلمي
المقصود به «أرباب الخيل»، وكذلك يرى في قول الشاعر:
سل الربع أني يمَّمت أم مالك
وهل
عادة للربع أن يتكلَّما
٢٢٦
بعد أن يؤكِّد القاضي شرعية الحذف كطريقة في التعبير، يُحاول
التوفيق بين التأويلَين اللذَين قَبِلَهما عن المُفسِّرين قبله؛ وذلك
لأنَّ أحدهما يعضد تأويله المعقَّد «للنظر» بأنَّه الانتظار، والآخر لا
يتناقض مع تأويله هذا. وليست مُحاولة عبد الجبَّار التوفيق فحسب، بل هي
التأليف والمزج، فليس لديه مانع: «أن يُراد المعنيان المختلفان
بالعبارة الواحدة، فلا مانع يمنع من ذلك، وما قدَّمنا ذكره من أنَّ
معنى الانتظار ومعنى النظر بالعين معنًى واحد، ويرجعان في الموضوع إلى
أصل واحد، يقتضي صحة إرادة الله تعالى لهم جميعًا بعبارة واحدة على
مذهب مَن يقول إنَّ العبارة الواحدة لا يجوز أن يُراد بها المعنيان
المختلفان؛ لأنَّه قد بان بذلك أنَّ معناهما غير مختلف، ولو ثبت أنَّه
لا يصح بعبارة واحدة، لكان ما قدَّمناه على أنَّهما قد أُريدا، ولوجب
أن نحكم أنَّ الله تعالى قد تكلَّم بالآية مرتَين وأراد كلا المعنيَين،
فالطعن بما قلنا بهذا الوجه لا يصح، ولا يمتنع عندنا، فيما ليس طريقة
الاجتهاد من الآي، أن يُراد به أمران مختلفان، وعلى هذه الطريقة قال
شيخنا أبو علي رحمه الله في قوله: «وما هو على الغيب بظنين» … وبضنين،
أنَّه قد أريد كلا الأمرَين به، وإن كان طريق ذلك الخبر دون الاجتهاد.
ومتى صحَّ ذلك في القراءتَين لم يمتنع مثله في العبارة الواحدة إذا
احتمل الأمرَين.»
٢٢٧ وإذن فإنَّ عبد الجبَّار في محاولته جمع التأويلَين في
إهاب واحد لا يجد ما يمنع أن تُعبِّر عبارة واحدة عن معنيَين. وهو في
هذا المبدأ ينسى فكرة السياق ودلالة التركيب وتأثير ذلك في المعنى
الكلي للعبارة. غير أنَّه إن عورِض بمثل هذا الاعتراض وجد في محاولته
لرد الانتظار والنظر والفكر إلى معنًى واحد هو الطلب تبريرًا لهذا
الادعاء، على أساس أنَّها ليست معاني مختلفة، وبالتالي فالعبارة لم
تُعبِّر عن معانٍ مختلفة. ومن الواضح — في هذه الآية — أنَّ القاضي
عبد الجبَّار وقع في اضطرابات كثيرة، وتناقَضَ مع نفسه أكثر من مرة وهو
بصدد تأويل هذه الآية، لكن عذر عبد الجبَّار في هذه التأويلات أنَّ
الآية ترتبط بقضية التوحيد، وأنَّ القرينة العقلية أو الدليل العقلي
الذي يرى أنَّ الله لا يُرَى لصفة تتعلَّق بذاته، أقوى عند المعتزلة من
القرينة اللفظية.
ويتبقَّى أمام القاضي عبد الجبَّار الأساس الأخير الذي يرتكز عليه
خصوم المعتزلة، وهو أنَّ حَمْل الآية على الانتظار — لا النظر — لا
يجوز؛ لأنَّ الانتظار يورث الغم والحسرة، وهذا لا يليق بوصف أهل الجنة
الذين وردت فيهم الآية. ويردُّ القاضي هذا الاعتراض بقوله: «إنَّ
الانتظار هو توقُّع الشيء الذي يعلم حصوله في المستقبل أو يظنه، وقد
ينقسم؛ فإن كان ما ينتظره يحتاج إليه في الحال، ويلحقه بفقده مضرة،
كانتظار الجائع المأكول، والمحبوس الخلاص، فذلك يوجب الحسرة. وكذلك فلو
انتظر ما لا يحتاج إليه في الحال، لكنَّه يخشى فوته، ولا يثق بحصوله،
فإنَّه قد تلحقه الحسرة. فأمَّا القسم الثاني، وهو أن يكون ما ينتظره
غير محتاج إليه في الحال، ويثق بحصوله في الوقت الذي ينتظره، وجميع ما
يشتهيه في الحال حاصل، فإنَّ ذلك لا يُوجب الحسرة؛ ولذلك يختلف حال
المنتظر بحسب ثقته بمن ينتظر الشيء من جهته، فكل مَن كانت نفسه إليه
أسكن كانت حسرته في الانتظار أقل … وإنَّما يُقال إنَّ الانتظار يورث
الحسرة ويُراد به الوجه الأول، وكل مَن ذكره في مَثَل أو شعر فمراده
الأول؛ لأنَّه المألوف في الشاهد، وإلا فما ذكرناه من القسم الثاني في
الانتظار لا يُحيل حصوله على عاقل أنَّه لا يورث حسرةً ولا غمًّا.»
٢٢٨ وعلى هذا فإنَّ المنتظر لثواب الله لا يلحقه غم ولا حسرة،
بل هو إلى السرور أقرب لسكونه إلى ربه وثقته بما وعده من
النعيم.
وحين يردُّ القاضي عبد الجبَّار على هذا الاعتراض الأخير، فإنَّه —
ربما دون أن يحس — يكون قد حلَّ التعارض بين التأويلَين اللذَين نقلهما
عن المُفسِّرين قبله؛ إذْ يتناغم تأويله للنظر بأنَّه الانتظار مع
تأويل الحذف؛ إذ إنَّ المنتظر لا بد أن يكون في انتظار شيء ما من جهة
الله، وهذا الشيء قد يكون الثواب، وقد يكون الأمر، وقد يكون ما يأتي من
عند الله، وبذلك لا يكون القاضي في حاجة إلى الزعم بأنَّ العبارة
الواحدة يُراد بها معنيان. وفي نفس الوقت لا يكون في حاجة لمحاولته
التوفيقية بين التأويلَين؛ لأنَّهما — في الواقع — ليسا
متناقضَين.
(٤)
يستدل خصوم المعتزلة على جواز رؤية الله عزَّ وجلَّ بآية أخرى لا
يجد المعتزلة كبير عناء في ردها وتأويلها، هذه الآية هي قوله تعالى:
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ. والخلاف بين المعتزلة وخصومهم حول معنى الحجاب
أولًا، ثمَّ حول معنى مدلول الآية ومنطوقها ثانيًا؛ فخصوم المعتزلة
يرَون أنَّه: «لا معنى لرفع الحجاب إلا الإدراك بالعين، وإلا فالحجاب
على الله تعالى بغير هذا التفسير مُحال.»
٢٢٩ أي إنَّ الحجاب في رأيهم هو الحجب عن الرؤية، ولا ينبغي أن
يكون حجابًا ماديًّا؛ لأنَّ ذلك مُحال في حق الله. ويستنتج خصوم
المعتزلة من هذا المنطوق المباشر للآية مدلولًا غير مباشر يوردونه على
النحو التالي: «إنَّ الله تعالى لمَّا خصَّ الفجار بالحجاب دلَّ على
أنَّ المؤمنين الأبرار مرفوع عنهم الحجاب.»
٢٣٠ أي إنَّ الآية، وإن كانت قد وردت في شأن الكفار، فإنَّها
تدل على أنَّ حال الأبرار عكس ذلك. فإذا كان الكفار سيُحْجَبون عن رؤية
الله، فإنَّ الأبرار سيرَونه. غير أنَّ المعتزلة يرَون أنَّ هذه الآية
تختص بوصف أهل النار: «وليس فيه دليل على أنَّ غيرهم بخلافهم، فمن أين
أنَّ أولياء الله يجب أن يرَوا الله؟ على أنَّا قد بيَّنا من قبلُ أنَّ
قوله «لمحجوبون» معناه ممنوعون من رحمة الله وثوابه، وبيَّنا أنَّ
الحجاب قد يكون بمعنى المنع على ما يُقال إنَّ الإخوة يحجبون الأم عن
السدس، فإذا صحَّ ذلك، وكان المراد به لممنوعون من رحمة الله، فيجب أن
يكون مَن خالفهم من أولياء الله غير ممنوعين من رحمة الله وثوابه،
وكذلك نقول. على أنَّ ظاهر هذا القول يُوجب أنَّه تعالى مِمَّن يصح أن
يحتجب ويُحجب، فيراه واحد دون آخر، وهذا يُوجب كونه جسمًا في مكان
مخصوص، وقد بيَّنا فساد ذلك.»
٢٣١
ومعنى ذلك أنَّ المعتزلة يُقيمون تأويلهم للآية على أساسَين؛
الأساس الأول أنَّ الحجب بمعنى المنع لا الحجاب المادي الذي لا يجوز
إلا على الأجسام. والأساس الثاني أنَّهم ممنوعون عن ثواب الله، فيكون
قوله تعالى: عَنْ رَبِّهِمْ، المقصود به
«عن ثواب ربهم»، على أساس أنَّ في الآية محذوفًا على ما يقتضيه الدليل
العقلي. وجدير بالملاحظة أنَّ المعتزلة، وإن كانوا منعوا خصومهم من
الانتقال من منطوق الآية إلى مدلولها، وأخذوا عليهم ذلك، قد سمحوا
لأنفسهم بهذا الانتقال، ومن ثمَّ استنتجوا من الآية أنَّ «أولياء الله
غير ممنوعين من رحمة الله وثوابه.» ولكن انتقال المعتزلة يظل مشروعًا
ومستنِدًا لأدلة عقلية وسمعية كثيرة يوردونها في مواطن أخرى. أمَّا
انتقال الخصوم فيظل — على الأقل من وجهة نظر المعتزلة — انتقالًا غير
مشروع، وليس مستندًا إلى أدلة العقل أو السمع.
غير أنَّ الزمخشري يرى أنَّ في الآية تمثيلًا: «للاستخفاف بهم
وإهانتهم؛ لأنَّه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرَمين لديهم، ولا
يُحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم.»
٢٣٢ وفكرة التمثيل فكرة بلاغية أرحب من فكرة الحذف النحوية،
إلى جانب أنَّها تُخفِّف من جفاف التأويل العقلي وتعود بالآية إلى
رحابة التصوير الفني الذي يُثير مشاعر المؤمن ويُغذِّي وجدانه.
ويستخدم القاضي عبد الجبَّار نفس السلاح النحوي؛ أعني سلاح الحذف،
حين يتعرَّض للرد على الخصوم في تمسُّكِهم بقوله تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ
(الأحزاب: ٤٤)، وكذلك قوله:
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (الكهف: ١١٠)،
إلى غير ذلك من الآيات التي ذُكر فيها اللقاء مضافًا إلى الله عزَّ
وجل. وإلى جانب استخدامه سلاح الحذف، يلزم الخصوم على قولهم بأنَّ لقاء
الله هو رؤيته، يلزمهم على هذا القول أنَّ المنافقين أيضًا سيرَونه؛
لأنَّه تعالى قال:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ (التوبة: ٧٧)، على أساس
أنَّ هذه الآيات لو كانت: «دالةً على أنَّ المؤمنين يرَون الله تعالى»
لوجب في قوله:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، أن يدل على أنَّ
المنافقين أيضًا يرَونه، وهم لا يقولون بذلك، فليس إلا أنَّ الرؤية
مستحيلة على الله تعالى في كل حال، وأنَّ لقاءه في هذه الآية محمول على
عقابه، كما في تلك الآية محمول على ثواب الله أو لقاء ملائكته.»
٢٣٣ وتحديد المحذوف في الآية لا يتم عشوائيًّا، وإنَّما يستند
المعتزلة على القرآن نفسه في تحديد هذا المحذوف، فيكون: «المراد بقوله
تعالى:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلَامٌ؛ أي يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر:
وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّنْ كُلِّ
بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ (الرعد: ٢٣). وأمَّا قوله عزَّ
وجل:
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا؛ أي ثواب ربه، ذكر نفسه وأراد
غيره. كما قال في موضع آخر:
وَأَنَا أَدْعُوكُمْ
إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ؛ أي إلى طاعة العزيز الغفار،
وقال:
إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي؛ أي
إلى حيث أمرني ربي، وكقوله:
وَجَاءَ
رَبُّكَ؛ أي وجاء أمر ربك، وقوله:
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، يعني أهل القرية، ونظائر هذا أكثر من
أن تُحْصَى.»
٢٣٤
والأساس الذي يُقيم المعتزلة عليه تأويلهم للِّقاء وأنَّه غير
الرؤية، أساس لغوي يستند إلى: «أنَّ اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية؛ ولهذا
اسْتُعْمِل أحدهما حيث لا يُسْتَعْمل الآخر، ولهذا فإنَّ الأعمى يقول:
لقيت فلانًا وجلست بين يدَيه وقرأت عليه، ولا يقول رأيته. وكذلك فقد
يسأل أحدهم غيره هل لقيت الملك؟ فيقول: لا، ولكن رأيته على القصر. فلو
كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك، فثبت أنَّ اللقاء ليس هو بمعنى
الرؤية، وأنَّهم إنَّما يستعملونه فيها مجازًا، وإذا ثبت ذلك، فيجب أن
نحمل هذه الآية على وجه يُوافق دلالة العقل.»
٢٣٥ وإذن فإنَّ المعتزلة يُفرِّقون بين «اللقاء» و«الرؤية»
أولًا، وهي تفرقة دلالية دقيقة، ثمَّ يلجئون بعد ذلك إلى تأويل اللقاء
بأنَّه لقاء الله أو الملائكة على أساس أنَّ الله ذكر نفسه وأراد غيره،
على طريقة حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه، وهي طريقة تعبيرية
مشروعة لها سند من القرآن وكلام العرب. وفي مقابلة هذا المسلك اللغوي
والنحوي من جانب القاضي عبد الجبَّار في تأويله الآية، يُقابلنا المسلك
البلاغي عند الزمخشري الذي يرى أنَّ في الآيات تمثيلًا. يرى أنَّ
التحية في قوله:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ، مثل وكذلك اللقاء.
٢٣٦
لا يتبقَّى أمام المعتزلة من آيات يُسْتَشْهد بها على جواز الرؤية
سوى قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ، ويتأوَّل الخصوم كلمة الزيادة على أساس أنَّها
رؤية الله، وهو تأويل هزيل لا سند له من اللغة؛ ولذلك لا يجد المعتزلة
أدنى عناء في ردِّه، بل والسخرية منه.
أمَّا الرد فهو معارضة ما رواه الخصوم في تفسير «الزيادة» عن
الصحابة بتأكيد تعارضها، فإذا كان الخصوم قد روَوا عن أبي بكر، وعن
صهيب، أنَّ تأويل قوله «وزيادة» النظر إلى وجه الله، فإنَّ المعتزلة
يروون ما ورد عن علي وغيره في تفسير الزيادة على أنَّها تضعيف الحسنات:
«وهو الذي أراده عزَّ وجلَّ بقوله:
مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وقال بعضهم هو
التفضُّل الذي وعد الله المؤمنين به بقوله:
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّنْ فَضْلِهِ».
٢٣٧
وأمَّا السخرية فتتمثَّل في أنَّ المعتزلة يُلزمون خصومهم على هذا
القول أن يكون الثواب هو التمكين من النظر إلى الله، وأن يكون العقاب
هو الحرمان من النظر إليه، وأن يقتصر في الثواب والعقاب على ذلك:
«لأنَّ ذلك إذا كان معظم الثواب، وكان ما عداه يسيرًا بالإضافة إليه،
فغير ممتنع أن يقتصر في إثابتهم عليه، ويزاد في لذتهم القدر الذي
يُكافئ سائر ملاذِّهم. ويجب أيضًا ألَّا يؤمن أن يقتصر الله في تعذيب
أهل النار على تعذيبهم بأن ينفِّر طباعهم من رؤيته ويزيد في ذلك بحسب
اختلاف أحوالهم، وفي ذلك إبطال الجنة والنار والثواب والعقاب بسائر
الوجوه المعقولة.»
٢٣٨
(ﺟ) مبدأ العدل وقضية خلق الأفعال
تُعدُّ هذه القضية أساس قضية العدل — الأصل الثاني من الأصول الخمسة
— عند المعتزلة؛ ذلك أنَّ كون الله عادلًا يقتضي منه أن يُعاقب المُسيء،
وأن يُثيب المحسن؛ أي أن يُحقِّق وعده للمؤمن، ووعيده للكافر. ولكي
تتحقَّق هذه العدالة لا بُدَّ أن يكون الإنسان حرًّا مختارًا في فعله
ومسئولًا عنه، ومن ثمَّ يستحق من الثواب أو العقاب. وعلى العكس من ذلك
فإنَّ نفي قدرة الإنسان على الفعل يستلزم بالضرورة عدم استحقاقه للثواب
أو العقاب. وهذا بدَوره يؤدِّي إلى أنَّ تعذيب الله للمخطئ ظلم ما دام
الإنسان غير مختار للخطأ الذي وقع فيه. ومعنى ذلك أنَّ الحرية الإنسانية
والعدالة الإلهية وجهان لعملة واحدة، ونفي أولاهما يستلزم بالضرورة نفي
الأخرى ويؤدِّي إلى عبثية الوجود الإنساني والفعل الإلهي معًا.
غير أنَّ قضية خلق الأفعال تتصل من جانب آخر بأصل المعتزلة الأول وهو
التوحيد؛ ذلك أنَّ إثبات فاعل قادر في الشاهد يُعدُّ مقدمةً ضرورية ينبني
عليها إثبات فاعل قادر في الغائب؛ لأنَّه «لو كان تعالى هو الخالق
والمُحْدِث لأفعال العباد، لأدَّى هذا الاعتقاد إلى أن لا يعرف القديم
أصلًا؛ لأنَّ طريق معرفته هو الاستدلال بفعله عليه. فإذا لم يثبت هذا
القائل، في الشاهد، حاجة المُحْدَث إلى مُحْدِث، لم يمكنه حمل الغائب
عليه فلا يُمكنه أن يستدل على حاجة المحدَثات التي يتعذَّر وقوعها من
جهتنا على أنَّ لها مُحْدِثًا، فقد صحَّ أنَّ ذلك يمنع من معرفة القديم
أصلًا، فكيف يُقال إنَّه الخالق لأفعالهم؟ وكيف يصح اعتقاد فرع يؤدِّي
إلى هدم أصله؟
٢٣٩
وإذا كانت هذه القضية أساسيةً لكلٍّ من أصلَي العدل والتوحيد، فهي
على نفس الدرجة من الأهمية بالنسبة لباقي أصول الفكر الاعتزالي، وهي
«المنزلة بين المنزلتَين» و«الوعد والوعيد» و«الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر». فالقول بالمنزلة بين المنزلتَين — حكمًا على مرتكب الكبيرة —
يفترض — سلفًا — مسئولية الإنسان عن فعله وحريته في اختياره، ومبدأ
«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» يهدف إلى التأثير في تغيير السلوك
الإنساني عن طريق الإقناع، وهو مبدأ يستند بالضرورة إلى إمكانية التعديل
في سلوك الإنسان، وهي إمكانية تتم بناءً على رغبة الإنسان؛ أي إنَّها تتم
بِناءً على اختياره وحريته. ولو لم يكن الأمر كذلك لكان «المُقْدِم على
المنكر لا يتهيَّأ له مفارقته؛ لأنَّه مخلوق فيه، ولا التارك للمعروف
يُمكنه إيجاده؛ لأنَّه قد خُلِق فيه تركه، فيجب ألَّا يكون للتعبُّد بهما
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) معنًى، وألَّا يكون بين أمر المُقْدِم
على المنكر بالمنكر وبين نهيه عنه فصل.»
٢٤٠
وإذا كان مبدأ «الوعد والوعيد» ينصبُّ أساسًا على الفعل الإلهي،
فإنَّه — طبقًا لمبدأ العدالة الإلهية — لا ينفصل عن السلوك الإنساني في
تطبيقه؛ فالوعيد لا بُدَّ أن يتحقَّق للمخطئ، والوعد لا بُدَّ أن يتحقَّق
للمحسن. أمَّا الخطأ والإحسان فهما من اختيار الإنسان ومن فعله.
ولقد سبقت الإشارة إلى البُعد الاجتماعي والسياسي لهذه القضية في
الفكر الإسلامي عامة، وهذا أمر يعود القاضي عبد الجبَّار ليؤكِّده في
القرن الرابع: «إنَّ أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنَّه أظهر أنَّ
ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه، ليجعله عذرًا فيما يأتيه، ويوهم أنَّه
مصيب فيه، وأنَّ الله جعله إمامًا وولَّاه الأمر، وفشا ذلك في ملوك بني أمية.»
٢٤١ ويذهب القاضي إلى إلزام القائلين بالجبر والمدافعين عنه
إلزامات شنيعة، أهمها أنَّ القول بالجبر يؤدِّي إلى انهيار النظام
الاجتماعي أولًا، وإلى هدم قانون السببية ثانيًا، وإلى هدم الشرع والدين
ثالثًا.
فمسئولية الإنسان في المجتمع تُحتِّم كونه مختارًا حرًّا. أمَّا
القول بأنَّه ليس حرًّا ولا مختارًا ولا فاعلًا فهو قول يناقض العُرف
والعادة: «ويجب، على قولهم، ألَّا يحسن نصب الأئمة والأمراء لأنَّهم
إنَّما يُنصبون لمنع الظالم عن ظلمه، والانتصاف منه للمظلوم، وإلزام
الأحكام، والقيام بالحدود، وكل ذلك إنَّما يصحُّ متى كان للعبد فعل
واختيار. فأمَّا إنْ كان تعالى هو الخالق لأفعالهم فيهم، فكيف يُعاقَبون
عليها؟ وكيف يؤدَّب الفاعل، ويُعزَّر ويُقوَّم ويُؤخذ لمظلومه منه، ويكف
عن الظلم بالتخويف.»
٢٤٢
وإذا كان القول بأنَّ فعل الإنسان لا يتعلَّق به سيؤدِّي إلى انهيار
النظام الاجتماعي، فإنَّه من جانب آخر سيؤدِّي إلى انهيار قانون السببية
الذي يقوم عليه العالم؛ ذلك أنَّ نسبة أفعال العباد إلى الله القادر على
كل شيء تحيل تعلُّق المُسبَّبات بأسبابها؛ إذ «يصح أن يقع ما يحتاج فيه
إلى الآلة بلا آلة؛ لأنَّه تعالى لا يحتاج في خلق الصعود في زيد إلى
السلم، والطيران في الطير إلى الجناح، والكتابة في الورق إلى القلم
واليد. فكان يجب أن تكون الآلات، وجودها كعدمها، في أنَّه لا يُحْتَاج
إليها البتة. وكان يجب ألَّا يخل فقدها بتعذُّر ما هي آلة فيه، حتَّى
يكون الزمن بمنزلة الصحيح في الأفعال، والضرير كالبصير فيها، بل لا يمتنع
أن يكون تعالى قد أجرى العادة، في بعض البلاد وبعض الأوقات، أنَّ المفقود
من الآلة يصح منه ما يتعذَّر على كامل الآلة، من حيث يخلق تعالى الفعل
فيه دون وافر الآلة.»
٢٤٣
ولا يكتفي القاضي بذلك، بل يذهب إلى القول بأنَّ نسبة أفعال العباد
لله تعالى تؤدِّي إلى فساد الشرع والدين؛ لأنَّه «لو كان تعالى هو
المخترع لفعل العباد، لم يخلُ ما يقبح من العبد أن يقبح من الله تعالى أو
يحسن منه؛ لأنَّه لا يصح أن يُقال، مع علمه به، إنَّه لا يحسن منه ولا
يقبح؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى تجويز مثل ذلك في فعل العالم منَّا، وهذا
يستحيل؛ لأنَّه متى كان عالمًا بفعله، فلا بُدَّ من أن يعلمه على وجه،
لكونه عليه له فعله، ولا يستحق به الذم، أو على وجه لكونه عليه ليس له
فعله، ويصح أن يستحق به الذم. فإذا صحَّ أنَّه لا يخلو مِمَّا ذكرناه،
فلو قبح منه ما يقبح من العبد، وصحَّ مع ذلك أن يخلقه، لم نأمن أن يخلق
سائر القبائح منفردًا بها فيكذب في أخباره، ويأمر بالقبيح، وينهى عن
الحسن، ولا يفي بشيء من وعده ووعيده، ويعذِّب الأنبياء، ويثيب الفراعنة،
ويتفرَّد بكل ظلم؛ لأنَّه إذا جاز أن يفعل القبائح مع قبحها منه، لم يؤمن
من كل ما ذكرناه.»
٢٤٤
وإذا كان إثبات الإنسان فاعلًا لفعله مقدمةً لا بُدَّ منها لإثبات
فاعل في الغائب قادر على ما لا نقدر عليه من الأجسام والأعراض، وإذا كانت
نسبة أفعال الإنسان لله تؤدِّي إلى كل ما سبق من تقويض للنظام الاجتماعي،
إلى إهدار لقانون السببية، إلى فساد للشرع والدين، إذا كان هذا القول
يؤدِّي إلى كل ذلك، فمن الطبيعي أن تكون معرفته ضروريةً لا تنبني على
السمع. بل يذهب المعتزلة إلى القول بأنَّ صحة السمع تنبني على معرفة
تعلُّق فعل الإنسان به … ومن ثمَّ «لا يسأل إلى إثبات القديم سبحانه،
وإثبات أحواله، إلا بعد العلم بأنَّ تصرُّف زيد هو فعله، وأنَّه يدل على
كونه قادرًا عالمًا، ومتى لم يحصل للمستدل هذا الاعتبار من حال الشاهد،
لم يُمكنه معرفة القديم تعالى.»
٢٤٥
وإذا كان إثبات الله بصفاته نتيجةً تنبني على أنَّ الإنسان فاعل،
وصحة السمع تنبني على معرفة الله بتوحيده وعدله، فإنَّ إثبات الإنسان
فاعلًا حرًّا مختارًا هو المقدمة الأولى لإثبات السمع والاستدلال به؛
«لأنَّ مَن لا يُعلم صدقه في قوله إلا بوصفه نفسه بأنَّه صادق، لم يُعلم
صادقًا؛ لأنَّه يجوز عليه الكذب في قوله: إنِّي صادق. ولا وجه يؤمن كذبه
في هذا الخبر المخصوص إلا ما يقوله مِمَّا يوجب القبائح عنه. ولا يُمكنهم
التعلُّق في ذلك بقول الرسول؛ لأنَّا قد ألزمناهم أن يظهر تعالى المعجز
على كذاب أو صادق بعينه ليضل العباد، فكيف يوثَق بقول مَن هذا حاله؟ ولا
يُمكنهم التعلُّق في ذلك بالإجماع؛ لأنَّ صحة الإجماع تتبع صحة الكتاب
والسنة، فكيف يصح تصحيحهما به وهو فرع عليهما، أو على أحدهما؟ ولا يصح
لهم أن يقولوا: إنَّ الكذب لا يقع إلا من محتاج أو جاهل أو منقوص أو
محدث؛ لأنَّ ذلك إنَّما يصح بمثل الطريق الذي يوجب أنَّ الظلم لا يقع إلا
مِمَّن هذا وصفه. فإذا جوَّزوا فعل القبائح منه تعالى، وإن كان عالمًا
غنيًّا، فكذلك يلزمهم في الكذب.»
٢٤٦
(١)
انتهى المعتزلة كما رأينا إلى أنَّ تعلُّق الفعل بفاعله قضية
ضرورية ينبني عليها إثبات الله بصفاته من التوحيد والعدل، وينبني عليها
— بالتالي — صحة الشرع والدين. والخلاف بين المعتزلة وخصومهم في قضية
خلق الأفعال يرتدُّ بدَوره إلى قضية العلاقة بين الشرع والعقل. ولقد
ذهب الأشاعرة كما سبقت الإشارة إلى الإعلاء من شأن السمع واعتباره
الأساس في معرفة صفات الله وأسمائه. وإذا كان القول بالجبر — بمعناه
الغليظ — قد أثار استياء أتقياء المؤمنين، خصوصًا مع انكشاف بُعده
السياسي والاجتماعي، فإنَّ القول بحرية الإنسان المطلقة ظلَّ يُثير
مسألة التعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان. بمعنى أنَّ الإيمان
بإرادة الإنسان الحرة قد يؤدِّي إلى التقليل من حرية الإرادة الإلهية.
وقد سبقت الإشارة إلى أنَّ الحسن البصري — تفاديًا لهذا الموقف — ذهب
إلى أنَّ «كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي»، فنفى قبائح الفعل الإنساني
عن الله، واكتفى بهذا النفي دون أن يُثبت إرادةً مستقلة للإنسان
مُتحرِّرة من إرادة الله الشاملة.
غير أنَّ هذه المعادلة ظلَّت سلاحًا في يد خصوم المعتزلة
يُشْهِرونه في وجوههم، ويكفِّرونهم به، على أساس أنَّ القول بحرية
الإرادة الإنسانية يؤدِّي إلى أن يقع في مُلْك الله ما لا يُريده الله.
فإذا كان الله لا يُريد الكفر لأنَّه قبيح، والكفر يقع من الإنسان
بإرادته الحرة المختارة، فمعنى ذلك أنَّ الكافر قد اختار الكفر خلافًا
لإرادة الله ومشيئته. ويرى الأشاعرة أنَّ هذا القول يؤدِّي إلى نسبة
الضعف والغفلة إلى الله تعالى عن ذلك عُلوًّا كبيرًا؛ «لأنَّه لو كان
في سلطان الله تعالى ما لا يُريده لوجب أحد أمرَين؛ إمَّا إثبات سهو
وغفلة، أو إثبات ضعف وعجز ووهن وتقصير عن بلوغ ما يُريده، فلمَّا لم
يجز ذلك على الله تعالى استحال أن يكون في سلطانه ما لا يريده.»
٢٤٧ ولا يرى الأشاعرة في إرادة الله لكفر الكافر أو خلقه له
فيه أي نقص أو شك في عدالته. والأساس الذي يستندون إليه أنَّ إرادة
الله يجب أن تشمل كل شيء يقع في ملكه؛ لأنَّ الإرادة صفة ذاتية من صفات
الله تعالى: «إنَّ الإرادة إذا كانت من صفات الذات … وجب أن تكون عامةً
في كل ما يجوز أن يُراد على حقيقته، كما إذا كان العلم من صفات الذات
وجب عمومه بكل ما يجوز أن يُعْلَم على حقيقته. وأيضًا فقد دلَّت
الدلالة على أنَّ الله خالق كل شيء حادث، ولا يجوز أن يخلق ما لا يُريده.»
٢٤٨ أمَّا أنَّ إرادة الله للقبائح لا تستلزم وصفه بالقبح أو
الانتقاص من عدالته، فالأساس في إثبات هذه القضية عند الأشاعرة هي
التفرقة بين الله وبين الإنسان، فالله هو «المالك القاهر الذي ليس
بمملوك ولا فوقه مُبيح ولا آمر ولا زاجر ولا حاظر ولا مَن رُسم له
الرسوم وحُدَّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء. إذا كان
الشيء إنَّما يقبح منَّا لأنَّا تجاوزنا ما حُد ورُسِم لنا وأتينا ما
لم نملك إتيانه. فلمَّا لم يكن الباري مملكًا ولا تحت آمر لم يقبح منه شيء.»
٢٤٩
ولا يُسلِّم المعتزلة للأشاعرة بهذا القول؛ وذلك تأسيسًا على أنَّ
الفعل إنَّما يقبح لصفة خاصة به لا صلة لها بالفاعل. بمعنى أنَّ الفعل
لا يقبح أو يحسن بفاعله، بل يقبح أو يحسن لصفة ذاتية في الفعل نفسه.
وبِناءً على ذلك يقع الفعل قبيحًا أو حسنًا من أي فاعل كان، فما يقبح
من العبد يقبح من الله إن وقع بنفس الطريقة. وما دام الله عالمًا،
فإنَّه يعلم قُبح القبيح، ويعلم استغناءه عن فعله، ومن ثمَّ يخضع فعله
خضوعًا ذاتيًّا لهذا العلم، بمعنى أنَّ علمه يمنعه من اختيار القبيح
وفعله. ومن جهة أخرى فإنَّ القبيح إنَّما يقع من الواحد منَّا لجلب نفع
أو دفع ضرر، والله تعالى يجوز عليه اجتلاب المنافع أو دفع المضار؛
لأنَّه ليس جسمًا، ولا يجوز عليه الزيادة والنقصان؛ وعلى ذلك يستحيل
وقوع القبيح منه.
وفي سبيل رفع التناقض بين إرادة الله وإرادة البشر، أنكر المعتزلة
أن تكون الإرادة الإلهية صفةً ذاتية قديمة كما ذهب الأشاعرة وذهبوا إلى
أنَّها صفة من صفات الأفعال، وصفات الأفعال لا تتعلَّق بكل شيء، على
عكس العلم الذي يتعلَّق بكل معلوم. بل ألزموا الأشاعرة على قولهم
بالإرادة القديمة القول بقِدَم العالم: «لاعتقادكم أنَّه تعالى مُريد
لذاته أو بإرادة قديمة.»
٢٥٠ ومن جهة أخرى ذهبوا إلى أنَّ إرادة الله تنقسم إلى ضربَين؛
«أحدهما من مقدوره، والآخر من مقدور عباده. فما يُريده من مقدوره فلا
بُدَّ من وقوعه، وانتفاؤه يقتضي فيه ما لا يجوز عليه. وما يريده من
مقدور غيره على ضربَين؛ أحدهما يريده على جهة الإلجاء والإكراه، فيجب
وقوعه عند ما يفعله من الإلجاء، ولو لم يقع لاقتضى منه ما لا يجوز
عليه. والثاني ما يُريده من غيره على جهة الاختيار والطوع، نحو ما
أراده من المُكلَّفين، وذلك لا يُوجب فيه الضعف ولا النقص إذا لم يقع.
وكذلك وقوع ما كرهه منهم على هذا الوجه، لا يوجب فيه الضعف، وإنْ كان
وقوع ما كرهه في الوجهَين الأولَين يوجب مثل ما يوجبه انتفاء ما أراد.»
٢٥١ وهكذا ينتهي المعتزلة إلى أنَّ إرادة الله لأفعال عباده
إنَّما هي إرادة لها على سبيل الاختيار لا الإلجاء، ومن ثمَّ لا يُعدُّ
وقوع القبيح منهم على غير إرادته نقصًا فيه أو غفلةً منه أو سهوًا. ولا
يجب أن ننسى أنَّ قدرة الإنسان على الاختيار هي نفسها قدرة مَن خلق
الله، بمعنى أنَّ الله خلق الإنسان مُختارًا، لا يقع الفعل منه إلا على
هذه الصفة؛ «وذلك لأنَّ العبد وإنْ أحدث الفعل وأوجده، فإنَّما صحَّ
منه ذلك من حيث جعله تعالى على الصفات التي لولا كونه عليها لَمَا صحَّ
منه أن يحدث ويفعل.»
٢٥٢
ولكن الخلاف حول هذه القضايا بين المعتزلة وخصومهم خصوصًا الأشاعرة
لم يكن خلافًا فكريًّا معزولًا عن محاولة الاستدلال بالنص القرآني
لتأكيد وجهة نظر كل فريق. ومن الطبيعي أن يجد كل فريق في القرآن ما
يُؤيِّد وجهة نظره، وأن يُحاول مِن ثمَّ أن يتأوَّل الآيات التي يستشهد
بها خصمه على صحة ما يذهب إليه. وفي هذه القضية، كما في غيرها من
القضايا، سارع المعتزلة إلى اعتبار ما يدعم وجهة نظرهم مُحكمًا يدل
بظاهره، وما يدعم وجهة نظر الخصوم مُتشابهًا لا يدل بظاهره، بل هو في
حاجة للتأويل الذي يرده إلى المُحْكَم. وتتساوى القرائن التي يقوم على
أساسها التأويل، لفظيةً كانت أم عقلية، ما دامت تنتهي إلى رفع التناقض
الظاهري بين آيات القرآن أولًا، وإلى تأكيد قضية العدل الإلهي ومسئولية
الإنسان ثانيًا.
(٢)
يستدل المعتزلة بمجموعة من الآيات على نفي إرادة الله للقبيح
والكفر؛ وذلك سعيًا لتأكيد خيريته أولًا، وإلى تحميل الإنسان مسئولية
فعله ثانيًا. وما دام هدفنا هو الكشف عن العلاقة بين الوظيفة التأويلية
للمجاز وبين الفكر الاعتزالي، فسنكتفي بالأمثلة الخلافية الحادة دون
الاستقصاء الدقيق لكل الآيات التي ترتبط بهذه القضية.
والدليل الأول الذي يستدل به المعتزلة في هذا الصدد قوله تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٦): «وهذا يدل على أنَّ الله تعالى
لا يُريد من العباد إلا العبادة والطاعة؛ لأنَّ هذه اللام لام الغرَض،
الذي يُسمِّيها أهل اللغة: لام كي، بدليل أنَّهم لا يفصلون بين قول
القائل: دخلت بغداد لطلب العلم، وبين قوله دخلت وغرضي طلب العلم.
ويدلُّ أيضا على أنَّ هذه الأفعال محدثة من جهتنا ومتعلِّقة بنا، وإلا
كان لا معنى لهذا الكلام.»
٢٥٣ أي إنَّ الله خلق العباد لكي يعبدوه، وأراد منهم ذلك فقط
دون الكفر به، أو بعبارة الزمخشري: «إنَّما أراد منهم أن يعبدوه
مختارين للعبادة لا مضطرين إليها؛ لأنَّه خلقهم ممكَّنين، فاختار بعضهم
ترك العبادة مع كونه مريدًا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوُجدت
من جميعهم.»
٢٥٤
ومن الطبيعي أن يحتاج هذا الدليل لتأويل الأشاعرة حتَّى يتسق مع
أصولهم. ويطرح الباقلاني ثلاثة تأويلات لهذه الآية: «أحدها: أنَّه أراد
بعض الجن والإنس. والذي يدلُّ على صحة ذلك أنَّ كثيرًا من الجن والإنس
يموت قبل أن يبلغ حدَّ التكليف والعبادة، وصار هذا كقوله:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللهُ، وأراد البعضَ لا الكل؛ لأنَّ منهم مَن مات قبل الدخول
وقُتِل قبل الدخول.»
٢٥٥ بمعنى أنَّ الآية لا تعمُّ بمنطوقها جميع المكلَّفين، بل
بعضهم فحسب. وبعبارة أخرى لا تدل الآية عند الباقلاني، على أنَّ الله
قد أراد العبادة من جميع الخلق، بل أرادها من بعضهم فقط: «ويدل عليه
أيضًا قوله تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وهم الذين لم يُرد أن
يطيعوه، فاعلم ذلك.»
٢٥٦ والباقلاني — إلى جانب تأويله السابق لدليل المعتزلة —
يطرح دليلًا للأشاعرة من القرآن يدلُّ بظاهره على ما يذهبون إليه من
جانب ويخصِّص عموم الآية التي يستدل بها المعتزلة من جانب آخر.
وفي الرد على تأويل الأشاعرة، يُسلِّم القاضي عبد الجبَّار بأنَّ
الآية لا تعمُّ جميع الخلق؛ لأنَّ «المجنون ومَن لم يبلغ هذا الحد، فلا
يجوز دخوله في الكلام؛ لأنَّه يتضمَّن أنَّه أراد العبادة مِمَّن تصح منه.»
٢٥٧ ولكنَّه من جهة أخرى لا يُسلِّم بأنَّ الله يريد معصية مَن
عصى، ومن ثمَّ يتصدَّى لتأويل الآية التي استشهد بها الباقلاني، وكذلك
غيرها من الآيات التي تسند إلى الله الإضلال أو إرادة الكفر: «وذلك
لأنَّ الآية التي اعتمدنا عليها، المراد بها حقيقتها، وسائر ما أوردته
مجاز؛ لأنَّ قوله تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ، دخلت اللام على ما لا يصح أن يكون مرادًا منه؛
لأنَّه إنَّما يُراد منه الكفر أو الإيمان، دون نفس جهنم. فعُلم بذلك
أنَّ المراد بهذه اللام العاقبة، وأنَّه أراد بذلك: أنِّي قد ذرأتهم،
وعلمت أنَّ مصيرهم جهنم، كقوله تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا، ومعلوم من حالهم أنَّهم التقطوه لتقر أعينهم به،
لكن مصيره لمَّا كان إلى معاداتهم جاز أن يُقال ذلك.»
٢٥٨ ويعتمد هذا التأويل على التفرقة بين معنى اللامَين في
الآيتَين؛ فاللام في الآية التي يستدل بها المعتزلة هي لام الغرض التي
هي بمعنى لكي، أمَّا اللام في دليل الأشاعرة فهي لام العاقبة. ومعنى
ذلك أنَّ الله لم يشأ دخولهم جهنم، وإنَّما هم دخلوها بعملهم. واستشهاد
القاضي بمثال من القرآن على لام العاقبة يُعدُّ دليلًا آخر يقوِّي
تأويله للآية التي يستشهد بها الخصوم. واعتبار القاضي أنَّ الآيات التي
يستشهد بها الخصوم مجاز يؤكِّد ما ذهبنا إليه من أنَّ المجاز تحوَّل
إلى وسيلة تأويلية لرفع التناقض الظاهري بين آيات القرآن
الكريم.
وبنفس الطريقة يتأوَّل القاضي كل الآيات التي يستدل بها الأشاعرة:
«وقوله تعالى:
إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، و
يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، يقارب تأويله ما قدَّمناه. وإنَّما
أراد أنَّه سيزدادون عند الإملاء، ويضلون عمَّا بيَّن لهم عند إتيان
الذي فعله لكي لا يضلوا. وكذلك قوله:
يُضِلُّ بِهِ
كَثِيرًا، أراد أنَّه يفعل ما يقع الضلال منهم عنده، فأضاف
ضلالتهم إليه توسُّعًا لمَّا ضلوا عند فعله، كقوله:
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، من حيث دعاهم إلى
الضلال، أو أراد بذلك أنَّه تعالى يُضلُّهم عن الثواب في الآخرة بالكفر
به كثيرًا، ويهديهم إلى الثواب في الآخرة بالإيمان به كثيرًا. وإنَّما
حملنا هذه الآية على هذا الوجه ليكون موافقًا للحكم الذي قدَّمنا
الكلام فيه؛ لأنَّ تلك الآية لا احتمال فيها، ويُقوِّي ما قدَّمناه
قوله سبحانه:
وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ، فبيَّن تعالى أنَّه للرحمة خلقهم.»
٢٥٩
•••
ومن أدلة المعتزلة على عدم إرادة الله للقبيح قوله تعالى:
وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة: ٢٠٥).
وحتَّى تدل الآية على مراد المعتزلة، كان عليهم أن يوحِّدوا بين الحب
والإرادة، وبين البغض والكراهة: «وأنَّه تعالى إذا صحَّ كونه مريدًا،
فيجب كونه مُحبًّا، وكل ما صحَّ أن يريده صحَّ أن يحبه، وكل ما أوجب
قبح محبته، أوجب قبح إرادته.»
٢٦٠ ومن الطبيعي أن يُفرِّق الأشاعرة بين الحب والإرادة، حتَّى
يتسنَّى لهم تأويل الآية تأويلًا يتفق مع أفكارهم؛ فالمراد بالآية عند
الباقلاني: «أنَّه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به، فإنَّ
اسم المحبة إنَّما يقع على ما يُثاب عليه ويُمْدَح فاعله عليه، وليس كل
ما يريده المريد يُقال فيه إنَّه أَحَبَّه، ألَا ترى أنَّ المريد يريد
بذل ما له للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره، ثمَّ لا يُقال
إنَّه أحب ذلك، وكذلك الرجل اللبيب يُريد ضرب ولده وقرة عينه ليُؤدِّبه
ثمَّ لا يُقال إنَّه أحبَّ ذلك، وكذلك يُريد ربط جروحه … وشُرب المر من
الدواء ولا يُقال إنَّه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر
لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب ولا يُقال إنَّه مُحب لذلك ولا
يؤثره. فعُلم أنَّه ليس كل ما أراده المريد أحبه، وإنَّما يُقال أحبَّ
الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم
يُثنِ على المفسد ولم يُثِبه.»
٢٦١ وهذه التفرقة بين الحب والإرادة إن صدقت في مجال العواطف
البشرية — وأمثلة الباقلاني تشهد على ذلك — من الصعب أن تصدق في مجال
الإرادة الإلهية النافذة. وقد كانت فكرة الثواب — دلالةً على الحب —
والعقاب — دلالةً على البغض — تكفي الباقلاني لتأويل الآية، غير أنَّه
كان يُناقش أساس التأويل الاعتزالي، وهو أساس وقع بدَوره في التسوية
بين المجالَين؛ ذلك أنَّ المعتزلة اعتبروا أنَّ إرادة الله لأفعال
عباده هي الأمر بها، وبغضه لها هو النهي عنها، وبالتالي حاولوا تأويل
كل الآيات التي تسند لله الحب على أنَّ الحب هو الإرادة. ولم يكتفِ
المعتزلة بذلك في مجال تأويل آيات القرآن، بل نقلوا هذه التسوية بين
الحب والإرادة إلى مجال التعبير البشري، واعتبروا أنَّ العبارة «أُحِب
زيدًا» عبارة مجازية معناها «أُريد منافع زيد»، «لكنَّهم استجازوا حذف
ذكر المحبوب من الكلام بالتعارف، ولم يستجيزوا مثله في الإرادة، وإلا
فالمحبة إنَّما تعلَّقت بمنافعه دونه كالإرادة؛ ولذلك يستحيل كونه
محبًّا له من غير أن يريد منافعه.»
٢٦٢ ومعنى ذلك أنَّ التعبير عن الإرادة بالحب تعبير مجازي
حُذِف منه ذكر المحبوب.
ويختلف أبو هاشم الجبَّائي مع والده أبي علي في عبارات مثل «أُحِب
اللحم» و«أُحِب جاريتي»، فيذهب أبو هاشم إلى أنَّه «قد يُقال ذلك بمعنى
الشهوة مجازًا»، ويقول أبو علي «إنَّه حقيقة والمراد به أنَّه يُريد
أكل اللحم، والاستمتاع بالجارية.»
٢٦٣ وكلا القولَين ينتهي إلى نفس النتيجة بصرف النظر عن الخلاف
حول مجازية العبارات أو حقيقتها؛ ولذلك ينتهي القاضي من استعراض هذَين
القولَين إلى تأكيد ما ذهب إليه من التسوية بين الإرادة والمحبة على
المستوى الإلهي والبشري معًا. كانت هذه التسوية عند المعتزلة — إذن —
هي التي دفعت الباقلاني لتلك الأمثلة البشرية التي يُفرِّق فيها بين
المحبة والإرادة، رغبةً منه في هدم الأساس الذي يتكئ عليه المعتزلة في
الاستشهاد بالآية.
•••
وإذا كانت الآية السابقة قد احتاجت لهذا الجهد اللغوي حتَّى تستقيم
دليلًا للمعتزلة، فثمَّ آية أخرى واضحة الدلالة لورود لفظ الإرادة فيها
بدلًا من لفظ الحب، تلك هي قوله تعالى:
وَمَا
اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (غافر: ٢١)، ومن السهل على
الأشاعرة رد هذا الدليل على أساس أنَّ الظلم إنَّما يقع منَّا لأنَّنا
نتصرَّف فيما لا نملك، أمَّا الله المالك القاهر الذي ليس فوقه آمر أو
ناهٍ فله مطلق الحرية في أن يُريد ما يشاء ويفعل ما يريد. ومن جهة أخرى
ففكرة الكسب الأشعرية تنفي أن يكون الله ظالمًا بظلم الظالم وإنْ كان
هو الذي خلقه، كما أنَّه لا يُمكن أن يكون مُتحرِّكًا بحركة المُتحرِّك
وإن كان هو الذي خلقها فيه. ويذهب الباقلاني إلى «أنَّ الله تعالى خلق
الظلم ظلمًا للظالم به، وخلق الجور جورًا للجائر به، وخلق الكذب كذبًا
للكاذب به، كما أنَّه خلق الظلمة ظلمةً للمظلم بها، وخلق الضوء ضوءًا
للمستضيء به، وخلق الحُمرة حُمرةً للأحمر بها، وخلق السواد سوادًا
للأسود به، وخلق السم سمًّا للمسموم به؛ فكما أنَّ الله تعالى خلق
الظلمة لليل، والضياء للنهار، والحمرة للأحمر، والسواد للأسود، والسم
للحية، ولا يُوجب ذلك كونه ظلمةً ولا ضياءً ولا سوادًا ولا حمرةً ولا
سمًّا، فكذلك خلق الطاعة طاعةً للطائع بها، والكذب كذبًا للكاذب به،
والجور جورًا للجائر به، ولا يُوجب ذلك كونه جائرًا ولا ظالمًا ولا كاذبًا.»
٢٦٤ ولقد سبقت الإشارة إلى رفض المعتزلة لهذه الفكرة بناءً على
ما ذهبوا إليه من أنَّ القبيح والحسن صفتان ذاتيتان للفعل.
وبنفس الطريقة يستطيع الأشاعرة رد استدلال المعتزلة بقوله تعالى:
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أو
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، دون أدنى
حساسية من إلزامات المعتزلة لهم أو هجومهم عليهم.
ولكي يؤكِّد الأشاعرة ما يذهبون إليه من إرادة الله المطلقة، تلك
الإرادة التي تشمل عندهم كفر الكافر وإيمان المؤمن، وطاعة المطيع،
وعصيان العاصي، يذهبون إلى الاستدلال بآيات كثيرة من القرآن، وهي آيات
تدل بظاهرها على ما يذهبون إليه. ويكون مسلك المعتزلة إزاء هذه الآيات
هو التأويل، تمامًا كما فعل الأشاعرة مع الآيات التي استدل بها
المعتزلة على وجهة نظرهم. والآيات التي يستدل بها الأشاعرة تشتمل على
كل النصوص التي تربط مشيئة العباد بمشيئة الله المطلقة، وذلك كقوله
تعالى:
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللهُ: «فأخبر أنَّا لا نشاء إلا ما شاء الله أن نشاءه.» وقال
تعالى:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وقال تعالى:
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ
هُدَاهَا، وقال:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا
فَعَلُوهُ، وقال:
وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فأخبر
أنَّه لو لم يُرد القتال لم يكن، وأنَّ ما أراد من ذلك قد فعله.»
٢٦٥
ويؤوِّل المعتزلة هذه الآيات
كلها استنادًا إلى ما سبق أن أشرنا إليه من تفرقتهم بين إرادة الله
لفعل نفسه، وبين إرادته لفعل غيره، والتفرقة في هذا الوجه الأخير بين
ما يُريده على سبيل القسر والإلجاء، وما يُريده على سبيل الطوع
والاختيار. ويكون معنى المشيئة في هذه الآيات كلها مشيئة الإلجاء
والاضطرار: «فإنَّ قوله تعالى:
وَلَوْ شَاءَ اللهُ
لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى، في ظاهره ما يُبيِّن ما قلناه؛
لأنَّه نسب اجتماعهم إليه تعالى، فلا بُدَّ من أن يكون ما اجتمعوا عليه
— أو ما أوجبه — من قِبَله، ولا يكون إلا بالإلجاء.»
٢٦٦
ويستعين المعتزلة على تأكيد تأويل المشيئة بالإلجاء بفكرة السياق
التي تُسعفهم عليها بعض الآيات: «وأمَّا قوله:
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ، ففي آخره
ما يدل على ما قلناه وهو قوله:
أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، فلولا أنَّ
المراد بالكلام طريقة الإكراه لم يكن لهذا الكلام معنى.»
٢٦٧
(٣)
انتهى المعتزلة إلى تثبيت مسئولية الإنسان عن فعله، وانتهَوا — من
ثمَّ — إلى تأكيد مبدأ العدالة الإلهية. وكان عليهم أن يستدلُّوا على
صدق قضيتهم بآيات من القرآن لم يُسلِّم لهم خصومهم بدلالتها على ما
يريدون. ولقد أثارت مسألة خلق الإنسان لأفعاله حساسية أهل السنة
والأشاعرة، على أساس أنَّ هذا الزعم يؤدِّي إلى الشرك: «إنْ قلتم إنَّ
الواحد منَّا يخلق أفعاله من طاعة، أو معصية، أو إيمان، أو كفر، فقد
شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق، وأنَّه لا يتم خلقه إلا بخلقنا.
وذلك أنَّ الجسم لا يخلو من حركة، أو سكون، أو كفر، أو إيمان، أو طاعة،
أو معصية، فصحَّ أنَّ جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب،
وأنَّه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق آخر. وهذا شرك ظاهر نعوذ بالله منه.»
٢٦٨ وبالرغم من تهافت هذا الإلزام الذي يستند إلى التسوية بين
الفعل الاختياري والفعل الاضطراري الذي لا ينفَك عنه الجسم، فقد سعى
المعتزلة لمحاولة نفي هذا الاتهام. وكان الخلاف الأساسي بينهم وبين
خصومهم حول إمكانية أن يُسمَّى الإنسان «خالقًا» لأفعاله. ويبدو أنَّ
كلمة «خالق» هي التي أثارت كل هذا الخلاف لِمَا يُمكن أن تؤدِّي إليه
من التسوية — على الأقل في الوصف — بين الله والإنسان. ورغم أنَّ
المعتزلة قد رفعوا التناقض بين أفعال العباد وأفعال الله، وأعطَوا لهذه
الأخيرة الأولوية في الوجود،
٢٦٩ إلا أنَّ وصف الإنسان بأنَّه خالق ما تزال تحتاج منهم لبعض
الجهد حتى لا يُصبح للخصوم أي شُبْهة عليهم.
والجهد هنا جهد لغوي حول تحديد معنى «الخلق»، وقد اختلف هذا
التحديد بين أبي علي الجبَّائي وأبي هاشم أساتذة القاضي عبد الجبَّار،
الذي يعرض الرأيَين ويُرجِّح بينهما: «وقد قال شيخنا أبو هاشم، رحمه
الله، إنَّما سُمِّي الخالق خالقًا من حيث قصد بالفعل إلى بعض الأغراض.
وقال: إنَّ تسمية المخلوق توجد من معنًى هو الخلق، والخلق والتقدير هما
إرادتان، ولا يُوصف الخلق بأنَّه خلق إلا والمخلوق موجود. ومتى كان
معدومًا لم يُسمَّ خلقًا، والتقدير لا يُسمَّى خلقًا إلا بشرط وجود
المقدور، ولا مخلوق إلا محدَث، وقد يكون مُحْدَثًا ليس بمخلوق؛ لأنَّه
يُفيد صفةً زائدة على حدوثه.»
٢٧٠
ويلفتنا هذا النص إلى ثلاثة أمور؛ الأول: أنَّ الخلق فعل مقصود
لتأدية غرض ما، والخالق يُسمَّى كذلك لأنَّه يقصد بفعله إلى بعض
الأغراض، ولا يفعله عبثًا أو خبط عشواء، أو على سبيل السهو والنسيان.
الأمر الثاني: أنَّ المخلوق مشتق من معنًى هو الخلق. والفرق بين
الإرادة — وهي معنًى أيضًا — والخلق، أنَّ الخلق لا يُسمَّى كذلك إلا
والمخلوق موجود؛ أي إنَّ الخلق، وإن كان معنًى، يرتبط بالتحقُّق
الفعلي. الأمر الثالث: أنَّ الخلق غير الإحداث، وأنَّ كل مخلوق
مُحْدَث، وليس كل مُحْدَث مخلوق؛ أي إنَّ المُحْدَث قد يوجد لا لغرض،
وليس كذلك المخلوق.
٢٧١ ويُنْكِر أبو علي أن يكون المخلوق مشتقًّا من معنًى هو
الخلق، بمعنى أنَّه يرفض تسوية أبي هاشم بين الخلق والإرادة، ويُسوِّي
بين الخلق والتقدير. ويتفق القاضي مع أبي علي: «وقد بيَّنا أنَّ القول
بأنَّ هذه الصفة مشتقة من معنًى يبعد، وأنَّ الذي قاله أبو علي، رحمه
الله، في هذا الباب أولى وأقرب إلى التعارف والاستعمال. وبيَّنا أنَّ
ما يحتَج به، رحمه الله (يعني أبا هاشم)، في أنَّه اشتقاق من قول
الشاعر:
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
إنَّما يريد به أنه يخلق ما يفعله في الأديم من التقدير، لا أنَّه
أراد به أنَّه يُريد ولا يقطع.»
٢٧٢ فالخلق — عند أبي علي وعبد الجبَّار — فعل وليس معنًى،
بعكس الإرادة التي هي معنًى. وإذا كان أبو هاشم قد فهم البيت على أساس
أنَّه يُريد ولا يقطع، ويكون معنى الخلق عنده هو الإرادة، فإنَّ أبا
علي والقاضي قد فهما البيت على أساس أنَّ الخلق هو فعل ما سبق تقديره.
وبناءً على ذلك لا بأس لدى المعتزلة، من حيث قضية اللغة لا الاصطلاح،
أن يُسمَّى الإنسان خالقًا؛ «ذلك أنَّا لو خلينا وقضية اللغة، لأجرينا
هذا اللفظ على الواحد منَّا كما نجريه على الله تعالى؛ لأنَّ الخلق ليس
بأكثر من التقدير، ولهذا يُقال، خلقت الأديم … وقال زهير:
ولأنت تفري ما خلقت
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفري
وقيل للحجاج: إنَّك إذا وعدت
وفيت، وإذا خلقت فريت؛ أي قدرت وقطعت. وأظهر من ذلك كله قوله تعالى:
وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِي، وقوله تعالى:
فَتَبَارَكَ
اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فلولا أنَّ الاسم مِمَّا يجوز
إجراؤه على غيره وإلا لتنزَّل ذلك منزلة قوله: فتبارك الله أحسن
الآلهة. ومعلوم خلافه. وأمَّا في الاصطلاح فإنَّما لم يجُز أن نُجري
هذا اللفظ على الواحد منَّا؛ لأنَّه عبارة عمَّن يكون فعله مطابقًا
للمصلحة، وليس كذلك أفعالنا، فإنَّ فيها ما يُوافق المصلحة، وفيها ما
يُخالفها، فلهذا لم يجُز إجراء هذه اللفظة على الواحد منَّا لا لشيء آخر.»
٢٧٣ وهكذا يتحرَّج المعتزلة بدورهم من إطلاق هذا اللفظ على غير
الله، وإنْ كانت اللغة تسمح بذلك.
لا يختلف الأشاعرة مع المعتزلة في أنَّ معنى الخلق هو التقدير، وإن
اختلفوا معهم في الاستدلال بهذه الآيات على جواز تسمية الإنسان بأنَّه
خالق: «فعيسى عليه السلام يقدِّر الطين صورة، والخلق يقدِّرون الصورة
صورة، لا أنَّهم يُخرجون الصورة من العدم إلى الوجود.»
٢٧٤ وعلينا أن نُلاحظ أنَّ سعي الباقلاني لنفي الإيجاد من
العدم في تأويل هذه الآية، يتسق مع ما سبق أن أشرنا إليه من أنَّ
الأشاعرة عمومًا ينسبون خلق الفعل الإنساني إلى الله، وينسبون اكتسابه
إلى العبد. ولقد سبق أن أشرنا — أيضًا — إلى ما ذهب إليه الباقلاني
خاصةً من أنَّ الإنسان هو الذي يُحوِّل فعل الله — كالحركة مثلًا — إلى
طاعة أو إلى معصية. ومعنى ذلك كله أنَّ الإنسان لا يخلق فعله من عدم،
وإنَّما هو يكتسب فحسب؛ ولذلك كله يُحاول الباقلاني تأويل الآية التي
استشهد بها القاضي عبد الجبَّار، والتي نُسبت إلى عيسى عليه السلام خلق
صورة من الطين. ويذهب الباقلاني إلى أنَّ عيسى لم يخلق الصورة؛ أي لم
يُوجدها من عدم، وإنَّما هو فقط قدَّرها على مثال سابق معروف هو هيئة
الطير التي هي من خلق الله. والذي لم يُلاحظه الباقلاني أنَّ المعتزلة
يستدلون بهذه الآيات على جواز التسمية فحسب، دون أن يذهبوا إلى أنَّ
الإنسان خالق، بمعنى الإيجاد من العدم.
وإذا كانت الآية السابقة لم تحتَج من الباقلاني إلى جهد كبير،
فإنَّ قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، يحتاج إلى أكثر من وجه للتأويل،
أحدهما: «أنَّ الله تعالى هو الخالق
لا خالق سواه، لكن لمَّا ذكر معه غيره قال: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون
غيره، كما يُقال: عدل العمرَين، وإنَّما هما أبو بكر وعمر، لكن لمَّا
جمع بينهما سماهما باسم واحد. وكذلك قول الفرزدق:
أخذنا بأكناف السماء عليكم
لنا
قَمَرَاها والنجوم الطوالع
والقمر واحد لكن لمَّا جمعه مع الشمس سمَّاهما قمرَين، وكأنَّه
تعالى لمَّا علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، على
زعمهم أنَّ معه خالقًا غيره. وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، على زعمكم؛ لأنَّ عنده أنَّ النشأة
أهون من الإعادة، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إنَّ
معه خالقًا غيره، لا أنَّه أثبت معه خالقًا غيره.
جواب آخر: وذلك أنَّ لفظة أفعل في كلام العرب قد يُراد بها إثبات
الحكم لأحد المذكورين وسلبه عن الآخر من كل وجه، وذلك في قوله تعالى:
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، فأثبت حسن المقيل لأهل
الجنة مع حسن المستقر، وسلب ذلك عن أهل النار أصلًا ورأسًا؛ لأنَّ أهل
النار ليس لهم حُسن مستقر ولا حسن مقيل، فكذلك قوله تعالى:
أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، أثبت الخلق له، وأنَّه
المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل: العسل أحلى من الخل، لا يُريد
أنَّ للخل حلاوةً بوجه، بل يُريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل
أصلًا ورأسًا، فكذلك قوله
أَحْسَنَ
الْخَالِقِينَ أثبت الخلق له دون غيره.»
٢٧٥
ولا شك أنَّ كُلًّا من المعتزلة والأشاعرة في انشغالهم بقضاياهم
الكلامية قد أخرجا الآية عن سياقها الذي وردت فيه. فلم يرد في الآية
ذكر لغير الله، خلافًا لِمَا ذهب إليه الباقلاني في جوابه الأول؛
فالآية سيقت لبيان عظمة الله والكشف عن قدرته الباهرة في خلق الإنسان
خطوةً خطوة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ
سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون:
١٢–١٤). ورغم أنَّ الباقلاني — في جوابه الثاني — نجح في الاستدلال
اللغوي على أنَّ صيغة «أفعل» قد تُثبت الحكم لأحد المذكورَين وتسلبه عن
الآخر، فإنَّه لم يدرك أنَّ بيان العظمة والسمو ينكشف عن طريق المقارنة
التي عبَّر عنها بهذه الصيغة في كلمة «أحسن» مع إضافتها إلى
«الخالقين»، فالمفاضلة في الآية ليست بين خالق وخالق، بل بين خالق وبين
كافة الخالقين.
•••
إذا كان المعتزلة قد وجدوا في القرآن آيات يستدلون بها على جواز
إطلاق لفظ «خالق» على الإنسان، فإنَّ خصومهم، الأشاعرة، يجدون بدَورهم
آيات أخرى يستدلون بها على أنَّ صفة «الخالق» لا يجوز أن يُوصف بها غير
الله. وكما حاول الأشاعرة تأويل الآيات التي استدلَّ بها المعتزلة،
كذلك يُحاول المعتزلة تأويل الآيات التي استدلَّ بها الأشاعرة. ويتم كل
ذلك في إطار ما أشرنا إليه سالفًا من تقسيم كلٍّ منهم للقرآن إلى
مُحْكَم ومُتَشَابه، مع خلافهم فيما يندرج تحت المُحْكَم، وما يندرج
تحت المتشابه من آيات.
والدليل الأول عند الأشاعرة قوله تعالى في آيات كثيرة:
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ:
٢٧٦ «ومعلوم أنَّ أفعالنا مخلوقة إجماعًا وإن اختلفنا في
خالقها، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق، فدلَّ على أنَّه لا
خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإنْ قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون
مخلوقًا، قلنا: قد احترزنا بحمد الله عن هذا السؤال بقولنا إنَّه أخبر
أنَّه خلق كل شيء مخلوق، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنَّها غير
مخلوقة ولا خالقة، بل هي صفة الخالق تعالى قديمة بقدمه وموجودة بوجوده
قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.»
٢٧٧ واستثناء الباقلاني كلام الله من الأشياء المخلوقة التي
يقع عليها عموم لفظ «كل» في الآية، يتسق مع ما ذهب إليه الأشاعرة من
قِدم الكلام الإلهي.
والمعتزلة — من جانب آخر — يستثنون أفعال العباد من عموم الآية،
ويُدخلون فيها القرآن: «ولولا قيام الأدلة على إخراج أفعال العباد منه
لوجب دخوله في العموم، ولا دلالة تُوجب إخراج القرآن منه، فيجب دخوله فيه.»
٢٧٨ وفي مسلك كلا الفريقَين إزاء هذه الآية ما يكشف لنا كيف
تحوَّل القرآن — عند المتكلِّمين — إلى وسيلة استدلالية للجدل والنزاع.
وما دام الفريقان قد تنازعا الآية، فمن حق كل منهم أن يتأوَّلها وفقًا
لرأيه. ويتم إخراج الآية عن عمومها وظاهرها — عند المعتزلة — على أساس
أنَّها «وردت مورد التمدُّح، ولا مدح بأن يكون الله تعالى خالقًا
لأفعال العباد وفيها الكفر والإلحاد والظلم، فلا يحسن التعلُّق بظاهره.
فإذا عدلتم عن الظاهر فأخذتم بالتأويل، فلستم بالتأويل أولى منَّا،
فنتأوَّله على وجه يُوافق الدليل العقلي، فنقول إنَّ المراد به:
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ أي معظم الأشياء،
والكل يُذْكَر ويُراد ما ذكرنا، قال الله تعالى في قصة بِلقيس:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، مع أنَّها لم
تؤتَ كثيرًا من الأشياء.»
٢٧٩
ويستخدم أبو هاشم الجبَّائي، عند تأويله للآية، لفظ «المبالغة»،
وهو نفس اللفظ الذي وضع الرماني الآية تحته في رسالته «النكت في إعجاز
القرآن» كما أسلفنا الإشارة. يقول: «إنَّ التعارف في استعمال هذه
اللفظة قد جرى بمعنى التكثير والمبالغة كقوله تعالى:
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (النمل: ٢٣)،
وقوله:
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ (الأحقاف:
٤٥)،
يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ
شَيْءٍ (القصص: ٥٧)،
مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام: ٣٨) … وكقول الرجل أكلنا كل
شيء، وعندنا كل خير، وعلى هذا خاطب عزَّ وجلَّ العرب.»
٢٨٠ واستخدام مصطلح «المبالغة» — بالمعنى الذي أشار إليه
الرماني — له دلالته في الارتباط الوثيق بين المجاز والتأويل، واستخدام
المجاز أداةً للتأويل وإخراج النص عن ظاهره ليُلائم الدليل العقلي، غير
أنَّ هذا التأويل يستند إلى شواهد كثيرة من القرآن وكلام العرب.
والدليل الثاني الذي يستدل به الأشاعرة هو قوله تعالى:
وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات:
٩٦): «فأخبر تعالى أنَّه خالق لأعمالنا على العموم، كما أخبر أنَّه
خالق لصورنا وذواتنا على العموم، وهذا من أوضح أدلة الكتاب.»
٢٨١
ويستند المعتزلة في تأويلهم لهذه الآية إلى فكرة السياق من ناحية،
وإلى تقدير محذوف في الكلام من ناحية أخرى. أمَّا فكرة السياق فلأنَّ
الله «إنَّما ذكر ذلك ليقرِّع عُبَّاد الأصنام ويُوبِّخهم، ومعلوم أنَّ
التوبيخ والتقريع لا تعلُّق له بعملهم، وله تعلُّق بما عملوا فيه من
الأصنام، فأراد تعالى أن يُبيِّن أنَّه الخالق لِمَا يُحاولون عبادته،
كما أنَّه الخالق لهم، وأنَّه أَولى بالعبادة من الأمرَين، وأنَّه لا
معنى في عبادة الصنم إلا ومثله قائم في عبادة الإنسان.»
٢٨٢ أي إنَّ التقريع في الآية لا ينصبُّ على الفعل الإنساني،
وإنَّما ينصبُّ على الأصنام التي يقوم الإنسان بصنعها ثمَّ يعبدها.
ومعنى ذلك أنَّ «ما تعملون» ليس المقصود بها العمل، وإنَّما المقصود
بها المعمول فيه. وعلى ذلك يكون تأويل الآية: «ما تعملون فيه على نحو
قول أهل اللغة: فلان يعمل الأثواب والحُصر، وفلان يعمل الطين، وإنَّما
أراد الأصنام التي عملوا فيها النحت.»
٢٨٣ ومعنى ذلك أنَّ في الكلام محذوفًا تقديره «فيه». ويكون
معنى الآية أنَّ الله خلق الإنسان وما يعمل فيه من المواد، كالخشب
والحجارة وغيرها. أمَّا عمله نفسه في هذه المواد، فهو من خلقه، ولا
يدخل تحت منطوق الآية. وهكذا يُصبح تقدير المحذوف — والحذف مجاز —
وسيلةً للتأويل، والعدول عن الظاهر.
ولا يَسْلَم هذا التأويل تمامًا للمعتزلة؛ إذْ يذهب أبو الحسن
الأشعري إلى التفرقة بين «ما تنحتون» و«ما تعملون»، ويرى أن: «ما
تنحتون هي التي ترجع إلى الأصنام دون «ما تعملون»؛ وذلك لأنَّ الأصنام
منحوتة لهم في الحقيقة، وليست معمولة لهم، فرجع الله تعالى بقوله:
تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ إليها. وليست
الخشب معمولةً لهم في الحقيقة، فيرجع بقوله:
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ إليها.»
٢٨٤
ويَردُّ الزمخشري على هذه التفرقة على أساس أنَّ «ما» في «ما
تنحتون» موصولة وليست مصدرية. ويرى أنَّ ما يُعْطَف عليها ينبغي أن
يكون كذلك حتَّى لا يختلَّ النَّظْم القرآني، بمعنى أنَّ «ما» في «ما
تعملون» ينبغي كذلك أن تكون موصولةً حتَّى يستقيم العطف، وذلك أنَّ «ما
تعملون ترجمة عن قوله ما تنحتون، وما في تنحتون موصولة لا مقال فيها،
فلا يعدل بها عن أختها إلا مُتعسِّف مُتعصِّب لمذهبه من غير نظر في علم
البيان ولا تبصُّر لنَظْم القرآن.»
٢٨٥
أمَّا الدليل الثالث الذي يستند إليه الأشاعرة فهو قوله تعالى:
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ (فاطر:
٣)، ويسهل على المعتزلة تأويل هذه الآية بالرجوع إلى فكرة السياق:
«فليس فيه ما ظنُّوه؛ لأنَّ فائدة الكلام معقودة بآخره، وقد قال تعالى:
هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ
يَرْزُقُكُمْ، ونحن لا نثبت خالقًا غير الله يرزق.»
٢٨٦
وبنفس الطريقة لا يجدون صعوبةً في تأويل قوله تعالى:
أَمْ جَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ
فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؛ وذلك على أساس «أنَّ المراد
أنَّ خلق أحدنا لا يُشبه خلق الله تعالى؛ فإنَّ خلقه جلَّ وعزَّ يشتمل
على الأجسام والأعراض، وليس كذلك خلقنا فإنَّا لا نقدر إلا على هذه
التصرُّفات التي هي القيام والقعود وما جرى مجراهما.»
٢٨٧
وهكذا ينتهي المعتزلة إلى نفي صفة الشرك التي حاول الأشاعرة
إلصاقها بهم، كما ينتهون إلى تأكيد أنَّ الإنسان هو خالق أفعاله حسب
قصده وإرادته الحرة. والفارق بين ما يخلقه الله وبين ما يخلقه الإنسان
هو الفارق بين قدرة الله اللامتناهية وقدرة الإنسان المحدودة، تلك
القدرة التي لا تتعلَّق إلا بتصرُّفاته دون غيرها من الأجسام والأعراض
التي لا يقدر عليها إلا الله جلَّ وعز.
وآخِر ما يستدل به الأشاعرة قولهم إنَّ من شروط مَن يقدر على الخلق
أن يكون عالمًا بما يخلقه. ولمَّا كان علم الله يشمل كل ما يمكن أن
يعلم، فمن الطبيعي أن يشتمل خلقه على كل ما يمكن أن يخلق؛ «لأنَّ
الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه، كما قال:
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (الملك: ١٤).»
٢٨٨ يُوضِّح ابن المُنيِّر السني هذا الدليل قائلًا: «إنَّ أهل
السنة يستدلون على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله بأنَّه لا يعلمها، وهو
استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفي الملزوم الذي هو الخلق.
وبهذه الملازمة دلَّت الآية، فإنَّ الله تعالى أرشد إلى الاستدلال على
ثبوت العلم له عزَّ وجلَّ بثبوت الخلق، وهو استدلال بوجود الملزوم على
وجود اللازم.»
٢٨٩
ويتركَّز الخلاف حول تأويل الآية بين المعتزلة وخصومهم في تحديد
مفعول الفعل «خلق». يذهب الأشاعرة إلى أنَّ المفعول ضمير يعود إلى
القول:
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ، أو إلى ضميره المحذوف في «يعلم»، وعلى ذلك
يكون: «من فاعلًا مرادًا به الخالق، ومفعول العلم محذوف تقديره ذلك
إشارةً إلى السر والجهر، ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك.
والتقدير في الجميع ألَّا يعلم السر والجهر من خلقهما.»
٢٩٠ ويتركَّز تأويل القاضي عبد الجبَّار على أنَّ «من» مفعول
للفعل «يعلم» وليس فاعلًا. كما يذهب إلى أنَّ المفعول المحذوف في «خلق»
ليس القول، بل أمر العباد عمومًا: «واعلم أنَّ المراد بذلك ألَّا يعلم
من خلق أمر العباد الذين يُسرون بالقول ويجهرون، مُنبِّهًا بذلك على
أنَّه لا تخفى عليه أحوالهم كتموها أو جهروا بها، ولو كان المراد به ما
قالوه، لقال ألَّا يعلم ما خلق؛ لأنَّ القول لا يُعبِّر عنه بمن؛ لأنَّ
ذلك عبارة عن العقلاء.»
٢٩١ ولا تستقيم الآية — من حيث المعنى — على تأويل الأشاعرة:
«يُبيِّن ذلك أنَّ هذا الكلام إذا لم يُحْمَل على ما قلناه يجري مجرى
أن يقول: وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به فإنِّي عليم بما أنا فاعله.
وهذا لا يستقيم.»
٢٩٢
ومن المؤكَّد أنَّ الآية في سياقها لا تُساعد الأشاعرة على ما
ذهبوا إليه؛ فقد وردت مَورد الذم والتوبيخ لأولئك الذين يظنون أنَّ
الله غير مُطَّلع على خبايا صدورهم. ويدرك الزمخشري معنى الآية ويربط
أوَّلها بآخرها ربطًا مُحكَمًا، فيكون مفعول «من خلق» «الأشياء، وحاله
أنَّه اللطيف الخبير المتوصِّل علمه إلى ما ظهر من خلقه. ويجوز أن يكون
من خلق منصوبًا بمعنى ألَا يعلم مخلوقه وهذه حاله.»
٢٩٣ ويمنع الزمخشري أهل السنة من الاستدلال بهذه الآية على ما
ذهبوا إليه من أنَّ الخلق لا يصح إلا مع العلم. ويستند في ذلك إلى أنَّ
تركيب الآية، ووصف الله — في آخرها — بأنَّه لطيف خبير يمنع من هذا
الاستدلال؛ «لأنَّك لو قلت ألَّا يكون عالمًا من هو خالق وهو اللطيف
الخبير، لم يكن المعنى صحيحًا لأنَّ ألَا يعلم معتمد على الحال، والشيء
لا يوقَّت بنفسه، فلا يُقال ألَا يعلم وهو عالم، ولكن يُقال ألَا يعلم
كذا وهو عالم بكل شيء.»
٢٩٤
(٤)
يلجأ المعتزلة بعد ذلك كله إلى إيراد أدلتهم التي تُثبت مسئولية
الإنسان عن فعله. وهي تنقسم في القرآن إلى قسمَين؛ أدلة إثبات، وأدلة
نفي. أمَّا أدلة الإثبات فهي كل تلك الآيات التي تُثبت تعلُّق فعل
الإنسان به وهي أنواع ثلاثة؛ النوع الأول: منها يشمل كل الآيات التي
يُضاف فيها الفعل إلى العبد بصيغة الفاعل إضافةً واضحة: «ويدل على ذلك
من كتاب الله، سبحانه، كل إضافة للفعل إلى العبد بلفظ الفاعل نحو قوله:
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: ٢)، وسائر
ما وُصِف به؛ مِمَّا يوجب إضافة الفعل إليه.»
٢٩٥ أمَّا النوع الثاني من أدلة الإثبات فيشمل كل الآيات التي
تُعلِّق الجزاء بأفعالهم نحو قوله تعالى:
جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ:
٢٩٦ «فلولا أنَّا نعمل ونصنع، وإلا كان هذا الكلام كذبًا، وكان
الجزاء على ما يخلقه فينا قبيحًا.»
٢٩٧ ويشمل النوع الثالث كل «ما في كتاب الله من الذم والتوبيخ
نحو قوله:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ (البقرة: ٢٨)، وقوله:
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (الانشقاق: ٢٠)،
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
(الإسراء: ٤٩)،
٢٩٨ ومن جملة ذلك قوله تعالى وتقدَّس:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُم
مُّؤْمِنٌ (التغابن: ٢)، أورد الآية على وجه التوبيخ، وذلك لا
يحسن إلا بعد احتياج الكفر والإيمان إلينا وتعلُّقهما بنا، وإلا كان
ذلك بمنزلة أن يُوبَّخ أحدنا على طول قامته وقصرها، فيُقال قد أنعمنا
عليك وصنعنا بك وفعلنا، فقصرت قامتك أو طالت.»
٢٩٩
ويصعب على الأشاعرة رد هذه الأدلة، وإن كانوا يُحاولون ردها إلى
مقولة «الكسب» الأشعرية، تلك المقولة التي تجعل وجه تعلُّق الفعل
بالإنسان هو الكسب دون الخلق والإيجاد. يُساوي الباقلاني بين الفعل
والكسب حين يردُّ على المعتزلة: «فإن احتجُّوا بقوله تعالى:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قالوا: فأثبت
لنا العمل، والعمل هو الفعل، والفعل هو الخلق. فالجواب أنَّه تعالى
أراد هنا بالعمل الكسب، والعبد مكتسب على ما بيَّنا. يدل على ذلك أنَّه
قال في موضع آخر:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (التوبة: ٨٢)، ونحن لا نمنع أن يكون سمَّى الكسب
عملًا، إنَّما نمنع أن يكون العبد خالقًا مخترعًا مخرجًا له من العدم
إلى الوجود. وقد بيَّنا أنَّ الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى
الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلم يكن لهم في الآية حجة.»
٣٠٠ ولا يُنكر الأشاعرة — بالطبع — أنَّ الإنسان مُجازًی
مُحاسَب، ولكنَّهم يجعلون الجزاء عقابًا على الكسب والإرادة دون إيجاد
الفعل وخلقه.
وثمَّ آيات يمكن أن يستدل بها الأشاعرة على أنَّ الإنسان لم يوجد
ضلاله ولم يخلق كفره، بل الله خلقه فيه، كما خلق فيه الإيمان والهدى.
وقد سبق أن تعرَّضنا بالتفصيل لكثير من هذه الآيات وكشفنا عن تأويل
المعتزلة لها في ثنايا القسم السابق من هذا الفصل، الأمر الذي يجعلنا
نتجاوزها هنا حتَّى لا نقع في التكرار والإطالة. غير أنَّ المعتزلة لا
يمنعون نسبة إيمان العبد إلى الله على أساس فكرة اللطف التي سبقت
الإشارة إليها. ولا يتناقض ذلك على أي حال مع إصرارهم على نسبة أفعال
العبد إليه، ما داموا قد نفَوا عن الله إرادة الكفر والقبائح كلها أو
خلقه إيَّاها في العبد، وهذا هو الهدف النهائي من قضية العدل
كلها.
•••
ويُطيل المعتزلة في شرح وتوضيح أدلة النفي التي تنفي عن الله خلق
أفعال البشر؛ وذلك لأنَّها أدلة ينازعهم فيها خصومهم ولا يُسلِّمون لهم
بها. وأول هذه الأدلة قوله تعالى في سورة الملك: ٣:
مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ
تَفَاوُتٍ، ذلك أنَّ نفي التفاوت عن خلق الله يعني — بدليل
الخطاب — أنَّ ما هو متفاوت ليس من خلقه. وأفعال العباد تتفاوت بين
الحسن والقبيح؛ ولهذا لا يصح إسنادها إلى الله إذا كان قد نفى التفاوت
عن خلقه. ويتركَّز الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في تأويل هذه الآية
حول نوع الفعل الإلهي المقصود نفي التفاوت عنه. ويذهب المعتزلة إلى
أنَّ المقصود بها نفي التفاوت في باب الحكمة، دون أن يكون المقصود بها
نفي التفاوت في المخلوقات أو في صفاته عزَّ وجل: «إنَّما أراد بذلك في
باب الحكمة؛ لأنَّه لو أراد في صفاته، لكان قد نفى ما ثبوته معلوم
باضطرار؛ لأنَّه تعالى يُمدح بذلك، ولا يليق التمدُّح بنفي التفاوت
عنها في سائر أوصافها، وإنْ كان ظاهر التفاوت يقتضي التناقض في الحكمة؛
ولذلك لا يقولون: إنَّ خلق زيد متفاوت إلا على هذا الوجه، ولا يقولون
ذلك من حين يتغيَّر خلقه على وجه يُحمد. فيجب أن ينفي أن يكون في فعله
التفاوت في الحكمة من قبيح وحسن، بل يجب كون جميعه حسنًا؛ وذلك يمنع من
كون أفعال العباد فعلًا له. وليس لأحد أن يقول: إنَّ الغرض بذلك نفي
التناقض عن خلقه، وأنَّه ليس فيه متضاد؛ وذلك لأنَّ هذا علم استحالة
وجوده من فعل أي فاعل كان لأمر يرجع إلى نفسه، فمعنى التمدُّح فيه لا
يصح. وإنَّما قال سبحانه ذلك عقيب ذكره ما خلقه من الموت والحياة
والتكليف، وأنَّه:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، ثمَّ نبَّه على عظيم نعمه بذلك، من حيث
أنَّه خلقه على وجهٍ يتسق في الحكمة، وإلا خرج جميعه من أن يكون نعمة؛
لأنَّه لو كان في أفعاله شيء قبيح لفسد التدبير، ولم يثق المُكلَّف
بوعد ولا وعيد، وذلك يُخرج كل أفعاله من أن تكون نعمة.»
٣٠١
وهكذا يُحدِّد المعتزلة معنى التفاوت بأنَّه التناقض أو الاضطراب،
٣٠٢ ثمَّ يُنكرون أن يكون نفي التفاوت واقعًا على أفعال الله؛
لأنَّه تمدَّح نفسه بذلك، فوصف نفسه بالرحمة وبالجبروت وهما صفتان
متناقضتان ظاهريًّا، وإنْ كانتا غير متناقضتَين في باب الحكمة. وهم من
ناحية أخرى يُنكرون أن يقع نفي التفاوت على مخلوقات الله؛ لأنَّ فيها
الصغير والكبير والطويل والقصير … إلخ. وعلى ذلك لا يبقى لهم إلا أنَّ
نفي التفاوت عن خلق الله واقع في باب الحكمة. ومعنى ذلك أنَّ كل أفعال
الله تجري على نسق من الحكمة لا تفاوت فيها، وليست كذلك أفعال الإنسان،
وعلى ذلك فإنَّ أفعال الإنسان لا يُمكن أن تكون مخلوقةً لله.
٣٠٣
غير أنَّ الأشاعرة لا يُسلِّمون للمعتزلة بهذا التفسير، على أساس
أنَّ قوله تعالى في آخر الآية:
هَلْ تَرَى مِنْ
فُطُورٍ، يدل أنَّ المقصود بالآية نفي التفاوت عن المخلوقات؛
لأنَّه تعالى قال ذلك بعد قوله:
الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، ولم يذكر الله تعالى الكفر ولا
أفعال العباد في هذه الآية فيكون للقدرية في ذلك حجة
٣٠٤ وفي الرد على هذا الاعتراض يستند المعتزلة إلى مبدأ من
مبادئ أصول الفقه في التعميم والتخصيص. ومن رأي المعتزلة: «أنَّ تخصيص
آخر الآية لا يقدح في عموم أولها، ألَا ترى أنَّ قوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ (البقرة: ٢٢٨)، عام في المطلقات، البوائن
منها والرجعيات، ثمَّ تخصيص قوله:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، لا يقدح في عموم
الأول. كذلك في مسألتنا.»
٣٠٥ وهو مبدأ غريب لا يصح في تفسير سياق هذه الآية، وإنْ صحَّ
في أحكام الفقه. والخلط في التفسير بين آيات الأحكام وآيات الصفات
يتناقض مع ما سبق أن قاله القاضي نفسه عند إخراج آيات الأحكام من
المُحكَم والمُتشابه. وبالإضافة إلى ذلك كله فإنَّ الآية — كما قال
الأشعري — لا تُشير من قريب أو من بعيد إلى خلق الأفعال. وهي واردة في
بيان الحكمة الإلهية في خلق السموات، وعلى ذلك يُعدُّ استدلال المعتزلة
بهذه الآية استدلالًا بدليل الخطاب لا بمنطوقه المباشر. وهذا أمر ينكره
المعتزلة على خصومهم في مواضع كثيرة، بل وفي هذه الآية نفسها. ويبدو
هذا التناقض واضحًا في موقف القاضي حين يورد على نفسه اعتراضًا فحواه:
«لو أمكن الاستدلال بهذه الآية على أنَّه تعالى لا يجوز أن يكون خالقًا
لأفعال العباد لأنَّ فيها التفاوت، وقد نفى التفاوت عن خلقه، أمكن
أيضًا أن يستدل بها على أنَّ طاعات العباد كلها من جهة الله تعالى فلا
تفاوت فيها.»
٣٠٦ يُنكر القاضي على خصومه هذا الاستدلال لأنَّه — في رأيه —
«استدلال بدليل الخطاب، وذلك مِمَّا لا يُعْتَبر في فروع الفقه، فكيف
يُعْتَبر في أصول الدين؟ يُبيِّن ذلك أنَّ تخصيص الشيء بالذكر لا يدل
على أنَّ ما عداه خلافه، ألَا ترى أنَّ قائلًا لو قال: فلان لا يظلم
ولا يكذب، فإنَّما يقتضي هذا الكلام أنَّه لا يختار ما هو الظلم
والكذب، وليس فيه أنَّ ما هو خارج من هذَين النوعَين فإنَّه هو الفاعل
له، كذلك في مسألتنا، ليس يجب إذا نفى الله تعالى التفاوت عن خلقه أن
يُضاف إليه كل ما لا تفاوت فيه، بل الواجب أن يُنفى عنه جميع ما
يتفاوت، ويكون ما لا تفاوت فيه موقوفًا على الدلالة، فإن دلَّ على
أنَّه هو الفاعل له قيل به، وإنْ لم يدل، بل دلَّ على خلافه لم يقل به.
وفي مسألتنا قامت الدلالة على أنَّ هذه التصرفات من الطاعات وغيرها
متعلِّقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا وداعينا، فيجب أن تكون فعلًا لنا
واقعًا من جهتنا على ما قلناه.»
٣٠٧ غير أنَّ هذا التناقض في موقف القاضي يُمكن أن يُفسَّر في
ضوء ما أشرنا إليه من أنَّ القرآن تحوَّل إلى وسيلة للاستدلال سواء
بمنطوق الآيات المباشر، أو بمدلولها غير المباشر، وذلك عن طريق التأويل
الذي يستند — أولًا — إلى الدليل العقلي.
•••
والدليل الثاني الذي يستدل به المعتزلة هو قوله تعالى:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (السجدة:
٧)، ويختلف المعتزلة مع الأشاعرة في توجيه الفعل «أحسن»؛ ذلك أنَّه قد
يكون مشتقًّا من الإحسان، أو من الحسن، بمعنى أنَّه قد يكون مشتقًّا من
الفعل «أحسن» أو من الفعل «حسن». ويذهب المعتزلة إلى أنَّه مشتق من
«الحسن» لا من «الإحسان»؛ وذلك «لأنَّ في أفعاله تعالى ما لا يكون
إحسانًا كالعقاب.»
٣٠٨ وعلى العكس من ذلك يذهب الأشاعرة، فالمعنى عندهم «أنَّه
يُحْسِن أن يخلق كما يُقال فلان يُحْسِن الصياغة؛ أي يعلم كيف يصوغ
فأخبر الله تعالى أنَّه يعلم كيف يخلق الأشياء.»
٣٠٩ ومعنى ذلك أنَّ الأشاعرة يذهبون بالآية إلى معنى الخبر دون
المدح الذي يؤكِّده السياق:
ذَلِكَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ
مِنْ طِينٍ (السجدة: ٦–٧)، والذي يتنبَّه إليه تفسير المعتزلة.
ويُحاول المعتزلة مناقشة هذا الاعتراض من جانب الأشاعرة؛ ولذلك يُفرِّق
القاضي عبد الجبَّار بين صيغة الماضي وصيغة المضارع في هذا الفعل؛
«لأنَّ أحسن بمعنى علم لم يجئ وإنْ جاء مضارعه، وليس يمتنع أن يستعمل
مضارع ما لم يستعمل ماضيه. وعلى هذا استعملوا مضارع نحو: وذر، وودع،
فقالوا: يذر ويدع، ولم يستعملوا ماضيه، فلم يقولوا: أوذر، ولا أودع.
وصار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع، نحو
قولهم: عسى وليس، فحسب»
٣١٠ ومن الواضح أنَّ المعتزلة يريدون بهذا التوجيه للفعل أن
يذهبوا إلى أنَّ أفعال الله كلها حسنة، وليست كذلك أفعال الإنسان، ومن
ثمَّ لا يصح الزعم بأنَّ الله هو خالق أفعال الإنسان. وغني عن البيان
أنَّ القاضي هنا يستدل — كما فعل في الآية السابقة — بدليل الخطاب، دون
منطوقه المباشر.
ويذهب القاضي إلى نفس الاستدلال من قوله تعالى:
صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
(النمل: ٨٨)، فنسبه الإتقان إلى صنع الله، وفعله ينفي إمكانية أن يكون
هو خالق أفعال البشر التي تتضمَّن «التهوُّد والتنصُّر والتمجُّس، وليس
شيء من ذلك متقنًا، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقًا لها.»
٣١١
ومن الأدلة التي يستدل بها المعتزلة أيضًا قول الله تعالى:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلًا (ص: ٢٧)، وكذلك قوله:
مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ. ووجه الاستدلال أنَّ الله:
«نفى، عمَّا خلقه منهما، الباطل، ولو كان قد خلق أفعال العباد، لوجب
كون الباطل الذي بينهما من خلقه، فكان يجب أن يكون نفيه كذبًا، تعالى
الله عن ذلك.»
٣١٢ والواقع أنَّ هذا الاستدلال من جانب المعتزلة يُخْرِج
الآية عن سياقها إخراجًا تامًّا، ويُصبح تأويل الأشاعرة أقرب إلى روح
السياق. يقول الأشعري: «قال الله تعالى:
ذَلِكَ
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فدل ذلك على أنَّ المعنى فيهما
خلقهما وما بينهما ولا أنا لا أُثيب من أطاعني ولا أُعاقب من عصاني
وكفر بي؛ لأنَّ الكافرين ظنُّوا أنَّهم لا يعادون ولا لهم رجعة
فيُعاقبون. فبيَّن الله تعالى أنَّه ما خلق الخلق إلا ومصير بعضهم إلى
ثواب ورجوع بعضهم إلى العقاب، وأنَّ الكافرين ظنُّوا ذلك لأنَّه بيَّن
أنَّ ذلك باب الثواب والعقاب؛ لأنَّه تعالى قال:
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ، فأخبر تعالى أنَّ ظن المشركين الذين أنكر عليهم
أنَّهم ظنُّوا أنَّه لا عاقبة تقع فيها تفرقة بين المؤمنين والكافرين.»
٣١٣ والفكرة التي يُحاول الأشعري التعبير عنها في هذا النص
أنَّ الآية وردت مورد الرد على المشركين والكفار الذين ظنُّوا أنَّهم
لن يُحاسبوا على ما قدَّمت أيديهم، فأخبرهم الله تعالى أنَّه لم يخلق
هذا العالم بسمواته وأرضه عابثًا ولا لاهيًا، وإنَّما هو سبحانه قد خلق
العالم للتكليف والثواب والعقاب. ورغم أنَّ هذا المعنى الواضح يتسق مع
سياق الآية في السورة، فإنَّ القاضي عبد الجبَّار يذهب إلى القول بأنَّ
هذا المعنى الواضح الظاهر مجاز: «فإنْ قال: أراد بذلك: لم أخلقهما على
جهة العبث، بل خلقتهما للأمر والنهي والتعريض. قيل له: هذا هو مجاز،
وحمل الكلام على الحقيقة هو الواجب.»
٣١٤ ومن الصعب الاتفاق مع القاضي على مجازية هذا المعنى، لكن
للقاضي عذره في هذا التأويل المجازي البعيد. ويبدو أنَّ الذي ألجأ
القاضي إلى الاستدلال بهذه الآيات لفظ «وما بينهما»؛ حيث توهَّم أنَّ
أعمال العباد تقع في هذا الحيِّز بين السماء والأرض. فإذا نفى الله
الباطل عن خلقه للسموات والأرض وما بينهما، فإنَّه بذلك يكون قد نفى
أفعال العباد، ومنها الحق والباطل، أن تكون من خلقه: «وقد يُقال في
أفعال العباد أنَّها بينها بالتعارف، فليس لأحد أن يمنع دخول ذلك فيه
من جهة الظاهر، وباطل في هذا الموضع المراد به القبيح، ولهذا تمدَّح
تعالى بذلك، وتمدُّحه به، يدل على أنَّ إثبات ما تمدَّح بنفيه ذم، فلا
يجوز أن يثبت في فعله شيء باطل.»
٣١٥
وآخر ما يستدل به المعتزلة قوله تعالى:
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (آل
عمران: ٧٨): «فنفى أن يكون ليُّ ألسنتهم بالكتاب من عند الله، ولو كان
من فعله لم يصح، على هذا القول.»
٣١٦ ويظل القاضي يدور في دائرة الاستدلال بدليل الخطاب لا
بظاهره، ويظل الأشعري أقرب إلى إدراك المعنى المباشر للآية، وهو
«أنَّهم حرَّفوا وصف رسول الله
ﷺ وأوهموا السفيه منهم أنَّه من
كتابهم. قال الله تعالى:
وَمَا هُوَ مِنَ
الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، يعني أنَّ
الله تعالى أنزله. قال الله:
وَمَا هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ؛ أي لم أُنزل عليهم ذلك كما يدَّعون.»
٣١٧
ويُحاول القاضي عبد الجبَّار — جاهدًا — أن يؤوِّل الآية لتسلم له
بدلالتها على نفي أن يكون الفعل الإنساني مخلوقًا لله. ولكي يفعل
القاضي ذلك يستند إلى أنَّ النفي في الآية كما يؤكِّد أن الله لم
يُنْزل ما قاله أهل الكتاب، يؤكِّد كذلك أنَّ الله لم يفعله، وبذلك
يثبت أنَّهم هم الفاعلون له بمعنى أنَّ تكرار النفي يؤكِّد نسبة
التحريف إليهم دون الله: «إنَّ ما لم ينزله ويفعله، لا يجوز أن ينفي أن
يكون من عنده، فنفي كونه من عنده، على كل حال، يدل على ما قلناه. وبعد،
فإنَّ ما قالوه قد دلَّ عليه قوله:
وَمَا هُوَ
مِنَ الْكِتَابِ، فيجب أن يكون المراد بالنفي الثاني غيره وسواه.»
٣١٨ وأيًّا كان الأمر، فالذي لا شك فيه أنَّ القاضي يظلُّ
بعيدًا عن جو الآية رغم محاولاته المستميتة للاستدلال بها على ما
يريد.
وتبرُّؤ الله من المشركين في قوله تعالى:
أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
(التوبة: ٣) يدل — عند المعتزلة — على تعلُّق الشرك بفاعله ومسئوليته
عنه: «لأنَّه لا يجوز أن يتبرَّأ منهم لأجل شركهم إلا وهم فاعلون له.»
٣١٩ ولا يُسلِّم الأشاعرة بهذا الدليل، ويقيمون اعتراضهم على
هذا الاستدلال — من جانب المعتزلة — على أنَّ سبب نزول الآية لا يتفق
مع هذا التخريج؛ فالآية: «إنَّما نزلت في العهود التي كانت بين
المشركين وبين رسول الله
ﷺ؛ لأنَّ الله تعالى قال:
بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ
عَاهَدْتُم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (التوبة: ١–٢)،
فأحلَّهم الله أربعة أشهر ثمَّ قال:
وَأَذَانٌ
مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، يقول وإعلام من الله ورسوله:
إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ
بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، يعني من العهود
التي كانت بين رسول الله
ﷺ وبينهم إذا انقضت الأربعة الأشهر.
ثمَّ استثنى قومًا من المشركين يُقال إنَّهم من بني كنانة فقال:
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ،
إلى انقضاء مدتهم. على أنَّ الله تعالى ذكر المشركين ولم يقل «من
شركهم»، ولو كان قوله «بريء من المشركين» يدل على أنَّه لم يخلق شركهم
لدلَّ على أنَّه لم يخلقهم؛ لأنَّه تعالى بريء من المشركين ومن شركهم.
ولو كان قوله «بريء من المشركين» يُوجب أنَّه ما خلق شركهم للزم
القدرية إذ قال إنَّه
وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ، فقد خلق إيمانهم. فلمَّا لم يكن هذا عندهم
هكذا بطل ما قالوه.»
٣٢٠
وننتهي من هذا كله إلى ما سبق أن قرَّرناه من أنَّ المجاز صار
سلاحًا للتأويل لرفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة، وبينها وبين أدلة
العقل من جهة أخرى. ولم يُفلح المعتزلة دائمًا في رفع هذا التناقض؛
وذلك لمحاولتهم — في أغلب الأحيان — لي عنق النص القرآني وإخراجه عن
سياقه؛ وذلك ليتحوَّل إلى دلالة عقلية نظرية.