١
من المؤكد أن الحذاء ليس هو المسئول عن المصير الذي آل إليه أشرف عبد العزيز سليمان (أو شرف كما ألِفت الأم أن تنادي حبة عينها)؛ فقد كان مبرمَجًا، بجيناته الداخلية، والخارجية لما وقع له من أحداث. ولا يغيِّر من الأمر قِصر الطريق الذي قاد من «كوتشي» إلى «جون»، ولا من الأخير إلى بؤرٍ أخرى.
صحيح أن «كوتشي» صارت رائحته لا تطاق وبَليت مقدمته، لكن هذا لم يكن السبب الذي دفعه إلى التوقف أمام الواجهة الزجاجية المضاءة بمصابيح سبوت لايت. السبب الأصلي أن كوتشي كان أخضر اللون بينما هو مقبل على المرحلة السوداء، التي وضع أساسها برأسٍ حُلق على المودة الإنجليزية مع مقدمةٍ مفلفلة، طالعه الآن في زجاج الواجهة.
أبرز الزجاج أمرَين آخرَين: الأسعار الفلكية للأنواع الأخرى ذات النقش الأسود من «أسكوت» إلى «أديداس» مرورًا ﺑ «نايك»، وهيكل أنثوي يحاذيه: أربعينية أو خمسينية ممتلئة الجسم في الملابس الشائعة المنحدرة من عصور الجليد، التي تتألف من جوبةٍ طويلة حتى القدمَين، وجاكت ملون وطرحة تغطي الرأس وتحيط بالوجه.
وسواء أكانت السيدة تعاني من قِصر النظر أم كان لديها مآربُ أخرى، فقد انحنت مدققة النظر في أسكوت، ثم استدارت قليلًا لتحصل على زاوية رؤية أكثر ملاءمة، لكن نظرها لم يسعفها؛ فقامت بحركةٍ خفيفة، وضعتها فوق خط التماس مباشرة.
يجب أن نكون موضوعيين في تقديرنا لموقف أشرف؛ كان في السن التي تفور فيها الدماء وتغلي لأقل لمسة (ولد سنة ١٩٧٤)، لكنه — أيضًا — كان مثقلًا بمجموعة من المحرمات التي تقيد الفعل؛ ولهذا السبب كان رد فعله التلقائي، على عكس ما هو متوقع، التراجع إلى الخلف، بدلًا من الاندفاع إلى الأمام؛ مما عرَّضه لدفعة من أحد المارة قذفت به إلى نهر الزحام الجارف.
فرغم ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة، أو بسبب ذلك، خرج سكان القاهرة جميعًا إلى الطرقات، وتدفَّقوا على شوارع وسط المدينة، و«طلعت حرب» بالذات، وإلى نقاط تجمُّع ثابتة أمام محلات الملابس والأحذية والساندوتش والمثلجات، فضلًا عن السينمات والمسارح. كان شرف قادمًا من ميدان التحرير، وقد عبَر ميدان طلعت حرب، معطيًا ظهره، بطبيعة الحال، لتمثاله، وكان جوعان، عطشان، حائرًا في كيفية إنفاق الساعات المتبقية من المساء.
كانت الأوبشنز أمامه كالآتي: دخول السينما وبالتحديد فيلم تسيل فيه دماء كافية طالما أن الأفلام الأخرى ذات اﻟ «صور» غير متاحة بفضل الرقابة التي تتولاها سيدةٌ فاضلة وصارمة في آنٍ، أو شراء علبة سجائر «مارلبورو»، أو شراء ساندوتش وكوب من الكولا وسيجارتَين من «كليوباترا» التي يكره مذاقها، أو العودة إلى البيت. الاختيار الأخير كان في الحقيقة اثنين: تحت، وفوق. تحت أي في الشارع، على الناصية (حيث كشك سجائر ودَين كبير) أو عند حانوت الميكانيكي مع أفراد الشلة وسيجارتين من البانجو الذي يجلب الصداع والغثيان إذا كان على معدةٍ فارغة، ثم الشاي في مقهى الكورنيش الذي أقيم في موقعٍ استراتيجي على حافة ترعةٍ قديمة تحولت إلى مقلب زبالة (وإذا كانت لدى الميكانيكي سيارةٌ صالحة للسير انتقلت المجموعة إلى المعادي القريبة لتلتحق بشلة الطلبة والمزيد من البانجو). فوق معناها الشقة (الضيقة حيث لا يوجد مكان للجلوس أو النوم) والمواجهة (مع النفس والآخرين) ومحاولة حل المعادلة المستحيلة.
ففي هذا الوقت من اليوم يكون أبوه بين مسلسلَين تليفزيونيَّين، وبالتالي في حالة عدم توازن، فيستبدل نظارة المشاهدة بنظارة القراءة، ويتناول ورقة وقلمًا ويشرع في تدوين مجموعة من حقائق الحياة يحفظها أشرف عن ظهر قلب منذ كان أبوه حريصًا على ألا يخفيها عنه.
التمرين اليومي كانت له عدة أهداف إضافة إلى إزجاء الوقت حتى موعد مسلسل السهرة: تقريع أفراد الأسرة (وخاصة الولد الكبير) وإشعارهم بالعبء الذي يمثلونه ومدى الجميل الذي يصنعه الوالد لهم عندما يجعل ٣٤٠ جنيهًا (راتبه الشهري المضمون) تتحول إلى ٨٠٠ (النفقات الفعلية). محاولة إيجاد نوع من التوفير واستبعاد بعض الأيتمز (في آخر مرة تم شطب بند الجريدة اليومية على أساس أنها لا تقدم غير مادتين: الكوارث، وخطب الرئيس، وهي مواد يقدمها التليفزيون بالتفصيل والألوان)، إثارة شيء من الحميَّة في بدن شرف أو قلبه كي ينهي دراسته أو يجد لنفسه شغلة تخفف العبء (وهي محاولة كانت تصطدم دائمًا بدفاع الأم عن حبة عينها). الهدف الأخير يدخل تحت طائلة علم المستقبليات؛ إذ تجرى محاولة استشراف الوضع في ظل قانون المساكن المتوقع وبعد رفع الدعم الحكومي عن الكهرباء والمياه والمواصلات والخبز والسكر والشاي؛ أي التحرير (للأسعار)، والتثبيت إن لم يكن التقليص (للأجور).
لم تكن العودة إذن، بمستوييها الاثنين، مغرية. ولأنه لم يتمكن من الحسم فقد تشاغل بالاستكمال، النظري فقط، للطاقم الجديد والأكسسوار المناسب له.
تغاضى عن قمصان «فان هاوزن»، «سيلفانو»، «فستياكو» «بییر کاردان»، وعن «سونيتي» الاسبور، وتوقف برهة أمام قميص «ليفايس» وجمع بينه وبنطلون جینز «رانجلر». ثم انتقل إلى الأكسسوار: ساعة «سواتش» بخلفيةٍ سوداء اللون وسوار من نفس اللون، (رغم أن الموضة السائدة هي الساعة الكبيرة على شكل بوصلة)، سلسلةٌ ذهبية للعنق وانسيالٌ ذهبي للمعصم. ولم يقدر للطاقم أن يكتمل لا في هذا المساء ولا بعده؛ لأنه لم يعثر بين النظارات الشمسية، من «ستينج» و«بوليس» حتى «ريبان»، على النظارة المستديرة المذهبة الإطار بالعدستَين السوداوَين التي ارتداها «سلفستر ستالوني» في آخر أفلامه.
خلال ذلك كان الزحام قد بلغ أقصاه وتمت غربلته من العنصر الأنثوي وتحولت حركة السيارات التي ملأت عرض الشارع إلى زحفٍ بطيء. وسادت الحمى التي تسبق عادة الحفلات الأخيرة لعروض السينما، فتجمهر جمعٌ كبير من الشبان، أسفل ملصقٍ كبير ملأته «ليلى علوي» بما تملك من وفرة. الشاب الذي أبدى نقصًا في الخبرة أمام حانوت الأحذية، كان مدربًا في مجالٍ آخر؛ فقد أخذ ينقل البصر في حنكة بين صفوف السيارات التي ملأت عرض الشارع، متجاهلًا الماركات الشعبية مثل «الفيات»، والأخرى الكلاسيكية مثل «المرسيدس»، مركِّزًا على «الهوندا سيفيك» و«التويوتا كرولا» إلى أن حالفه الحظ: «جولف» ذات نوافذَ سوداء قائمة تتصاعد منها موسيقى صاخبة وتقودها فتاة تطاير شعرها وأبرزت من النافذة ساعدًا عاريًا حتى الكتف؛ مما بشر بالمزيد.
لكن «ب م دابليو» لم تلبث أن حجبتها عن ناظرَيه وقد انسابت في بطء حتى أوشكت أن تتوقف أمامه مباشرة. هكذا ألفى نفسه يطلُّ على ساقَين بديعتَين انحسر الثوب عن أعلاهما لتتمكن صاحبتهما من نقل قدمَيها بين المارش والفرامل، لم يكن مهتمًّا بتحت وإنما بفوق. فلم يكن بعدُ قد انتقل من مرحلة التعلق بالمكان الذي تغذَّى عليه إلى المكان الذي دلف منه. لكن المرور انساب قبل أن يعيد تصويب نظراته، فاندفعت السيارة إلى الأمام وسرعان ما اختفت عن ناظرَيه.
انتظر حتى تباطأت حركة السيارات من جديد وعبر الشارع. عاد القهقرى في اتجاه الميدان، متعثرًا في إفريز من الرخام أمام حانوتٍ للنظارات، مُدَّ بمنسوبٍ أعلى من الرصيف، هبط به بالنتيجة إلى حفرةٍ طينية كُوِّمت فيها بعض المخلفات. بعد خطوات كان أمام «ومبي» فوقف يتأمل آكلي الهامبورجر ويستعرض قائمة الأسعار المضيئة، رغم أنه يحفظها عن ظهر قلب، ثم واصل السير حتى حانوت يتصدر مدخله عمود شاورمة، ساعدته رائحتها على الوصول إلى قرارٍ قائم على التضحية: الاكتفاء بكيس من الشيبسي وكوب من الكولا.
انضم إلى الآكلين الذين زحموا الرصيف؛ فأتيح له مثلهم متابعة الظاهرة الشقراء من لحظة ظهورها: سائحتان ترتدي إحداهما شورتًا كشف عن ساقَين سمينتَين لفحتهما الشمس، أسفل مؤخرةٍ قوية وممتلئة، بينما أبرزت الأخرى نقاط قوة مختلفة، ففوق بنطلونٍ ضيق من الجينز استقرت بلوزة ملونة بلا أكمام يبدو منها شعر إبطها وجانب من سوتيانها. وعلى أية حال فقد نجحت الفتاتان فيما فشلت في تحقيقه كافة الأحزاب السياسية في مصر.
فسرعان ما وجد شرف نفسه على رأس حشدٍ كبير لبَّى نداء الفلقتَين المتماسكتَين لصاحبة الشورت؛ اضطره إلى استخدام منكبيه للمحافظة على موقعه القيادي. هكذا كان خلفها مباشرة عندما توقفت فجأة، فأوشك أن يصطدم بها وأساءت هي من جانبها تفسير الموقف فاستدارت بوجهٍ عابس وهي تفتح حقيبة يدها وتستخرج ورقةً مالية من فئة الجنيه دفعتها إليه مرددة كلمة لم يتبيَّنها.
فوجئ بمبادرتها فلم يمد يده لالتقاط الورقة وتركها تهوي إلى الأرض، بينما استأنفت الفتاة السير مع رفيقتها ومن خلفهما كوكبة التابعين. وتطلَّع حوله فوجد أكثر من عين تتأمله في تفكُّهٍ، وربما كان هذا هو السبب في أن الدماء اندفعت إلى وجهه وأنه أشاح به ودسَّ يديه في جيبي بنطلونه، وواصل السير، غير عابئ بالنقود، مقتربًا من المصير الذي بُرمج له.
لم يبتعد كثيرًا؛ إذ اجتذبه تجمهرٌ آخر أسفل لوحةٍ كبير تملؤها وفرة من اللحم، لا لليلى علوي وإنما ﻟ «شوارزينجر». وبينما هو يتأمل اللقطات المعروضة من الفيلم في لوحة الإعلانات سمع من يوجِّه إليه الحديث باللغة الإنجليزية.
استدار ليجد نفسه أمام رجلٍ أجنبي، طويل القامة عريض الصدر أشقر شعر الرأس والحاجبين والشارب، يرتدي قميص الأحلام، قصير الكمَّين أسود اللون، وتتدلى من عنقه سلسلةٌ ذهبية، خاطبه قائلًا: معي بطاقةٌ زائدة، هل تريدها؟
ككل الأجيال الجديدة من المصريين، كان شرف يجيد اللغة الإنجليزية، أكثر حتى من العربية، لكن ذاكرته لم تسعفه بمفرداتها فتلعثم في محاولة الإجابة إلى أن تمكن أخيرًا من أن يقول: شكرًا، لا أحتاج إليها.
وككل الأجانب الشُّقر في مصر، لم يكن صاحبنا معتادًا أن يُرفض له طلب.
– يجب أن ترى هذا الفيلم؛ فهو مثير للغاية، ولا أظن أنك ستجد بطاقةً أخرى الآن.
تدافعت حصيلة أشرف من الكلمات الإنجليزية وسعد بقدرته على استخدامها.
– في الحقيقة أرغب في ذلك، لكني لا أملك كفاية من النقود.
قال الأجنبي وهو يهزُّ كتفه في غير مبالاة: أنا أقدمها لك من غير مقابل فلست في حاجة إليها، إن لم تأخذها سأرميها.
سلوكٌ طبيعي لدى الأجانب، الأمر الذي دفع شرف إلى إعادة التفكير.
– في الحقيقة هل أنت واثق؟
مدَّ الآخر يده بالبطاقة ودسها في يد شرف قائلًا: خذها. لا تكن … (ولم يفهم معنى الكلمة)، أسرِع فالعرض على وشك أن يبدأ.
أخذها وتبعه إلى داخل السينما وإلى مقعدين متجاورين وسط الصفوف الخلفية كان الحصول عليهما وسط الإقبال الشديد مكسبًا حقيقيًّا، وكانت المقدمة الإعلانية قد انتهت وتبعتها استراحةٌ ضرورية، فحانت فرصة للحوار.
قال الأشقر: أنا اسمي جون، وأنت؟
قال: أشرف، أشرف عبد العزيز، في الحقيقة حصل لي الشرف.
كان مخلصًا في هذا القول، فلقاء الأجانب الشقر لا يحدث كل يوم. لكن جون، لسببٍ غير مفهوم، ضحك ومدَّ ساقَين طويلتَين وأراح ذراعَيه المفتولتين على مسندَي مقعده فتماسَّ ذراعاهما وأبعد أشرف ذراعه في الحال.
قال: في الحقيقة البطاقة كانت لشاب مثلك تعرفت عليه في الصباح ووعد بالحضور لكنه لم يأتِ.
قبل أن يستفسر منه عن سر غرامه بتوزيع بطاقات السينما على الشبان، رآه يطيل النظر إلى فمه، فشعر بالزهو لأن أخته كانت تعرب دائمًا عن إعجابها بشفتَيه وتتمنى لو لديها مثلهما، ثم إن الفيلم بدأ في هذه اللحظة، فوجَّه إليه اهتمامه وتابع أعاجيب شوارزينجر مبهور الأنفاس، وقد حرص على أن يترك لرفيقه المسند المشترك كي لا يتلامس ذراعاهما العاريان.
علَّق جون على الفيلم عندما انتهى بكلمة لم يفهمها شرف لكنه أومأ برأسه موافقًا، وعندما خرجا إلى الطريق سأله: من أي بلدٍ أنت؟
– أستراليا.
– ظننتك أمريكيًّا؛ أنت تتكلم مثلهم تمامًا، وتعيش هنا؟
– مؤقتًا.
– منذ متى؟
هزَّ كتفه: منذ عدة شهور.
سأله: أول مرة؟
– في مصر؟ أجل وأنت، أين تسكن؟
أجاب على الفور: في الحقيقة في المعادي.
أراد أن يصف له المكان، فتراءى له مدخله عند محطة المترو الذي تتجمع فيه القاذورات وتفوح منه رائحة المجاري ويغطيه الذباب، والحارات المليئة بالحفر والمطبات تحلِّق فوقها أسراب الذباب والناموس، والبيوت الصغيرة التي يرتفع منسوب الأرض عن مداخلها بصورةٍ مستمرة، والغرف التي يقيم فيها بين خمسة أشخاص وعشرة، والمياه المقطوعة، وأجهزة الراديو والمسجلات في النوافذ والمقاهي، وميكروفونات المساجد والأفراح.
بدت الإنجليزية عصيةً على كل هذه التفاصيل فاكتفى بأن يقول: في الحقيقة أنا أسكن في مكانٍ جميل على حافة القاهرة يجب أن تراه. وأنت أين تسكن؟
أين في غير الزمالك؟!
– تعالَ معي لأُريك منزلي؛ فلا بد أن تعرفه، نحن الآن أصدقاء.
طاوعته إنجليزيته في سلاسة: أوكي.
أشار جون إلى سيارة أجرة بالغ سائقها في إبداء تهذيبه ورقَّته عندما تبيَّن الشعر الأشقر، فتظاهر بتشغيل العداد، وخفض من صوت الكاسيت الذي كان يردد أغنيةً جديدة لوردة الجزائرية. ثم أغلقه تمامًا وحاول تشغيل الراديو على برنامج للموسيقى الغربية، كما لم يفُته القيام بقليل من الإرشاد السياحي، فتمهَّل فوق كوبري ٦ أكتوبر أمام عروسَين يلتقطان صورةً تذكارية يتحمل فيها النيل نصيبه من المأساة المقبلة، وعندما أبدى الخواجة عجبه من زحام السيارات فوق رصيف نادي الجزيرة، تبرَّع بالإيضاح: الأعضاء هنا بالآلاف.
ثم أضاف بزهو: الاشتراك بالدولار.
شعر شرف هو الآخر بالزهو وهو يتطلع بعينَي رفيقه إلى الشوارع الواسعة المرصوفة التي تحفُّ بها الأشجار والقصور الفاخرة، متغاضيًا عن القاذورات والأتربة التي كُوِّمت بحذاء الأرصفة وأسفل السيارات الفاخرة، وفي الزوايا المتوارية، حتى توقف التاكسي أمام منزل من الأربعينيات (تحيط به حديقة وبضع أشجار)، يتصدره بوابٌ من التسعينيات (يجمع بين مهنتَي الحراسة والقوادة)، قادهما إلى مصعدٍ حداثي، (بلا باب وبأثرٍ واحد من العهد الغابر عبارة عن مرآةٍ عريضة حال لمعانها)، صعد في بطءٍ شديد أتاح لشرف أن يتأمل صديقه الجديد الذي وقف ممسكًا بمقبض الباب وقد أعطاه ظهره، فكشف بذلك عن قفا عريض أثار اهتمام الشاب؛ لا بسبب ما أوحى به من إمكانيات للعبث، ولا بسبب شحوب بشرته البالغ، وإنما بسبب السلسلة الذهبية التي أحاطت به.
غادرا المصعد في الطابق الثالث إلى طرقةٍ نظيفةٍ مضاءة، تتوسطها نافذة تطل على منور، تنتهي في أحد طرفَيها ببابٍ خشبيٍّ متين، تزينه قضبان من النحاس اللامع، أدى إلى ردهةٍ وثيرة الأثاث وصالةٍ فسيحة تتوسطها مائدةٌ واطئة بصينيةٍ كبيرة من النحاس، ويتألف أحد جدرانها من مدفأةٍ كبيرة صُفَّت فوق رفِّها الرخامي التماثيل الصغيرة والمشغولات النحاسية وزجاجات الخمر، أما الجدران الأخرى فقد ازدحمت باللوحات الفرعونية الملونة وقطع القماش والسجاد التي تمثِّل مناظر من الريف المصري، في محاولةٍ جاهدة للانتماء.
بإشارة من مضيفه احتل فوتيهًا وثيرًا في حرص. وأنزل الآخر «جوني ووكر» من عليائه مع كأسَين قائلًا، كما في الأفلام بالضبط: لا تمانع في كأس، أليس كذلك؟
غالب شرف إنجليزيته: في الحقيقة يا مستر جون هذه مناسبة تتطلب الاحتفال، لكني لا أشرب سوى البيرة.
قال مستر جون مقلدًا طريقته في الحديث: في الحقيقة أنا عندي بيرة؛ بيرة مستوردة، وعندي أيضًا حشيش لو أحببت.
وقام على الفور إلى المطبخ وعاد منه بعلبتَين «هينيكين» وإناء من مكعبات الثلج وصحن مليء بالفستق واللوز والبندق. ثم مضى إلى الناحية الأخرى من الشقة وعاد بعلبةٍ معدنية صغيرة في حجم علب السجائر ودفتر من ورق البفرة ولفافة من السلوفان في حجم علبة الثقاب تصاعدت منها رائحة المخدر النفاذة اللذيذة.
صبَّ لنفسه كأسًا من جوني ووكر وأشار لشرف كي يصب لنفسه البيرة ورفع كأسه في الهواء ليقرعه بكأس أشرف قائلًا: نخب صداقتنا.
ردد شرف النخب في حماسة، بينما انصرف الخواجة إلى إعداد سيجارةٍ ملغومة؛ أفرغ أولًا محتويات سيجارةٍ عادية ثم اقتطع حمصة من قطعة الحشيش وأودعها ورقة مفضَّضة استخرجها من علبة السجاير، سخَّنها قليلًا بعود كبريت حتى لانت فدَهسها مع التبغ ثم أفرغ المزيج في ورقة السجاير وأدخلها العلبة المعدنية وأخرجها منها ملفوفةً جاهزة.
قدم السيجارة إلى ضيفه وأشعلها له. جذب شرف عدة أنفاس ثم أعادها إليه، وتبادل الاثنان التدخين حتى انتهت السيجارة، وقدم الخواجة لضيفه قطعة شكولاتة أوشك أن يعتذر عن تناولها إلى أن تبين نوعها.
قال شرف وهو يلتهم «كادبوري»: عندك شقةٌ جميلة.
كان الرأي صادرًا عن وعيٍ كامل فلم تكن السيجارة قد أحدثت تأثيرها بعدُ.
قال الآخر: تعالَ أفرِّجك عليها.
تبعه إلى غرفة نوم وثيرة يتصدرها فراشٌ مغطًّى بالدانتلا، ودولاب أنيق من خشبٍ لامع، وأباجورة بجوار السرير وأخرى بجوار فوتيل أنيق ذي مسندَين محشوَّين جيدًا وبينهما نافذةٌ مفتوحة تملأ فراغها أغصان الأشجار. انتقلا إلى الحمام الذي كان في سعة الصالة يتصدره بانيو ضخم وبه توالیت نظيف وله بابٌ متين يُفتح ويُغلق في هدوء وإحكام، وإلى مطبخٍ فسيح تتصدره ثلاجة تكدَّست بالمحتويات التي أشهرتها إعلانات التليفزيون، استخرج منها الخواجة أطباقًا صغيرة بها شرائح من اللحوم الباردة والسجق الغريب الشكل وأنواع من الأجبان لم يسبق لأشرف أن رآها، وضعها فوق صينيةٍ خشبية ناوله إياها فحملها إلى الصالة وهو في أعقابه.
تناول شرف كأسه ورشف منها ثم قال: أنا أيضًا أعيش في بيت له حديقةٌ كبيرة.
قاطعه مضيفه: في المعادي؟
بلع ريقه وقال: في الحقيقة نعم. ولي حجرةٌ خاصةٌ مدهونة بالزيت ونظيفة تطل نافذتها على شجرة ياسمين فأشم رائحتها طول الوقت، ولي سرير في الركن، لي أنا وحدي، أمامه ستارة ومكتب خلفه دولاب فيه راديو ستريو وكاسيتات ولوحة الموناليزا على الجدار، هل تعرفها؟ وصورةٌ كبيرة أيضًا لمايكل جاكسون، هل تحبه؟ وفي الصباح تُحضر لي أمي أو أختي الكبيرة الإفطار: بيض وحليب ومربى، كما تأكلون أنتم. أليس هذا إفطاركم؟ تحضره أمي في صينيةٍ كبيرة بها زهرية من ورود الحديقة، لا تتخيل الرائحة.
كان جون يستمع باسمًا. وخيِّل إلى شرف أن وجهه ازداد شحوبًا.
سأله وهو يصبُّ له بقية البيرة: هل أنت طالب؟
أجاب على الفور: في الجامعة.
شعر أن ضوء المصابيح ازداد توهجًا، والْتمعت السلسلة الذهبية المحيطة بعنق الخواجة الذي لم يفته اتجاه نظر ضيفه فقال وهو يمسكها بأصابعه: تعجبك؟
أجاب: في الحقيقة نعم.
خلعها من عنقه وناولها له قائلًا: هي لك.
قال: لا أستطيع أن آخذها.
كان الخواجة حاسمًا فألقى بها نحوه واضطر أشرف إلى تلقُّفها.
– سأشتريها منك.
– لن تستطيع فهي غالية جدًّا.
قال في عناد متمسكًا بمفهومه عن الشرف: بل سأفعل!
وسواء أكان السبب إدراكه لعجزه أم أن السيجارة بدأت عملها، فإنه شعر بالدوار فجأة وبالرغبة في البكاء؛ الأمر الذي مس قلب الخواجة، فانتقل إلى جواره وأحاطه بذراعه.
أسند شرف رأسه إلى صدر الخواجة العريض فقد حانت لحظة الاعتراف. وأثبتت اللغة الإنجليزية أنها عصية على الحقيقة؛ فعاد إلى لغة موطنه: العربية لا «المعادية»: كيف أنه كان يكذب. وأنه لن يستطيع شراء شيء، وحتى الآن لم يتمكن من دخول الجامعة، ورائحة الياسمين التي ذكرها عندما تحدث عن منزله هي الرائحة الدائمة ﻟ «خرانا»، الذي يتجمع في بئر أمام باب المنزل وتأخذه شاحنة مرة في الأسبوع.
ذروة الاعتراف بدت كمقطع من أغنية لأم كلثوم؛ أي ميلودرامية تمامًا. أنا زهقت من حياتي ونفسي أسيب البلد. يا ريت تاخدني معك بعيد.
لم يتكلم الخواجة واكتفى بأن وضع السلسة حول عنق الشاب ثم مد يده إلى ساقه وتحسس فخذه.
أعادت إليه اللمسة إنجليزيته؛ إذ قال مستنكرًا: أنت لا تصدقني؟ لن تجد في جيبي نقودًا تذكر.
أبعد جون يده وقال: يمكنني أن أعطيك ما تشاء، وتناول مجلةً مصورة من فوق رف المدفأة وناولها له قائلًا: هل تحب الصور؟
من الذي يكرهها؟ كانت المجلة أجنبية بها صور كثيرة لنساء ورجال عرايا في أوضاع أجرت الدماء ساخنة في عروق الشاب الغرِّ، كما أثبت السؤال الذي بدر منه: هل أنت متزوج؟
أجاب: كلا، أنا لا أطيق النساء.
كفت الغرفة عن الدوران لحظة، ولأول مرة شعر شرف بقلقٍ مبهم.
سأله الآخر: وأنت؟
قال: أنا أحب جارة لي لكن أهلها يريدون تزويجها.
– لك؟
– لا، لقريبٍ لها غني.
– هل هي تحبك؟
– إنها تتلطف معي أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى تتجاهلني وتعاملني بقسوة.
غيَّر جون الموضوع قائلًا: السلسلة حلوة عليك. انظر إلى نفسك في المرآة.
أشار إلى مرآةٍ مذهبة الإطار على الجدار الواقع خلفه، فنهض شرف وهو يترنح واستدار يواجهها. بدت السلسلة فعلًا جميلة وشيك، لا ينقصها إلا القميص الأسود والنظارة السوداء لكن ما انضم إليها في المرآة هو وجه جون الذي ازداد اقترابًا حتى أوشك أن يلمس خده بشفتيه، بينما أحاطه بذراعَيه من الخلف.
أبعد شرف وجهه وهو يحاول الإفلات من الذراعَين قائلًا: ما هذا يا جون؟ ماذا تفعل؟
لم يكن جون في حالة تسمح له بالرد شفاهيًّا، وبدلًا عن ذلك أطبق على فريسته الذي قاوم بعنف، ونجح في أن ينسلَّ من بين ذراعيه إلى أسفل ويقفز ناحية الباب، لكن الحظ لم يكن في صف أشرف من البداية؛ فقد تعثَّر في السجادة وسقط على الأرض إلى جوار المائدة. وفي اللحظة التالية كان الخواجة فوقه.
جاهد الشاب في دفع مُهاجِمه الذي كان يفوقه قوةً، ونجح في شلِّ حركته إلى أن شعر به يحاول تجريده من ملابسه وهو يلهث، فأمدَّه العدوان الصريح بقوةٍ جديدة؛ وجَّه إلى رأسه ضرباتٍ عشوائية بقبضتَي يديه أجبرته على محاولة توقِّيها. وبدا أن الحظ قد تدخَّل أخيرًا في صفه؛ إذ ارتطم رأس المعتدي بحافة الصينية فخفَّت قبضته، استطاع شرف أن يحرر جسده ويزحف مبتعدًا، وكما يحدث عادة في هذه المواقف، غيَّر الحظ موقعه على الفور؛ فقبل أن يصبح شرف بمنأًى عن مهاجمه تمكَّن هذا من الإمساك بساقَيه وأوقعه أرضًا ثم ارتمى فوقه من جديد.
بدت النتيجة محسومة هذه المرة، وشعر بها شرف بجسده قبل أن يدركها بعقله، ولأنها المرة الأولى التي يواجه فيها عدوانًا صارخًا من هذا النوع فقد استنفر كل طاقاته. كان قد فقد السيطرة على نصفه الأسفل، فطوح ذراعيه على غير هدًى، هكذا لمست يده سطح الصينية فتحسسها في لهفة حتى عثر بصحن الفستق، لم يتردد ثانيةً واحدة، قبض عليه وقذف به الرأس الجاثمة فوقه.
كان جون منهمكًا في حل مشكلة الملابس، ومع ذلك انتبه للصحن المندفع نحوه فتفاداه. وأيقن شرف أنه خسر المعركة، وعندئذٍ لمح بطرف عينه زجاجة الخمر فجاهد حتى قرَّب أصابعه من عنقها وأطبق عليه ثم رفعها في الهواء وأهوى بها على صدغ مهاجمه.
لم يتمكن جون من تفادي الزجاجة. وأصابته الضربة بالذهول فجمدت حركته. ولم يلحظ شرف الدماء التي سالت على وجهه. لم يلحظ شيئًا على الإطلاق ولا حتى أن يده القابضة على شظية مدببة من حطام الزجاجة كانت مستمرة في الارتفاع والهبوط فوق الرأس الأشقر المخضب بالدماء.